الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللَّهِ]
[مَا هِيَ حُرُمَاتُ اللَّهِ]
وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللَّهِ عز وجل
قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: حُرُمَاتُ اللَّهِ هَاهُنَا مَغَاضِبُهُ، وَمَا نَهَى عَنْهُ، وَتَعْظِيمُهَا تَرْكُ مُلَابَسَتِهَا. قَالَ اللَّيْثُ: حُرُمَاتُ اللَّهِ: مَا لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: الْحُرُمَاتُ: هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحُرْمَةُ مَا وَجَبَ الْقِيَامُ بِهِ، وَحَرُمَ التَّفْرِيطُ فِيهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْحُرُمَاتُ هَاهُنَا الْمَنَاسِكُ، وَمَشَاعِرُ الْحَجِّ زَمَانًا وَمَكَانًا.
وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْحُرُمَاتِ تَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ. وَهِيَ جَمْعُ حُرْمَةٍ وَهِيَ مَا يَجِبُ احْتِرَامُهُ، وَحِفْظُهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَالْأَشْخَاصِ، وَالْأَزْمِنَةِ، وَالْأَمَاكِنِ، فَتَعْظِيمُهَا تَوْفِيَتُهَا حَقَّهَا، وَحِفْظُهَا مِنَ الْإِضَاعَةِ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":
الْحُرْمَةُ: هِيَ التَّحَرُّجُ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ وَالْمُجَاسَرَاتِ.
التَّحَرُّجُ: الْخُرُوجُ مِنْ حَرَجِ الْمُخَالَفَةِ. وَبِنَاءُ " تَفَعَّلَ " يَكُونُ لِلدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ. كَتَمَنَّى إِذَا دَخَلَ فِي الْأُمْنِيَّةِ، وَتَوَلَّجَ فِي الْأَمْرِ دَخَلَ فِيهِ، وَنَحْوِهِ. وَلِلْخُرُوجِ مِنْهُ، كَتَخَرَّجَ وَتَحَوَّبَ وَتَأَثَّمَ، إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنَ الْحَرَجِ. وَالْحُوبُ هُوَ الْإِثْمُ.
أَرَادَ أَنَّ الْحُرْمَةَ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ حَرَجِ الْمُخَالَفَةِ، وَجَسَارَةِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا. وَلَمَّا كَانَ الْمُخَالِفُ قِسْمَيْنِ جَاسِرًا وَهَائِبًا. قَالَ: عَنِ الْمُخَالَفَاتِ وَالْمُجَاسَرَاتِ.
[دَرَجَاتُ حُرُمَاتِ اللَّهِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ]
قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لَا خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ، فَتَكُونُ خُصُومَةً لِلنَّفْسِ، وَلَا طَلَبًا لِلْمَثُوبَةِ. فَيَكُونُ مُسْتَشْرِفًا لِلْأُجْرَةِ، وَلَا
مُشَاهِدًا لِأَحَدٍ. فَيَكُونُ مُتَزَيِّنًا بِالْمُرَاءَاةِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا مِنْ شُعَبِ عِبَادَةِ النَّفْسِ.
هَذَا الْمَوْضِعُ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْقَوْمِ. وَالنَّاسُ بَيْنَ مُعَظِّمٍ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ، مُعْتَقِدٍ أَنَّ هَذَا أَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْعُبُودِيَّةِ: أَنْ لَا يَعْبُدَ اللَّهَ وَيَقُومَ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، وَلَا طَمَعًا فِي ثَوَابِهِ. فَإِنَّ هَذَا وَاقِفٌ مَعَ غَرَضِهِ وَحَظِّ نَفْسِهِ. وَأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَأْبَى ذَلِكَ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ لَا حَظَّ لَهُ مَعَ مَحْبُوبِهِ. فَوُقُوفُهُ مَعَ حَظِّهِ عِلَّةٌ فِي مَحَبَّتِهِ، وَأَنَّ طَمَعَهُ فِي الثَّوَابِ تَطَلُّعٌ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أُجْرَةً. فَفِي هَذَا آفَتَانِ: تَطَلُّعُهُ إِلَى الْأُجْرَةِ، وَإِحْسَانُ ظَنِّهِ بِعَمَلِهِ؛ إِذْ تَطَلُّعُهُ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْأَجْرَ، وَخَوْفُهُ مِنَ الْعِقَابِ: خُصُومَةٌ لِلنَّفْسِ، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يُخَاصِمُهَا إِذَا خَالَفَتْ. وَيَقُولُ: أَمَا تَخَافِينَ النَّارَ، وَعَذَابَهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا؟ فَلَا تَزَالُ الْخُصُومَةُ بِذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ.
