الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الفصل الأول}
1414-
(1) عن أنس، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس)) .
ــ
المنثور المسجع ونحوه، كذا في القاموس. وفي عرف الشرع عبارة عن كلام يشتمل على الذكر والتشهد والصلاة والوعظ. واختلف هل هي شرط صحة صلاة الجمعة، وركن من أركانها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنها شرط وركن. وقال أقوام: إنها ليست بفرض، وجمهور أصحاب مالك على أنها فرض إلا ابن الماجشون، ذكره ابن رشد. قلت: ذهب داود الظاهري وابن حزم والحسن البصري والجويني إلى أن خطبة الجمعة ليست فرضاً، بل هي مندوبة، وهو الظاهر؛ لأنه لم ينتهض دليل على إيجابها لا من كتاب ولا من سنة. وأما قوله تعالى:{فاسعوا إلى ذكر الله} [62: 9] فليس فيه حجة على ذلك؛ لأن المراد بالذكر المأمور بالسعي إليه هو الصلاة. غاية الأمر أنه متردد بينها وبين الخطبة، وقد وقع الاتفاق على وجوب الصلاة، والنزاع في وجوب الخطبة، فلا ينتهض هذا الدليل للوجوب. قال ابن حزم: قد أقدم بعضهم فقال إن قول الله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} إنما مراده إلى الخطبة، وجعل هذا حجة في إيجاب فرضها. قال ابن حزم: من لهذا المقدم؟ إن الله تعالى أراد بالذكر المذكور فيها الخطبة، بل أول الآية وآخرها يكذبان ظنه الفاسد؛ لأن الله تعالى إنما قال:{إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} ، ثم قال عزوجل:{فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض، وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً} فصح أن الله تعالى إنما افترض السعي إلى الصلاة إذا نودي لها، وأمر إذا قضيت بالانتشار، وذكره كثيراً، فصح يقيناً أن الذكر المأمور بالسعي له هو الصلاة، وذكر الله تعالى فيها بالتكبير والتسميع والتمجيد والقراءة والتشهد لا غير ذلك، فإن قالوا: لم يصلها عليه السلام قط إلا بخطبة. قلنا: ولا صلاها عليه السلام قط إلا بخطبتين قائماً يجلس بينهما، فاجعلوا كل ذلك فرضاً لا تصح الجمعة إلا به، ولا صلى عليه السلام قط إلا رفع يديه في التكبيرة الأولى، فأبطلوا الصلاة بترك ذلك-انتهى.
1414-
قوله: (حين تميل الشمس) أي تزول عن كبد السماء وعن استوائها، يعني بعد تحقق الزوال. قال الحافظ: في التعبير بـ"كان" إشعار بمواظبته صلى الله عليه وسلم على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس-انتهى. وفيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن أول وقت الجمعة إذا زالت الشمس كوقت الظهر، وأنها لا تصلى إلا بعد الزوال. ويدل له أيضاً ما رواه مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء. قال النووي: قال مالك وأبوحنيفة والشافعي وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم: لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس، ولم يخالف في هذا إلا أحمد بن حنبل وإسحاق، فجوزاها قبل الزوال.
رواه البخاري.
1415-
(2) وعن سهل بن سعد، قال:((ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة)) .
ــ
وروي في هذا أشياء عن الصحابة لا يصح منها شيء إلا ما عليه الجمهور-انتهى. واستدل لأحمد ومن وافقه بحديث سهل بن سعد الآتي، وسنذكر وجه الاستدلال مع الجواب عنه، ثم إنه اختلف أصحاب أحمد، فقال بعضهم: وقتها وقت صلاة العيد، فتجوز في أول النهار. وقال الخرقي: وإن صلوا الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة أجزأتهم. وظاهره أنه لا يجوز صلاتها فيما قبل الساعة السادسة، وهو الذي صححه ورجحه ابن قدامة في المغني (ج2ص357) . والأولى والأفضل عندهم أن لا تصلى إلا بعد الزوال ليخرج من الخلاف، ويفعلها في الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها فيه في أكثر أوقاته. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3ص190) .
1415-
قوله: (ما كنا نقيل) بفتح النون، من قال يقيل قيلولة فهو قائل. قال في النهاية: المقيل والقيلولة الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم. (ولا نتغدى) بالغين المعجمة والدال المهملة من الغداء، وهو الطعام الذي يوكل أول النهار. زاد في رواية أحمد ومسلم والترمذي: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. (إلا بعد الجمعة) أي بعد فراغ صلاتها. وفي رواية للبخاري: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم تكون القائلة. واستدل به لأحمد على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن الغداء والقيلولة محلهما قبل الزوال، وحكي عن ابن قتيبة أنه قال لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال. وأجيب عنه بأنه لا دلالة فيه على أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال، بل فيه أنهم كانوا يتشاغلون عن الغداء والقائلة بالتهيؤ للجمعة ثم بالصلاة، ثم ينصرفون فيقيلون ويتغدون، فيكون قائلتهم وغداءهم بعد الجمعة عوضاً عما فاتهم في وقته من أجل بكورهم. والحاصل أن قائلتهم وغداءهم بعد الجمعة لما كانا قائمين مقام القيلولة والغداء، أطلق عليهما ذلك مجازاً، وهذا كما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم على السحور اسم الغداء فقال لعرباض ابن سارية: هلم إلى الغداء المبارك. أخرجه أبوداود والنسائي، فكما أنه لا يصح الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم هذا على جواز السحور وقت الغداء أي بعد طلوع الفجر إلى الزوال، كذلك لا يصح الاستدلال بلفظ القيلولة والتغدي على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال. وبالجملة حمل الجمهور حديث سهل على التبكير، وأنهم كانوا يشتغلون أول النهار بآلة الجمعة، فيؤخرون الغداء والقيلولة عن وقتهما. والحاصل أن ما كان غداء في غير يوم الجمعة يكون بعد صلاة الجمعة، فلا يبقى فيه غداء، وكذا القيلولة. وقال الأمير اليماني: ليس في حديث سهل دليل على الصلاة قبل الزوال؛ لأنهم في المدينة ومكة لا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد صلاة الظهر، كما قال تعالى: {وحين تضعون ثيابكم
من الظهيرة} [24: 58] نعم كان النبي صلى الله عليه وسلم يسارع بصلاة الجمعة في أول وقت الزوال بخلاف الظهر، فقد كان يؤخره بعده حتى يجتمع الناس-انتهى. واستدل لأحمد أيضاً بحديث سلمة: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به. وفي رواية: وما نجد فيئاً نستظل به. وجه الاستدلال أنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين، ويجلس بينهما، ويقرأ القرآن في الخطبة مثل سورة {ق} و {تبارك} ، ويذكر الناس، ويقرأ في صلاتها بسورة {الجمعة} و {المنافقين} ، ولو كانت خطبته وصلاته بعد الزوال لما انصرف منها إلا وقد صار للحيطان ظل يستظل به. وأجيب عنه بأن خطبته صلى الله عليه وسلم وصلاته كانتا قصداً، فلا يزيد شغله في الخطبة والصلاة على الساعة الواحدة العرفية، ومع مضى الساعة الواحدة لا يمكن أن يكون لجدران المدينة فيء يستظل به لقصر جدرانها، إذ ذاك قال الشوكاني: المراد نفي الظل الذي يستظل به لا نفي أصل الظل، كما هو الأكثر الأغلب من توجه النفي إلى القيود الزائدة. ويدل على ذلك قوله:"ثم نرجع نتبع الفيء" وإنما كان كذلك؛ لأن الجدران كانت في ذلك العصر قصيرة لا يستظل بظلها إلا بعد توسط الوقت، فلا دلالة في ذلك على أنهم كانوا يصلون قبل الزوال-انتهى. واستدل له أيضاً بحديث أنس قال: كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة، أخرجه البخاري. قال الحافظ: ظاهره أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار، لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض، وقد تقرر فيما تقدم أن التبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره، وهو المراد هنا. والمعنى أنهم كانوا يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر، فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإبراد، واستدل له أيضاً بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس، أخرجه أحمد ومسلم والنسائي. قيل: المتبادر منه أن صلاتهم كانت قبل الزوال؛ لأنه قد صرح بأن إراحتهم لنواضحهم بعد الجمعة كانت عند الزوال. وتعقب بأن قوله: "حين تزول الشمس" يحتمل أن يكون متعلقاً بقوله: "يصلي" فلا يتم الاستدلال به. واستدل له أيضاً بما روى عبد الله بن أحمد في زيادات المسند، والدارقطني وأبونعيم في كتاب لصلاة، وابن أبي شيبة من رواية عبد الله بن سيدان قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ولا أنكره. وأجيب عنه بأن عبد الله بن سيدان بسين مهملة مكسورة بعدها تحتية ساكنة. قيل: سندان بالنون بعد السين المطرودي السلمي غير معروف العدالة. قال ابن عدي: شبه المجهول، وقال
ــ
متفق عليه.
