الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والله غني حميد)) . رواه الدارقطني.
(44) باب التنظيف والتبكير
{الفصل الأول}
1393-
(1) عن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته،
ــ
أي فليعلم أن الله مستغن عنه وعن عبادته وعن جميع عباده، وإنما أمرهم بالعبادة ليتشرفوا بالطاعة. (والله غني) بذاته. (حميد) محمود في جميع صفاته، سواء حمد أو لم يحمد، أو غني عن العباد وطاعتهم. لا يعود نفعها إليه، حميد أي حامد لمن أطاعه يثنى عليه ويشكره بإعطاء الجزيل على العمل القليل. وفي الحديث إشارة إلى قوله تعالى:{وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً، قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين} [62: 11) . (رواه الدارقطني)(ص164) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3ص184) وفيه ابن لهيعة، وهو متكلم فيه، ومعاذ بن محمد الأنصاري شيخ لابن لهيعة لا يعرف. كذا ذكر الذهبي، قاله في الجوهر النقي. وقال الحافظ في اللسان: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن عدي: منكر الحديث، ثم أخرج له من رواية ابن لهيعة عنه عن أبي الزبير عن جابر رفعه في الجمعة، وقال معاذ: غير معروف. وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري بمعناه. وفيه علي بن يزيد الألهاني.
(باب التنظيف) أي تطهير الثوب والبدن من الوسخ والدرن، ومن كماله التدهين والتطيب. (والتبكير) في النهاية: بكر بالتشديد، أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه.
1393-
قوله: (لا يغتسل) بالرفع. (ويتطهر ما استطاع من طهر) بالتنكير للمبالغة في التنظيف، أو المراد به التنظيف بأخذ الشارب والظفر والعانة والإبط، أو المراد بالغسل غسل الجسد، وبالتطهير غسل الرأس وتنظيف الثياب. (ويدهن من دهنه) بتشديد الدال بعد المثناة التحتية من باب الافتعال أي يطلى بالدهن ليزيل شعث رأسه ولحيته به. وفيه إشارة إلى التزين يوم الجمعة. (أو يمس) بفتح الياء والميم. (من طيب بيته) أي إن لم يجد دهنا. أو "أو" بمعنى الواو، فلا ينافي الجمع بينهما. وأضاف الطيب إلى البيت إشارة إلى أن السنة أن يتخذ المرء لنفسه طيبا، ويجعل استعماله له عادة، فيدخره في البيت. كذا قال الطيبي بناء على أن المراد بالبيت حقيقته، لكن في
ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى))
ــ
حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود: أو يمس من طيب امرأته، فعلى هذا فالمعنى إن لم يتخذ لنفسه طيباً فليستعمل من طيب امرأته، وهو موافق لحديث أبي سعيد عند مسلم: ولو من طيب المرأة. وفيه أن بيت الرجل يطلق، ويراد به امرأته، ذكره الحافظ في الفتح. وقال القاري: المراد بقوله من طيب بيته حقيقة بيت الرجل، وهو أعم من أن يكون متزوجاً أو عزباً، ولا ينافيه من طيب امرأته؛ لأن طيبها غالباً من عنده. ويطلق عليه..... أنه من طيب بيته، فإن الإضافة تصح لأدنى ملابسة. ولما كان طيبها غالباً متميزاً عن طيب الرجل متعيناً متبيناً لها أشار عليه السلام أنه ينبغي أن يكون للرجل طيب مختص لاستعماله، وأكد في التطيب يوم الجمعة وبالغ حتى قال: ولو من طيب المرأة. (ثم يخرج) أي إلى المسجد، كما في حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة. ولأحمد من حديث أبي الدرداء: ثم يمشي وعليه السكينة. (فلا يفرق) بتشديد الراء المكسورة. (بين اثنين) بالتخطي أو بالجلوس بينهما، ففي حديث عبد الله بن عمرو المذكور: ثم لم يتخط رقاب الناس. وفي حديث أبي الدرداء: ولم يتخط أحداً ولم يؤذه، وهو كناية عن التبكير أي عليه أن يبكر، فلا يتخطى رقاب الناس ولا يزاحم رجلين فيدخل بينهما؛ لأنه ربما ضيق عليهما خصوصاً في شدة الحر واجتماع الأنفاس. قال الزين بن المنير: التفرقة بين اثنين تتناول القعود بينهما، وإخراج أحدهما والقعود مكانه. وقد يطلق على مجرد التخطي، وفي التخطي زيادة رفع رجليه على رؤسهما أو أكتافهما، وربما تعلق بثيابهما شيء مما برجليه. وفي الحديث كراهة التفرقة بين الاثنين. والأكثر على أنها كراهة تنزيه، واختار ابن المنذر التحريم، وبه جزم النووي في زوائد الروضة. (ثم يصلي ما كتب له) أي قدر وقضي له من سنة الجمعة. فيه أن الصلاة قبل الجمعة لا حد لها، وأقله ركعتان تحية المسجد. (ثم ينصت) بضم أوله من أنصت إذا سكت سكوت مستمع. (إذا تكلم الإمام) أي شرع في الخطبة. فيه أن من تكلم حال تكلم الإمام لم يحصل له من الأجر ما في الحديث. وفيه دليل على جواز الكلام قبل تكلم الإمام. (إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) وفي رواية: ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى. وفي رواية: حط عنه ذنوب ما بينه وبين الجمعة الأخرى. تأنيث الآخر بفتح الخاء لا بكسرها. والمراد بها الجمعة التي مضت لما في حديث أبي ذر عند ابن خزيمة: غفر له ما بينه وبين الجمعة التي قبلها، ولابن حبان من حديث أبي هريرة: غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام من التي بعدها، ولأبي داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة: كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها. والمراد غفران الصغائر لما زاده في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه: ما لم تغش الكبائر. وذلك أن معنى هذه الزيادة أي فإنها إذا غشيت لا تكفر، وليس المراد أن تكفير الصغائر شرطه اجتناب الكبائر، إذ اجتناب الكبائر بمجرده يكفر الصغائر كما
رواه البخاري.