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا: وَهُوَ أَنَّهُ كَالْمُخَاصِمِ عَنْ نَفْسِهِ، الدَّافِعِ عَنْهَا خَصْمَهُ الَّذِي يُرِيدُ هَلَاكَهُ، وَهُوَ عَيْنُ الِاهْتِمَامِ بِالنَّفْسِ، وَالِالْتِفَاتِ إِلَى حُظُوظِهَا، مُخَاصَمَةً عَنْهَا، وَاسْتِدْعَاءً لِمَا تَلْتَذُّ بِهِ.
وَلَا يُخَلِّصُهُ مِنْ هَذِهِ الْمُخَاصَمَةِ، وَذَلِكَ الِاسْتِشْرَافِ إِلَّا تَجْرِيدُ الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ كُلِّ عِلَّةٍ. بَلْ يَقُومُ بِهِ تَعْظِيمًا لِلْآمِرِ النَّاهِي. وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُعْبَدَ، وَتُعَظَّمَ حُرُمَاتُهُ. فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَالتَّعْظِيمَ وَالْإِجْلَالَ لِذَاتِهِ، كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِسْرَائِيلِيِّ: لَوْ لَمْ أَخْلُقْ جَنَّةً وَلَا نَارًا، أَمَا كُنْتُ أَهْلًا أَنْ أُعْبَدَ؟ .
وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ:
هَبِ الْبَعْثَ لَمْ تَأْتِنَا رُسْلُهُ
…
وَجَاحِمَةَ النَّارِ لَمْ تُضْرَمِ
أَلَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَ
…
قِّ عَلَى ذَوِي الْوَرَى الشُّكْرُ لِلْمُنْعِمِ؟
فَالنُّفُوسُ الْعَلِيَّةُ الزَّكِيَّةُ تَعْبُدُهُ لِأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُعْبَدَ، وَيُجَلَّ وَيُحَبَّ وَيُعَظَّمَ. فَهُوَ لِذَاتِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبَادَةِ. قَالُوا: وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ كَأَجِيرِ السُّوءِ. إِنْ أُعْطِيَ أَجْرَهُ عَمِلَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَعْمَلْ. فَهَذَا عَبْدُ الْأُجْرَةِ لَا عَبْدُ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ.
قَالُوا: وَالْعُمَّالُ شَاخِصُونَ إِلَى مَنْزِلَتَيْنِ: مَنْزِلَةِ الْآخِرَةِ، وَمَنْزِلَةِ الْقُرْبِ مِنَ الْمُطَاعِ.
قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّهِ دَاوُدَ: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] .
فَالزُّلْفَى مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ، وَحُسْنُ الْمَآبِ حُسْنُ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وَالْحُسْنَى: الْجَزَاءُ. وَالزِّيَادَةُ: مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ. وَلِهَذَا فُسِّرَتْ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عز وجل. وَهَذَانِ هُمَا اللَّذَانِ وَعَدَهُمَا فِرْعَوْنُ لِلسَّحَرَةِ إِنْ غَلَبُوا مُوسَى، فَقَالُوا لَهُ:{إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف: 113]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] .
قَالُوا: وَالْعَارِفُونَ عَمَلُهُمْ عَلَى الْمَنْزِلَةِ وَالدَّرَجَةِ. وَالْعُمَّالُ عَمَلُهُمْ عَلَى الثَّوَابِ وَالْأُجْرَةِ. وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا.