1416-
(3) وعن أنس، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا
اشتد الحر أبرد بالصلاة، يعني الجمعة))
ــ
البخاري: لا يتابع على حديثه. وقال اللالكائي: مجهول لا خير فيه. وقال النووي في الخلاصة: اتفقوا على ضعف ابن سندان- انتهى. بل قد عارضه ما هو أقوى منه، فروى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس. قال الحافظ: إسناده قوي. وقد ظهر بما ذكرنا أنه ليس في صلاة الجمعة قبل الزوال حديث صحيح صريح. فالقول الراجح هو ما قال به الجمهور. قال شيخنا في شرح الترمذي: والظاهر المعول عليه هو ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس. وأما ما ذهب إليه بعضهم من أنها تجوز قبل الزوال فليس فيه حديث صريح- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص241) .
1416-
قوله: (إذا اشتد البرد) فيه نوع من المشاكلة. والمراد عدم اشتداد الحر. (بكر) أي تعجل وأسرع. (بالصلاة) أي صلاها في أول وقتها. (أبرد بالصلاة) أي صلاها بعد أن وقع ظل الجدار في الطريق كيلا يتأذى الناس بالشمس. كذا قال بعض الشراح من الحنفية. (يعني الجمعة) يعني أنه ليس الحديث في صلاة الجمعة، وإنما هو في صلاة الظهر إلا أن أنساً لما استدل به على صلاة الجمعة قياساً على الظهر حمله بعض الرواة عليها فقال يعني الجمعة، فليس دليل الإبراد بصلاة الجمعة في شدة الحر إلا القياس لا الحديث. قال الشوكاني: يحتمل أن يكون قوله: "يعني الجمعة" من كلام التابعي أو من دون أخذه قائله مما فهمه من التسوية بين الظهر والجمعة عند أنس حيث استدل لما سئل عن الجمعة بقوله:"كان يصلي الظهر" ويؤيده ما عند الإسماعيلي عن أنس من طريق أخرى، وليس فيه قوله:"يعني الجمعة"- انتهى. والحاصل أن الروايات تدل على أن الإبراد بالجمعة عند أنس إنما هو بالقياس على الظهر لا النص، لكن أكثر الأحاديث تدل على التفرقة في الظهر، وعلى التبكير في الجمعة مطلقاً من غير تفصيل. قال الكرماني. قال الفقهاء: ندب الإبراد إلا في الجمعة لشدة الخطر في فواتها، ولأن الناس يبكون إليها، فلا يأذون بالحر. وقال ابن قدامة في المغني (ج2 ص296) : ولا فرق في استحباب إقامة الجمعة عقيب الزوال بين الشدة والحر وغيره، فإن الجمعة يجتمع لها الناس، فلو انتظروا الإبراد شق عليهم، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها إذا زالت الشمس في الشتاء والصيف على ميقات واحد، وقال في (ج1 ص390) : فأما الجمعة فيسن تعجيلها في كل وقت بعد الزوال من غير إبراد؛ لأن سلمة بن الأكوع قال: كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
رواه البخاري.
1417-
(4) وعن السائب بن يزيد، قال: ((كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس، زاد النداء الثالث
ــ
إذا زالت الشمس، متفق عليه. ولم يبلغنا أنه أخرها، بل كان يعجلها، حتى قال سهل بن سعد: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة، أخرجه البخاري، ولأن السنة التبكير بالسعي إليها ويجتمع الناس لها، فلو أخرها لتأذى الناس بتأخير الجمعة- انتهى. قلت: وقد نحا البخاري إلى مشروعية الإبراد بالجمعة، وإليه ميل الحنفية. والراجح عندنا التعجيل من غير فرق بين الحر والبرد لعدم النص في الإبراد بالجمعة. والله تعالى أعلم. (رواه البخاري) وللحديث قصة وحاصلها أن الحكم بن أبي عقيل الثقفي كان نائباً على البصرة عن ابن عمه الحجاج بن يوسف، وكان الحكم على طريقة ابن عمه في تطويل الخطبة يوم الجمعة حتى يكاد الوقت أن يخرج، فأنكر ذلك على الحكم بعضهم، وسأل الحكم من أنس كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر؟ فأجاب أنس بما ذكر من الحديث. والحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد أيضاً، وأخرجه أبويعلى في مسنده مع القصة، والبيهقي (ج3 ص291، 192) معها وبدونها.
1417-
قوله: (كان النداء) الذي ذكره الله في القرآن. (أوله) بالرفع بدل من اسم، كان وخبرها "إذا جلس الإمام". وفي رواية لابن خزيمة: كان ابتداء النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة. (إذا جلس الإمام على المنبر) أي قبل الخطبة، وثانيه وهو الإقامة، إذا فرغ من الخطبة ونزل. (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في زمانه. (وأبي بكر وعمر) يعني في خلافتهما. وفي رواية لابن خزيمة: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة. قال ابن خزيمة: قوله: "أذانين" يريد الأذان والإقامة يعني تغليباً أو لاشتراكهما في الإعلام. (فلما كان عثمان) أي زمن خلافته. قال الطيبي: "كان" تامة أي حصل عهده. وقيل: يصح كونها ناقصة، والخبر محذوف أي خليفة. (وكثر الناس) أي المؤمنون بالمدينة عن أن يسمعوا الأذان عند باب المسجد. (زاد) أي عثمان بعد مضي مدة من خلافته. (النداء الثالث) أول الوقت عند الزوال قبل خروجه وصعوده على المنبر ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت، وإنما سماه ثالثاً بالنسبة إلى إحدائه؛ لأنه زيد على النداءين الذين كانا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الشيخين، وهما الأذان بعد صعود الإمام على المنبر قبل قراءة الخطبة، وهو المراد بالنداء الأول والإقامة بعد فراغه من الخطبة عند نزوله، وهو المراد بالنداء الثاني. وفي بعض روايات الحديث: فأمر عثمان بالأذان الأول، وهو الموافق للواقع فعلاً؛ لأنه
على الزوراء)) .
