الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُحْكَى عَنِ امْرَأَةٍ مِنَ الْعَابِدَاتِ أَنَّهَا عَثَرَتْ. فَانْقَطَعَتْ إِصْبَعُهَا. فَضَحِكَتْ. فَقَالَ لَهَا بَعْضُ مَنْ مَعَهَا: أَتَضْحَكِينَ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ إِصْبَعُكِ؟ فَقَالَتْ: أُخَاطِبُكَ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ. حَلَاوَةُ أَجْرِهَا أَنْسَتْنِي مَرَارَةَ ذِكْرِهَا. إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَقْلَهُ لَا يَحْتَمِلُ مَا فَوْقَ هَذَا الْمَقَامِ. مِنْ مُلَاحَظَةِ الْمُبْتَلِي. وَمُشَاهَدَةِ حُسْنِ اخْتِيَارِهِ لَهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ، وَتَلَذُّذِهَا بِالشُّكْرِ لَهُ، وَالرِّضَا عَنْهُ، وَمُقَابَلَةِ مَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ. كَمَا قِيلَ:
لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتَنِي بِمُسَاءَةٍ
…
فَقَدْ سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكَا
[فَصْلٌ صَبْرُ الْعَامَّةِ]
فَصْلٌ
قَالَ وَأَضْعَفُ الصَّبْرِ: الصَّبْرُ لِلَّهِ. وَهُوَ صَبْرُ الْعَامَّةِ. وَفَوْقَهُ: الصَّبْرُ بِاللَّهِ. وَهُوَ صَبْرُ الْمُرِيدِينَ. وَفَوْقَهُ: الصَّبْرُ عَلَى اللَّهِ. وَهُوَ صَبْرُ السَّالِكِينَ.
مَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ صَبْرَ الْعَامَّةِ لِلَّهِ. أَيْ رَجَاءَ ثَوَابِهِ، وَخَوْفَ عِقَابِهِ. وَصَبْرُ الْمُرِيدِينَ بِاللَّهِ. أَيْ بِقُوَّةِ اللَّهِ وَمَعُونَتِهِ. فَهُمْ لَا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ صَبْرًا، وَلَا قُوَّةَ لَهُمْ عَلَيْهِ. بَلْ حَالُهُمُ التَّحَقُّقُ بِ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَحَالًا.
وَفَوْقَهُمَا: الصَّبْرُ عَلَى اللَّهِ. أَيْ عَلَى أَحْكَامِهِ. إِذْ صَاحِبُهُ يَشْهَدُ الْمُتَصَرِّفَ فِيهِ. فَهُوَ يَصْبِرُ عَلَى أَحْكَامِهِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِ، جَالِبَةً عَلَيْهِ مَا جَلَبَتْ مِنْ مَحْبُوبٍ وَمَكْرُوهٍ. فَهَذِهِ دَرَجَةُ صَبْرِ السَّالِكِينَ.
وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عِنْدَهُ مِنَ الْعَوَامِّ. إِذْ هُوَ فِي مَقَامِ الصَّبْرِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ لِلْعَامَّةِ وَأَنَّهُ مِنْ أَضْعَفِ مَنَازِلِهِمْ.
هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِهِ.
وَالصَّوَابُ: أَنَّ الصَّبْرَ لِلَّهِ فَوْقَ الصَّبْرِ بِاللَّهِ، وَأَعْلَى دَرَجَةٍ مِنْهُ وَأَجَلُّ. فَإِنَّ الصَّبْرَ لِلَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِإِلَهِيَّتِهِ. وَالصَّبْرُ بِهِ: مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ. وَمَا تَعَلَّقَ بِإِلَهِيَّتِهِ أَكْمَلُ وَأَعْلَى مِمَّا تَعَلَّقَ بِرُبُوبِيَّتِهِ.
