الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الفصل الأول}
1091-
(1) عن النعمان بن بشير قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوماً، فقام حتى كاد أن يكبر، فرأى رجلاً بادياً
ــ
في الأمر الوجوب، ولورود الوعيد الشديد في تركه، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"إن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة"، وفي رواية:"من تمام الصلاة"، ولقوله:"إن إقامة الصف من حسن الصلاة"، والمراد بحسنها تمامها، ولشدة اهتمامه صلى الله عليه وسلم وخلفائه بعده بذلك، ولإنكار أنس على تركه حيث قال: ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف، أخرجه البخاري. والإنكار يستلزم المنكر، والمباح لا يسمى منكراً، ولأن عمر وبلالاً كانا يضربان أقدامهم لإقامة الصف، وضربهما أقدامهم يدل على أنهم تركوا واجباً من واجبات الصلاة. وأما إنه هل تفسد صلاة من ترك التسوية أم لا؟ فالظاهر أنه تصح ولا تفسد لعدم ورود نص صريح في ذلك. قال الحافظ في الفتح: ومع القول بأن التسوية واجبة، فصلاة من خالف ولم يسو صحيحة لاختلاف الجهتين. ويؤيد ذلك أن أنساً مع إنكاره عليهم يأمرهم بإعادة الصلاة. وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان - انتهى.
1091-
قوله: (يسوي صفوفنا) أي بيده أو بأمره. (كأنما يسوي بها) أي بالصفوف. (القداح) بكسر القاف جمع قدح بكسر قاف فسكون دال، وهو خشب السهم حين ينحت ويبرى. قال الخطابي في المعالم (ج1:ص184) : القدح خشب السهم إذا برئ وأصلح قبل أن يركب فيه النصل والريش - انتهى. وقيل: هو السهم مطلقاً، يعني يبالغ في تسوية الصفوف حتى تصير كأنما يقوم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها، قاله النووي. وقال الطيبي: ضرب المثل به للمتساويين أبلغ الاستواء في المعنى المراد منه؛ لأن القدح لا يصلح لما يراد منه إلا بعد الانتهاء في الاستواء، وإنما جمع مع الغنية عنه بالمفرد لمكان الصفوف أي يسوي كل صف على حدة، كما يسوي الصانع كل قدح على حدته. وروعي في قوله: يسوي بها القداح نكتة؛ لأن الظاهر كأنما يسويها بالقداح، والباء للآلة كما في كتبت بالقلم، فعكس، وجعل الصفوف هي التي يسوي بها القداح مبالغة في الاستواء - انتهى. وفي رواية لأحمد (ج4:ص272) كان يسوي بنا في الصفوف حتى كأنما يحاذى بنا القداح، وفي أخرى له (ج4 ص271) : يقيم الصفوف كما تقام الرماح أو القداح. وفي أخرى له (ج4:ص277) ولابن ماجه: يسوي الصف حتى يجعله مثل الرمح أو القدح. (حتى رأى) أي علم. (إنا قد عقلنا) أي فهمنا التسوية. (عنه) قال الطيبي: أي لم يبرح يسوي صفوفنا حتى استوينا استواء أراده منا وتعقلنا عن فعله. (ثم خرج يوماً) أي إلى المسجد. (فقام) أي في مقام الإمامة. (حتى كاد أن يكبر) تكبيرة الإحرام. (بادياً) أي ظاهراً خارجاً.
صدره من الصف، فقال: عبادالله! لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) رواه مسلم.
ــ
(صدره من الصف) أي من صدور أهل الصف. وفي رواية أبي داود: حتى إذا ظن أن قد أخذنا ذلك عنه وفقهنا أقبل ذات يوم بوجهه إذا رجل منتبد بصدره، وفي رواية لأحمد: فلما أراد أن يكبر رأى رجلاً شاخصاً صدره. وفي أخرى له، ولابن ماجه: فرأى صدر رجل ناتئاً يعني مرتفعاً بالتقدم على صدور أصحابه. (عباد الله) بالنصب على حذف حرف النداء، قال ابن حجر: لم ينهه بخصوصه جرياً على عادته الكريمة مبالغة في الستر. (لتسون) بضم التاء المثناة وفتح السين وضم الواو المشددة وتشديد النون المؤكدة. قال القسطلاني: ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: "لتسوون" بواوين والنون للجمع. قال القاضي: هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم، والقسم ههنا مقدر، ولهذا أكده بالنون المشددة. (أو ليخالفن الله) بالرفع على الفاعلية، وفتح اللام الأولى المؤكدة وكسر الثانية وفتح الفاء، أي ليوقعن الله المخالفة. (بين وجوهكم) إن لم تسووا صفوفكم أي بتحويلها عن مواضعها إلى أدبارها وجعلها مواضع الأققية، أو بتغيير صورها ومسخها على صورة بعض الحيوانات كالحمار مثلاً، فهو محمول على الحقيقة. ويؤيد حمله على ظاهره حديث أبي أمامة: لتسون الصفوف أو لتطمسن الوجوه، أخرجه أحمد، وفي إسناده ضعف. وفيه وقوع الوعيد من جنس الجناية، وهي المخالفة. قال الحافظ: وعلى هذا فهو أي التسوية واجب، والتفريط فيه حرام. وقيل: هو مجاز ومعناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول تغير وجه فلان علي، أي ظهر لي من وجهه كراهة لي؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. ويؤيده ما في رواية لأبي داود: أو ليخالفن الله بين قلوبكم، وحديث أبي مسعود الآتي: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، أي هواها وإرادتها. وقيل: المراد بالوجوه الذوات. قال ابن العربي في العارضة (ج2:ص25) : بين وجوهكم، يعني مقاصدكم، فإن استواء القلوب يستدعي استواء الجوارح واعتدالها، فإذا اختلفت الصفوف دل على اختلاف القلوب، فلا تزال الصفوف تضطرب وتهمل، حتى ييتلي الله باختلاف المقاصد، وقد فعل، ونسأل الله حسن الخاتمة. وقال القرطبي: معناه تفترقون فيأخذ كل واحد وجهاً غير الذي يأخذه صاحبه؛ لأن تقدم الشخص على غيره مظنة الكبر المفسد للقلب الداعي إلى القطعية. والحاصل أن المراد بالوجه إما ذات الشخص، فالمخالفة بحسب المقاصد، وإما العضو المخصوص، فالمخالفة إما بحسب الصورة الإنسانية، وإما بحسب الصفة، وإما يجعل القدام وراء. والحديث فيه غاية التهديد والتوبيخ. قال الطيبي: إن مثل هذا التركيب متضمن للأمر توبيخاً، أي والله ليكونن أحد الأمرين إما تسويتكم صفوفكم أو أن يخالف الله بين وجوهكم. وفيه دليل على وجوب تسوية الصف وتعديله. وقيل: إن هذا الوعيد من باب التغليظ والتشديد تأكيداً وتحريضاً على فعلها، أي فلا يدل على الوجوب. قال العيني بعد ذكره: كذا قاله الكرماني، وليس بسديد؛ لأن الأمر المقرون بالوعيد يدل على الوجوب. (رواه مسلم) وأخرجه
1092-
(2) وعن أنس، قال:((أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري)) رواه البخاري. وفي المتفق عليه قال: ((أتموا الصفوف، فإني أراكم من وراء ظهري)) .
ــ
أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص100) و (ج2: 21) كلهم من طريق سماك عن النعمان بن بشير. وأخرج البخاري ومسلم والبيهقي من طريق سالم بن أبي الجعد عن النعمان بن بشير الفصل الأخير منه، ولأحمد وأبي داود في رواية. والبيهقي قال: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وركبته بركتبه، ومنكبه بمنكبه.
1092-
قوله: (أقيمت الصلاة) أىأقام المؤذن للصلاة. (فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه) أي التفت إلينا بعد إقامة المؤذن. (أقيموا صفوفكم) أي عدلوها وسووها، يقال: أقام العود إذا عدله وسواه. (وتراصوا) بضم الصاد المهملة المشددة. وأصله تراصصوا، أي تضاموا وتلاصقوا حتى تتصل مناكبكم وأقدامكم في الصف، ولا يكون بينكم خلل وفرج، من رص البناء ألصق بعضه ببعض. ومنه قوله تعالى {كأنهم بنيان مرصوص} [4:61] . وفيه جواز الكلام بين الاقامة والدخول في الصلاة، وفيه أن تسوية الصف واجبة. (فإني أراكم من وراء ظهري) أي من خلف ظهري. والفاء فيه للسببية، أشار به إلى سبب الأمر بذلك، أي إنما أمرت بذلك؛ لأني تحققت منكم خلافه. وقد تقدم القول في المراد بهذه الرؤية في باب الركوع، وأن المختار حملها على الحقيقة خلافاً لمن زعم أن المراد بها خلق علم ضروري له بذلك، ونحو ذلك قال الزين بن المنير: لا حاجة إلى تأويلها؛ لأنه في معنى تعطيل لفظ الشارع من غير ضرورة. وقال القرطبي: حملها علىظاهرها أولى؛ لأن فيه زيادة في كرامة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه مراعاة الإمام لرعيته والشفقة عليهم وتحذيرهم من المخالفة. (رواه البخاري) أي بهذا اللفظ في باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف. وأخرج مسلم بنحوه، وأخرجه البيهقي (ج2:ص21) بلفظ البخاري. (وفي المتفق عليه) ظاهر هذا أن الشيخين اتفقا على إخراج الحديث بهذا اللفظ. وفيه نظر؛ لأن قوله: "أتموا الصفوف" من إفراد مسلم، وقوله:"فإني أراكم من وراء ظهري" من إفراد البخاري، وسياق الحديث عند مسلم:"أتموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهري". والظاهر أن المصنف أخذ قوله أتموا الصفوف من رواية مسلم، وقوله: فإني أراكم من وراء ظهري، من رواية البخاري، فجعل مجموعهما حديثاً متفقاً عليه. ولا يخفى ما فيه. ولعله تبع في ذلك الجزري، حيث نسب هذه الرواية الثانية في جامع الأصول (ج6:ص393) إلى البخاري ومسلم. (أتموا) أي أيها الحاضرون لأداء الصلاة معي. (الصفوف) أي الأول فالأول. (فإني أراكم) رؤية حقيقية. (من وراء ظهري) أي من خلفه كما أراكم من بين يدي. قيل: الفرق بين قوله: إني أراكم من
