الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلَيْهَا. وَطَالِبُ الْمَثُوبَةَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى طَلَبِ حَظِّ نَفْسِهِ. وَذَلِكَ شُعْبَةٌ مِنْ عُبُودِيَّتِهَا وَالْمُشَاهِدُ لِلنَّاسِ فِي عِبَادَتِهِ: فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ عُبُودِيَّةِ نَفْسِهِ، إِذْ هُوَ طَالِبٌ لِتَعْظِيمِهِمْ، وَثَنَائِهِمْ وَمَدْحِهِمْ. فَهَذِهِ شُعَبٌ مِنْ شُعَبِ عُبُودِيَّةِ النَّفْسِ. وَالْأَصْلُ الَّذِي هَذِهِ الشُّعَبُ فُرُوعُهُ هِيَ النَّفْسُ. فَإِذَا مَاتَتْ بِالْمُجَاهَدَةِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِهِ، وَدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ لَهُ مَاتَتْ هَذِهِ الشُّعَبُ.
فَلَا جَرَمَ أَنَّ بِنَاءَ أَمْرِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ عَلَى تَرْكِ عِبَادَةِ النَّفْسِ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْخَوْفَ وَطَلَبَ الثَّوَابِ لَيْسَ مِنْ عِبَادَةِ النَّفْسِ فِي شَيْءٍ.
نَعَمْ، التَّزَيُّنُ بِالْمُرَاءَاةِ عَيْنُ عِبَادَةِ النَّفْسِ. وَالْكَلَامُ فِي أَمْرٍ أَرْفَعُ مِنْ هَذَا. فَإِنَّ حَالَ الْمُرَائِي أَخَسُّ، وَنَفْسُهُ أَسْقَطُ، وَهِمَّتُهُ أَدْنَى مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فِي شَأْنِ الصَّادِقِينَ وَيُذْكَرَ مَعَ الصَّالِحِينَ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ إِجْرَاءُ الْخَبَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ]
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":
الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: إِجْرَاءُ الْخَبَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَهُوَ أَنْ تَبْقَى أَعْلَامُ تَوْحِيدِ الْعَامَّةِ الْخَبَرِيَّةِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا. وَلَا يَتَحَمَّلُ الْبَحْثُ عَنْهَا تَعَسُّفًا. وَلَا يَتَكَلَّفُ لَهَا تَأْوِيلًا. وَلَا يَتَجَاوَزُ ظَوَاهِرَهَا تَمْثِيلًا. وَلَا يَدَّعِي عَلَيْهَا إِدْرَاكًا أَوْ تَوَهُّمًا.
يُشِيرُ الشَّيْخُ رحمه الله وَقَدَّسَ رُوحَهُ - بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ حِفْظَ حُرْمَةِ نُصُوصِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِإِجْرَاءِ أَخْبَارِهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا. وَهُوَ اعْتِقَادُ مَفْهُومِهَا الْمُتَبَادِرِ إِلَى أَذْهَانِ الْعَامَّةِ. وَلَا يَعْنِي بِالْعَامَّةِ الْجُهَّالَ، بَلْ عَامَّةَ الْأُمَّةِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ رحمه الله وَقَدْ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ، حَتَّى عَلَاهُ الرُّحَضَاءُ، ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ.
فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومِ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَبَيْنَ الْكَيْفِ الَّذِي لَا يَعْقِلُهُ الْبَشَرُ. وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ مَالِكٍ رضي الله عنه شَافٍ، عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ.
فَمَنْ سَأَلَ عَنْ قَوْلِهِ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] كَيْفَ يَسْمَعُ وَيَرَى؟ أُجِيبَ بِهَذَا الْجَوَابِ بِعَيْنِهِ. فَقِيلَ لَهُ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ مَعْلُومٌ. وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ.
وَكَذَلِكَ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْعِلْمِ، وَالْحَيَاةِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالنُّزُولِ، وَالْغَضَبِ، وَالرِّضَا، وَالرَّحْمَةِ، وَالضَّحِكِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَمَعَانِيهَا كُلُّهَا مَفْهُومَةٌ. وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهَا فَغَيْرُ مَعْقُولَةٍ؛ إِذْ تَعَقُّلُ الْكَيْفِيَّةِ فَرْعُ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الذَّاتِ وَكُنْهِهَا. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَعْقُولٍ لِلْبَشَرِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ لَهُمْ كَيْفِيَّةُ الصِّفَاتِ؟
وَالْعِصْمَةُ النَّافِعَةُ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. بَلْ تُثْبَتُ لَهُ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ، وَتُنْفَى عَنْهُ مُشَابَهَةُ الْمَخْلُوقَاتِ. فَيَكُونُ إِثْبَاتُكَ مُنَزَّهًا عَنِ التَّشْبِيهِ. وَنَفْيُكَ مُنَزَّهًا عَنِ التَّعْطِيلِ. فَمَنْ نَفَى حَقِيقَةَ الِاسْتِوَاءِ فَهُوَ مُعَطِّلٌ. وَمَنْ شَبَّهَهُ بِاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَهُوَ مُمَثِّلٌ. وَمَنْ قَالَ: اسْتِوَاءٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. فَهُوَ الْمُوَحِّدُ الْمُنَزِّهُ.
وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْحَيَاةِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْيَدِ، وَالْوَجْهِ، وَالرِّضَا، وَالْغَضَبِ، وَالنُّزُولِ وَالضَّحِكِ، وَسَائِرِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ.
وَالْمُنْحَرِفُونَ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ أَشَارَ الشَّيْخُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَا يَتَحَمَّلُ الْبَحْثُ عَنْهَا تَعَسُّفًا؛ أَيْ لَا يَتَكَلَّفُ التَّعَسُّفَ عَنِ الْبَحْثِ عَنْ كَيْفِيَّاتِهَا. وَالتَّعَسُّفُ سُلُوكُ غَيْرِ الطَّرِيقِ. يُقَالُ: رَكِبَ فُلَانٌ التَّعَاسِيفَ فِي سَيْرِهِ. إِذَا كَانَ يَسِيرُ يَمِينًا وَشِمَالًا، جَائِرًا عَنِ الطَّرِيقِ.
وَلَا يَتَكَلَّفُ لَهَا تَأْوِيلًا. أَرَادَ بِالتَّأْوِيلِ هَاهُنَا التَّأْوِيلَ الِاصْطِلَاحِيَّ. وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَعَنِ الْمَعْنَى الرَّاجِحِ إِلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ.
وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى تَرْكِهِ. وَمِمَّنْ حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، وَأَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ فِي رِسَالَتِهِ النِّظَامِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا سَلَكَهُ فِي شَامِلِهِ وَإِرْشَادِهِ وَمِمَّنْ حَكَاهُ سَعْدُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيُّ.
وَقَبْلَ هَؤُلَاءِ خَلَائِقُ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ.
وَلَا يَتَجَاوَزُ ظَاهِرَهَا تَمْثِيلًا. أَيْ لَا يُمَثِّلُهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ.
وَفِي قَوْلِهِ: لَا يَتَجَاوَزُ ظَاهِرَهَا، إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ. وَهِيَ أَنَّ ظَوَاهِرَهَا لَا تَقْتَضِي التَّمْثِيلَ، كَمَا تَظُنُّهُ الْمُعَطِّلَةُ النُّفَاةُ، وَأَنَّ التَّمْثِيلَ تَجَاوُزٌ لِظَوَاهِرِهَا إِلَى مَا لَا تَقْتَضِيهِ، كَمَا أَنَّ تَأْوِيلَهَا تَكَلُّفٌ، وَحَمْلٌ لَهَا عَلَى مَا لَا تَقْتَضِيهِ. فَهِيَ لَا تَقْتَضِي ظَوَاهِرُهَا تَمْثِيلًا، وَلَا تَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا، بَلْ إِجْرَاءً عَلَى ظَوَاهِرِهَا بِلَا تَأْوِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. فَهَذِهِ طَرِيقَةُ السَّالِكِينَ بِهَا سَوَاءَ السَّبِيلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَدَّعِي عَلَيْهَا إِدْرَاكًا؛ أَيْ لَا يَدَّعِي عَلَيْهَا اسْتِدْرَاكًا وَلَا فَهْمًا، وَلَا مَعْنًى غَيْرَ فَهْمِ الْعَامَّةِ، كَمَا يَدَّعِيهِ أَرْبَابُ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ، الْمَذْمُومِ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا تَوَهُّمًا؛ أَيْ لَا يَعْدِلُ عَنْ ظَوَاهِرِهَا إِلَى التَّوَهُّمِ.
وَالتَّوَهُّمُ نَوْعَانِ: تَوَهُّمُ كَيْفِيَّةٍ. لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُهَا، أَوْ تَوَهُّمُ مَعْنًى غَيْرَ مَا تَقْتَضِيهِ ظَوَاهِرُهَا. وَكِلَاهُمَا تَوَهُّمٌ بَاطِلٌ. وَهُمَا تَوَهُّمُ تَشْبِيهٍ وَتَمْثِيلٍ، أَوْ تَحْرِيفٍ وَتَعْطِيلٍ.
وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ يُبَيِّنُ مَرْتَبَتَهُ مِنَ السُّنَّةِ، وَمِقْدَارَهُ فِي الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا رَمَاهُ بِهِ أَعْدَاؤُهُ الْجَهْمِيَّةُ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، عَلَى عَادَتِهِمْ فِي رَمْيِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ بِذَلِكَ، كَرَمْيِ الرَّافِضَةِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ نَوَاصِبُ، وَالْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّهُمْ نَوَابِتُ حَشَوِيَّةٌ. وَذَلِكَ مِيرَاثٌ مِنْ أَعْدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمْيِهِ وَرَمْيِ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم بِأَنَّهُمْ صَبَأَةٌ. قَدِ