فَصْلٌ:
وَطَائِفَةٌ ثَانِيَةٌ تَجْعَلُ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ شَطَحَاتِ الْقَوْمِ وَرَعُونَاتِهِمْ. وَتَحْتَجُّ بِأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالصِّدِّيقِينَ، وَدُعَائِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِخَوْفِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَرَجَائِهِمْ لِلْجَنَّةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ خَوَاصِّ عِبَادِهِ الَّذِينَ عَبَدَهُمُ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُمْ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَقَالَ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء: 89]- إِلَى أَنْ قَالَ - {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] . أَيْ رَغَبًا فِيمَا عِنْدَنَا، وَرَهَبًا مِنْ عَذَابِنَا. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:" إِنَّهُمْ " عَائِدٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالرَّغَبُ وَالرَّهَبُ: رَجَاءُ الرَّحْمَةِ، وَالْخَوْفُ مِنَ النَّارِ عِنْدَهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ هُمْ خَوَاصُّ خَلْقِهِ. وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ. وَجَعَلَ مِنْهَا: اسْتِعَاذَتَهُمْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَقَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا - إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 65 - 66] . وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ: أَنَّهُمْ تَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بِإِيمَانِهِمْ أَنْ يُنْجِيَهُمْ مِنَ النَّارِ. فَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 16]
فَجَعَلُوا أَعْظَمَ وَسَائِلِهِمْ إِلَيْهِ: وَسِيلَةَ الْإِيمَانِ، وَأَنْ يُنْجِيَهُمْ مِنَ النَّارِ.
وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ أُولِي الْأَلْبَابِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ جَنَّتَهُ. وَيَتَعَوَّذُونَ بِهِ مِنْ نَارِهِ. فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] الْآيَاتِ إِلَى آخِرِهَا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَوْعُودَ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ: هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي سَأَلُوهَا.
وَقَالَ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ - رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 82 - 83] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ - يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87 - 89] . فَسَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِنَ النَّارِ. وَهُوَ الْخِزْيُ يَوْمَ الْبَعْثِ.
وَأَخْبَرَنَا سُبْحَانَهُ عَنِ الْجَنَّةِ: أَنَّهَا كَانَتْ وَعْدًا عَلَيْهِ مَسْئُولًا؛ أَيْ يَسْأَلُهُ إِيَّاهَا عِبَادُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ.
وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ: أَنْ يَسْأَلُوا لَهُ فِي وَقْتِ الْإِجَابَةِ - عُقَيْبَ الْأَذَانِ - أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ. وَأَخْبَرَ: أَنَّ مَنْ سَأَلَهَا لَهُ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتُهُ.
وَفِي الصَّحِيحِ - فِي حَدِيثِ الْمَلَائِكَةِ السَّيَّارَةِ الْفُضَّلِ عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْأَلُهُمْ عَنْ عِبَادِهِ - وَهُوَ أَعْلَمُ تبارك وتعالى فَيَقُولُونَ: «أَتَيْنَاكَ مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ يُهَلِّلُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ، فَيَقُولُ عز وجل: وَهَلْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَا يَا رَبِّ. مَا رَأَوْكَ. فَيَقُولُ عز وجل: كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ لَكَانُوا لَكَ أَشَدَّ تَمْجِيدًا. قَالُوا: يَا رَبِّ. وَيَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَعِزَّتِكَ مَا رَأَوْهَا. فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا لَهَا أَشَدَّ طَلَبًا. قَالُوا: وَيَسْتَعِيذُونَ بِكَ مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُ عز وجل: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَعِزَّتِكَ مَا رَأَوْهَا. فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا هَرَبًا. فَيَقُولُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَعَذْتُهُمْ مِمَّا اسْتَعَاذُوا» .
وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِسُؤَالِ الْجَنَّةِ وَرَجَائِهَا، وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ النَّارِ، وَالْخَوْفِ مِنْهَا.
قَالُوا: وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ» . وَقَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ مُرَافَقَتَهُ فِي الْجَنَّةِ: «أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» .
قَالُوا: وَالْعَمَلُ عَلَى طَلَبِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ أُمَّتِهِ لِيَكُونَا دَائِمًا عَلَى ذِكْرٍ مِنْهُمَا فَلَا يَنْسَوْنَهُمَا. وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِمَا شَرْطٌ فِي النَّجَاةِ، وَالْعَمَلَ عَلَى حُصُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ هُوَ مَحْضُ الْإِيمَانِ.
