الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واحدة بين الجنّ والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة» «1» .
ومن الحكمة الملموحة في الأحاديث التبشير والتطمين بسعة رحمة الله لخلقه في الدنيا والآخرة.
تعليق على ذكر الزَّكاةَ في الآية [156]
وهذه هي المرة الأولى التي ترد فيها كلمة الزَّكاةَ بصيغتها الاصطلاحية في آية مكيّة. وقد وردت قبل بهذه الصيغة في آية مدنية وهي الآية الأخيرة من سورة المزمل. ووردت بصيغة مَنْ تَزَكَّى في إحدى آيات سورة الأعلى. ولقد علّقنا على الموضوع بما يغني عن التكرار. وكل ما يمكن أن يقال هنا أن صيغة الآية قد تفيد معنى الحثّ على إيتاء الزكاة والتنويه بمن يؤتونها. وقد تفيد معنى أن أناسا من الذين آمنوا كانوا يؤتون الزكاة فعلا. ونحن نرجّح أن الآية احتوت المعنيين. ونرى فيها تدعيما لما قلناه في التعليق الذي كتبناه في تفسير سورة المزمل من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرض على الميسورين من المسلمين أداء شيء من أموالهم باسم زكاة منذ عهد مبكر. والله أعلم.
تعليق على الآية الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ والآية التالية لها وما فيهما من خطورة ودلالة في صدد الرسالة المحمدية
وفي هذه الحلقة آيتان في صدد الدعوة إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه وشمول دعوته وتنويه بالذين اتبعوه وهما الآيتان [157- 158] .
(1) التاج ج 5 ص 143.
ولقد روى الطبري عن قتادة والهذلي من علماء التابعين أنه لما نزلت عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وهي الآية السابقة للآيتين، قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فأنزل الله: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فقال النصارى واليهود نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات الله وتمنوا أن تكون الآية فيهم فأنزل الله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ إلخ الآية. وروى كذلك عن نوف البكالي وهو يهودي الأصل أن موسى لما انطلق بوفد بني إسرائيل كلّمه الله فقال إني بسطت لهم الأرض طهورا ومساجد يصلّون فيها حيث أدركتهم الصلاة إلّا عند مرحاض أو قبر أو حمام. وجعلت السكينة في قلوبهم وجعلتهم يقرأون التوراة عن ظهر ألسنتهم، فذكر موسى ذلك لبني إسرائيل فقالوا لا نستطيع أن نحمل السكينة في قلوبنا فاجعلها لنا في التابوت ولا نستطيع أن نقرأ التوراة إلّا نظرا. ولا نصلي إلّا في الكنيسة فقال الله فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة حتى بلغ أولئك هم المفلحون. فقال موسى عليه السلام: يا ربّ اجعلني نبيهم، قال: نبيهم منهم.
قال: اجعلني منهم، قال: لن تدركهم.
والتفكك والغرابة باديتان على الروايتين. وينقض الأخيرة منها نصّ الآية الثانية التي تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهتاف بالناس بأنه رسول الله إليهم جميعا. وليس شيء منها واردا في كتب الأحاديث المعتبرة.
والذي يتبادر لنا أن الآيتين قد جاءتا استطرادا بعد الآية السابقة لتبين الأولى منهما هوية الذين وعدتهم الآية السابقة برحمة الله الواسعة أو لتكون بدلا بيانيا عنها وهم اليهود والنصارى الذين يتبعون الرسول النبي الذي يجدون صفاته في التوراة والإنجيل الذي من صفاته ورسالته أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإباحة الطيبات لهم وتحريم الخبائث عنهم وتحريرهم من القيود والتكاليف الشديدة التي كانت مفروضة عليهم ولم تعد حكمة الله تقتضي دوامها في عهد هذا النبي. ولتأمر الثانية النبي صلى الله عليه وسلم بالهتاف بأنه رسول الله إلى الناس جميعا وأنه مؤمن بالله وبكلماته
أي كتبه المنزلة السابقة، وأنه يدعوهم إلى اتباعه، كأنما أريد بهذا توجيه الخطاب لأهل التوراة والإنجيل بخاصة وإعلانهم بأن رسالته ليست خاصة بالعرب الأميين (غير الكتابيين) الذين هو منهم، وإنما هي شاملة لهم ولغيرهم من جميع الأجناس والألوان والأديان.
