الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ (1) أَتْرابٌ (2)(52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (3)(54)[49- 54] .
(1)
قاصرات الطرف: الطرف بمعنى العين والبصر. وقد يكون معنى الجملة غاضّات الأبصار حياء وخفرا. ومما قيل في تأويلها إنهن قصرن أبصارهن وقلوبهن على أزواجهن.
(2)
أتراب: جمع ترب. بمعنى متساو أو رفيق. وقيل إنها بمعنى متساوين في السنّ مع سنّ أزواجهن.
(3)
نفاد: انتهاء وجملة ما لَهُ مِنْ نَفادٍ بمعنى أنه لا ينقطع ولا ينتهي.
الآيات متصلة بالسياق ومعقبة عليه. حيث احتوت تنبيها إلى أن ما تقدم ذكره هو للتذكير والاعتبار. ثم احتوت بشرى بما للمتقين في الآخرة من حسن المنزل والنعيم والفواكه والأتربة التي لا تنفد والنساء الخفرات اللائقات بهم الملازمات لهم المساويات في السنّ لهم في جنات عدن التي يأتي شرح مداها بعد قليل.
ومع ما احتوته الآيات من حقيقة نعيم الآخرة الإيمانية فإنها استهدفت فيما استهدفته على ما تلهمه روحها ومضمونها تطمين الصالحين المتقين وإثارة الرغبات فيما عند الله بالإيمان والتقوى والعمل الصالح والدعوة إلى التأسي بعباد الله المخلصين الشاكرين الصابرين في كل حالاتهم.
تعليق على جَنَّاتِ عَدْنٍ
وبمناسبة ورود هذه الجملة لأول مرة نقول إنها وردت مرارا في آيات مكية ومدنية. وقد قيل إن عدن مصدر عدن بمعنى أقام إقامة دائمة. وتكون الجملة
حينئذ بمعنى جنات الخلود. وقيل إنها علم على نوع خاص من الجنات الأخروية.
وقيل إن عدن بمعنى الكرم والبستان في السريانية. وقيل إنها بمعنى وسط الجنة.
وليس شيء من هذه الأقوال واردا في كتب الأحاديث الصحيحة وليس هناك مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها. وقد ذكرت (عدن) مرتين في سفر التكوين أول أسفار العهد القديم المتداول اليوم. حيث جاء ذكرها في هذه العبارة: (وغرس الربّ الإله جنة عدن شرقا وجعل هناك الإنسان الذي جبله) الإصحاح (2) . وفي هذه العبارة من نفس الإصحاح أيضا: (وأخذ الرب الإله الإنسان وجعله في جنة عدن ليفلحها ويحرسها وأمر الربّ الإله الإنسان قائلا من جميع شجر الجنة تأكل وأما شجرة معرفة الخير والشر فإنك لا تأكل منها. إنك يوم تأكل منها تموت موتا) والعبارة تقتضي أن تكون الكلمة علما على بقعة ما في الكون أو الأرض. ولقد عرف من آثار السبئيين النقشية في اليمن الذين وجدوا وحكموا قبل المسيح بأكثر من ألف سنة وامتدّ زمنهم إلى الميلاد المسيحي أنه كان في جنوب اليمن منطقة اسمها (أدنت) كان فيها نتيجة لنظام الريّ الذي اهتمّ له السبئيون وكان من مظاهره خزانات أو سدود كثيرة للماء من جملتها سدّ مأرب العظيم بساتين وارفة وحقول فيحاء «1» .
ومعلوم أنه يوجد اليوم منطقة ومدينة باسم عدن في أقصى الساحل اليمني الجنوبي الغربي يمتد إلى آماد بعيدة في التاريخ ولا يبعد أن تكون منطقة (أدنت) هي هذه المنطقة. وأن كلمة عدن الفصحى التي تطلق عليها اليوم متطورة من كلمة أدنت والتقارب اللفظي شديد بينهما. هذا مع التنبيه على أن فحوى الآيات القرآنية التي وردت فيها يفيد أن المقصود من الكلمة جنة أو جنات أخروية. ومن المحتمل كثيرا أن تكون أوصاف جنات منطقة أدنت اليمنية مشهورة متداولة عند العرب قبل البعثة فاقتضت حكمة الله تعالى تسمية جنات الآخرة أو بعضها باسمها جريا على النظم القرآني في وصف مشاهد الآخرة بالمألوفات الدنيوية على ما ذكرناه قبل وتبشير المؤمنين الصالحين بذلك للترغيب والتطمين. والإيمان واجب على كل حال بما ورد في القرآن وبكونه في نطاق قدرة الله تعالى وحكمته. والله تعالى أعلم.
(1) انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج 2 ص 130.
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (1)(56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ (2) وَغَسَّاقٌ (3)(57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (4)(58)[55- 58] .
(1)
المهاد: ما يفرش تحت الإنسان.
(2)
حميم: الماء الشديد الحرارة.
(3)
غساق: الصديد النتن، وقيل إنه الشديد الظلمة، وقيل الشديد البرودة.
