الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا الْأَثَرَةُ فَهِيَ اسْتِئْثَارُ صَاحِبِ الشَّيْءِ بِهِ عَلَيْكَ، وَحَوْزُهُ لِنَفْسِهِ دُونَكَ. فَهَذِهِ لَا يُحْمَدُ عَلَيْهَا الْمُسْتَأْثِرُ عَلَيْهِ. إِلَّا إِذَا كَانَتْ طَوْعًا. مِثْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مُنَازَعَتِهِ وَمُجَاذَبَتِهِ، فَلَا يَفْعَلُ. وَيَدَعُهُ وَأَثَرَتَهُ طَوْعًا. فَهَذَا حَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ كَانَتْ أَثَرَةَ كَرْهٍ.
وَيَعْنِي بِالصِّحَّةِ: الْوُجُودَ، أَيْ تُوجَدُ كَرْهًا. وَلَكِنْ إِنَّمَا تَحْسُنُ إِذَا كَانَتْ طَوْعًا مِنَ الْمُسْتَأْثِرِ عَلَيْهِ.
فَحَقِيقَةُ الْإِيثَارِ بَذْلُ صَاحِبِهِ وَإِعْطَاؤُهُ. وَالْأَثَرَةُ اسْتِبْدَالُهُ هُوَ بِالْمُؤْثَرِ بِهِ. فَيَتْرُكُهُ وَمَا اسْتُبْدِلَ بِهِ: إِمَّا طَوْعًا، وَإِمَّا كَرْهًا. فَكَأَنَّكَ آثَرْتَهُ بِاسْتِئْثَارِهِ حَيْثُ خَلَّيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَلَمْ تُنَازِعْهُ.
«قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي عُسْرِنَا، وَيُسْرِنَا، وَمَنْشَطِنَا، وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ» . فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ: لَهُمْ مَعَهُ وَمَعَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ، وَالْأَثَرَةُ: عَدَمُ مُنَازَعَةِ الْأَمْرِ مَعَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَأْثِرْ عَلَيْهِمْ.
[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْإِيثَارِ]
[الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ تُؤْثِرَ الْخَلْقَ عَلَى نَفْسِكَ]
فَصْلٌ
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تُؤْثِرَ الْخَلْقَ عَلَى نَفْسِكَ فِيمَا لَا يَخْرِمُ عَلَيْكَ دِينًا. وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقًا، وَلَا يُفْسِدُ عَلَيْكَ وَقْتًا.
يَعْنِي: أَنْ تُقَدِّمَهُمْ عَلَى نَفْسِكَ فِي مَصَالِحِهِمْ. مِثْلَ أَنْ تُطْعِمَهُمْ وَتَجُوعَ. وَتَكْسُوَهُمْ وَتَعْرَى، وَتَسْقِيَهُمْ وَتَظْمَأَ، بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى ارْتِكَابِ إِتْلَافٍ لَا يَجُوزُ فِي الدِّينِ. وَمِثْلَ أَنْ تُؤْثِرَهُمْ بِمَالِكَ وَتَقْعُدَ كَلًّا مُضْطَرًّا، مُسْتَشْرِفًا لِلنَّاسِ أَوْ سَائِلًا. وَكَذَلِكَ إِيثَارُهُمْ بِكُلِّ مَا يُحَرِّمُهُ عَلَى الْمُؤْثِرِ دِينُهُ. فَإِنَّهُ سَفَهٌ وَعَجْزٌ. يُذَمُّ الْمُؤْثِرُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقًا أَيْ لَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقَ الطَّلَبِ وَالْمَسِيرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مِثْلَ أَنْ تُؤْثِرَ جَلِيسَكَ عَلَى ذِكْرِكَ، وَتَوَجُّهِكَ وَجَمْعِيَّتِكَ عَلَى اللَّهِ. فَتَكُونَ قَدْ آثَرْتَهُ عَلَى اللَّهِ. وَآثَرْتَ بِنَصِيبِكَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْإِيثَارَ. فَيَكُونَ مَثَلُكَ كَمَثَلِ مُسَافِرٍ
