الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذ من الجانّ وعين الإنسان حتى نزلت المعوّذتان فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما» «1» .
وعلى كل حال فإن الأحاديث النبوية تتساوق مع التلقين القرآني الذي نوهنا به آنفا.
تعليق على ما روي في صدد نزول السورة ومدنيتها وسحر النبي صلى الله عليه وسلم
ولقد روى المفسر البغوي عزوا إلى ابن عباس وعائشة أن هذه السورة وسورة الناس بعدها نزلتا معا في مناسبة سحر النبي صلى الله عليه وسلم من قبل ساحر يهودي اسمه لبيد بن الأعصم. ويروي رواية أخرى في ذلك عزوا إلى مقاتل والكلبي جاء فيها أنهما «قالا كان السحر في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة وقيل كانت العقد مغروزة بالإبرة فأنزل الله هاتين السورتين وهي إحدى عشرة آية سورة الفلق خمس آيات، سورة الناس ست آيات كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال» . وروى أنه لبث فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلاث ليال فنزلت المعوذتان. ويروي هذا المفسر في سياق ذلك عن عائشة «2» :
(1) المصدر السابق نفسه.
(2)
المفسر من أئمة الحديث وهو يروي هذا الحديث بطرقه سماعا من راو عن راو عن هشام عن أبيه عن عائشة.
(3)
أي في وعاء من طلع النخل.
قال في ذروان- وذروان بئر في بني زريق- قالت عائشة: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى عائشة فقال والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رؤوس الشياطين.
قالت: فقلت له يا رسول الله فهلا أخرجته؟ فقال: أما أنا فقد شفاني الله فكرهت أن أثير على الناس به شرا» .
وقد قال البغوي بعد هذا الكلام «وروي أنه كان تحت صخرة في البئر فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان مشطه فيها» . ويروي هذا المفسر كذلك حديثا عن زيد بن أرقم جاء فيه «1» : «سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود. قال فاشتكى لذلك أياما قال فأتاه جبريل فقال إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لك عقدا فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فاستخرجها فجاء بها فكلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله كأنما نشط من عقال فما ذكر ذلك لليهود ولا رأوه في وجهه قط» . وليس في الحديثين صراحة بأن السورتين نزلتا في مناسبة ما ذكر فيهما من خبر سحر النبي صلى الله عليه وسلم حيث يبقى ذلك كراوية مستقلة مروية عن ابن عباس وعائشة ومقاتل والكلبي.
وشيء مما ذكره ورواه البغوي وارد في كتب تفسير الخازن والطبرسي والنيسابوري وابن كثير. ومما جاء في تفسير الأخير زيادة عزوا إلى ابن عباس وعائشة أنه كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدبت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من أسنان مشطه فأعطاها اليهود فسحروه فيها وكان الذي تولى ذلك لبيد بن الأعصم وقد مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتثر شعره ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن وجعل يذوب ولا يدري ما عراه.
ولم يذكر الطبري وهو أقدم المفسرين المطولين الذين وصلت إلينا كتبهم شيئا من ذلك في صدد سخر النبي صلى الله عليه وسلم ولا في صدد نزول المعوذتين. ولم يذكر ذلك الزمخشري ولا النسفي. ويمكن أن يكون هناك مفسرون آخرون لم يذكروه لأننا لم
(1) يروي البغوي هذا الحديث بطرقه سماعا من راو إلى راو إلى يزيد بن حسان عن زيد بن أرقم.
نطلع على جميع كتب التفسير. وليس في فصول التفسير التي عقدها البخاري ومسلم في صحيحيهما شيء من ذلك أيضا مع التنبيه إلى أن هذين رويا حديثا عن عائشة قريبا في نصه إلى ما رواه البغوي وهذا نصه: «قالت سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهوديّ من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتّى كان رسول الله يخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا رسول الله ثم دعا ثم دعا ثم قال يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجليّ فقال الذي عند رأسي للذي عند رجليّ أو الذي عند رجليّ للذي عند رأسي ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبّه؟
قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلعة ذكر. قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان. قالت: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه ثم قال يا عائشة والله لكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء ولكأنّ نخلها رؤوس الشياطين. فقلت يا رسول الله أفلا أحرقته قال لا. أمّا أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرا فأمرت بها فدفنت» «1» . وفي تفسير الخازن تعقيبا على نص قريب من هذا النص بهذه العبارة: «إن للبخاري رواية أخرى ذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. وأن سفيانا قال إن هذا أشدّ ما يكون من السحر» .