قَالُوا: وَقَدْ حَضَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ وَأُمَّتَهُ، فَوَصَفَهَا وَجَلَّاهَا لَهُمْ لِيَخْطُبُوهَا، وَقَالَ: «أَلَا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإِنَّهَا - وَرَبِّ الْكَعْبَةِ - نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ، وَفَاكِهَةٌ نَضِيجَةٌ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ - الْحَدِيثَ - فَقَالَ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا. فَقَالَ: قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ» .
وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ مَا فِي السُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: 32 مَنْ عَمِلِ كَذَا وَكَذَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ تَحْرِيضًا عَلَى عَمَلِهِ لَهَا، وَأَنْ تَكُونَ هِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْعِلْمِ: لَطَالَ ذَلِكَ جِدًّا. وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ.
قَالُوا: فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَمَلُ لِأَجْلِ الثَّوَابِ وَخَوْفِ الْعِقَابِ مَعْلُولًا؟ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّضُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ مَنْ فَعَلَ كَذَا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ وَمَنْ «قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ» . وَ «مَنْ كَسَا مُسْلِمًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ» وَ «عَائِدُ الْمَرِيضِ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ» ، وَالْحَدِيثُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذَلِكَ؟ أَفَتَرَاهُ يُحَرِّضُ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَطْلَبٍ مَعْلُولٍ نَاقِصٍ، وَيَدَعُ الْمَطْلَبَ الْعَالِي الْبَرِيءَ مِنْ شَوَائِبِ الْعِلَلِ لَا يُحَرِّضُهُمْ عَلَيْهِ؟
قَالُوا: وَأَيْضًا فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَسْأَلُوهُ جَنَّتَهُ، وَيَسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ نَارِهِ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ. وَمَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ يَغْضَبْ عَلَيْهِ. وَأَعْظَمُ مَا سُئِلَ الْجَنَّةُ وَأَعْظَمُ مَا اسْتُعِيذَ بِهِ مِنَ النَّارِ.
فَالْعَمَلُ لِطَلَبِ الْجَنَّةِ مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ، مَرْضِيٌّ لَهُ. وَطَلَبُهَا عُبُودِيَّةٌ لِلرَّبِّ. وَالْقِيَامُ بِعُبُودِيَّتِهِ كُلِّهَا أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ بَعْضِهَا.
قَالُوا: وَإِذَا خَلَا الْقَلْبُ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَرَجَاءِ هَذِهِ وَالْهَرَبِ مِنْ هَذِهِ فَتَرَتْ عَزَائِمُهُ، وَضَعُفَتْ هِمَّتُهُ، وَوَهَى بَاعِثُهُ، وَكُلَّمَا كَانَ أَشَدَّ طَلَبًا لِلْجَنَّةِ، وَعَمَلًا لَهَا كَانَ الْبَاعِثُ لَهُ أَقْوَى، وَالْهِمَّةُ أَشَدَّ، وَالسَّعْيُ أَتَمَّ. وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالذَّوْقِ.
وَقَالُوا: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَطْلُوبًا لِلشَّارِعِ لَمَا وَصَفَ الْجَنَّةَ لِلْعِبَادِ، وَزَيَّنَهَا لَهُمْ، وَعَرَضَهَا عَلَيْهِمْ. وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ تَفَاصِيلِ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ مِنْهَا، وَمَا عَدَاهُ أَخْبَرَهُمْ بِهِ مُجْمَلًا. كُلُّ هَذَا تَشْوِيقًا لَهُمْ إِلَيْهَا، وَحَثًّا لَهُمْ عَلَى السَّعْيِ لَهَا سَعْيَهَا.
قَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] . وَهَذَا حَثٌّ عَلَى إِجَابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهَا، وَالْمُسَارَعَةِ فِي الْإِجَابَةِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: الْجَنَّةُ لَيْسَتِ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْأَشْجَارِ وَالْفَوَاكِهِ، وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْحُورِ الْعِينِ، وَالْأَنْهَارِ وَالْقُصُورِ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَغْلَطُونَ فِي مُسَمَّى الْجَنَّةِ. فَإِنَّ الْجَنَّةَ اسْمٌ لِدَارِ النَّعِيمِ الْمُطَلَّقِ الْكَامِلِ. وَمِنْ أَعْظَمِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ التَّمَتُّعُ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَسَمَاعُ كَلَامِهِ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ وَبِرِضْوَانِهِ. فَلَا نِسْبَةَ لِلَذَّةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَالصُّوَرِ، إِلَى هَذِهِ اللَّذَّةِ أَبَدًا. فَأَيْسَرُ يَسِيرٍ مِنْ رِضْوَانِهِ أَكْبَرُ مِنَ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا مِنْ ذَلِكَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] . وَأَتَى بِهِ مُنَكَّرًا فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ؛ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ رِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ: فَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّةِ.
