الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَخَذُوا فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا. فَجَرَّدُوا غَنِيًّا مُنْفِقًا مُتَصَدِّقًا، بَاذِلًا مَالَهُ فِي وُجُوهِ الْقُرْبِ، شَاكِرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ. وَفَقِيرًا مُتَفِرِّغًا لِطَاعَةِ اللَّهِ. وَلِأَوْرَادِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الطَّاعَاتِ، صَابِرًا عَلَى فَقْرِهِ. فَهَلْ هُوَ أَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ الْغَنِيِّ، أَمِ الْغَنِيِّ أَكْمَلُ مِنْهُ؟ .
فَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا: أَنَّ أَكْمَلَهُمَا أَطْوَعُهُمَا. فَإِنْ تَسَاوَتْ طَاعَتُهُمَا تَسَاوَتْ دَرَجَاتُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ تَعْرِيفُ الْفَقْرِ]
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رحمه الله.
الْفَقْرُ اسْمٌ لِلْبَرَاءَةِ مِنَ الْمَلَكَةِ.
عَدَلَ الشَّيْخُ عَنْ لَفْظِ عَدَمِ الْمَلَكَةِ إِلَى قَوْلِهِ: الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمَلَكَةِ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَلَكَةِ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِكُلِّ أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَالِكُ حَقِيقَةً. فَعَدَمُ الْمَلَكَةِ: أَمْرٌ ثَابِتٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ لِذَاتِهِ. وَالْكَلَامُ فِي الْفَقْرِ الَّذِي يُمْدَحُ بِهِ صَاحِبُهُ: هُوَ فَقْرُ الِاخْتِيَارِ. وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْفَقْرِ. وَهُوَ بَرَاءَةُ الْعَبْدِ مِنْ دَعْوَى الْمِلْكِ بِحَيْثُ لَا يُنَازِعُ مَالِكَهُ الْحَقَّ.
وَلَمَّا كَانَتْ نَفْسُ الْإِنْسَانِ لَيْسَتْ لَهُ. وَإِنَّمَا هِيَ مِلْكٌ لِلَّهِ. فَمَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا وَيُسَلِّمْهَا لِمَالِكِهَا الْحَقُّ: لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِي الْفَقْرِ قَدَمٌ. فَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ قَدَمِ الْفَقْرِ: الْخُرُوجُ عَنِ النَّفْسِ وَتَسْلِيمُهَا لِمَالِكِهَا وَمَوْلَاهَا. فَلَا يُخَاصِمُ لَهَا وَلَا يَتَوَكَّلُ لَهَا وَلَا يُحَاجِجُ عَنْهَا وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا، بَلْ يُفَوِّضُ ذَلِكَ لِمَالِكِهَا وَسَيِّدِهَا.
قَالَ بُنْدَارُ بْنُ الْحُسَيْنِ: لَا تُخَاصِمْ لِنَفْسِكَ. فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ. دَعْهَا لِمَالِكِهَا يَفْعَلُ بِهَا مَا يُرِيدُ.
وَقَدْ أَجْمَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا وُصُولَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْفَقْرِ. وَلَا دُخُولَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ بَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْفَقْرِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى فَقْرُ الزُّهَّادِ]
فَصْلٌ
قَالَ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: فَقْرُ الزُّهَّادِ. وَهُوَ قَبْضُ الْيَدِ عَنْ
الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا. وَإِسْكَاتُ اللِّسَانِ عَنْهَا مَدْحًا أَوْ ذَمًّا. وَالسَّلَامَةُ مِنْهَا طَلَبًا أَوْ تَرْكًا. وَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي تَكَلَّمُوا فِي شَرَفِهِ.
الدُّنْيَا عِنْدَ الْقَوْمِ: مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَالصُّوَرِ، وَالْمَرَاتِبِ
وَاخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ. حَكَاهُمَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي مَقَالَاتِهِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا اسْمٌ لِمُدَّةِ بَقَاءِ هَذَا الْعَالَمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا اسْمٌ لِمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَمَا فَوْقَ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا. وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ لَيْسَ مِنْهَا.
فَعَلَى الْأَوَّلِ: تَكُونُ الدُّنْيَا زَمَانًا. وَعَلَى الثَّانِي: تَكُونُ مَكَانًا.
وَلَمَّا كَانَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْجَوَارِحِ وَالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، كَانَ حَقِيقَةَ الْفَقْرِ: تَعْطِيلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَنْ تَعَلُّقِهَا بِهَا وَسَلْبِهَا مِنْهَا. فَلِذَلِكَ قَالَ قَبْضُ الْيَدِ عَنِ الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا.
يَعْنِي يَقْبِضُ يَدَهُ عَنْ إِمْسَاكِهَا إِذَا حَصَلَتْ لَهُ. فَإِذَا قَبَضَ يَدَهُ عَنِ الْإِمْسَاكِ جَادَ بِهَا. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَاصِلَةٍ لَهُ كَفَّ يَدَهُ عَنْ طَلَبِهَا. فَلَا يَطْلُبُ مَعْدُومَهَا. وَلَا يَبْخَلُ بِمَوْجُودِهَا.