وراء ظهري بذكر "من" وبين قوله: إني أراكم خلف ظهري أي بدون "من" أنه إذا وجد من يكون فيه إشعار بأن مبدأ الرؤية ومنشأها من خلف بأن يخلق الله حاسة باصرة فيه، وإذا عدم يحتمل أن يكون منشأها هذه العين المعهودة، وأن تكون غيرها مخلوقة في الخلف والوراء، ولا يلزم رؤيتنا تلك الحاسة، إذ الرؤية إنما هي بخلق الله تعالى وإرادته. والحديث أخرجه أيضاً النسائي. وزاد البخاري في رواية: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه. قال الحافظ: صرح سعيد بن منصور في روايته أن هذه الزيادة في آخر الحديث من قول أنس، وأخرحه الإسماعيلي من رواية معمر عن حميد بلفظ: قال أنس: فلقد رأيت أحدنا إلى آخره. وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته، وزاد معمر في روايته ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس - انتهى كلام الحافظ. قلت: قوله صلى الله عليه وسلم: تراصوا، وقوله: رصوا صفوفكم، وقوله: سدوا الخلل، ولا تذروا فرجات للشيطان، وقول النعمان بن بشير: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه الخ، وقول أنس: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه الخ، كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن المراد باقامة الصف وتسويته أنما هو اعتدال القائمين على سمت واحد وسد الخلل والفرج في الصف بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم، وعلى أن الصحابة في زمنه صلى الله عليه وسلم كانوا يفعلون ذلك، وأن العمل برص الصف والزاق القدم بالقدم وسد الخلل كان في الصدر الأول من الصحابة وتبعهم، ثم تهاون الناس به. قال شيخنا في إبكار المنن بعد ذكر قولي النعمان وأنس: فظهر أن إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف سنة، قد عمل بها الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المراد بإقامة الصف وتسوية على ما قال الحافظ - انتهى. وجزى الله أهل الحديث أحسن ما يجزى به الصالحون، فانهم أحيوا هذه السنة التي تهاون الناس بها لاسيما المقلدون لأبي حنيفة، فإنهم لا يلزقون المنكب بالمنكب في الصلاة فضلاً عن إلزاق القدم بالقدم والكعب بالكعب، بل يتركون في البين فرجة قد شبر أو أزيد، بل ربما يتركون فصلاً يسع ثالثاً وإذا قام أحد من أصحاب الحديث في الصلاة مع حنفي وحاول لإلصاق قدمه بقدمه اتباعا للسنة نحى الحنفي قدمه حتى يضم قدميه ولا يبقى فرجة بينهما وأشمأز ونظر إلى صاحبه المحمدي شزرا، بل ربما نفر كالحمار الوحشي، ويعد صنيع أهل الحديث الذي هو اتباع للسنة وإحياءها من الجهل والجفاء والفظاظة والغلظة، فإنالله وإنا إليه راجعون، وعالمهم وعاميهم في ترك هذه السنة والاستنفار عنها سواء. قال صاحب فيض الباري (ج2:ص236) : المراد بالزاق المنكب بالمنكب عند الفقهاء الأربعة أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثاً، قال ولم أجد عند السلف فرقاً بين حال الجماعة والانفراد في حق الفصل بين قدمي الرجل بأنهم كانوا يفصلون بين قدميهم في حال الجماعة أزيد من حال الانفراد. وهذه المسألة أوجدها غير المقلدين فقط، وليس عندهم إلا لفظ الإلزاق، وليت شعرى ماذا يفهمون من قولهم الباء- للالتصاق، ثم يمثلونه مررت بزيد، فهل كان مروره به متصلاً بعضه ببعض أم كيف معناه، ثم إن الأمر
لا ينفصل قط إلا بالتعامل، وفي مسائل التعامل لايؤخذ بالألفاظ، قال: لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله: إلزاق المنكب إلا التراص وترك الفرجة، ثم فكر في نفسك ولا تعجب أنه هل يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، ولا يمكن بعده أيضاً فهو إذن من مخترعاتهم لا أثر له في السلف - انتهى. قلت: حمل الإلزاق هنا على المجاز يحتاج إلى قرينة، وتفسيره بأن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثاً لا أثارة عليه من دليل لا من منقول ولا من معقول، ولا يوجد ههنا أدنى قرينة وأضعف أثر يدل على هذا المعنى البتة، فهو إذاً من مخترعات هذا المقلد الذي جعل السنة بدعة، والبدعة أي ترك الإلزاق بإبقاع الفرجة وعدم التضام سنة، ثم لم يكتف بذلك بل تجاسر فنسب ما اخترعه إلى الفقهاء الأربعة. ثم أقول ما الدليل من السنة أو عمل الصحابي على تحديد الفصل بين قدمي المصلي بأن يكون قدر أربع أصابع أو قدر شبر في حال الانفراد والجماعة كلتيهما. والحق أن الشارع لم يعين قدر التفريج بين قدمي المصلي راحة له وشفقة عليه؛ لأنه يختلف ذلك باختلاف حال المصلى في الهزال والسمن والقوة والضعف. فالظاهر أنه