قَلِيلٌ مِنْكَ يُقْنِعُنِي وَلَكِنْ
…
قَلِيلُكَ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلُ
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ - «فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ
مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ، وَفِي» حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ «إِذَا تَجَلَّى لَهُمْ، وَرَأَوْا وَجْهَهُ عِيَانًا نَسُوا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَذَهَلُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ» . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا. وَهُوَ أَجَلُّ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ، أَوْ يَدُورُ فِي الْخَيَالِ. وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ فَوْزِ الْمُحِبِّينَ هُنَاكَ بِمَعِيَّةِ الْمُحِبِّ. فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. وَلَا تَخْصِيصَ فِي هَذَا الْحُكْمِ. بَلْ هُوَ ثَابِتٌ شَاهِدًا وَغَائِبًا.
فَأَيُّ نَعِيمٍ، وَأَيُّ لَذَّةٍ، وَأَيُّ قُرَّةِ عَيْنٍ، وَأَيُّ فَوْزٍ يُدَانِي نَعِيمَ تِلْكَ الْمَعِيَّةِ وَلَذَّتَهَا، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ بِهَا؟
وَهَلْ فَوْقَ نَعِيمِ قُرَّةِ الْعَيْنِ بِمَعِيَّةِ الْمَحْبُوبِ، الَّذِي لَا شَيْءَ أَجَلَّ مِنْهُ، وَلَا أَكْمَلَ وَلَا أَجْمَلَ: قُرَّةُ عَيْنٍ الْبَتَّةَ؟
وَهَذَا - وَاللَّهِ - هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي شَمَّرَ إِلَيْهِ الْمُحِبُّونَ، وَاللِّوَاءُ الَّذِي أَمَّهُ الْعَارِفُونَ. وَهُوَ رُوحُ مُسَمَّى الْجَنَّةِ وَحَيَاتُهَا. وَبِهِ طَابَتِ الْجَنَّةُ، وَعَلَيْهِ قَامَتْ.
فَكَيْفَ يُقَالُ: لَا يُعْبَدُ اللَّهُ طَلَبًا لِجَنَّتِهِ، وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِهِ؟
وَكَذَلِكَ النَّارُ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا، فَإِنَّ لِأَرْبَابِهَا مِنْ عَذَابِ الْحِجَابِ عَنِ اللَّهِ وَإِهَانَتِهِ، وَغَضَبِهِ وَسَخَطِهِ، وَالْبُعْدِ عَنْهُ: أَعْظَمَ مِنَ الْتِهَابِ النَّارِ فِي أَجْسَامِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ، بَلِ الْتِهَابُ هَذِهِ النَّارِ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ الْتِهَابَهَا فِي أَبْدَانِهِمْ. وَمِنْهَا سَرَتْ إِلَيْهَا.
فَمَطْلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ هُوَ الْجَنَّةُ. وَمَهْرَبُهُمْ مِنَ النَّارِ.
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَمَقْصِدُ الْقَوْمِ أَنَّ الْعَبْدَ يَعْبُدُ رَبَّهُ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ. وَالْعَبْدُ إِذَا طَلَبَ مِنْ سَيِّدِهِ أُجْرَةً
عَلَى خِدْمَتِهِ لَهُ كَانَ أَحْمَقَ، سَاقِطًا مِنْ عَيْنِ سَيِّدِهِ، إِنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ عُقُوبَتَهُ. إِذْ عُبُودِيَّتُهُ تَقْتَضِي خِدْمَتَهُ لَهُ. وَإِنَّمَا يَخْدِمُ بِالْأُجْرَةِ مَنْ لَا عُبُودِيَّةَ لِلْمَخْدُومِ عَلَيْهِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُرًّا فِي نَفْسِهِ، أَوْ عَبْدًا لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا مَنِ الْخَلْقُ عَبِيدُهُ حَقًّا، وَمِلْكُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لَيْسَ فِيهِمْ حُرٌّ وَلَا عَبْدٌ لِغَيْرِهِ فَخِدْمَتُهُمْ لَهُ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ، فَاقْتِضَاؤُهُمْ لِلْأُجْرَةِ خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ.
وَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا يُقْبَلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَهُوَ مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ وَتَمْيِيزٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ ذِكْرُ طُرُقِ الْخَلْقِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبَيَّنَّا طَرِيقَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ.
فَالنَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهُمْ: مَنْ لَا يُرِيدُ رَبَّهُ وَلَا يُرِيدُ ثَوَابَهُ. فَهَؤُلَاءِ أَعْدَاؤُهُ حَقًّا. وَهُمْ أَهْلُ الْعَذَابِ الدَّائِمِ. وَعَدَمُ إِرَادَتِهِمْ لِثَوَابِهِ إِمَّا لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ بِهِ، وَإِمَّا لِإِيثَارِ الْعَاجِلِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ سَخَطُهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ يُرِيدُهُ وَيُرِيدُ ثَوَابَهُ، وَهَؤُلَاءِ خَوَاصُّ خَلْقِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] فَهَذَا خِطَابُهُ لِخَيْرِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، أَزْوَاجِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]، فَأَخْبَرَ أَنَّ السَّعْيَ الْمَشْكُورَ: سَعْيُ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ. وَأَصْرَحُ مِنْهَا قَوْلُهُ: لِخَوَاصِّ أَوْلِيَائِهِ - وَهُمْ أَصْحَابُ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُمْ - فِي يَوْمِ أُحُدٍ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] فَقَسَمَهُمْ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا.
وَقَدْ غَلِطَ مَنْ قَالَ: فَأَيْنَ مَنْ يُرِيدُ اللَّهَ؟ فَإِنَّ إِرَادَةَ الْآخِرَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَوَابِهِ. فَإِرَادَةُ الثَّوَابِ لَا تُنَافِي إِرَادَةَ اللَّهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ يُرِيدُ مِنَ اللَّهِ، وَلَا يُرِيدُ اللَّهَ. فَهَذَا نَاقِصٌ غَايَةَ النَّقْصِ. وَهُوَ حَالُ الْجَاهِلِ بِرَبِّهِ، الَّذِي سَمِعَ: أَنَّ ثَمَّ جَنَّةً وَنَارًا. فَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ غَيْرُ إِرَادَةِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ الْمَخْلُوقِ، لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ سِوَاهُ الْبَتَّةَ. بَلْ هَذَا حَالُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، الْمُنْكِرِينَ رُؤْيَةَ اللَّهِ
تَعَالَى، وَالتَّلَذُّذَ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَسَمَاعَ كَلَامِهِ وَحُبَّهُ. وَالْمُنْكِرِينَ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ. وَهُمْ عَبِيدُ الْأُجْرَةِ الْمَحْضَةِ. فَهَؤُلَاءِ لَا يُرِيدُونَ اللَّهَ تَعَالَى.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ مُحَالٌ.
قَالُوا: لِأَنَّ الْإِرَادَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْحَادِثِ. فَالْقَدِيمُ لَا يُرَادُ. فَهَؤُلَاءِ مُنْكِرُونَ لِإِرَادَةِ اللَّهِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ. وَأَعْلَى الْإِرَادَةِ عِنْدَهُمْ: إِرَادَةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالنِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ فِي الْجَنَّةِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ. فَهَؤُلَاءِ فِي شِقٍّ، وَأُولَئِكَ - الَّذِينَ قَالُوا: لَمْ نَعْبُدْهُ طَلَبًا لِجَنَّتِهِ، وَلَا هَرَبًا مِنْ نَارِهِ - فِي شِقٍّ. وَهُمَا طَرَفَا نَقِيضٍ. بَيْنَهُمَا أَعْظَمُ مِنْ بُعْدِ الْمَشْرِقَيْنِ. وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَكْثَفِ النَّاسِ حِجَابًا، وَأَغْلَظِهِمْ طِبَاعًا، وَأَقْسَاهُمْ قُلُوبًا، وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ رُوحِ الْمَحَبَّةِ وَالتَّأَلُّهِ، وَنَعِيمِ الْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ. وَهُمْ يُكَفِّرُونَ أَصْحَابَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّلَذُّذِ بِحُبِّهِ، وَالتَّصْدِيقِ بِلَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ.