ــ
يبدأ به قبل خروج الإمام. وفي بعض رواياته أيضاً تسميته الثاني باعتبار أنه زيد على الأذان الذي كان قبل، وعدم اعتبار الإقامة في العدد؛ لأنها ليست أذاناً وإن كانت من النداء للصلاة، والحاصل أنه باعتبار كونه مزيداً يسمى ثالثاً، وباعتبار كونه جعل مقدماً على الأذان والإقامة يسمى أولاً، وبالنظر إلى الأذان الحقيقي دون الإقامة يسمى ثانياً، قال الطيبي: إنما زاد عثمان ذلك لكثرة الناس فرأى هو أن يؤذن المؤذن قبل الوقت. (يعني المعتاد، وهو صعوده على المنبر بعد الزوال) لينتهي الصوت إلى نواحي المدينة، ويجتمع الناس قبل خروج الإمام لئلا يفوت عنهم أوائل الخطبة. (على الزوراء) بفتح الزاي وسكون الواو بعدها راء ممددة موضع بالسوق بالمدينة، قاله البخاري في جامعه الصحيح. وفي رواية ابن خزيمة وابن ماجه: زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزوراء، وزاد في رواية للبخاري وغيره: فثبت الأمر على ذلك. قال الحافظ: والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهاني: أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج، وبالبصرة زياد، وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة. وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار. ويحتمل أنه يريد لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما لم يمكن في زمنه يسمى بدعة لكن منها ما يكون حسناً، ومنها ما يكون بخلاف ذلك، وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياساً على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب- انتهى كلام الحافظ. وقد ذكر الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص393) هنا كلاماً حسناً أحببنا إيراده لعل الله ينفع بها الطالبين، قال:"فائدة" في رواية عند أبي داود في هذا الحديث: كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد، فظن العوام بل كثير من أهل العلم أن هذا الأذان يكون أمام الخطيب مواجهة، فجعلوا مقام المؤذن في مواجهة الخطيب. (قريباً من المنبر) على كرسي أو غيره، وصار هذا الأذان تقليداً صرفاً لا فائدة له في دعوة الناس إلى الصلاة وإعلامهم حضورها، كما هو الأصل في الأذان والشأن فيه، وحرصوا على ذلك، حتى لينكرون على من يفعل غيره، وإتباع السنة أن يكون على المنارة عند باب المسجد ليكون إعلاماً لمن لم يحضر، وحرصوا على إبقاء الأذان قبل خروج الإمام، وقد زالت الحاجة إليه؛ لأن المدينة لم يكن بها (مسجد جامع) إلا المسجد النبوي وكان الناس كلهم يجمعون فيه، وكثروا عن أن يسمعوا الأذان عند باب المسجد، فزاد عثمان الأذان الأول ليعلم من بالسوق ومن حوله حضور الصلاة، أما الآن وقد كثرت المساجد، وبنيت فيها المنارات، وصار الناس يعرفون وقت الصلاة بأذان المؤذن على المنارة فإنا نرى أن يكتفي بهذا الأذان، وأن يكون عند خروج الإمام إتباعاً للسنة أو يؤمر المؤذنون
رواه البخاري.
1418-
(5) وعن جابر بن سمرة، قال: ((كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان، يجلس بينهما
ــ
عند خروج الإمام أن يؤذنوا على أبواب المساجد- انتهى. قلت: إذا وقعت اليوم الحاجة إلى النداء العثماني في بلد كما وقعت بالمدينة في عهد عثمان رضي الله عنه فلا بأس بأن يؤذن على موضع مرتفع كالمنار أو سطح البيت خارج المسجد قبل خروج الإمام كما كان في زمن عثمان رضي الله عنه. وأما بغير الحاجة وعند عدم الضرورة فالاكتفاء بالأذان عند خروج الإمام هو المتعين عندي. وأما كون هذا الأذان أمام الخطيب مواجهة قريباً من المنبر فليس في شيء من السنة، فإن السنة أن يؤذن عند باب المسجد ليحصل فائدة الأذان لا داخل المسجد عند المنبر، والله تعالى أعلم. (رواه البخاري) بألفاظ وأسانيد. وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3ص192، 205) .
1418-
قوله: (كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان) فيه أن المشروع خطبتان، وقد ذهب إلى وجوبهما الشافعي وأحمد. قال ابن قدامة: يشترط للجمعة خطبتان، وهذا مذهب الشافعي. وقال مالك والأوزاعي وإسحاق وأبوثور وابن المنذر وأصحاب الرأي: يجزيه خطبة واحدة، وقد روى عن أحمد ما يدل عليه، فإنه قال لا تكون الخطبة إلا كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم أو خطبة تامة-انتهى. وقال الشوكاني: قد ذهب إلى وجوبهما العترة الشافعي. وحكى العراقي في شرح الترمذي عن مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المنذر وأحمد بن حنبل في رواية أن الواجب خطبة واحدة، قال: وإليه ذهب جمهور العلماء، ولم يستدل من قال بالوجوب إلا بمجرد الفعل مع قوله:"صلوا كما رأيتموني أصلي"-الحديث. وقد عرفت ألا ذلك ينتهض لإثبات الوجوب، يعني لأن مجرد الفعل لا يفيد الوجوب. وأما قوله:"صلوا كما رأيتموني أصلي" فهو مع كونه غير صالح للاستدلال به على الوجوب ليس فيه إلا الأمر بإيقاع الصلاة على الصفة التي كان يوقعها عليها، والخطبة ليست بصلاة. (يجلس بينهما) أي بين الخطبتين. وفيه إشارة إلى أن خطبته كانت حالة القيام، وقد ورد ذلك مصرحا عن جابر نفسه، وعن ابن عمر وكعب بن عجرة، كما سيأتي، قال الشوكاني في شرح حديث ابن عمر وجابر: فيه أن القيام حال الخطبة المشروع. قال ابن المنذر: وهو الذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار. واختلف في وجوبه، فذهب مالك والشافعي إلى الوجوب، غير أن مالكاً قال: إنه واجب لو تركه أساء، وصحت الجمعة. وقال الشافعي: إنه شرط في صحة الخطبة، وإنه متى خطب قاعداً لغير عذر لم تصح. قال ابن قدامة ويحتمله كلام أحمد. وذهب أبوحنيفة إلى أن القيام سنة وليس بواجب، قال ابن قدامة: قال القاضي: يجزيه الخطبة قاعداً، وقد نص عليه أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة. واستدل الأولون بحديث جابر وابن عمر وبغيرهما من الأحاديث الصحيحة: قال الشوكاني:
يقرأ القرآن، ويذكر الناس،
ــ
لاشك أن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء الراشدين هو القيام حال الخطبة، ولكن الفعل بمجرده لا يفيد الوجوب. وفي الحديث مشروعية الجلوس بين الخطبتين. واختلف في وجوبه، فذهب الشافعي إلى أنه فرض، وشرط لصحة الخطبة. وذهب الجمهور مالك وأحمد وأبوحنيفة إلى أنه غير واجب. استدل من أوجب ذلك بفعله صلى الله عليه وسلم، وقوله:"صلوا كما رأيتموني"، وقد تقدم الجواب عن مثل هذا الاستدلال. قال ابن المنذر: لم أجد للشافعي دليلاً، والفعل، وإن اقتضى الوجوب عند الشافعي، لا يدل على بطلان الجمعة بتركه، وأي فرق بين الجلوس قبلهما وبينهما، مع أن كلا منهما ثابت عنه عليه الصلاة والسلام. قال جمع من الشافعية وهو كما قال، والعجب إيجاب هذا دون الاستقبال، قاله القاري. (يقرأ القرآن) تفسير الخطبة. وقال القاضي: هو صفة ثانية للخطبتين. والراجح محذوف، والتقدير يقرأ فيهما. وقوله:(ويذكر الناس) عطف عليه داخل في حكمه-انتهى. والتذكير هو الوعظ والنصيحة، وذكر ما يوجب الخوف والرجاء من الترهيب والترغيب. واستدل به على مشروعية القراءة والوعظ في الخطبة، ولا خلاف فيه وإنما الخلاف في الوجوب، فذهب الشافعي إلى أنه يشترط في الخطبة الوعظ والقراءة، قال النووي: قال الشافعي: لا تصح الخطبتان إلا بحمد الله تعالى والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما والوعظ، وهذه الثلاثة واجبات في الخطبتين، وتجب قراءة آية من القرآن في إحداهما على الأصح، ويجب الدعاء للمؤمنين في الثانية على الأصح. وقال مالك وأبوحنيفة والجمهور: يكفي من الخطبة ما يقع عليه الاسم. وقال أبوحنيفة وأبويوسف ومالك في رواية عنه: يكفي تحميدة أو تسبيحة أو تهليلة، وهذا ضعيف؛ لأنه لا يسمى خطبة. ولا يحصل به مقصودها مع مخالفته ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم-انتهى. قلت: الراجح عندي أنه يجب في خطبة الجمعة شيء سوى حمد الله والموعظة؛ لأن ذلك يسمى خطبة ويحصل به المقصود فأجزأ، وما عداه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة القرآن والدعاء لإنسان ليس على اشتراطه ووجوبه في الخطبة دليل، ولا يجب أن يخطب على صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق؛ لأنه قد روى أنه كان يقرأ آيات، ولا يجب قراءة آيات، ولكن يستحب أن يقرأ آيات كذلك، ولما روت أم هشام قالت: ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطب بها في كل جمعة. وفي حديث الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة. وقوله:"يذكر الناس" دليل صريح على أن الخطبة وعظ وتذكير للناس، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه في خطبة الجمعة قواعد الإسلام وشرائعه ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي، وكان يأمرهم بمقتضى الحال، فلا بد للخطيب من أن يعظ الناس، ويذكرهم ويبين لهم ما يحتاجون إليه. فإن كان السامعون من غير العرب وعظهم بلغتهم، فإن التذكير
فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً)) . رواه مسلم.
1419-
(6) وعن عمار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته، مئنة من فقهه،
ــ
والوعظ في بلاد العجم لا يفيد، ولا يحصل أثره إلا إذا كان بلغتهم. وحديث جابر هذا هو أول دليل على هذا. (فكانت صلاته قصداً) أي متوسطة بين الإفراط والتفريط من التقصير والتطويل بفتح القاف وسكون الصاد، وآخره دال، وهو الوسط بين الطرفين، وهو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد طرفي التفريط والإفراط. (وخطبته قصداً) قال الطيبي: أصل القصد الاستقامة في الطريق، استعير للتوسط في الأمور والتباعد عن الإفراط، ثم للتوسط بين الطرفين كالوسط، أي كانت صلاته صلى الله عليه وسلم متوسطة، لم تكن غاية الطول، ولا في غاية القصر، وكذلك الخطبة. وذلك لا يقتضى مساواة الخطبة للصلاة، إذ توسط كل يعتبر في بابه، فلا يخالف حديث عمار الآتي. (رواه مسلم) هما حديثان عند مسلم رواهما عن جابر بن سمرة، تم الأول على قوله "ويذكر الناس" وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3ص210) ولفظ الثاني: قال جابر: كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً. ونسب المجد هذا في المنتقى للجماعة إلا البخاري وأبا داود. قلت: وأخرجه البيهقي (ج3ص207) أيضاً.
1419-
قوله: (إن طول صلاة الرجل) أي إطالتها. (وقصر خطبته) بكسر القاف وفتح الصاد أي تقصيرها. (مئنة) بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة. (من فقهه) أي علامة يتحقق بها فقهه، مفعلة بنيت من، إن المكسورة المشددة وحقيقتها مظنة ومكان لقول القائل: إنه فقيه؛ لأن الصلاة مقصودة بالذات، والخطبة توطئة لها، فتصرف العناية إلى الأهم، كذا قيل، أو لأن حال الخطبة توجهه إلى الخلق وحال الصلاة مقصده الخالق. فمن فقاهة قلبه إطالة معراج ربه، أو لأن الصلاة هي الأصل، والخطبة هي الفرع، ومن القضايا الفقهية أن يؤثر الأصل على الفرع بزيادة. وقال الطيبي: قوله "من فقهه" صفة "مئنة" أي مئنة ناشئة من فقهه، في النهاية: أي ذلك مما يعرف به فقه الرجل، فكل شيء دل على شيء فهو مئنة له. وحقيقتها أنها مفعلة من معنى أن التي للتحقيق غير مشتقة من لفظها؛ لأن الحروف لا يشتق منها، وإنما ضمن حروفها دلالة على أن معناها فيها. قال النووي: قال الأزهري والأكثرون: الميم فيها زائدة، وهي مفعلة، قال الأزهري: غلط أبوعبيد في جعله الميم أصلية. وقال القاضي عياض: قال شيخنا ابن سراج: هي أصلية-انتهى. قال الشوكاني: وإنما كان اقتصار الخطبة علامة من فقه الرجل؛ لأن الفقيه هو المطلع على جوامع الألفاظ، فيتمكن بذلك من التعبير باللفظ المختصر عن
فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحراً)) . رواه مسلم.