وتعدّ الآيتان بما احتوتاه من أهمّ جوامع الكلم القرآنية كما تعدّ الأهداف التي تقررانها جماع أهداف الدين الإسلامي ومبادئه، وخير ما يمكن أن تستهدفه الشرائع والأديان لتحقيق السعادة والفوز والنجاح في الدنيا والآخرة. وقد جاءتا في ذات الوقت لتمهد السبيل لإقبال اليهود والنصارى على الإيمان بالرسالة المحمدية ولفتح الباب على مصراعيه لتكوين وحدة أخوية إنسانية عامة في دين واحد يحتوي أسس الأديان السماوية ويعترف بكتبها وأنبيائها ويرفع الإصر والأغلال عن الناس ويزيل من بينهم المبهمات والمشكلات والخلافات، ويقوم على أساس الأمر بكل ما عرف أنه خير وصلاح والنهي عن كل ما عرف أنه منكر وفساد وإباحة كل ما عرف أنه طيب وتحريم كل ما عرف أنه خبيث.
ولما كانت هذه الآيات مكية ومبكرة في النزول فإن فيها دلالة على أن الرسالة المحمدية حملت منذ بدئها المهام العظمى التي ذكرتها الآية الأولى، وعلى أن صفات النبي صلى الله عليه وسلم كانت موجودة في التوراة والإنجيل يجدها اليهود والنصارى فيهما. وعلى أن فريقا منهم اعترفوا بمطابقة صفاته على ما في أيديهم من الكتب وآمنوا به في وقت مبكر من العهد المكي. وعلى أن هذه الرسالة كانت منذ البدء رسالة عامة لجميع الناس والملل، وردا على الذين يزعمون غير ذلك استدلالا من بعض آيات وجهت للعرب خاصة، وغير مدركين ما يمكن أن يكون في ذلك من حكمة وخصوصية اقتضتها ظروف الخطاب والدعوة والأساليب مما سوف نشرحه في مناسباته. وهذا التعميم قد أكّدته إشارات وآيات عديدة منها ما سبق ونبهنا عليه فضلا عمّا في القرآن المدني من مؤيداته الكثيرة.
ولقد كان ما احتوته الآية [157] من إشارة إلى أن اليهود والنصارى يجدون صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأهداف دعوته فيما بين أيديهم من التوراة والإنجيل موضوع جدل وتشادّ في مجال الإنكار والإثبات بين المسلمين وأهل الكتاب.
ونقول إن الآية تقول هذا بصراحة وتوجه الخطاب بخاصة إلى اليهود والنصارى، ومنهم من كان يسمعه وجاها ومنهم من آمن به نتيجة لذلك. فليس مما يعقل- ونقول هذا من باب المساجلة- أن يكون ما تقوله الآية جزافا لا يستند إلى حقيقة ما أو أساس ما فيما كان في أيدي اليهود والنصارى من أسفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يستطيع أحد أن ينفي ذلك أو يجزم بأن ما كان في أيديهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو نفسه الذي يتداولونه اليوم بدون نقص أو زيادة في النصوص وأسماء الأسفار. والتوراة والإنجيل اللذان تذكرهما الآية هما كتابان منزلان من الله عز وجل على موسى وعيسى عليهما السلام. وهذا هو المقصود بهما على ما تفيده آيات كثيرة سيأتي إيرادها في تعليق آخر يأتي بعد هذا على التوراة والإنجيل.