وَأُولَئِكَ لَا يَعُدُّونَهُمْ مِنَ الْبَشَرِ إِلَّا بِالصُّورَةِ. وَمَرْتَبَتُهُمْ عِنْدَهُمْ قَرِيبَةٌ مِنْ مَرْتَبَةِ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ. وَهُمْ عِنْدَهُمْ فِي حِجَابٍ كَثِيفٍ عَنْ مَعْرِفَةِ نُفُوسِهِمْ وَكَمَالِهَا، وَمَعْرِفَةِ مَعْبُودِهِمْ وَسِرِّ عُبُودِيَّتِهِ.
وَحَالُ الطَّائِفَتَيْنِ عَجَبٌ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ - وَهُوَ مُحَالٌ -: أَنْ يُرِيدَ اللَّهَ، وَلَا يُرِيدَ مِنْهُ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ مَطْلُوبُهُمْ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ فَفِي سَيْرِهِ عِلَّةٌ، وَأَنَّ الْعَارِفَ يَنْتَهِي إِلَى هَذَا الْمَقَامِ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُرَادَهُ، وَلَا يُرِيدُ مِنْهُ شَيْئًا. كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِي: مَا تُرِيدُ؟ فَقُلْتُ: أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ.
وَهَذَا فِي التَّحْقِيقِ عَيْنُ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ: عَقْلًا وَفِطْرَةً، وَحِسًّا وَشَرْعًا. فَإِنَّ الْإِرَادَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيِّ. وَإِنَّمَا يَعْرِضُ لَهُ التَّجَرُّدُ عَنْهَا بِالْغَيْبَةِ عَنْ عَقْلِهِ وَحِسِّهِ؛ كَالسُّكْرِ وَالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ. فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ التَّجْرِيدَ عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تُزَاحِمُ إِرَادَتُهَا إِرَادَتَهُ. أَفَلَيْسَ صَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ مُرِيدًا لِقُرْبِهِ وَرِضَاهُ، وَدَوَامِ مُرَاقَبَتِهِ، وَالْحُضُورِ مَعَهُ؟ وَأَيُّ إِرَادَةٍ فَوْقَ هَذِهِ؟
نَعَمْ. قَدْ زَهِدَ فِي مُرَادٍ لِمُرَادٍ هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ وَأَعْلَى. فَلَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْإِرَادَةِ. وَإِنَّمَا انْتَقَلَ مِنْ إِرَادَةٍ إِلَى إِرَادَةٍ، وَمِنْ مُرَادٍ إِلَى مُرَادٍ. وَأَمَّا خُلُوُّهُ عَنْ صِفَةِ الْإِرَادَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، مَعَ حُضُورِ عَقْلِهِ وَحِسِّهِ فَمُحَالٌ.
وَإِنْ حَاكَمَنَا فِي ذَلِكَ مُحَاكِمٌ إِلَى ذَوْقٍ مُصْطَلِمٍ مَأْخُوذٍ عَنْ نَفْسِهِ، فَانٍ عَنْ عَوَالِمِهَا: لَمْ
نُنْكِرْ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذِهِ حَالٌ عَارِضَةٌ غَيْرُ دَائِمَةٍ، وَلَا هِيَ غَايَةٌ مَطْلُوبَةٌ لِلسَّالِكِينَ، وَلَا مَقْدُورَةٌ لِلْبَشَرِ، وَلَا مَأْمُورٌ بِهَا، وَلَا هِيَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ. فَيُؤْمَرُ بِاكْتِسَابِ أَسْبَابِهَا. فَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
قَوْلُهُ: وَلَا مُشَاهِدًا لِأَحَدٍ. فَيَكُونُ مُتَزَيِّنًا بِالْمُرَاءَاةِ.
هَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ أَيْضًا. وَهُوَ أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ فِي الْعَمَلِ لِغَيْرِ اللَّهِ نَوْعَانِ.