وروايات البغوي والطبرسي والخازن والنيسابوري وابن كثير تقتضي أن يلتزموا القول بأن السورتين مدنيتان. غير أنهم لم يفعلوا ذلك فقال البغوي إنهما مكيتان وقيل إنهما مدنيتان. وقال الطبرسي أكثر الأقاويل أنهما مدنيتان وقيل إنهما مكيتان. وقال النيسابوري إنهما مكيتان. ولم يذكر ابن كثير والخازن لهما صفة.
أما المفسرون الآخرون فمنهم من لم يصفهما بصفة مثل الطبري ومنهم من قال إنهما مدنيتان. ومنهم من قال إنهما مختلف فيهما مثل النسفي والزمخشري.
(1) التاج ج 3 ص 173- 174.
ومقتضى سكوت الطبري عمّا روي في صدد سحر النبي صلى الله عليه وسلم ونزولهما في مناسبته أن تكونا مكيتين.
ويلحظ أن المعوذتين ليستا معقودتين على السحر وأثره. وأنهما تعلمان النبي التعوذ من شرّ الظلمات والحاسدين وشرار الخلق والنفاثات في العقد ووساوس الجن والإنس بأسلوب مطلق وعام. وهما مماثلتان لسور عديدة في القصر والتسجيع نزلت في وقت مبكر في مكة ممّا مر منه أمثلة. ومعظم روايات ترتيب النزول تسلكهما في سلك السور المكية المبكرة في النزول أيضا. ونص الأحاديث الواردة في سحر النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إشارة إلى أنهما في نزلتا في هذه المناسبة ورواية نزول السورتين معا تبعدهما عن حادث السحر المروي وكل هذا يجعل مكيتهما هي الراجحة.
بقي أمر ما ذكرته الأحاديث التي توصف بالصحة من خبر سحر النبي صلى الله عليه وسلم وامتداد ذلك ستة أشهر حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله. وقد صنع شيئا وما صنعه. ويأتي النساء وما يأتيهن فعلا. ولو لم تكن الأحاديث موصوفة بالصحة لكان يمكن أن يقال إن من المحتمل أن يكون الخبر من ذكريات ظرف طرأ على النبي صلى الله عليه وسلم فيه بعض مظاهر تعب وقلق فظن المسلمون أن هذا من تأثير سحر اليهود على ما كان مستقرا في الأذهان من تأثير السحر وعلى ما كان معروفا من عداء اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاطاتهم للسحر مما أيدته آية سورة البقرة هذه: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [102] وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا المعوذتين مرة بعد مرة في هذا الظرف فعاد إليه نشاطه وسكون نفسه. ولكنا نقف حائرين أمام الحديث الذي روى واقعة السحر والذي وصف بالصحة.
ويظهر أن هذا الأمر كان موضوع جدل فيما إذا كان للسحر تأثير حقيقي في النبي صلى الله عليه وسلم وفيما إذا كان هذا إذا صح يتسق مع العصمة النبوية حيث يكون إمكان لصدور شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون وحيا ولا صوابا حيث رأينا الخازن يتعرض
لهذه النقطة فيقول فيما يقول: «قد أنكر المبتدعة حديث عائشة المتفق عليه وزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع.
ورد على ذلك بأن هذا الزعم باطل لأن الدلائل القطعية والنقلية قامت على صدقه صلى الله عليه وسلم وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك. وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا وهو ما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له وقد قيل إنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ وهذا مثل ما يتخيله الإنسان في المنام فلا يبعد أن يتخيله في اليقظة ولا حقيقة له. وقيل إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله ولكن لا يعتقد صحة ما تخيله فتكون اعتقاداته على السواء» . وقال القاضي عياض على ما جاء في تفسير الخازن:«وقد جاءت في بعض روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما سلط على بدنه وظواهر جوارحه لا على قلبه وعقله واعتقاده وليس في ذلك ما يوجب لبسا على الرسالة ولا طعنا لأهل الزيغ والضلالة» . ومن الصعب أن يقال إن هذا مقنع ومزيل للحيرة. ويظهر أن هذا الأمر قد أشكل على المفسر الطبرسي فأبى أن يقبله كما هو وقال في سياق تفسير الآية [102] من سورة البقرة إن هذا من الأخبار المفتعلة. وقال في سياق تفسيره لسورة الفلق إن هذا لا يجوز لأن هذا يجعل وصف المسحور متحققا بالنبي مع أن الله تعالى قد أبي ذلك حينما قاله الكفار فيه فقال: وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا الفرقان [8- 9]«1» ثم قال ولكن يمكن أن يكون اليهودي أو بناته على ما روي اجتهدوا في ذلك فلم يقدروا عليه. وأطلع الله نبيه على ما فعلوه من التمويه حتى استخرج وكان ذلك دلالة على صدقه. وكيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم ولو قدروا على ذلك لقتلوه وقتلوا كثيرا من المؤمنين من شدة عداوتهم له. وكلام
(1) الآيات في سورة الفرقان 8- 9 وفي سورة الإسراء أيضا آيتان قريبتان من هاتين الآيتين في الرد على الكفار 47- 48.