وَلِأَنَّ الصَّبْرَ لَهُ: عِبَادَةٌ. وَالصَّبْرَ بِهِ اسْتِعَانَةٌ. وَالْعِبَادَةُ غَايَةٌ. وَالِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ. وَالْغَايَةُ مُرَادَةٌ لِنَفْسِهَا، وَالْوَسِيلَةُ مُرَادَةٌ لِغَيْرِهَا.
وَلِأَنَّ الصَّبْرَ بِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ. فَكُلُّ مَنْ شَهِدَ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ صَبَرَ بِهِ.
وَأَمَّا الصَّبْرُ لَهُ: فَمَنْزِلَةُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّدِّيقِينَ، وَأَصْحَابِ مَشْهَدِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] .
وَلِأَنَّ الصَّبْرَ لَهُ: صَبْرٌ فِيمَا هُوَ حَقُّ لَهُ، مَحْبُوبٌ لَهُ مَرْضِيٌّ لَهُ. وَالصَّبْرُ بِهِ: قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا هُوَ مَسْخُوطٌ لَهُ. وَقَدْ يَكُونُ فِي مَكْرُوهٍ أَوْ مُبَاحٍ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟
وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الصَّبْرِ عَلَى أَحْكَامِهِ صَبْرًا عَلَيْهِ. فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الْعِبَارَةِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَعْنَى. فَهَذَا هُوَ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِهِ. وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّيْخُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ بِمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَالصَّبْرَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ: أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَقْدَارِهِ - كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَبْرِ يُوسُفَ عليه السلام فَإِنَّ الصَّبْرَ فِيهَا صَبْرُ اخْتِيَارٍ وَإِيثَارٍ وَمَحَبَّةٍ. وَالصَّبْرُ عَلَى أَحْكَامِهِ الْكَوْنِيَّةِ: صَبْرُ ضَرُورَةٍ. وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْبَوْنِ مَا قَدْ عَرَفْتَ.
وَكَذَلِكَ كَانَ صَبْرُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عَلَى مَا نَالَهُمْ فِي اللَّهِ بِاخْتِيَارِهِمْ وَفِعْلِهِمْ، وَمُقَاوَمَتِهِمْ قَوْمَهُمْ: أَكْمَلُ مِنْ صَبْرِ أَيُّوبَ عَلَى مَا نَالَهُ فِي اللَّهِ مِنِ ابْتِلَائِهِ وَامْتِحَانِهِ بِمَا لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنْ فِعْلِهِ.
وَكَذَلِكَ كَانَ صَبْرُ إِسْمَاعِيلَ الذَّبِيحِ. وَصَبْرُ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ عليهما السلام عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ أَكْمَلَ مِنْ صَبْرِ يَعْقُوبَ عَلَى فَقْدِ يُوسُفَ.
فَعَلِمْتَ بِهَذَا أَنَّ الصَّبْرَ لِلَّهِ أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ بِاللَّهِ. وَالصَّبْرَ عَلَى طَاعَتِهِ وَالصَّبْرَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى قَضَائِهِ وَقَدْرِهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: الصَّبْرُ بِاللَّهِ أَقْوَى مِنَ الصَّبْرِ لِلَّهِ. فَإِنَّ مَا كَانَ بِاللَّهِ كَانَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. وَمَا كَانَ بِهِ لَمْ يُقَاوِمْهُ شَيْءٌ. وَلَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ. وَهُوَ صَبْرُ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ وَالتَّأْثِيرِ. وَالصَّبْرُ لِلَّهِ صَبْرُ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ. وَلِهَذَا هُمْ - مَعَ إِخْلَاصِهِمْ وَزُهْدِهِمْ وَصَبْرِهِمْ لِلَّهِ - أَضْعَفُ مِنَ الصَّابِرِينَ بِهِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَأَضْعَفُ الصَّبْرِ: الصَّبْرُ لِلَّهِ.
قِيلَ: الْمَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ.
إِحْدَاهَا: مَرْتَبَةُ الْكَمَالِ. وَهِيَ مَرْتَبَةُ أُولِي الْعَزَائِمِ. وَهِيَ الصَّبْرُ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ.
فَيَكُونُ