والمتداول في أيدي اليهود والنصارى اليوم أسفار كثيرة العدد كتبت بعد موسى وعيسى بأقلام بشرية شابها كثير من المبالغة والمناقضة والإغراب. وفي القرآن دلائل تفيد أنه كان في أيدي اليهود والنصارى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم توراة وإنجيل يصحّ عليهما وصف القرآن على ما سوف نورده في التعليق الآتي. وفي أسفار العدد والخروج والتثنية والملوك وعزرا من أسفار العهد القديم ما يفيد أن كتابا باسم التوراة كتبه موسى بيده وفيه ما تلقّاه عن الله من وصايا وتعاليم وشرائع. والمتبادر من العبارة القرآنية أن هذا هو الذي كان فيه صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وهو مفقود. وهناك إنجيل معروف باسم إنجيل برنابا أحد الرسل الذين حملوا راية التبشير عقب وفاة عيسى عليه السلام «1» فيه نصوص متفقة مع نصوص القرآن عن عيسى عليه السلام وولادته وحياته ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته. ومهما تكن المآخذ التي يوجهها رجال الدين النصراني إلى هذا الإنجيل فإن نصوص القرآن الذي لا يشك أحد في
(1) اقرأ سفر أعمال الرسل حيث يذكر برنابا ونشاطه في الدعوة والتبشير.
أنه يرجع تاريخيا إلى أربعة عشر قرنا دليل قاطع على أن في ما كان متداولا في أيدي اليهود والنصارى من أسفار إشارات إلى صفة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته. فقد جاء في سورة الصف مثلا: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [6] وهناك آيات تذكر أن أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ويعرفون أن الكتاب المنزل عليه هو حقّ من الله وأن ما أنزل إليه هو حق كما يعرفون أبناءهم مثل آية سورة البقرة هذه:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) وآية سورة الأنعام هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وهذه أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
مما لا يمكن أن يكون إلّا بسبب ما رأوه من مطابقة تامة بين صفاته وبين ما في أيديهم من كتب.
على أن في أسفار العهد القديم والعهد الجديد المتداولة اليوم إشارات عديدة يمكن أن تكون من جملة ما يدلّ على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته. ومن ذلك مثلا عبارة مجيء المعزى بعد انطلاق عيسى عليه السلام حيث جاء في الإصحاح الخامس عشر من إنجيل يوحنا هذه العبارة: (ومتى جاء المعزى «1» الذي أرسله إليكم من عند الآب روح الحق الذي من الآب ينبثق فهو يشهد لي) . وفي الإصحاح السادس عشر هذه العبارة: (إن في انطلاقي خيرا لكم لأني إن لم أنطلق لم يأتكم المعزى ولكني إذا مضيت أرسلته إليكم. ومتى جاء يبكت العالم على الخطيئة وعلى البرّ وعلى الدينونة) . وقد أوردنا العبارة على علّاتها ونعتقد أن السيد المسيح الذي ورد في القرآن عن لسانه أنه عبد الله ورسوله لا يمكن أن يقول قولا يشتمّ منه أنه غير ذلك. وفي إنجيل برنابا نصوص كثيرة تماثل ما ذكره القرآن عن
(1) هذه العبارة مأخوذة من النسخة الكاثوليكية وقد جاء بدلها في النسخة البروتستانتية (كلمة البارقليط) .
عيسى وأقواله عن بعثة النبي ومن جملتها: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) . وإنكار النصارى له لا يقدّم ولا يؤخّر لأن هذه الحقائق قد ذكرت في القرآن الذي ذكر أن من أهل الكتاب اليهود والنصارى من آمن بالنبي وصدّق بالقرآن وأعلن أنه مطابق لما عندهم من الحق. مما سوف نورد نصوصه بعد.
وبعض المبشرين يقولون إن البارقليط أو المعزى هو روح القدس. وروح القدس هو جزء من الله في عقائدهم والعبارة الإنجيلية تفيد أن الذي سيأتي هو شخص مرسل من الله لينذر ويبكت ويأمر بالبرّ والتقوى. وكل هذا صفات رسول إلهي وليست صفات الله
…
ولقد عقد رشيد رضا في الجزء التاسع من تفسيره في سياق تفسير سورة الأعراف وهذه الآيات فصلا طويلا على هذا الأمر نبّه فيه إلى أمور عديدة ليثبت أنه لا يمكن إلّا أن يكون الأنبياء السابقون للنبي صلى الله عليه وسلم قد نبهوا إلى رسالته وظهوره وأن يكون ذلك مذكورا في ما نزل عليهم من كتب الله وعلى أن عدم ذكر ذلك بصراحة لا ينفي هذا وإنما يثبت التحريف والإخفاء ثم أورد بعد ذلك ثاني عشرة بشارة مستمدة من نصوص أسفار العهد القديم والأناجيل وناقش الشبهات التي يوردها بخاصة المبشرون. وأورد من الحجج والأقوال ما فيه المقنع لراغبي الحق والحقيقة والهدى بصواب استنتاجاته وقوّة حججه وبعدم قيام شبهات المشتبهين على أسس صحيحة.
ومما يدعم هذا ما احتواه القرآن من مشاهد وإشارات تدلّ على أن من أهل الكتاب في مكة والمدينة أو وفودهم- وفيهم الأحبار والرهبان والقسس والراسخون في العلم- من آمنوا بالرسالة النبوية وصدّقوا بما جاء في القرآن وقرروا أنه متطابق مع ما عندهم كما جاء في الآية التي نحن في صددها ثم في آيتي آل عمران هذه: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ الجزء الثاني من التفسير الحديث 30
وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وآية سورة آل عمران هذه أيضا:
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) وآية سورة النساء هذه: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) وآيات سورة المائدة هذه: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) . وآية سورة الأنعام هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وهذه:
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وآية سورة الرعد هذه: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وآيات سورة الإسراء هذه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) وآيتي سورة القصص هذه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) . وآية سورة الأحقاف هذه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وآية سورة العنكبوت هذه: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ
وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ (47) .
وفي كل هذا شواهد عيانية مكية ومدنية حاسمة لا يسع منصفا أن يكابر فيه حتى من الكتابيين أنفسهم فيما نعتقد.
ويروي المفسرون بعض الأحاديث في سياق الآيتين، منها ما ورد في الكتب الخمسة، وفيها كذلك شواهد عيانية منها حديث أورده ابن كثير ورواه الإمام أحمد عن أبي صخر العقيلي عن رجل من الأعراب قال:(جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله فلما فرغت من بيعي قلت لألقينّ هذا الرجل فلأسمعن منه قال فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها، يعزّي بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها فقال رسول الله أنشدك الله بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي فقال برأسه هكذا أي لا، فقال ابنه إي والذي أنزل التوراة إنّا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك وإني أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنك رسول الله فقال رسول الله أقيموا اليهودي عن أخيكم. ثم ولي كفنه والصلاة عليه) . وقد قال ابن كثير هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح عن أنس.
وأورد ابن كثير حديثا طويلا رواه الحاكم في المستدرك عن هشام بن العاص خلاصته أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه مع رفيق له إلى هرقل لدعوته إلى الإسلام وإن هرقل سأله عن صفات رسول الله وعاداته ودعوته ثم صدّق أنه هو النبي الموعود وقال أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي وإني كنت عبدا له أشركه في ملكي ثم ما لبث أن مات. وهناك حديث طويل آخر يرويه البخاري ومسلم عن أبي سفيان خلاصته أن النبي بعث مع دحية الكلبي إلى هرقل كتابا بالدعوة إلى الإسلام فأحبّ هرقل أن يعرف أحوال النبي وأخباره فأمر بالبحث عن جماعة من مكة فأتي له بأبي سفيان فسأله عن أحوال النبي وأخباره وعاداته فصدقه في كل جواب عن كل سؤال سأله إياه فقال له إن يك ما تقوله حقا فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن
أظنه منكم ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي «1» .