يفصل بين قدميه في الجماعة قدر ما يسهل له سد الفرج والخلل، وإلزاق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه من غير تكلف ومشقة. ثم إنه ليس عندنا لفظ الإلزاق فقط بل هنا لفظ التراص وسد الخلل والنهى عن ترك الفرجة للشيطان، وكل واحد من ذلك يؤكد حمل الإلزاق على معناه الحقيقي، وماذا كان لوكان هنا لفظ الإلزاق فقط. وقد اعترف هو في آخر كلامه أن المراد به التراص وترك الفرجة، وهذا هو الذي نقوله. ولا يحصل التراص والتوقي عن الفرجة إلا بأن يلصق الرجل منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه حقيقة، وليت شعري ماذا يقول هو في مثال الإلصاق الحقيقي وهو قولهم به داء، ثم ماذا يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: إذا ألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل. والسنة الصحيحة المحكمة حجة وقاضية على التعامل، لا أن التعامل قاض على السنة، لا فرق عندنا في ذلك بين عمل أهل المدينة وبين علمهم وعمل غيرهم من البلاد الإسلامية، مع أن عمل المسلمين في الزمن النبوي وعمل الخلفاء وسائر الصحابة والتابعين بعده صلى الله عليه وسلم كان على التراص والتضام وعدم إبقاء الفرجة مطلقاً، ولا يعتد بعمل الناس بعد الصدر الأول، ولا يكون أدنى مشقة في إلزاق المنكب بالمنكب مع إلزاق القدم بالقدم، فنحن نفعل ذلك في الجماعة عملاً بالحديث واتباعاً للسنة من غير ممارسة وكلفة، ومن غير أن نفرج بين القدمين أزيد مما نفرج في حال الانفراد، لكن لا يسهل ذلك إلا على من يجب السنة وصاحبها، ويترك التحيل لترك العمل بها وأما المقلد الذي.... عمت بصيرته، فيشق عليه كل سنة إلا ما كان موافقاً لهواءه، هدى الله تعالى هؤلاء المقلدين ووفقهم للعمل بالسنن النبوية الصحيحة الثابتة، وترك التأويل والتحريف.
1093-
(3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سووا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة
الصلاة)) متفق عليه. إلا أن عند مسلم: ((من تمام الصلاة)) .
1094-
(4) وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا
ــ
1093-
قوله: (سووا صفوفكم) فيه دليل على وجوب تسوية الصف. (فان تسوية الصفوف) وفي رواية الصف بالإفراد، والمراد به الجنس. (من إقامة الصلاة) أي المأمور بها الممدوح فاعلها في الآيات الكثيرة. وقال القاري: أي من جملة إقامة الصلاة في قوله تعالى {الذين يقيمون الصلاة} وهي تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها. وقال العيني: التقدير من كمال إقامة الصلاة، فإن تسوية الصفوف ليست من إقامة الصلاة؛ لأن الصلاة تقام بغيرها، ولا يخفى ما فيه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبودواد وابن ماجه. (إلا أن عند مسلم من تمام الصلاة) وكذا أخرج بهذا اللفظ أبوداود وابن ماجه والإسماعيلي والبيهقي وغيرهم. وروي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من تمام الصلاة إقامة الصف" أخرجه أحمد وأبويعلى والطبراني في الكبير والأوسط. قال العيني: أي من كمال تمام الصلاة أو من حسن تمام الصلاة. قلت: هذا خلاف الظاهر. والحديث معناه مستقيم من غير تقدير لفظ الكمال أو الحسن. وقد استدل ابن حزم بقوله من إقامة الصلاة على أن تعديل الصفوف والتراص فيها فرض. قال في المحلي (ج4:ص55) : تسوية الصف إذا كان من إقامة الصلاة فهو فرض؛ لأن إقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض. قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه، ولا سيما قد بينا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة، يعني أنه رواها بعضهم بلفظ "من تمام الصلاة". واستدل ابن حزم بالعبارتين. قال العيني والحافظ: واستدل ابن بطال بما في البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ "فإن اقامة الصف من حسن الصلاة" على أن التسوية سنة، قال: لأن حسن الشئ زيادة على تمامه، واورد عليه رواية من تمام الصلاة. وأجاب ابن دقيق العيد فقال: قد يؤخذ من قوله: تمام الصلاة الاستحباب؛ لأن تمام الشيء في العرف أمرخارج عن حقيقة التي لا يتحقق إلا بها، وإن كان يطلق بحسب الوضع على ما لا تتم الحقيقة إلا به. قال الحافظ: ورد بأن لفظ الشارع لا يحمل إلا على ما دل عليه الوضع في اللسان العربي، وإنما يحمل على العرف إذا ثبت أنه عرف الشارع لا العرف الحادث. وقال العيني: وفيه أي في جواب ابن دقيق العيد نظر؛ لأن ألفاظ الشرع لا تستعمل بحسب العرف.