وقد روى الطبري بطرقه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنّ دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» حيث يؤيد هذا المعنى الأول للكلمة.
(4)
أزواج: أصناف، والآية وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ بمعنى أنواع أخرى من مثل أشكال هذا العذاب.
والآيات استطرادية إلى ذكر مآل الطاغين بالمقابلة لمآل المتقين على ما جرى عليه النظم القرآني. وهي بذلك متصلة بالسياق على ما هو المتبادر.
والوصف فيها قوي رهيب. وقد استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوب الطغاة الجاحدين ليرعووا والرغبة في قلوب الصالحين المتقين. وهي على هذا مستمرة التلقين كما هو الظاهر. والوصف مستمد من مشاهد الحياة للتقريب والتمثيل والتأثير على ما ذكرناه من المناسبات المماثلة السابقة.
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ (1) مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (2)(62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا (3) أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (4)(63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)[59- 64] .
(1)
الاقتحام: الاجتياز بقوة، أو الدخول بشدة وقوة.
(2)
ما لنا لا نرى رجالا كنّا نعدّهم من الأشرار: الآية تلهم أن معنى الأشرار فيها سقط المتاع أو المستضعفون، أو الضالون، وهو ما كان الكفار ينعتون به المؤمنين بالرسالة النبوية الذين كان كثير منهم في مبادئ الدعوة من الفقراء والمستضعفين.
(3)
أتخذناهم سخريا: قرئت أتخذناهم على أنها استفهام من الكفار وقرئت على أنها إخبار. وقرئت سخريا بكسر السين على معنى السخرية وبضمّ السين على معنى التسخير وكلا المعنيين لكلمة سخريا محتمل ووجيه. أما اتخذناهم فإن قراءتها على الإخبار أكثر اتساقا مع السياق، وكلمة سخريا قرينة على ذلك حيث تكون الجملة تتمة لكلام الكفار، ما لنا لا نرى الجماعات الذين كنا نعدهم من الأشرار وكنا نتخذهم سخريا أو خدما مسخّرين لخدمتنا.
(4)
أم زاغت عنهم الأبصار: هل لم نرهم معنا لأن أبصارنا زاغت عنهم؟.
الآيات استمرار في السياق السابق أيضا. وفيها استطراد آخر إلى ذكر ما يكون بين الكفار في النار من حوار وعتاب وتلاوم وتحميل كل فريق مسؤولية المصير السيء الذي صار إليه على الفريق الآخر. وقد تكررت حكاية مثل هذا الحوار في سور أخرى «1» . وعبارة الآيات واضحة. وقد انتهت بتقرير رباني بأن هذا الجدل والخصام بين أهل النار واقع حقا.
والآيتان [62- 63] احتوتا حكاية ما يكون من تساؤل أهل النار عمن كانوا يظنونهم أشرارا أو سقط متاع. ويعنون بهم على ما تلهمه الآيات الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون إنهم كانوا يستخدمونهم ويسخّرونهم في حاجاتهم أو يتخذونهم هزؤا. وينطوي في هذا تقريع لاذع يسمعه الكفار وخاصة رؤساءهم سلفا. فالذين يسألون عنهم كانوا من المتقين وصاروا إلى أحسن منازل النعيم والتكريم. وكلام الكفار الذي تحكيه الآيتان ينطوي على حكاية ما كان من استكبار الكفار- وخاصة زعماءهم- وتعاظمهم على المؤمنين لأن كثيرا منهم في بدء الأمر كان من الفقراء
(1) آيات سورة الأعراف [38- 39] وسورة إبراهيم [21] وسورة سبأ [31- 33] مثلا.
لاجز الثاني من التفسير الحديث 22
والمستضعفين وقد تكررت حكاية ذلك عنهم وحكاية طلبهم من النبي صلى الله عليه وسلم إبعادهم عنه حتى يجلسوا إليه ويتحادثوا معه كما جاء في آيات سورة الأنعام هذه: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا «1» أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وآيات سورة الكهف هذه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) ومثل آية سورة البقرة هذه: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) ومثل آيات سورة المطففين هذه: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) .
ولعل كلمة الطاغين التي وصف بها الكفار في مطلع الفصل الاستطرادي جاءت لتشير إلى هؤلاء الرؤساء، وخاصة الذين كانوا بالإضافة إلى كفرهم ومكابرتهم ومناوأتهم يستكبرون على المؤمنين ويهزأون بهم وينالونهم بالأذى والعدوان.
ونقول في صدد الحوار بين أهل النار الذي حكته الآيات إن الإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية واجب مع ملاحظة أنه لا بد لذكره بالأسلوب الذي جاء من حكمته. ومن الحكمة الملموحة من أسلوب الآيات هنا قصد تقريع الكفار وإنذارهم وإثارة الخوف فيهم وحملهم على الارعواء والارتداع. والله تعالى أعلم.
(1) يقولون ذلك القول بأسلوب الهازئ المتنقص.