1420-
(7) وعن جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه،
ــ
المعاني الكثيرة. (فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة) قال النووي: الهمزة في "أقصروا" همزة وصل، وليس هذا الحديث مخالفاً للأحاديث المشهورة في الأمر بتخفيف الصلاة، ولقوله في الرواية المتقدمة:"كانت صلاته قصداً وخطبته قصداً"؛ لأن المراد بحديث عمار أن الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة لا تطويلاً يشق على المأمومين، وهي حينئذٍ قصد أي معتدلة، والخطبة قصد بالنسبة إلى وضعها. وقال العراقي: أو حيث احتيج إلى التطويل لإدراك بعض من تخلف، قال: وعلى تقدير تعذر الجمع بين الحديثين يكون الأخذ في حقنا بقوله؛ لأنه أدل بفعله لاحتمال التخصيص. وقال القاري: لا تنافي بينهما، فإن الأول أي حديث جابر دل على الاقتصار فيهما، والثاني أي حديث عمار على اختيار المزية في الثانية منهما، ثم لا ينافي هذا ما ورد في مسلم من حديث أبي زيد، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان، وبما هو كائن-انتهى. لوردوه نادراً اقتضاه الوقت، ولكونه بياناً للجواز، وكأنه كان واعظاً، والكلام في الخطب المتعارفة-انتهى. (وإن من البيان سحراً) أي من البيان ما يصرف قلوب المستمعين إلى قبول ما يستمعون فشبه الكلام العامل في القلوب الجاذب للعقول بالسحر لأجل ما اشتمل عليه من الجزالة وتناسق الدلالة وإفادة المعاني الكثيرة. والظاهر أنه من عطف الجمل، ذكره استطراداً. وقال الطيبي: الجملة حال من "اقصروا" أي اقصروا الخطبة وأنتم تأتون بها معاني جمة في ألفاظ يسيرة، وهي من أعلى طبقات البيان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: أوتيت جوامع الكلم. قال النووي: قال القاضي: فيه تأويلان أحدهما أنه ذم؛ لأنه إمالة للقلوب، وصرفها بمقاطع الكلام إليه، حتى يكسب من الإثم به، كما يكتسب بالسحر، وأدخله مالك في الموطأ في "باب ما يكره من الكلام" وهو مذهبه في تأويل الحديث. والثاني أنه مدح؛ لأن الله تعالى امتن على عباده بتعليمهم البيان. وشبه بالسحر لميل القلوب إليه. وأصل السحر الصرف، فالبيان يصرف القلب ويميله إلى ما يدعو إليه. قال النووي: وهذا التأويل الثاني هو الصحيح. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص263) والبيهقي (ج3ص208) .
1420-
قوله: (وعن جابر) أي ابن عبد الله. (إذا خطب) أي للجمعة كما في رواية لمسلم. (احمرت عيناه وعلا صوته) بالرفع أي ارتفع صوته. (واشتد غضبه) يفعل ذلك لإزالة الغفلة من قلوب الناس ليتمكن فيها
حتى كأنه منذر جيش، ويقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى)) . رواه مسلم.
1421-
(8) وعن يعلى بن أمية، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر. {ونادوا يا مالك
ــ
كلامه صلى الله عليه وسلم فضل تمكن، أو لأنه يتوجه فكره إلى الموعظة، فيظهر عليه آثار الهيبة الإلهية. واستدل به على أنه يستحب للخطيب أن يفخم أمر الخطبة، ويرفع صوته وكلامه، ليكون مطابقاً للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب أو ترهيب. ولعل اشتداد غضبه صلى الله عليه وسلم كان عند إنذاره أمراً عظيماً. (كأنه منذر جيش) هو الذي يجيء مخبرا للقوم بما قد دهمهم من عدو أو غيره، أي كمن ينذر قوماً من قرب جيش عظيم قصدوا الإغارة عليهم. (يقول) ضميره عائد لمنذر، والجملة صفته (صبحكم) بتشديد الباء، وفاعله ضمير يعود إلى العدو المنذر منه، ومفعوله يعود إلى المنذرين، أي نزل بكم العدو صباحاً. والمراد سينزل، وصيغة الماضي للتحقق مثل حال الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته وإنذاره بمجيء القيامة، وقرب وقوعها، وتهالك الناس فيما يرديهم بحال من ينذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم، يقصد الإحاطة بهم بغتة من كل جانب. فكما أن المنذر يرفع صوته، وتحمر عيناه، ويشتد غضبه على تغافلهم، كذلك حال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإلى قرب المجيء أشار بإصبعيه. ونظيره ما روى أنه لما نزل:{وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر يا بني عدي-الحديث. (مساكم) بتشديد السين مثل "صبحكم" ويحتمل أن ضمير يقول للنبي صلى الله عليه وسلم، والجملة حال. وضمير "صبحكم" للعذاب والمراد به قرب منكم إن لم تطيعوني. (ويقول) أي النبي صلى الله عليه وسلم عطف على احمرت. (بعثت أنا والساعة) روى برفعها ونصبها، والمشهور نصبها على المفعول معه، والرفع عطفاً على الضمير، وأكد بالضمير المنفصل ليصح العطف، أي بعثني قريباً من القيامة. (ويقرن) بضم الراء على المشهور الفصيح، وحكر كسرها. (السبابة) بالجر على البدلية وجوز الرفع أي المسبحة. (رواه مسلم) في الجمعة، وكذا البيهقي (ج3ص206، 213) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه في السنة، وهذا طرف من حديث طويل عندهم.
1421-
قوله: (وعن يعلى بن أمية) بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التحتية. (ونادوا) أي أهل النار الداخلون فيها، وهم الكفار. (يا مالك) بإثبات الكاف، وهي قراءة الجمهور. وقرأ الأعمش "ونادوا يا مال" بالترخيم، ورويت عن علي، وهي قراءة ابن مسعود، وفيه إشعار بأنهم لضعفهم لا يستطيعون تأدية اللفظ بالتمام، فإن قلت: كيف قال ونادوا يا مالك بعد ما وصفهم بالابلاس؟ أجيب بأنها أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف
ليقض علينا ربك} متفق عليه.
1422-
(9) وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان، قالت: ما أخذت {ق والقرآن المجيد} إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس)) .
ــ
بهم الأحوال، فيسكتون أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم، ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم. (ليقض علينا ربك) أي بالموت قال الطيبي: من قضي عليه أماته. ومنه قوله: {فوكزه موسى فقضى عليه} [28: 15] أي أماته. ومعنى الآية يقول الكفار لمالك خازن النار سل ربك أن يقضي علينا، يقولون هذا لشدة ما بهم، فيجابون بقوله:{إنكم ماكثون} أي خالدون. وفيه نوع استهزاء بهم دل هذا الحديث وما قبله. وقوله تعالى: {إن أنت إلا نذير} [35: 23]، وقوله تعالى:{وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [35: 24]، وقوله تعالى:{ليكون للعالمين نذيراً} [25: 1] ، على أن الناس إلى الإنذار والتخويف أحوج منهم إلى التبشير لتماديهم في الغفلة وانهماكهم في الشهوات. (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر الملائكة وصفة النار من بدء الخلق، وفي تفسير سورة الزخرف، ومسلم في الصلاة وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص223) والترمذي في الصلاة وأبوداود في القراءات والنسائي في السنن الكبرى والبيهقي (ج3ص211) .
