الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمتبادر أن فكّ الرقاب وإطعام المساكين والبرّ بالأيتام لم تورد في الآيات على سبيل الحصر بما يجب على الإنسان الإقدام عليه من المكرمات، ولكن تخصيصها بالذكر يدل على أنها من المكرمات المسلّم بأهميتها عند عامة السامعين، ووصفها بالعقبة الشديدة تنويه بخطورتها كما هو واضح.
التلازم بين العمل الصالح والإيمان أيضا
ويلحظ أن الآيات قد قرنت إلى هذه المكرمات الخطيرة واجب اجتماعها مع الإيمان بالله والتضامن مع المؤمنين في التواصي بالصبر والمرحمة. وفي هذا توكيد لما قرره القرآن المرة بعد المرة من التلازم الذي لا بدّ منه بين الإيمان والعمل الصالح. فلن تنفع أفعال الخير وحدها صاحبها في الآخرة إذا لم يكن مؤمنا بالله عز وجل قائما بواجباته نحوه مما نبهت عليه بعض آيات قرآنية مثل آيات سورة هود هذه مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) ومما شرحنا حكمته في مناسبة سابقة.
وواضح أن الآيات وهي تنعى على الإنسان الذي تتمثل فيه الطبائع المكروهة وتحرضه على الإقدام على المكرمات بدلا منها مع الإيمان بالله بأسلوبها القوي تتضمن تلقينا مستمر المدى.
تعليق على موضوع الرقيق وموقف القرآن منه وحثّه على عتقه
وبمناسبة الإشارة إلى فكّ الرقاب والحثّ عليه في هذه الآيات لأول مرة نقول إن طبقة الرقيق كانت موجودة في كل مكان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وما قبله وليس وجودها خاصا بالمجتمع العربي. ولقد ورد في القرآن آيات عديدة تتضمن عنهم أمورا كثيرة. وقد كان الرقيق كالمال المقوّم يتصرف فيه صاحبه كما يشاء بيعا
وشراء وهبة واستثمارا وشراكة. وكان من المعتاد أن تستفرش الإماء من قبل سادتهن بدون عقد على أن يكون أبناؤهن أحرارا. أما النسل الذي يكون من تزاوج العبيد والإماء فيظلّ رقيقا «1» . ولقد عالج القرآن أمر الرقيق من حيث الموقف الواقعي فحثّ على تحريره وحسن معاملته بمختلف الأساليب والمناسبات كما وضع مبدأ إلغائه عن طريق المنّ والفداء للأسرى حيث كان أسرى الحرب هم منشأ الرقّ على الأغلب عند العرب وغيرهم. فمن ذلك آية في سورة الإنسان تنوّه بالذين يطعمون الأسير وهي: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)«2» وآية في سورة النساء تأمر بالإحسان في معاملتهم في جملة من تأمر بالإحسان في معاملته وهي: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [36] وفي سورة النور آية تأمر بالاستجابة إلى المماليك الذين يرغبون شراء أنفسهم وهي: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [33] وقد جعل الله عتق الرقاب كفارة عن القتل الخطأ وعن المظاهرة وعن اليمين في هذه الآيات: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [92] من سورة النساء ووَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا من سورة المجادلة [3] ولا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [89] من سورة المائدة. وفي سورة البقرة آية حثّت على الإنفاق في سبيل تحرير الرقاب وهي لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي
(1) انظر كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص 230- 236.
(2)
كانت كلمة الأسير تعني المملوك. والأسر هو سبيل التملك على الأعمّ الأغلب.
الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ [177] . وقد جعل الله في الزكاة نصيبا لعتق الرقاب كذلك كما جاء في آية سورة التوبة هذه:
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [60] وآية سورة محمد هذه: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [4] تكاد تكون منطوية على إلغاء الأسر حيث تأمر بإطلاق سراح الأسرى بالفداء أو بالمنّ بدون فداء. وإذا كان هناك مأثورات نبوية تجيز استرقاق الأسرى وقتلهم فالمستفاد منها أن النبي فعل ذلك في ظروف خاصة وكان أكثر ما فعل الطريقتين القرآنيتين على ما سوف نشرحه في مناسبتها. ومن الوسائل التي جعلتها الشريعة الإسلامية وسيلة إلى تحرير الرقاب ولادة الأمة من سيدها فإنها تسمى أم ولد وتصبح معتقة بعد وفاة سيدها ولا يصح عليها بيع ولا هبة. وقد روى أحمد وابن ماجه حديثا في ذلك جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّما امرأة ولدت من سيّدها فهي معتقة عن دبر منه» «1» . وكذلك العبد الذي يعلن سيده عتقه بعد موته فيسمى المدبر ولا يصح عليه بيع ولا هبة ويكون معتقا حال وفاة سيده على ما ذكره الفقهاء استنادا إلى الآثار «2» .