1094-
قوله: (يمسح منا كبنا) وفي رواية للنسائي: يمسح عواتقنا. والمناكب جمع منكب، وهو ما بين الكتف والعنق. وقيل: مجتمع الرأس الكتف والعضد، والعواتق جمع عاتق، وهو ما بين المنكب والعنق،
في الصلاة، ويقول: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم
ــ
أي يمسحها ليعلم به تسوية الصف. وقال القاري: أي يضع يده على أعطافنا حتى لا نتقدم ولا نتأخر. وقال النووي: أي يسوي مناكبنا في الصفوف ويعدلنا فيها (في الصلاة) أي في حال إرادة الصلاة بالجماعة (ويقول) أي حال تسوية المناكب على ما هو الظاهر (ولا تختلفوا) أي بالتقدم والتأخر في الصفوف، كما يدل عليه روايات الحديث (فتختلف) بالنصب على أنه جواب للنهي. (قلوبكم) أي أهويتها وإرادتها أي اختلاف الصفوف سبب لاختلاف القلوب يجعل الله كذلك. وقيل: لأن اختلاف الصفوف اختلاف الظواهر، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. وفيه أن القلب تابع للأعضاء، فإذا اختلفت اختلف، وإذا اختلف فسد ففسدت الأعضاء؛ لأنه رئيسها المتبوع وملكها المطاع والأعضاء كلها تبع له، فإذا صلح المتبوع صلح التبع، وإذا استقام الملك استقامت الرعية. ويبين ذلك الحديث المشهور: ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، ألا وهي القلب. قيل: إن بين القلب والأعضاء تعلقاً عجيباً وتأثيراً غريباً بحيث أنه يسري مخالفة كل إلى آخر وإن كان القلب مدار الأمر إليه. (ليلني منكم) بكسر لامين وخفة نون بلا ياء قبلها. وفي المصابيح ليليني. قال شارح: الرواية باثبات الياء، وهو شاذ لأنه من الولي بمعنى القرب، واللام للأمر، فيجب حذف الياء للجزم، قيل: لعله سهو من الكاتب، أو كتب بالياء؛ لأنه الأصل ثم قرئ كذا. أقول الأولى أن يقال إنه من إشباع الكسرة كما قيل في لم تهجو ولم تدعى، أو تنبيه على الأصل كقراءة ابن كثير {إنه من يتقي ويصبر} ، أو أنه لغة في أن سكونه نقديري، كذا في المرقاة. وقال النووي في شرح مسلم: ليلني هو بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبل النون. ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1 ص440) بعد ذكر كلام النووي: وهكذا طبع في صحيح مسلم في طبعة بولاق (ج1 ص128) ، وفي طبعة الآستانة (ج2 ص30) في حديثي أبي مسعود وابن مسعود (الآتي) ، وكتب بها مشها في حديث أبي مسعود أن في نسخة ليليني، وضبط بتشديد النون وفتح الياء قبلها، ولكن في نسخة مخطوطة عندي من صحيح مسلم يغلب عليها الصحة بإثبات الياء فيهما من غير ضبط، وكتب بهامشها في الموضعين أن في نسخة ليلني بحذف الياء، قال: وأظن أن حذفها من تصرف الناسخين، وكذلك ضبط الكلمة على إثبات الياء بفتحها وتشديد النون ذهاباً منهم إلى الجادة في قواعد النحو بجزم الفعل المعتل بحذف حرف العلة. وقد رأيت كثيراً من الناسخين والعلماء يجيزون لأنفسهم تغيير ما خالف القواعد المعروفة ظناً منهم أنه خطأ، والدليل على ظن التصرف منهم أنه قال الطيبي على ما نقل عنه الشارح المبار كفوري في شرح الترمذي: أن من حق هذا اللفظان يحذف منه الياء؛ لأنه على صيغة الأمر، وقد وجدنا بإثبات الياء وسكونها في سائر
أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) قال أبومسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافاً. رواه مسلم.