1422-
قوله: (وعن أم هشام بنت حارثة النعمان) هي أخت عمرة بنت عبد الرحمن لأمها، الأنصارية النجارية. قال أحمد بن زهير: سمعت أبي يقول: أم هشام بنت حارثة بايعت بيعة الرضوان، ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب، ولم يذكر اسمها. وذكرها الحافظ في الإصابة والتهذيب والتقريب "ولم يسمها" أيضاً، وقال في التقريب صحابية مشهورة. (قالت: ما أخذت) أي ما حفظت (ق والقرآن المجيد) أي هذه السورة. (يقرأها) قال الطيبي: نقلاً عن المظهر، وتبعه ابن الملك: إن المراد أول السورة لا جميعها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأها جميعها في الخطبة. وقال ابن حجر: أي كلها وحملها على أول السورة صرف للنص عن ظاهره-انتهى. وقال القاري: الظاهر أنه كان يقرأ في كل جمعة بعضها، فحفظت الكل في الكل. قلت: الظاهر عندي ما قاله ابن حجر. والله تعالى أعلم. (كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس) فيه دليل على مشروعية قراءة سورة ق في الخطبة كل جمعة. قال العلماء: وسبب اختياره صلى الله عليه وسلم هذه السورة لما اشتملت عليه من ذكر البعث والموت والمواعظ الشديدة والزواجر الأكيدة. وفيه دلالة لقراءة شيء من القرآن في الخطبة كما سبق، وقد قام الإجماع على عدم وجوب قراءة السورة المذكورة ولا بعضها في الخطبة، وكانت محافظته على هذه السورة اختيارا منه لما هو الأحسن في الوعظ والتذكير. وفيه دلالة على ترديد الوعظ، كذا في السبل. قال الشوكاني بعد ذكر أحاديث ورد فيها ذكر قراءة القرآن في الخطبة. وقد استدل بحديث الباب وما ذكرناه من الأحاديث على مشروعية قراءة شيء من القرآن
رواه مسلم.
1423-
(10) وعن عمرو بن حريث، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه يوم الجمعة)) . رواه مسلم.
1424-
(11) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين،
ــ
في الخطبة، ولا خلاف في الاستحباب، وإنما الخلاف في الوجوب، كما تقدم، قال: والظاهر من أحاديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يلازم قراءة سورة أو آية مخصوصة في الخطبة، بل كان يقرأ مرة هذه السورة ومرة هذه، ومرة هذه الآية ومرة هذه-انتهى. وعلى هذا فالمراد بكل جمعة في حديث الباب جمعات حضرت أم هشام فيها. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6ص435- 436، 463) وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3ص211) والحاكم (ج1ص284) .
1423-
قوله: (وعن عمرو بن حريث) بالتصغير القرشي المخزومي، صحابي صغير مات سنة (85) وقيل: قبض النبي صلى الله عليه وسلم، وله (12) سنة. (خطب) وفي رواية: خطاب الناس. (وعليه عمامة) بكسر العين. (سوداء) فيه لباس الثوب الأسود في الخطبة وإن كان الأبيض أفضل منه، كما ثبت في الحديث الصحيح: خير ثيابكم البياض. وأما لباس الخطباء السوداء في حال الخطبة فجائز، ولكن الأفضل البياض كما ذكرنا، وإنما لبس العمامة السوداء في هذا الحديث بياناً للجواز. (قد أرخى) أي سدل وأرسل. (طرفيها) بالتثنية أي طرفي عمامته. قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وغيرها طرفيها بالتثنية، وكذا هو في الجمع بين الصحيحين للحميدي. وذكر القاضي عياض أن الصواب المعروف طرفها بالإفراد. وإن بعضهم رواه طرفيها بالتثنية، والله أعلم-انتهى. (بين كتفيه يوم الجمعة) فيه أن إرسال طرفي العمامة بين الكتفين ولبس الزينة يوم الجمعة سنة. قال الأمير اليماني. من آداب العمامة إرسال العذبة بين الكتفين، ويجوز تركها بالأصالة. قلت: سيأتي بسط الكلام فيه في كتاب اللباس. ومن أحب التفصيل رجع إلى تحفة الأحوذى (ج3ص48- 50) وشرح الشمائل (ص66- 67) للبيجوري، والمرقاة (ج2ص232) . (رواه مسلم) في الحج، وأخرجه أبوداود والنسائي في الزينة، والترمذي في الشمائل، وابن ماجه في الصلاة، والبيهقي (ج3ص246) .
1424-
قوله: (وهو يخطب) جملة حالية أي يوم الجمعة. (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب فليركع ركعتين) أي ندباً. وفيه دليل مشروعية تحية المسجد واستحبابها حال الخطبة للداخل بتلك الحالة.
وليتجوز فيهما))
ــ
وإلى ذلك ذهب الحسن وابن عيينة والشافعي وأحمد وإسحاق ومكحول وأبوثور وابن المنذر. وحكاه النووي عن فقهاء المحدثين. وحكى ابن العربي أن محمد بن الحسن حكاه عن مالك. (وليتجوز) بكسر اللام ويسكن أي ليخفف. فيه مشروعية التخفيف لتلك الصلاة ليتفرغ لسماع الخطبة، ولا خلاف في ذلك بين القائلين بأنها تشرع صلاة التحية حال الخطبة. والحديث حجة على مالك وأبي حنيفة في منع الداخل عن صلاة التحية في أثناء الخطبة، وقد أجاب من تبعهما عن هذا الحديث بأجوبة: منها المعارضة بقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [7: 204] وبقوله صلى الله عليه وسلم: إذا قلت لصاحبك أنصت، والإمام يخطب يوم الجمعة، فقد لغوت، قالوا فإذا امتنع الأمر بالمعروف، وهو أمر اللاغي بالإنصات مع قصر زمنه، فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى، وبقوله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب للذي دخل يتخطى رقاب الناس: اجلس، فقد آذيت. أخرجه أبوداود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث عبد الله بن بسر، قالوا: فأمره بالجلوس، ولم يأمره بالتحية. وروى الطبراني من حديث ابن عمر رفعه إذا دخل أحدكم، والإمام على المنبر، فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام. والجواب عن ذلك كله أن المعارضة التي تؤول إلى إسقاط أحد الدليلين إنما يعمل بها عند تعذر الجمع، والجمع ههنا ممكن. أما الآية فليست الخطبة كلها قرآناً. وأما ما فيها من القرآن فالجواب عنه كالجواب عن الحديث، وهو تخصيص عمومه بالداخل. وأيضاً فمصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت لحديث أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ فأطلق على القول سراً السكوت. وأما حديث ابن بُسر فهو أيضاً واقعة عين لا عموم فيها، فيحتمل أن يكون ترك أمره بالتحية قبل مشروعيتها. ويحتمل أن يجمع بينهما بأن يكون قوله:"اجلس" أي بشرطه، وقد عرف قوله للداخل. فلا تجلس حتى تصلي ركعتين. فمعنى قوله:"اجلس" أي لا تتخط، أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز فإنها ليست واجبة، أو لكون دخوله وقع في أواخر الخطبة بحيث ضاق الوقت عن التحية، وقد اتفقوا على استثناء هذه الصورة. ويحتمل أن يكون صلى التحية في مؤخر المسجد، ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة فوقع منه التخطي فأنكر عليه. والجواب عن حديث ابن عمر بأنه ضعيف فيه أيوب بن نهيك، وهو منكر الحديث، قاله أبوزرعة وأبوحاتم. والأحاديث الصحيحة لا تعارض بمثله كذا في الفتح. قال بعض الحنفية. حديث جابر مبيح للصلاة، وحديث الإنصات محرم لها، فاجتمع المبيح والمحرم فترجح-انتهى. وفيه أن الترجيح للمحرم إنما يكون إذا لم يمكن الجمع، والجمع ههنا ممكن، كما تقدم. وقال الأمير اليماني: هذا أمر الشارع، وهذا أمر الشارع، فلا تعارض بين أمريه، بل القاعد ينصت، والداخل يركع التحية. وقال الشوكاني: حديث الإنصات وارد في