سَائِرٍ عَلَى الطَّرِيقِ لَقِيَهُ رَجُلٌ فَاسْتَوْقَفَهُ، وَأَخَذَ يُحَدِّثُهُ وَيُلْهِيهِ حَتَّى فَاتَهُ الرِّفَاقُ. وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ مَعَ الصَّادِقِ السَّائِرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَإِيثَارُهُمْ عَلَيْهِ عَيْنُ الْغُبْنِ. وَمَا أَكْثَرَ الْمُؤْثِرِينَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ. وَمَا أَقَلَّ الْمُؤْثِرِينَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ الْإِيثَارُ بِمَا يُفْسِدُ عَلَى الْمُؤْثِرِ وَقْتَهُ قَبِيحٌ أَيْضًا. مِثْلَ أَنْ يُؤْثِرَ بِوَقْتِهِ وَيُفَرِّقَ قَلْبَهُ فِي طَلَبِ خَلَفِهِ، أَوْ يُؤْثِرَ بِأَمْرٍ قَدْ جَمَعَ قَلْبَهُ وَهَمَّهُ عَلَى اللَّهِ. فَيُفَرِّقَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ جَمْعِيَّتِهِ. وَيُشَتِّتَ خَاطِرَهُ. فَهَذَا أَيْضًا إِيثَارٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ.
وَكَذَلِكَ الْإِيثَارُ بِاشْتِغَالِ الْقَلْبِ وَالْفِكْرِ فِي مُهِمَّاتِهِمْ وَمَصَالِحِهِمُ الَّتِي لَا تَتَعَيَّنُ عَلَيْكَ. عَلَى الْفِكْرِ النَّافِعِ، وَاشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِاللَّهِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ لَا تَخْفَى. بَلْ ذَلِكَ حَالُ الْخَلْقِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ.
وَكُلُّ سَبَبٍ يَعُودُ عَلَيْكَ بِصَلَاحِ قَلْبِكَ وَوَقْتِكَ وَحَالِكَ مَعَ اللَّهِ: فَلَا تُؤْثِرْ بِهِ أَحَدًا. فَإِنْ آثَرْتَ بِهِ فَإِنَّمَا تُؤْثِرُ الشَّيْطَانَ عَلَى اللَّهِ، وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ.
وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ فِي إِيثَارِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَضُرُّهُمْ إِيثَارُهُمْ لَهُ وَلَا يَنْفَعُهُمْ. وَأَيُّ جَهَالَةٍ وَسَفَهٍ فَوْقَ هَذَا؟
وَمِنْ هَذَا تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِيثَارِ بِالْقُرْبِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ. كَمَنْ يُؤْثِرُ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ غَيْرَهُ وَيَتَأَخَّرُ هُوَ، أَوْ يُؤْثِرُهُ بِقُرْبِهِ مِنَ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يُؤْثِرُ غَيْرَهُ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، أَوْ يُؤْثِرُهُ بِعِلْمٍ يَحْرِمُهُ نَفْسَهُ، وَيَرْفَعُهُ عَلَيْهِ، فَيَفُوزُ بِهِ دُونَهُ.
وَتَكَلَّمُوا فِي إِيثَارِ عَائِشَةَ رضي الله عنها لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِدَفْنِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حُجْرَتِهَا.
وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ بِمَوْتِهِ وَبِقُرْبِهِ. فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ الْإِيثَارُ بِالْقُرْبِ بَعْدَ الْمَوْتِ. إِذْ لَا تَقَرُّبَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ. وَإِنَّمَا هَذَا إِيثَارٌ بِمَسْكَنٍ شَرِيفٍ فَاضِلٍ لِمَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهَا. فَالْإِيثَارُ بِهِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ عز وجل لِلْمُؤْثِرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ قَالَ وَلَا يُسْتَطَاعُ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِتَعْظِيمِ الْحُقُوقِ، وَمَقْتِ الشُّحِّ، وَالرَّغْبَةِ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
ذِكْرُ مَا يُعِينُ عَلَى الْإِيثَارِ فَيَبْعَثُ عَلَيْهِ. وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ.