الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على اجتناب كبائر الإثم والفواحش إلّا اللمم
وفي الآية الأولى توكيد لتقريرات سابقة بأن الله سيحاسب الناس على أعمالهم الحسنة والسيئة وسيجزيهم عليها، ويتضمن هذا توكيد تقرير قابلية الإنسان للكسب ومسؤوليته عن كسبه.
ومما لا ريب فيه أن هذه التقريرات والتوكيدات المتكررة مما يفيد فائدة كبيرة في تربية النفس وجعل المرء يفكر قبل إقدامه على أي عمل في عواقب ما هو مقدم عليه.
ولقد تعددت الأقوال في تأويل «اللمم» المستثنى في الآية الثانية حيث قيل إنه الذنب الذي يتوب عنه فاعله أو صغائر الذنوب أو الذنب الذي لم يذكر الله عليه حدا ولا عذابا أو ما يخطر على القلب من ذنوب أو ما ليس عادة متكررة أو النظرة غير المتعمدة أو القبلة والغمزة والنظرة. والذي نرجحه هو أنه صغائر الذنوب والهفوات التي لا يمكن للطبيعة البشرية أن تتفاداها. ولقد روى الترمذي في صددها «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:
«إن تغفر اللهم تغفر جمّا
…
وأي عبد لك لا ألمّا»
مما فيه تدعيم لذلك. وعلى هذا تكون الآية الثانية قد احتوت مبدأ قرآنيا جليلا متمشيا مع الوقائع وطبائع الأمور. فالناس بسبب ما فيهم من غرائز تسوقهم إلى ما يرون فيه نفعهم وتدفعهم عما يرون فيه من ضرر لا يمكن أن يكونوا معصومين من الوقوع في الأخطاء واقتراف الذنوب والانحراف. غير أن من هذه الذنوب والأخطاء والانحرافات ما يكون كبائر وفواحش ويكون مخالفته لحقوق الله وضرره العظيم للناس واضحا لا يدق عن الأفهام بصورة عامة، ومنه
(1) التاج ج 4 ص 222.
الهفوات التي قد تبدر عن حسن نية أو غفلة أو تقصير غير متعمد فيه الضرر والإثم والمخالفة. أو التي يكون ضررها محدودا ضئيلا. ومنه كذلك خلجات النفس الآثمة التي تظل في القوة ولا تخرج إلى حيّز الفعل. فالواجب المحتم على الناس أن يجتنبوا كبائر الإثم والفواحش على كل حال ولا يمكن أن يعذروا على اقترافها. أما تلك الهفوات والأخطاء والإلمامات العابرة والخلجات التي لا تخرج إلى نطاق الفعل فإن الله عز وجل يشملها بعفوه وغفرانه إذا كانت صدرت من صاحبها عن نية حسنة أو غفلة أو تقصير أو اضطرار ولم يكن ضررها كبيرا، وكان صاحبها مؤمنا مجتنبا للكبائر.
وفي سورة النساء آية فيها هذا المعنى بأسلوب إيجابي قوي داعم لما قررناه وهي: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً (31) حيث يتساوق التلقين القرآني المدني مع التلقين القرآني المكي تساوقا رائعا قويا.
وفيما جاء في الآية نفسها من التنبيه إلى عدم التبجح والدعاوى الفارغة وتزكية النفس بغير حقّ تلقين جليل في صدد تربية النفس وجعل صاحبها يعرف حدوده، ويعرف أن الله لا تخفى عليه خافية فتزعه هذه المعرفة عن الخيلاء والغرور وتبعده عن الخداع والتضليل.
وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [32] مدنية في حين أنها متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا قويا نظما وموضوعا. وهذا ما يحمل على التوقف في الرواية.
ولقد روى مسلم والترمذي عن النواس الأنصاري حديثا نبويا فيه تعريف للإثم جاء فيه: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال البر حسن الخلق والإثم ما جال في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه» «1» . غير أن الكلمة
(1) التاج ج 5 ص 3.
في مقامها تعني كما هو المتبادر الذنب المقترف بصورة عامة. ولقد وردت الكلمة في هذا المعنى في آيات عديدة مكية ومدنية مثل آية سورة الأعراف هذه: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وآية سورة الأنعام هذه:
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وآية سورة المائدة هذه: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [2] وآية سورة النور هذه: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [11] حيث يبدو من هذا أن الحديث النبوي إنما احتوى تعريفا بأخف مظاهر الإثم لينبه على أن هذا المظهر مكروه عند الله ومؤاخذ عليه فيكون ما هو أكبر منه أكثر كراهية ومؤاخذة.
على أن جملة كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ في مقامها تعني الذنوب الكبيرة كما هو المتبادر. وهناك أحاديث نبوية عديدة في وصف هذه الذنوب. وأكثرها متماثل بخلاف يسير ومنها المرفوع ومنها المتصل ومنها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة بوصف الموبقات. ومما ذكر فيها الشرك بالله. وأكل مال اليتيم، وأكل الربا وقذف المحصنات والفرار يوم الزحف واستحلال البيت الحرام، وشهادة الزور وعقوق الوالدين وشرب الخمر والسحر والبهتان والقتل وترك الصلاة واليمين الغموس والزنا واستطالة المسلم في عرض رجل مسلم بغير حق. والقنوط من رحمة الله وسوء الظن بالله والسرقة والغلول ومنع فضول الماء والتعرب بعد الهجرة- أي العودة إلى الأعراب والبادية. وهناك من قال إن الكبائر كثيرة قد يصل عددها إلى سبعين بل وإلى سبعمائة «1» .
وهذه بعض نصوص الأحاديث النبوية الواردة في ذلك، فمن ذلك حديث
(1) انظر تفسير الآية [31] من سورة النساء في كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والقاسمي وغيرهم. وأكثرهم استيعابا للأحاديث الواردة في كتب الأحاديث الصحيحة وغيرها ابن كثير.
رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هنّ قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ وأكل الرّبا وأكل مال اليتيم والتولّي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» «1» . وحديث رواه الطبري بطرقه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري قالا: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال والذي نفسي بيده ثلاث مرات ثم أكبّ فأكبّ كلّ رجل منا يبكي لا يدري على ماذا حلف ثمّ رفع رأسه وفي وجهه البشر فكان أحبّ إلينا من حمر النعم فقال ما من عبد يصلّي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم قيل ادخل بسلام» .
وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور قال فما زال يقولها حتى قلنا ليته سكت» «2» .
وهناك نصوص عديدة أخرى في كتب التفسير وبخاصة في تفسير ابن كثير لا تخرج عن نطاق ما أوردناه فنكتفي بما أوردناه. وننبه على أن كل ما ورد في
(1) التاج ج 3 ص 4- 5.
(2)
المصدر نفسه ص 57.
الأحاديث مما نهى القرآن وشدد فيه الإنذار والوعيد. ويبدو من تنوع الكبائر في الأحاديث أنها لم تذكر على سبيل الحصر، وفي القرآن كبائر لم تذكر في الأحاديث مثل الكذب والميسر والظلم والنفاق والفساد في الأرض مثلا.
والأحاديث الواردة في هذا الصدد مما أوردناه ولم نورده هي على الأرجح على ما يدل عليه أنواع الكبائر المذكورة فيها وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني، حيث يمكن القول إن الجملة التي نحن في صددها والتي نزلت في وقت مبكر من العهد المكي قد قصدت كل ذنب كبير إطلاقا مما فيه تقرير مبدئي. وهذا من سمات القرآن المكي، أما التنوع الملحوظ في الأحاديث فالمتبادر أنه متصل بالظروف التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى من الحكمة أن ينبه أو ينهى عما جاء فيها، والله تعالى أعلم.
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى (1)(34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ (2) وازِرَةٌ وِزْرَ (3) أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (4)(46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (5)(48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (6)(49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ (7) وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ (8) أَهْوى (9)(53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (10)(54) فَبِأَيِّ آلاءِ (11) رَبِّكَ تَتَمارى (12)(55)[33- 55] .
(1)
أكدى: بخل وأمسك ومنع وأظهر الفقر.
(2)
تزر: تحمل.
(3)
وزر: حمل ومعنى الآية أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى: ألا يحمل امرؤ ذنب امرئ آخر.
(4)
تمنى: تنزل منيّا.
(5)
أقنى: يسر للناس أن يقتنوا الأموال والمقتنيات. أو أغناهم حتى أرضاهم، حسب تعدد الأقوال.
(6)
الشعرى: أحد الكواكب المشهورة عند العرب.
(7)
أظلم: هنا بمعنى أشد جرما وعدوانا وانحرافا.
(8)
المؤتفكة: قوم لوط وقراهم على ما ذكره جمهور المفسرين.
(9)
أهوى: أسقطها وجعل عاليها سافلها كما جاء في آيات أخرى.
(10)
فغشّاها ما غشّى: فألبسها من العذاب ما ألبسها.
(11)
آلاء: آيات أو نعم.
(12)
تتمارى: تشك وتكذّب.
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلّا القليل ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا. فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون «1» روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال إني خشيت عذاب الآخرة فقال له أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا.
ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [124] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) منها حديث رواه أبو أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبراهيم الذي وفّى أتدرون ما وفّى؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار» . وحديث رواه أنس قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفّى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات» . والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها.
(1) انظر تفسيرها في كتب تفسير الطبري والبغوي والزمخشري.