المنع من المكالمة للغير، ولا مكالمة في الصلاة، ولو سلم أنه يتناول كل كلام حتى الكلام في الصلاة لكان عموماً مخصصاً بأحاديث الباب. وقال السندي: لا دليل على المنع من الركعتين عند الحنفية إلا حديث: إذا قلت لصاحبك أنصت. الخ. وذلك؛ لأن الأمر بالمعروف أعلى من تحية المسجد، فإذا منع منه منها بالأولى. وفيه بحث أما أولاً فلأنه استدلال بالدلالة أو القياس في مقابلة النص، فلا يسمع. وأما ثانياً فلأن المضي في الصلاة لمن شرع فيها قبل الخطبة جائز، بخلاف المضي في الأمر بالمعروف لمن شرع فيه قبل. فكما لا يصح قياس الصلاة على الأمر بالمعروف بقاء لا يصح ابتداء-انتهى. ومنها أن حديث جابر هذا أصله قصة سليك الغطفاني جعله الراوي قولاً كلياً وتشريعاً عاماً وضابطة من جانب نفسه، فهو إدراج من الراوي. وتوضيح ذلك أنه روي عن جابر في هذه المسألة حديثان: فعلي وقولي. أما الفعلي، وهي قصة سليك، فهو أنه قال: دخل رجل (وهو سليك الغطفاني) يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال صليت؟ قال لا، قال فصل ركعتين، رواه الجماعة. وأما الثاني أي القولي فهو قوله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة الخ. وكلاهما يدل على جواز صلاة التحية حال الخطبة للداخل بتلك الحالة خلافاً لمالك وأبي حنيفة. وقد حمل المانعون قصة سليك على أعذار، وأجابوا عنها بأجوبة تزيد على عشرة كلها مردودة، سردها الحافظ في الفتح مع الرد عليها. وقد تعقب العيني على كلام الحافظ ههنا كعادته بما لا يلتفت إليه. ومن أحب الوقوف على ذلك رجع إلى الفتح والعمدة. وأما الحديث القولي فتصدوا للجواب عنه أيضاً مع اعترافهم بأن التفصي عنه مشكل لكونه تشريعاً عاماً، فقال بعضهم قد تكلم الدارقطني في هذا المتن وأعله، فقال إن أصله واقعة جعله الراوي ضابطة، فالصواب أنه مدرج من الراوي. قلت: لم يقل الدارقطني بكون الحديث القولي مدرجاً، بل أشار إلى شذوذه، ولو سلم فلا يثبت الإدراج بالادعاء والوجدان، بل لا بد لذلك من وجود ما يدل على ذلك واضحة، كما ذكره أهل الأصول وليس ههنا شيء يدل على كونه مدرجاً. وأما قول بعضهم: أن القرينة عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان قاله في تلك القصة، يعني أنه لو كان الفعل والقول منه عليه السلام مسلسلاً، فلِمَ أمسك عن الخطبة إذن. ولَمِ أمهلها؟ فإن سنة التحية حينئذٍ أن تؤدى خلال الخطبة أيضاً، فلا حاجة إلى الإمساك مع ثبوته قطعاً. ففيه أنه لم يثبت الإمساك عن الخطبة أصلاً، فإن ما روي في ذلك مرسل أو معضل، والمرسل ليس بحجة على القول الصحيح. ويرده أيضاً حديث أبي سعيد عند الترمذي بلفظ: فأمره فصلى ركعتين، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب. وقد أجاب الحافظ في مقدمة الفتح عن إعلال الدارقطني لهذا الحديث حيث قال: قال الدارقطني وأخرجا جميعاً حديث شعبة عن عمرو عن جابر: إذا جاء أحدكم، والإمام يخطب، فليصل ركعتين، وقد رواه ابن جريج وابن عيينة وحماد بن زيد وأيوب وورقاء وحبيب بن يحيى كلهم عن عمرو: أن رجلاً دخل المسجد، فقال له: صليت؟ قال الحافظ:
أراد الدارقطني أن شعبة خالف هؤلاء الجماعة في سياق المتن واختصروه، وهم إنما أوردوه على حكاية قصة الداخل، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالصلاة ركعتين، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وهي قصة محتملة للخصوص. وسياق شعبة يقتضي العموم في حق كل داخل. قال الحافظ: فهي مع اختصارها أزيد من روايتهم، وليست بشاذة، فقد تابعه على ذلك روح بن القاسم عن عمرو بن دينار، أخرجه الدارقطني في السنن، فهذا يدل على أن عمرو بن دينار حدث به على الوجهين-انتهى. قلت: وقد تابعه على ذلك أيضاً ابن عيينة عن عمرو عند الدارقطني، وطلحة عن جابر عند أحمد وأبي داود، وأبوسفيان عن جابر عند أحمد ومسلم والدارقطني. فدعوى التفرد والشذوذ أو الإدراج باطلة مردودة. ومنها أن هذا الحديث مضطرب حيث ورد عند مسلم والنسائي في رواية شعبة عن عمرو بلفظ: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، وقد خرج الإمام فليصل ركعتين، وهذا يدل على أن الأمر بالصلاة ركعتين عند خروج الإمام، وقبل الشروع في الخطبة. وورد في بعض الروايات: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب. وهذا يدل على أن الأمر بالتحية للداخل حال الخطبة. وورد عند البخاري والدارقطني في رواية شعبة عن عمرو: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج أي بالشك. فما دام لم ينفصل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم لا تبني عليه المسألة. قلت: أكثر الروايات الصحيحة وأشهرها بلفظ: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب، فيقدم على غيره على أنه لا اختلاف بين هذه الروايات، فإن حاصلها أنه يستحب صلاة التحية للداخل بعد خروج الإمام مطلقاً سواء شرع في الخطبة أو لم يشرع. و"أو" في رواية البخاري والدارقطني للتنويع لا للشك من الراوي. ومنها أن معنى قوله "والإمام يخطب" أي يريد ويقرب أن يخطب، يدل عليه قوله في رواية مسلم: وقد خرج الإمام، ففيه أن الأمر فيما لم يخطب بعد، وهو بصدد أن يخطب. قلت: فيه ارتكاب المجاز من غير حاجة وضرورة، فإنه لا منافاة بين اللفظين حتى يأول أحدهما إلى الآخر، فيشرع التحية لمن دخل حال كون الإمام قد خرج للخطبة شرع فيها أم لا. وفيه أيضاً أنه يقتضي جواز التحية للداخل في ابتداء قعود الإمام على المنبر، وهو خلاف مذهبهم، فإنهم صرحوا بأن خروج الإمام يقطع الصلاة والكلام، فلا يمهل الإمام اليوم أحداً أن يصلي شيئاً، ولا ينتظر له، ولا يمسك له عن الشروع في الخطبة. ومنها أن عمل أهل المدينة خلفاً عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقاً، وهذا الجواب للمالكية، وهو أقوى ما اعتمدوه في هذه المسألة، كما صرح به القرطبي وغيره. قال الحافظ: وتعقب بمنع اتفاق أهل المدينة على ذلك. فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد الخدري، روى ذلك عنه الترمذي وابن خزيمة وصححاه، وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة، وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة أيضاً، ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحاً ما يخالف ذلك. وأما ما نقله ابن بطال
رواه مسلم.
