الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَكَذَا مَا يُدْرَكُ بِالْبَاطِنِ. وَهِيَ الْوِجْدَانِيَّاتُ.
وَكَذَا مَا يُدْرَكُ بِخَبَرِ الْمُخْبِرِ الصَّادِقِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا.
وَكَذَا مَا يَحْصُلُ بِالْفِكْرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَجْرِبَةٍ.
فَالْعِلْمُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَقَطْ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْرِفَةِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لُبُّ الْعِلْمِ، وَنِسْبَةُ الْعِلْمِ إِلَيْهَا كَنِسْبَةِ الْإِيمَانِ إِلَى الْإِحْسَانِ. وَهِيَ عِلْمٌ خَاصٌّ، مُتَعَلِّقُهَا أَخْفَى مِنْ مُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ وَأَدَقُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ هِيَ الْعِلْمُ الَّذِي يُرَاعِيهِ صَاحِبُهُ بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ. فَهِيَ عِلْمٌ تَتَّصِلُ بِهِ الرِّعَايَةُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ شَاهِدٌ لِنَفْسِهَا، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمُورِ الْوِجْدَانِيَّةِ، الَّتِي لَا يُمْكِنُ صَاحِبُهَا أَنْ يَشُكَّ فِيهَا، وَلَا يَنْتَقِلَ عَنْهَا.
وَكَشْفُ الْمَعْرِفَةِ أَتَمُّ مِنْ كَشْفِ الْعِلْمِ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ عِلْمٌ خَفِيٌّ]
فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: عِلْمٌ خَفِيٌّ. يَنْبُتُ فِي الْأَسْرَارِ الطَّاهِرَةِ، مِنَ الْأَبْدَانِ الزَّاكِيَةِ، بِمَاءِ الرِّيَاضَةِ الْخَالِصَةِ، وَيَظْهَرُ فِي الْأَنْفَاسِ الصَّادِقَةِ، لِأَهْلِ الْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ، فِي الْأَحَايِينِ الْخَالِيَةِ، وَالْأَسْمَاعِ الصَّاخِيَةِ. وَهُوَ عِلْمٌ يُظْهِرُ الْغَائِبَ، وَيُغَيِّبُ الشَّاهِدَ، وَيُشِيرُ إِلَى الْجَمْعِ.
يَعْنِي: أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ خَفَّيٌّ عَلَى أَهْلِ الدَّرَجَةِ الْأَوْلَى، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَعْرِفَةِ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ.
قَوْلُهُ: يَنْبُتُ فِي الْأَسْرَارِ الطَّاهِرَةِ.
لَفْظُ السِّرِّ يُطْلَقُ فِي لِسَانِهِمْ وَيُرَادُ بِهِ أُمُورٌ.
أَحَدُهَا: اللَّطِيفَةُ الْمُودَعَةُ فِي هَذَا الْقَالَبِ، الَّتِي حَصَلَ بِهَا الْإِدْرَاكُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ. وَذَلِكَ هُوَ الرُّوحُ.
الثَّانِي: مَعْنًى قَائِمٌ بِالرُّوحِ. نِسْبِتُهُ إِلَى الرُّوحِ كَنِسْبَةِ الرُّوحِ إِلَى الْبَدَنِ. وَغَالِبًا مَا يُرِيدُونَ بِهِ: هَذَا الْمَعْنَى.
وَعِنْدَهُمْ: أَنَّ الْقَلْبَ أَشْرَفُ مَا فِي الْبَدَنِ، وَالرُّوحَ أَشْرَفُ مِنَ الْقَلْبِ. وَالسِّرَّ أَلْطَفُ مِنَ الرُّوحِ.
وَعِنْدَهُمْ: لِلسِّرِّ سِرٌّ آخَرُ. لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَصَاحِبُهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ، وَإِنِ اطَّلَعَ عَلَى سِرِّهِ. فَيَقُولُونَ السِّرُّ مَا لَكَ عَلَيْهِ إِشْرَافٌ، وَسِرُّ السِّرِّ مَا لَا اطِّلَاعَ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ.
وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ: يُرَادُ بِهِ مَا يَكُونُ مَصُونًا مَكْتُومًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ. كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَسْرَارُنَا بِكْرٌ. لَمْ يَفْتَضَّهَا وَهْمُ وَاهِمٍ.
وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: لَوْ عَرَفَ زِرِّي سِرِّي لِطَرَحْتُهُ.
وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ: يَنْبُتُ فِي الْأَسْرَارِ الطَّاهِرَةِ.
يَعْنِي: الطَّاهِرَةُ مِنْ كَدَرِ الدُّنْيَا وَالِاشْتِغَالِ بِهَا، وَعَلَائِقِهَا الَّتِي تَعُوقُ الْأَرْوَاحَ عَنْ دِيَارِ الْأَفْرَاحِ. فَإِنَّ هَذِهِ أَكْدَارٌ، وَتَنَفُّسَاتٌ فِي وَجْهِ مِرْآةِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ. فَلَا تَنْجَلِي فِيهَا صُوَرُ الْحَقَائِقِ كَمَا يَنْبَغِي. وَالنَّفْسُ تَنَفَّسُ فِيهَا دَائِمًا بِالرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّهْبَةِ مِنْ فَوْتِهَا. فَإِذَا جُلِيَتِ الْمِرْآةُ بِإِذْهَابِ هَذِهِ الْأَكْدَارِ صَفَتْ. وَظَهَرَتْ فِيهَا الْحَقَائِقُ وَالْمَعَارِفُ.
وَأَمَّا الْأَبْدَانُ الزَّكِيَّةُ.
فَهِيَ الَّتِي زَكَتْ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَنَبَتَتْ عَلَى أَكْلِ الْحَلَالِ. فَمَتَى خَلَصَتِ الْأَبْدَانُ مِنَ الْحَرَامِ، وَأَدْنَاسِ الْبَشَرِيَّةِ، الَّتِي يَنْهَى عَنْهَا الْعَقْلُ وَالدِّينُ وَالْمُرُوءَةُ، وَطَهُرَتِ الْأَنْفُسُ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا: زَكَتْ أَرْضُ الْقَلْبِ. فَقَبِلَتْ بَذْرَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ. فَإِنْ سُقِيَتْ - بَعْدَ ذَلِكَ - بِمَاءِ الرِّيَاضَةِ الشَّرْعِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ - وَهِيَ الَّتِي لَا تَخْرُجُ عَنْ عِلْمٍ، وَلَا تَبْعُدُ عَنْ وَاجِبٍ وَلَا تُعَطِّلُ سُنَّةً - أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَفَائِدَةٍ وَتَعَرُّفٍ. فَاجْتَنَى مِنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ جَالَسَهُ أَنْوَاعَ الطُّرَفِ وَالْفَوَائِدِ، وَالثِّمَارِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالْأَذْوَاقِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا عُقِدَتِ الْقُلُوبُ عَلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي: جَالَتْ فِي الْمَلَكُوتِ. ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى أَصْحَابِهَا بِأَنْوَاعِ التُّحَفِ وَالْفَوَائِدِ.
قَوْلُهُ: وَتَظْهَرُ فِي الْأَنْفَاسِ الصَّادِقَةِ يُرِيدُ بِالْأَنْفَاسِ أَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْفَاسُ الذِّكْرِ وَالْمَعْرِفَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْفَاسُ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ. وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْرُوفِ الْمَذْكُورِ. وَبِالْمَحْبُوبِ الْمُرَادِ مِنَ الذَّاكِرِ وَالْمُحِبِّ. وَصِدْقُهَا خُلُوصُهَا مِنْ شَوَائِبِ الْأَغْيَارِ وَالْحُظُوظِ.
وَقَوْلُهُ: لِأَهْلِ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ فَهِيَ الَّتِي لَا تَقِفُ دُونَ اللَّهِ عز وجل. وَلَا تُعَرِّجُ فِي سَفَرِهَا عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ. وَأَعْلَى الْهِمَمِ: مَا تَعَلَّقَ بِالْعَلِيِّ الْأَعْلَى. وَأَوْسَعُهَا: مَا تَعَلَّقَ بِصَلَاحِ