وأورد الطبري حديثا متسلسلا عن عطاء بن يسار قال: «لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة؟ قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن. يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. وحرزا للأميين. أنت عبدي ورسولي اسمك المتوكّل ليس بفظ ولا غليظ.
ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلّا الله ويفتح به قلوبا غلفا. وآذانا صما وأعينا عميا. قال عطاء: ثم لقيت كعبا فسألته فما أخلف حرفا وزاد بعد قوله ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح» .
وهناك آيات تندّد باليهود لأنهم كفروا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن مع أنهم كانوا يعرفون أنهما حق ويستفتحون أي يزهون ويتفاخرون بهما على العرب قبل الإسلام حيث كانوا يقولون لهم إنهم سيكونون معه حزبا واحدا. وكان ذلك حسدا وغيظا مما حسبوه تهديدا لمراكزهم ومصالحهم مثل ما جاء في آيات سورة البقرة هذه: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) حيث ينطوي في الآيات شاهد قرآني صريح على أن اليهود كانوا يعرفون صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ولقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به
(1) التاج ج 4 ص 67- 68. وسنورد نصّ الحديث في سياق تفسير الآية [64] من سورة آل عمران لأن الحديث روي في مناسبتها.
إلّا كان من أصحاب النار» «1» . حيث ينطوي في الحديث تساوق مع القرآن الذي يقرّر أن رسالته لجميع الناس بما فيهم اليهود والنصارى وكون النبي صلى الله عليه وسلم موقنا أعمق يقين بأن أسفارهم قد وصفته وبشّرت به وأنهم مأمورون فيها بالإيمان برسالته حين يبعثه الله وأنهم يظلون ملزمين بذلك إلى أبد الدهر. وآيات سورة البيّنة وبخاصة الآية السادسة منها وهي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) صريحة بأن القرآن يصف كل جاحد لرسالة النبي من أهل الكتاب بعد أن بلغتهم كافرين مستحقين للنار وخالدين فيها كذلك.
ومن الجدير بالذكر أن الإسلام ظلّ ينشد في اليهود والنصارى بعد النبي صلى الله عليه وسلم أيضا. فقد كان في بلاد الشام ومصر طوائف كبيرة من اليهود فتضاءل عددها لإقبال الكثير منهم على الإسلام. ولقد كانت النصرانية سائدة في هذه البلاد وفي العراق العربي أيضا فلم يكد ينتهي القرن الهجري الأول حتى دان أكثرية النصارى الكبرى في هذه البلاد بالإسلام. ولقد كانت هذه الأكثرية على مذهب اليعاقبة والنساطرة الذي يقول بوحدة طبيعة المسيح وكونها مزيجا من اللاهوتية والناسوتية. ولقد كانت الدولة الرومانية صاحبة السلطان في بلاد الشام ومصر على مذهب آخر يعرف بالملكاني ويقول بثنائية طبيعة المسيح وكونه إلها كاملا وإنسانا كاملا. وكان بين أهل هذا المذهب وأهل المذهب الأول نزاع وشقاق وقتال. وتعرّض هؤلاء لاضطهاد الدولة التي كانت تدين بالمذهب الثاني، فمن المحتمل كثيرا أن يكون أصحاب المذهب الأول وجدوا تطابقا ما بين مذهبهم وتقريرات القرآن عن المسيح التي منها أنه إنسان وأنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه كما جاء في آية سورة النساء [171] فأقبلوا على الإسلام ووجدوا فيه منقذا روحيا وسياسيا لهم في آن واحد. وبعض الأغيار يزعمون أن الذين آمنوا من اليهود والنصارى بعد النبي إنما أسلموا بقوة السيف. وهذا افتراء محض يكذبه إيمان من آمن منهم في حياة
(1) التاج ج 1 ص 30.