ــ
كتب الحديث، والظاهر أنه غلط - انتهى. وليس هذا غلطاً كما زعم الطيبي، بل إثبات حرف العلة في مثل هذا ورد في الحديث كثيراً، وله شواهد من الشعر، وقد بحث فيه العلامة ابن مالك في كتاب شواهد التوضيح (ص11-15) بحثاً طويلاً، وذكر من شواهد في البخاري قول عائشة: إن أبا بكر رجل أسيف، وأنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، وحديث: من أكل من هذه الشجرة فلا يغشانا، وحديث: مروا أبا بكر فلصلى بالناس. ووجه ذلك بأوجه متعددة أحسنها عندي الوجه الثالث أن يكون أجزى المعتل مجرى الصحيح فأثبت الألف، يعني أو الواو أو الياء واكتفى بتقدير حذف الضمة التي كان ثبوتها منوياً في الرفع - انتهى (أولو الأحلام) أي ذو العقول الراجحة، واحدها حلم بالكسر، وهو الأناة والتثبيت في الأمور والسكون والوقار وضبط النفس عند هيجان الغضب، ويفسر بالعقل؛ لأن هذه الأمور من مقتضيات العقل. والعقل الراجح يتسبب لها. وقيل: أولو الأحلام البالغون، والحلم بضم الحاء البلوغ، وأصله ما يراه النائم (والنهى) بضم نون وفتح هاء وألف، جمع نهية بالضم بمعنى العقل؛ لأنه ينهى صاحبه عن القبائح. وقال أبوعلي الفارسي: يجوز أن يكون النهى مصدراً كالهدى، وأن يكون جمعاً كالظلم. قال ابن سيد الناس الأحلام والنهى بمعنى واحد، وهي العقول. وقيل: المراد بأولو الأحلام البالغون، وبأولى النهى العقلاء، فعلى الأول يكون العطف فيه من باب قوله: وألفى قوله كذباً وميناً. وهو أن تغاير اللفظ قائم مقام تغاير المعنى، وهوكثير في كلام، وعلى الثاني يكون لكل لفظ معنى مستقل - انتهى. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص184-185) : وإنما أمر صلى الله عليه وسلم أن يليه ذو والأحلام والنهى ليعقلوا عنه صلاته، ولكي يخلفوه في الإمامة إن حدث به حدث في صلاته، وليرجع إلى قولهم إن أصابه سهو أو عرض في صلاته عارض في نحو ذلك من الأمور. (ثم الذين يلونهم) أي الذين يقربونهم في هذا الوصف، وقال القاري: كالمراهقين أو الذين يقربون الأولين في النهى والحلم (ثم الذين يلونهم) كالصبيان المميزين أو الذين أنزل مرتبة من المتقدمين حلماً وعقلاً. والمعنى هلم جرا- فالتقدير ثم الذين يلونهم كالنساء فإن نوع الذكر أشرف على الإطلاق. والمقصود بيان ترتيب الصفوف في القيام. قال النووي: في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام؛ لأنه أولى بالاكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لننبيه الإمام على السهو لما يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها وينقلوها ويعلموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من ورائهم - انتهى. (قال أبومسعود) أي المذكور (فأنتم اليوم أشد اخنلافاً) أي في كلمة حتى فشت فيكم الفتن وذلك لعدم تسويتكم الصفوف كذا فسره الطيبي (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص97) .
1095-
(5) وعن عبد الله بن مسعود، قال:((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثلاثاً، وإياكم وهيشات الأسواق)) . رواه مسلم.
1096-
(6) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخراً، فقال لهم: تقدموا وأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم،
ــ
1095-
قوله: (ليلني منكم وأولو الأحلام والنهى) أي ليدن مني ذوو العقول الراجحة لشرفهم ومزيد تفطينهم وتيقظهم وضبطهم لصلاته. قال الطيبي أخذاً عن التوربشتى: أمر بتقديم العقلاء ذوي الأخطار والعرفان ليحفظوا صلاته ويضبطوا الأحكام والسنن، فيبلغوا من بعدهم. وفي ذلك مع الإنصاح عن جلالة شأنهم حث لهم على تلك الفضيلة وإرشاد لمن قصر حالهم عن المساهمة معهم في المنزلة إلى تحري ما يزاحمهم فيها. وقد روى ابن ماجه والبيهقي عن أنس بإسناد رجاله ثقات قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه (ثم الذين يلونهم ثلاثاً) أي كرر"ثم" وما بعدها ثلاثاً (وإياكم وهيشات الأسواق) بفتح الهاء وإسكان الياء وبالشين المعجمة، جمع هيشة بالفتح، أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها، قاله النووي. وقال الخطابي في المعالم: أصله من الهوش، وهو الاختلاط يقال: تهاوش القوم إذا اختلطوا ودخل بعضهم في بعض وبينهم تهاوش، أي اختلاط واختلاف - انتهى. وقال الطيبي: هي ما يكون من الجلبة وارتفاع الأصوات، نهاهم عنها؛ لأن الصلاة حضور بين يدي الحضرة الإلهية، فينبغي أن يكونوا على السكوت وآداب العبودية. وقيل: هي الاختلاط، أي لا تختلطوا اختلاط أهل الأسواق، فلا يتميز أصحاب الأحلام والعقول عن غيرهم، ولا يتميز الصبيان من البالغين ولا الذكور من الإناث. ويجوز أن يكون المعنى: قوا أنفسكم من الاشتغال بأمور الأسواق فإنه يمنعكم أن تلونى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص97) .
1096-
قوله: (رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخراً) أي في صفوف الصلاة كأنهم تأخروا عن القرب والدنو منه صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد التأخر في أخذ العلم (وأتموا بي) أي اصنعوا كما أصنع (وليأتم) بسكون اللام، وتكسر (بكم من بعدكم) أي من خلفكم من الصفوف. والخطاب لأهل الصف الأول، أي اقتدوا بأفعالي، وليقتد بكم من بعدكم مستدلين بأفعالكم على أفعالي، أو المراد من بعدكم من أتباع الصحابة، والخطاب للصحابة مطلقاً، أي تعلموا مني أحكام الشريعة، وليتعلم منكم التابعون بعدكم وكذلك أتباعهم إلى انقراض الدنيا. "وبعد" على الأول مستعار للمكان، وعلى الثاني للزمان، كما هو الأصل. قال الطيبي: أراد التأخر في صفوف الصلاة أو التأخر
لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) رواه مسلم.