الطبرسي قوي ولا سيما احتجاجه برد القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم صفة المسحور كما هو المتبادر.
ومثل هذا القول رواه المفسر القاسمي عن الشهاب عن أبي بكر الأصم الذي قال: «إن حديث سحره صلوات الله عليه المروي متروك لما يلزمه من صدق قول الكفرة إنه مسحور وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه» .
ويروي المفسر القاسمي كذلك عن الرازي عن القاضي أنه قال: «هذه الرواية باطلة، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ المائدة [67] ووَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى طه [69] ولأن تجويز ذلك يفضي إلى القدح في النبوة. ولو صح لكان من الممكن أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين وأن يحصلوا على الملك العظيم لأنفسهم وكل ذلك باطل. وكان الكفار يعيرون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مسحور فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة ولحصل فيه عليه السلام العيب وذلك غير جائز» . وقد عقب القاسمي على هذه الأقوال قائلا إنه لا غرابة في أن لا يقبل الخبر لما برهن عليه وإن كان مخرجا في الصحاح وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالما من النقد سندا أو معنى كما يعرفه الراسخون. والمناقشة في خبر الآحاد معروفة عند الصحابة «1» . ثم أخذ يورد أقوالا للأئمة الغزالي وابن تيمية والفناري في جواز رد خبر الآحاد وعدم الأخذ به، وخلافه إذا قامت الأدلة عليه.
وفي كل ذلك ما فيه من قوة ووجاهة، وقد أسهبنا في هذه المسألة في طبعة الكتاب الجديدة لأننا رأيناها مهمة يحسن تمحيصها سواء من ناحية وقوعها أو من ناحية صلتها بصفة وعصمة النبوة والله تعالى أعلم «2» .
(1) القصد من هذا هو التوقف في الأخذ بالأحاديث التي لا تروى إلا من شخص واحد إذا كان فيها مناقضة لمبدأ من المبادئ المحكمة القرآنية أو النبوية.
(2)
للإمام محمد عبده كلام سديد في هذا الموضوع متفق مع النتيجة التي انتهينا إليها والرأي الذي رجحناه. انظر الجزء الثالث من كتاب التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي ص 238 وما بعدها.
هذا، ولقد روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أحد كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلماء القرآن كان يحك هذه السورة وسورة الناس من مصحفه ويقول إنهما ليستا سورتين من القرآن وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهما ويأمر بذلك.
وقد استوعب ابن كثير الآثار الواردة في هذا الموضوع فأورد أحاديث عديدة رواها الإمام أحمد والبخاري والحافظ بن يعلى عن زر بن حبيش مفادها أن هذا قال لأبي بن كعب- وهو من كبار علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن- إن ابن مسعود يحك المعوذتين من المصحف ولا يكتبهما في مصحفه، فأجابه:«أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل قال له قل أعوذ برب الفلق. فقالها. قل أعوذ برب الناس فقالها. فنحن نقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم» . وأن زرا سأل ابن مسعود فأجابه قائلا: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنهما فقال قيل لي فقلت لكم فقولوا» . وأورد ابن كثير أحاديث عديدة أخرى أخرجها الإمام أحمد ومسلم والنسائي والإمام مالك تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المعوذتين في مناسبات عديدة كسورتين قرآنيتين وكان يقرأهما ويأمر بقراءتهما على هذا الاعتبار في الصلاة وغيرها.
والأحاديث التي أوردناها في مطلع السورة صريحة الدلالة على ذلك كما أن الحديث الذي أوردناه في سياق التفسير والذي رواه الترمذي عن أبي سعيد صريح الدلالة على ذلك، ولقد أورد ابن كثير هذا الحديث وقال إن ابن ماجه والنسائي أخرجاه بالإضافة إلى الترمذي.
ولقد روى ابن كثير عن الأعمش قولا جاء فيه أن من المحتمل أن يكون ابن مسعود قد رجع عن قوله إلى قول الجماعة لأن الصحابة أثبتوا السورتين في المصاحف الأئمة وأنفذوها إلى سائر الآفاق. حيث يستخلص من ذلك
ثبوت المعوذتين كسورتين قرآنيتين عند جميع المسلمين بالتواتر الذي لم ينقطع منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أشار غير واحد من المفسرين إلى هذه المسألة وأورد بعض ما أورده ابن كثير مقتضبا مؤيدا للنتيجة المستخلصة. وقد نقل السيوطي «1» أقوالا للرازي والنووي وغيرهما مؤيدة لهما حتى إن النووي ذهب إلى إنكار ما نسب إلى ابن مسعود ووصفه بأنه باطل.
(1) انظر الإتقان، ج 1 ص 84.