وهناك أحاديث نبوية عديدة في الحثّ على عتق الرقاب. من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم أيّما رجل أعتق
(1) التاج ج 2 ص 250.
(2)
هناك حديث رواه الخمسة فيه حادث يدل على أن هذه الوسيلة مما كان جاريا ومأذونا به جاء فيه: «إن رجلا من الأنصار أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يشتريه مني فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم فدفعها له ثم قال النبي في رواية أبي داود إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن كان فيها فضل فعلى عياله فإن كان فيها فضل فعلى ذي قرابته» . ص 249 وما فعله النبي ليس منعا وإنما كان مراعاة لحالة مالك الغلام فإن النبي لا يمكن أن يمنع هذه المكرمة التي حضّ عليها القرآن وحضّ عليها هو في أحاديث كثيرة كما هو آت.
امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار» «1» . وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي ذرّ جاء فيه: «أنّ أبا ذرّ سأل النبي أي الرقاب أفضل فقال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها» «2» . وحديث رواه أبو داود والترمذي أن رسول الله قال: «أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما فإنّ الله جاعل وقاء كلّ عظم من عظامه عظما من عظام محرره من النار وأيّما امرأة أعتقت امرأة مسلمة فإنّ الله جاعل وقاء كل عظم من عظامها عظما من عظام محررها من النار» «3» . وحديث رواه أبو داود عن واثلة بن الأسقع قال: «أتينا رسول الله في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل فقال أعتقوا عنه يعتق الله بكلّ عضو منه عضوا من النار» «4» . وحديث رواه الإمام أحمد عن البرّاء بن عازب قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علّمني عملا يدخلني الجنّة فقال لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة. أعتق النسمة وفكّ الرقبة. فقال يا رسول الله أو ليستا واحدة؟ قال: لا. إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفكّ الرقبة أن تعين في عتقها» «5» . وحديث رواه الطبري بطرقه عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق رقبة مؤمنة فهي فداؤه من النار» «6» . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر الخطير كما هو الأمر في كلّ شأن.
وهناك إلى هذا أحاديث نبوية عديدة توجب إحسان معاملة الأرقاء طالما احتفظوا بصفتهم من ذلك حديث رواه مسلم عن عبادة بن الوليد قال: «خرجت أنا وأبي فلقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام وعلى أبي اليسر بردة ومعافريّ وعلى غلامه بردة ومعافريّ فقلت له يا عمّي لو أنك أخذت بردة غلامك
(1) التاج ج 3 ص 246.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه. [.....]
(4)
انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير.
(5)
المصدر نفسه.
(6)
انظر تفسيرها في تفسير الطبري.
وأعطيته معافريّك وأخذت معافريّه وأعطيته بردتك فكان عليك حلّة وعليه حلّة «1» .
فمسح رأسي وقال: اللهمّ بارك فيه يا ابن أخي بصر عيناي هاتان وسمع أذناي هاتان ووعاه قلبي هذا وأشار إلى مناط قلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون وكان أن أعطيته من متاع الدنيا أهون عليّ من أن يأخذ من حسناتي يوم القيامة» «2» . وحديث رواه الترمذي عن أبي مسعود قال:
«كنت أضرب غلاما لي فسمعت صوتا من خلفي اعلم أبا مسعود مرّتين لله أقدر عليك منك عليه. فالتفتّ فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله هو حرّ لوجه الله.
قال: أما لو لم تفعل للفعتك النار أو لمستك النار» «3» . وحديث رواه الترمذي أيضا عن ابن عمر قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كم تعفو عن الخادم؟
فصمت، فأعاد الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: في كلّ يوم سبعين مرّة» «4» . وحديث رواه الترمذي كذلك عن أبي ذرّ قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لاءمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذّبوا خلق الله» «5» . وحديث رواه مسلم وأبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لطم مملوكه أو ضربه فكفّارته أن يعتقه» «6» . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر أيضا. وهناك أحاديث كثيرة أخرى في الموضوعين غير واردة في الكتب الخمسة فاكتفينا بما أوردناه نقلا عن هذه الكتب.
(1) المعافري ثوب أو رداء يصنع في مكان في اليمن اسمه معافر أو اسم صانعيه قبيلة معافر وكانت صنعته مشهورة بالجودة. ويظهر من العبارة أن كلا من السيد والغلام كانا يلبسان رداء ومعافريا غير متشاكلين فاقترح على السيد أن يتشاكل اللباس.
(2)
التاج ج 5 ص 10- 12.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
المصدر نفسه.
(5)
المصدر نفسه.
(6)
ج 2 ص 252.