1097-
(7) وعن جابر بن سمرة قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآنا حلقاً،
ــ
عن أخذ العلم، فعلى الأول معناه ليقف الألباء والعلماء في الصف الأول، وليقف من دونهم في الصف الثاني، فإن الصف الثاني مقتدون بالصف الأول ظاهراً لا حكماً. ففيه جواز اعتماد المأموم في متابعة الامام الذي يراه ولا يسمعه على مبلغ عنه أوصف قدامه يراه متابعاً للإمام، وعلى الثاني المعنى وليتعلم كلكم مني أحكام الشريعة، وليتعلم التابعون منكم، وكذلك من يلونهم قرناً بعد قرن - انتهى. واستدل الشعبي بقوله: وليأتم بكم من بعدكم، لما ذهب إليه أن كل صف منهم إمام لمن وراءهم مع كونهم مأمومين، وأن الجماعة يتحملون عن بعضهم بعض ما يتحمله الإمام خلافاً للجمهور. قال الشعبي: فيمن أحرم قبل أن يرفع الصف الذي يليه رؤوسهم من الركعة إنه أدركها ولو كان الإمام رفع قبل ذلك؛ لأن بعضهم لبعض أئمة، أخرجه ابن شيبة. قيل: وإليه مال البخاري حيث قال: باب الرجل يأتم بالإمام. ويأتم الناس بالمأموم. قال ابن بطال: هذا موافق لقول مسروق والشعبي إن الصفوف يؤم بعضها بعضاً خلافاً للجمهور. وقال العيني: ظاهر هذه الترجمة أن البخاري يميل إلى مذهب الشعبي في ذلك، قال: ومما يؤكد أن ميله إلى قول الشعبي أنه صدر هذا الباب بالحديث المعلق يعني حديث أبي سعيد هذا حيث قال: ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ائتموبي وليأتم بكم من بعدكم، قال العيني: فإنه صريح في أن القوم يأتمون بالإمام في الصف الأول، ومن بعدهم يأتمون بهم. وقال الحافظ: ظاهره يدل لمذهب الشعبي، وأجاب النووي: أن معناه يقتدي بكم من خلفكم مستدلين على أفعالي بأفعالكم - انتهى. قلت: لم يفصح البخاري باختياره في هذه المسألة. والظاهر أنه اتبع في وضع الترجمة لفظ الحديث، ولم يرد التنبيه على مسئلة تسلسل الاقتداء. والحديث ليس بعض فيما قاله الشعبي ون وافقه، كما هو ظاهر من تفسير الجمهور للحديث. والراجح عندي هو قول الجمهور والله أعلم. (ولا يزال قوم يتأخرون) أي عن الصفوف المتقدمة. وقيل: عن الخيرات أو عن العلم (حتى يؤخرهم الله) أي في دخول الجنة. وقال النووي: أي عن رحمته أو عظيم فضله ورفيع المنزلة وعن العلم ونحو ذلك. وفيه الحث على الكون في الصف الأول والتنفير عن التأخر والبعد عنه. وقد ورد في فضيلة الصلاة في الصف الأول أحاديث متعددة عن جماعة من الصحابة. وسيأتي ذكر بعضها (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص103) .
1097 وغيره - قوله: (فرآنا حلقاً) بكسر الحاء وفتحها لغتان، جمع حلقة بإسكان اللام. وحكى الجوهري فتحها في لغة ضعيفة. قال الجرزي: الحلقة بسكون اللام حلقة الباب وحلقة القوم وجمعها حلق بفتح الحاء واللام على غير قياس، قاله الجوهري، قال: وقال الأصمعي: الجمع حلق، مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع، قال:
فقال: ما لي أراكم عزين؟ ثم خرج علينا فقال: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأولى، ويتراصون في الصف)) رواه مسلم.