وَأَمَّا تَعْطِيلُهَا عَنِ اللِّسَانِ:
فَهُوَ أَنْ لَا يَمْدَحَهَا وَلَا يَذُمَّهَا. فَإِنَّ اشْتِغَالَهُ بِمَدْحِهَا أَوْ ذَمِّهَا دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّتِهَا وَرَغْبَتِهِ فِيهَا. فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ. وَإِنَّمَا اشْتَغَلَ بِذَمِّهَا حَيْثُ فَاتَتْهُ. كَمَنْ طَلَبَ الْعُنْقُودَ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَ حَامِضٌ. وَلَا يَتَصَدَّى لِذَمِّ الدُّنْيَا إِلَّا رَاغِبٌ مُحِبٌّ مُفَارِقٌ. فَالْوَاصِلُ مَادِحٌ. وَالْمُفَارِقُ ذَامٌّ.
وَأَمَّا تَعْطِيلُ الْقَلْبِ مِنْهَا فَبِالسَّلَامَةِ مِنْ آفَاتِ طَلَبِهَا وَتَرْكِهَا. فَإِنَّ لِتَرْكِهَا آفَاتٌ. وَلِطَلَبِهَا آفَاتٌ. وَالْفَقْرُ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنْ آفَاتِ الطَّلَبِ وَالتَّرْكِ. بِحَيْثُ لَا يَحْجُبُهُ عَنْ رَبِّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. لَا فِي طَلَبِهَا وَأَخْذِهَا وَلَا فِي تَرْكِهَا وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا.
فَإِنْ قُلْتَ: عَرَفْتُ الْآفَةَ فِي أَخْذِهَا وَطَلَبِهَا. فَمَا وَجْهُ الْآفَةِ فِي تَرْكِهَا وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا؟
قُلْتُ: مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا تَرَكَهَا - وَهُوَ بَشَرٌ لَا مَلَكٌ - تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِمَا يُقِيمُهُ وَيُقِيتُهُ وَيُعَيِّشُهُ. وَمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. فَيَبْقَى فِي مُجَاهَدَةٍ شَدِيدَةٍ مَعَ نَفْسِهِ لِتَرْكِ مَعْلُوِمِهَا وَحَظِّهَا مِنَ الدُّنْيَا. وَهَذِهِ قِلَّةُ فِقْهٍ فِي الطَّرِيقِ، بَلِ الْفَقِيهُ الْعَارِفُ: يَرُدُّهَا عَنْهُ بِلُقْمَةٍ. كَمَا يَرُدُّ الْكَلْبَ إِذَا نَبَحَ عَلَيْهِ بِكِسْرَةٍ. وَلَا يَقْطَعُ زَمَانَهُ بِمُجَاهَدَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ، بَلْ أَعْطِهَا حَظَّهَا، وَطَالِبْهَا بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ.
هَذِهِ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ. وَهِيَ طَرِيقَةُ الْعَارِفِينَ مِنْ أَرْبَابِ السُّلُوكِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا. وَلِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» .
وَالْعَارِفُ الْبَصِيرُ يَجْعَلُ عِوَضَ مُجَاهَدَتِهِ لِنَفْسِهِ فِي تَرْكِ شَهْوَةٍ مُبَاحَةٍ: مُجَاهَدَتَهُ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْقُلُوبِ. كَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ بَنِي الْعِلْمِ، وَبَنِي الْإِرَادَةِ، وَيَسْتَفْرِغُ قُوَاهُ فِي حَرْبِهِمْ وَمُجَاهَدَتِهِمْ. وَيَتَقَوَّى عَلَى حَرْبِهِمْ بِإِعْطَاءِ النَّفْسِ حَقَّهَا مِنَ الْمُبَاحِ. وَلَا يَشْتَغِلُ بِهَا.
وَمِنْ آفَاتِ التَّرْكِ: تَطَلُّعُهُ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ إِذَا مَسَّتْهُ الْحَاجَةُ إِلَى مَا تَرَكَهُ، فَاسْتِدَامَتُهَا كَانَ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ هَذَا التَّرْكِ.
وَمِنْ آفَاتِ تَرْكِهَا، وَعَدَمِ أَخْذِهَا: مَا يُدَاخِلُهُ مِنَ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالزَّهْوِ. وَهَذَا يُقَابِلُ الزُّهْدَ فِيهَا وَتَرْكَهَا. كَمَا أَنَّ كَسْرَةَ الْآخِذِ وَذِلَّتَهُ وَتَوَاضُعَهُ: يُقَابِلُ الْآخِذَ التَّارِكَ. فَفِي الْأَخْذِ آفَاتٌ. وَفِي التَّرْكِ آفَاتٌ.
فَالْفَقْرُ الصَّحِيحُ: السَّلَامَةُ مِنْ آفَاتِ الْأَخْذِ وَالتَّرْكِ. وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِفِقْهٍ فِي الْفَقْرِ.
قَوْلُهُ رحمه الله: فَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي تَكَلَّمُوا فِي شَرَفِهِ.
يَعْنِي تَكَلَّمَ فِيهِ أَرْبَابُ السُّلُوكِ. وَفَضَّلُوهُ وَمَدَحُوهُ.