مُشَاهَدَةٌ تَبْعَثُ عَلَيْهِ، أَوْ تُقَوِّي بَاعِثَهُ. فَهَذِهِ مُرَاءَاةٌ خَالِصَةٌ أَوْ مَشُوبَةٌ. كَمَا أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ الْقَاطِعَةَ عَنْهُ أَيْضًا مِنَ الْآفَاتِ وَالْحُجُبِ.
وَمُشَاهَدَةٌ لَا تَبْعَثُ عَلَيْهِ وَلَا تُعِينُ الْبَاعِثَ. بَلْ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ وُجُودِهَا وَعَدَمِهَا. فَهَذِهِ لَا تُدْخِلُهُ فِي التَّزَيُّنِ بِالْمُرَاءَاةِ. وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِي هَذِهِ الْمُشَاهَدَةِ:
إِمَّا حِفْظًا وَرِعَايَةً، كَمُشَاهَدَةِ مَرِيضٍ، أَوْ مُشْرِفٍ عَلَى هَلَكَةٍ يَخَافُ وُقُوعَهُ فِيهَا.
أَوْ مُشَاهَدَةِ عَدُوٍّ يَخَافُ هُجُومَهُ كَصَلَاةِ الْخَوْفِ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ.
أَوْ مُشَاهَدَةُ نَاظِرٍ إِلَيْكَ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْكَ، فَتَكُونُ مُحْسِنًا إِلَيْهِ بِالتَّعْلِيمِ، وَإِلَى نَفْسِكَ بِالْإِخْلَاصِ. أَوْ قَصْدًا مِنْكَ لِلِاقْتِدَاءِ، وَتَعْرِيفِ الْجَاهِلِ.
فَهَذَا رِيَاءٌ مَحْمُودٌ. وَاللَّهُ عِنْدَ نِيَّةِ الْقَلْبِ وَقَصْدِهِ.
فَالرِّيَاءُ الْمَذْمُومُ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ قَصْدَ التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ، وَالرَّغْبَةَ فِيمَا عِنْدَ مَنْ تُرَائِيهِ، أَوِ الرَّهْبَةَ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْنَاهُ - مِنْ قَصْدِ رِعَايَتِهِ، أَوْ تَعْلِيمِهِ، أَوْ إِظْهَارِ السُّنَّةِ، وَمُلَاحَظَةِ هُجُومِ الْعَدُوِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَشَاهِدِ رِيَاءٌ، بَلْ قَدْ يَتَصَدَّقُ الْعَبْدُ رِيَاءً مَثَلًا، وَتَكُونُ صَدَقَتُهُ فَوْقَ صَدَقَةِ صَاحِبِ السِّرِّ.
مِثَالُ ذَلِكَ: رَجُلٌ مَضْرُورٌ، سَأَلَ قَوْمًا مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. فَعَلِمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ إِنْ أَعْطَاهُ سِرًّا، حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ لَمْ يَقْتَدِ بِهِ أَحَدٌ. وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ سِوَى تِلْكَ الْعَطِيَّةِ، وَأَنَّهُ إِنْ أَعْطَاهُ جَهْرًا اقْتُدِيَ بِهِ وَاتُّبِعَ، وَأَنِفَ الْحَاضِرُونَ مِنْ تَفَرُّدِهِ عَنْهُمْ بِالْعَطِيَّةِ. فَجَهَرَ لَهُ بِالْعَطَاءِ. وَكَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْجَهْرِ إِرَادَةَ سَعَةِ الْعَطَاءِ عَلَيْهِ مِنَ الْحَاضِرِينَ. فَهَذِهِ مُرَاءَاةٌ مَحْمُودَةٌ؛ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا قَصْدَ التَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ. وَصَاحِبُهَا جَدِيرٌ بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِ أُولَئِكَ الْمُعْطِينَ.
قَوْلُهُ: فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا مِنْ شُعَبِ عِبَادَةِ النَّفْسِ.
يَعْنِي أَنَّ الْخَائِفَ يَشْتَغِلُ بِحِفْظِ نَفْسِهِ مِنَ الْعَذَابِ. فَفِيهِ عِبَادَةٌ لِنَفْسِهِ؛ إِذْ هُوَ مُتَوَجِّهٌ