1098 (8) - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير صفوفالرجال أولها، وشرها
ــ
وحكى يونس عن أبي عمرو حلقة في الواحد بالتحريك، والجمع حلق، وقال ثعلب: كلهم يجيزه على ضعفه. وقال الشيباني: ليس في الكلام حلقة بالتحريك إلا في جمع حالق، وهو الذي يحلق الشعر. والذي رويناه في كتاب مسلم حلقاً مضبوطاً بكسر الحاء، والله أعلم - انتهى. قال الطيبي: أي جلوساً حلقة حلقة كل صف منا قد تحلق - انتهى. (ما لي أراكم عزين) بكسر العين المهملة وتخفيف الزاي جمع عزة أي جماعات متفرقين حلقة حلقة نصب على الحال، قال الجزري: عزين جمع عزة وهي الحلقة من الناس، والأصل عزوة وهذا من الجموع النادرة الخارجة عن بابها. قال الطيبي: قوله: ما لي أراكم؟ إنكار على رؤيته إياهم على تلك الصفة، ولم يقل: ما لكم؛ لأن ما لي أراكم أبلغ كقوله: {ما لي أرى الهدهد} [27: 20] . والمقصود الانكار عليهم كائنين على تلك الحالة، يعني لا ينبغي لكم أن تفرقوا ولا تكونوا مجتمعين مع توصيتي إياكم بذلك. (ثم خرج علينا) أي مرة أخرى بعد هذا (ألا تصفون) بفتح التاء المثناة من فوق وضم الصاد أي في الصلاة (كما تصف الملائكة عند ربها) أي عند قيامها لطاعة ربها. قال القاري. وقيل: أي في محل قربه ومكان قبوله (يتمون الصفوف الأولى) كذا في جميع النسخ بضم الهمزة وسكون الواو تأنيث الأول، وكذا في المصابيح. ووقع في مسلم: الأول بضم الهمزة وفتح الواو جمع الأولى، وكذا في النسائي وابن ماجه. وعند أبي داود: الصفوف المقدمة، يعني يتمون الصف الأول، ولا يشرعون في الثاني حتى يتم الأول، ولا في الثالث حتى يتم الثاني، ولا في الرابع حتى يتم الثالث، وهكذا إلى آخرها. (ويترابصون في الصف) أي يتلاصقون ويتضامون حتى لا يكون بينهم شيء من الخلل والفرجة. وفي الحديث النهي عن التقرق والأمر بالاجتماع. وفيه: الاقتداء بأفعال الملائكة في صلاتهم وتعبداتهم. وفيه: الأمر باتمام الصفوف الأول والتراص في الصفوف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص101) .
1098-
قوله: (خيرصفوف الرجال) أي أكثرها أجراً وثواباً وفضلاً. (أولها) فيه التصريح بأفضلية الصف الأول للرجال، وإنه خيرها لما فيه من إحراز فضيلة التقدم المأمور به ولقربهم من الإمام ومشاهدتهم لأحواله واستماعهم لقراءته وبعدهم من النساء (وشرها) أي أقلها ثواباً وفضلاً وأبعدها من مطلوب الشرع
آخرها وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)) رواه مسلم.
ــ
(آخرها) لما فيه من ترك الفضيلة الحاصلة بالتقدم إلى الصف الأول ولقربهم من النساء وبعدهم من الإمام (وخير صفوف النساء آخرها) لبعدهن من مخالطة الرجال، ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك بخلاف الوقوف في الصف الأول من صفوفهن، فإنه مظنة المخالطة وتعلق القلب بهم المتسبب عن رؤيتهم وسماع كلامهم، ولهذا كان شرها. ثم هذا التفصيل في صفوف الرجال على إطلاقه، وفي صفوف النساء عند الاختلاط بالرجال. قال النووي: أما صفوف الرجال فهي على عمومها فخيرها أولها أبداً وشرها آخرها أبداً. أما صفوف النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال. وأما إذا صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال خير صفوفهن أولها وشرها آخرها- انتهى. وقيل: يمكن حمله على إطلاقه لمراعاة الستر فتأمل. وفي الحديث: إن صلاة النساء صفوفاً جائزة من غير فرق بين كونهن مع الرجال أو منفردات وحدهن واعلم أنه اختلف في أن الصف الأول في المسجد هل هو ما يلي الإمام مطلقاً أي الذي هو أقرب إلى القبلة، أو هو أول صف تام يلي الامام لا ما تخلله شيء كمقصورة، أو المراد به من سبق إلى الصلاة ولو صلى آخر الصفوف. قال النووي: الصف الأول الممدوح الذي وردت الأحاديث بفضله هو الصف الذي يلي الإمام، سواء جاء صاحبه متقدماً أو متأخراً، وسواء تخلله مقصورة ونحوها أم لا، هذا هو الصحيح الذي يقتضيه ظواهر الأحاديث، وصرح به المحققون. وقال طائفة من العلماء: الصف الأول هو المتصل من طرف المسجد إلى طرفه لا يتخلله مقصورة ونحوها، فإن تخلل الذي يلي الإمام شيء فليس بأول، بل الأول مالا يتخلله شيء وإن تأخر. وقيل الصف الأول عبارة عن مجيىء الإنسان إلى المسجد ولا وإن صلى في صف متأخر. وهذان القولان غلط صريح- انتهى. قال الحافظ: وكان صاحب الفول الثاني لحظ أن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل وما فيه خلل فهو ناقص. وصاحب القول الثالث لحظ المعنى في تفضيل الصف الأول دون مراعاة لفظه- انتهى. قال العلماء في الحض على الصف الأول المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته، والتعلم منه، والفتح عليه، والتبليغ عنه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين- انتهى. (رواه مسلم) قال القاري: كان يمكن للمصنف أن يجمل ويقول روى الأحاديث الخمسة مسلم كما هو دأبه، ولعل عادته فيما إذا كان للأحاديث سند واحد باتفاق رجاله وخلافها في خلافة- انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص98) وروي عن جماعة من الصحابة، منهم أبوسعيد وابن عباس وأنس وعمر بن الخطاب وأبوأمامة، وذكرهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص93) .