1425-
(12) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة)) .
ــ
عن عمر وعثمان واحد من الصحابة من المنع مطلقاً، فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال كقول ثعلبية بن أبي مالك: أدركت عمر وعثمان، وكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة. وجه الاحتمال أن يكون ثعلبة عنى بذلك من كان داخل المسجد خاصة. قال شيخنا الحافظ العراقي في شرح الترمذي: كل من نقل عنه يعني من الصحابة منع الصلاة، والإمام يخطب محمول على من كان داخل المسجد؛ لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية، وقد ورد فيها حديث يخصها فلا تترك بالاحتمال-انتهى. وللمانعين أجوبة أخرى مستبشعة مستكرهة لا ينبغي الاشتغال بذكرها. والصحيح عندنا ما ذهب إليه الشافعي وأحمد من أنه يشرع صلاة التحية حال الخطبة للداخل بتلك الحالة لحديث الباب، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) من طريق أبي سفيان عن جابر قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس، فقال له: يا سليك! قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما، ثم قال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب الخ. وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والدارقطني والبيهقي (ج3ص194) وأخرج مسلم أيضاً من طريق شعبة عن عمرو بن دينار عن جابر مختصراً بغير قصة سليك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين، وأخرجه البخاري والدارقطني أيضاً وقد ذكرنا لفظهما.
1425-
قوله: (من أدرك ركعة من الصلاة) قال ابن الملك: يعني صلاة الجمعة. وقال الطيبي: هذا مختص بالجمعة، بينه حديث أبي هريرة في الفصل الثالث-انتهى. وإليه يشير صنيع البغوي حيث أورد هذا الحديث في باب صلاة الجمعة. والظاهر حمله على العموم. قال البيهقي بعد روايته (ج3ص203) : قال الزهري. (راوي الحديث) والجمعة من الصلاة هذا هو الصحيح، وهو رواية الجماعة عن الزهري. وفي رواية معمر. (عن الزهري) دلالة على أن لفظ الحديث في الصلاة مطلق وأنها بعمومها تتناول الجمعة، كما تتناول غيرها من الصلوات-انتهى. قلت: ورواه الحاكم من حديث الأوزاعي وأسامة بن زيد الليثي ومالك بن أنس وصالح بن أبي الأخضر كلهم عن الزهري في الجمعة نصاً، وهذا لا ينافي الروايات المطلقة؛ لأن ذكر فرد من أفراد العام لا يقتضى نفي ما عداه، على أن ما روى في خصوص الجمعة مخدوش كله. (مع الإمام) تفرد بهذا اللفظ مسلم. (فقد أدرك الصلاة) ليس على ظاهره بالإجماع؛ لأنه لا يكون بالركعة الواحدة مدركاً لجميع الصلاة، بحيث تحصل براءة ذمته من الصلاة، فإذاً فيه إضمار، تقديره
"فقد أدرك وقت الصلاة أو حكم الصلاة" ويلزمه إتمام بقيتها. وقيل: التقدير "فقد أدرك وجوب الصلاة" يعني من لم يكن أهلاً للصلاة ثم صار أهلاً، وقد بقي من وقت الصلاة قدر ركعة أو أقل وجبت عليه الصلاة ولزمته، فهو محمول على أن معنى إدراك الصبي البلوغ والحائض الطهارة والكافر الإسلام. وقيل: التقدير "فقد أدرك فضل الصلاة" أي يحصل له أجر صلاة الجماعة وثوابها. والراجح عندنا تقدير الوقت أو الحكم، يعني مدرك الركعة مدرك لحكم الصلاة كله من سهو الإمام ولزوم الإتمام وغير ذلك، ويؤيده قوله مع الإمام. والحديث عام لكنهم حملوه على صلاة الجمعة بقرينة الحديث الآتي في آخر الباب. قال الشافعي: فقد أدرك الصلاة أي لم تفته ومن لم تفته الجمعة صلاها ركعتين. قال ابن الملك: فيقوم بعد تسليم الإمام ويصلي ركعة أخرى-انتهى. والظاهر حمله على العموم، كما تقدم، وقد ظهر من إطلاق لفظ الصلاة حكم الجمعة أن مدرك ركعة من صلاة الجمعة مع الإمام مدرك الجمعة، فيلزمه إتمامها وهو قول أكثر أهل العلم، منهم ابن مسعود وابن عمر وأنس وابن المسيب والحسن والزهري والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي حنيفة وصاحبيه، وقال عطاء وطاووس ومجاهد ومكحول: من لم يدرك الخطبة صلى أربعاً؛ لأن الخطبة شرط للجمعة، فلا تكون جمعة في حق من لم يوجد في حقه شرطها وهذا ليس بشيء؛ لأنه لم يقم دليل على اشتراط الخطبة، ولأن الحديث يرده، ولأن الأول قول من ذكرنا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم. بقي حكم من أدرك أقل من ركعة من صلاة الجمعة بأن دخل في السجدة أو التشهد قبل سلام الإمام. واختلف فيه أيضاً فذهب الحكم وحماد وأبوحنيفة وأبويوسف وداود إلى أنه يكون مدركاً للجمعة فيصلي ركعتين لا أربعاً؛ لإطلاق حديث: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. قال ابن حزم في المحلى (ج5ص74) : فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يصلي مع الإمام ما أدرك وعم عليه السلام ولم يخص، وسماه مدركاً لما أدرك من الصلاة، فمن وجد الإمام جالساً أو ساجداً فإن عليه أن يصير معه في تلك الحال ويلتزم إمامته ويكون بذلك بلا شك داخلاً في صلاة الجماعة، فإنما يقضى ما فاته ويتم تلك الصلاة ولم تفته إلا ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان فلا يصلي إلا ركعتين-انتهى. وقال الشافعي وأحمد ومالك ومحمد: من لم يدرك ركعة مع الإمام بل أدركه في السجدة أو التشهد لا يكون مدركاً للجمعة ويصلي ظهراً أربعاً، ثم اختلفوا: فقال الشافعي، كما في كتب فروعه: يتم بعد سلامه ظهراً، وينوي وجوباً في إقتداءه جمعة موافقة مع الإمام. وقال مالك: إذا قام يكبر تكبيرة أخرى. وقال الثوري: إذا أدرك الإمام جالساً لم يسلم صلى أربعاً، ينوي الظهر وأحب إلي أن يستفتح الصلاة. وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: قعد بغير تكبيرة فإذا سلم الإمام قام فكبر ودخل في صلاة نفسه، وإن قعد مع الإمام بتكبيرة سلم إذا فرغ الإمام ثم قام فكبر للظهر. وقال أحمد، كما في كتب فروعه: نوي ظهراً عند إحرامه إن كان دخل وقت الظهر، وإلا بأن لم يكن دخل وقت الظهر عند إحرامه، ونوي الجمعة فإنه يتم صلاته نفلاً، واستدل هؤلاء بحديث الباب