1394-
(2) وعن أبي هريرة: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اغتسل، ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له،
ــ
نطق به القرآن في قوله: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [4: 31] ، أي نمح عنكم صغائركم. ولا يلزم من ذلك أن لا يكفر الصغائر إلا اجتناب الكبائر، وإذا لم يكن للمرء صغائر تكفر رجي له أن يكفر عنه بمقدار ذلك من الكبائر، وإلا أعطي من الثواب بمقدار ذلك، وقد تبين بمجموع ما ذكر من الغسل والتنظيف إلى آخره أن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروط بوجود جميع ما تقدم من غسل وتنظف وتطيب أو دهن ولبس أحسن الثياب والمشي بالسكينة وترك التخطي والتفرقة بين الاثنين وترك الأذى والتنفل والإنصات وترك اللغو. وفي حديث عبد الله بن عمرو: فمن تخطى أو لغا كانت له ظهراً. وفي الحديث مشروعية النافلة قبل صلاة الجمعة لقوله: يصلي ما كتب له، ثم قال: ثم ينصت إذا تكلم الإمام. فدل على تقدم ذلك على الخطبة، وقد بينه أحمد من حديث نبيشة الهذلي بلفظ: فإن لم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له. واستدل به على أن التبكير ليس من ابتداء الزوال؛ لأن خروج الإمام يعقب الزوال، فلا يسع وقتاً يتنفل فيه. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي والدارمي والبيهقي (ج3ص242، 243) ولفظ النسائي: ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أمر، ثم يخرج من بيته حتى يأتي الجمعة، وينصت حتى يقضي صلاته إلا كان كفارة لما قبله من الجمعة. ورواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن نحو رواية النسائي. وقال في آخره: إلا كان كفارة لما بينه وبين الجمعة الأخرى ما اجتنبت المقتلة، وذلك الدهر كله.
1394-
قوله: (من اغتسل) أي للجمعة لحديث: إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل، أو مطلقاً. وفيه دلالة على أنه لا بد في إحرازه لما ذكر من الأجر من الاغتسال، إلا أن في الرواية الآتية بيان أن غسل الجمعة سنة وليس بواجب. وقيل: ليس فيها نفي الغسل، وقد ذكر الغسل في الرواية الأولى، فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء في الرواية الثانية لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء. (ثم أتى الجمعة) أي الموضع الذي تقام فيه الجمعة، كما يدل عليه قوله:(فصلى) أي من سنة الجمعة أو النوافل. (ما قدر له) بتشديد الدال. فيه دليل على مشروعية الصلاة قبل الجمعة، وأنه لا حد لها. وقد ورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة. ذكرها الحافظ في الفتح (ج4ص509) ، والزيلعي في نصب الراية (ج2ص206، 207) . قال الحافظ: وأقوى ما يتمسك به في مشروعية ركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعاً:
ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام)) . رواه مسلم.
1395-
(3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام.
ــ
ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان. ومثله حديث عبد الله بن مغفل: بين كل أذانين صلاة. (ثم أنصت حتى يفرغ) أي الإمام. (من خطبته) قال النووي: قوله: "حتى يفرغ من خطبته" هكذا هو في الأصول من غير ذكر الإمام، وعاد الضمير إليه للعلم به وإن لم يكن مذكوراً. (ثم يصلي معه) بالرفع عطفاً على "ثم أنصت". وفيه دليل على أن النهي عن الكلام إنما هو حال الخطبة لا بعد الفراغ منها ولو قبل الصلاة، فإنه لا نهي عنه، كما دلت عليه "حتى". (غفر له ما بينه) أي ذنوب ما بينه. (وبين الجمعة الأخرى) أي الماضية لا المستقبلة. (وفضل ثلاثة أيام) أي من التي تلي بعدها، و"فضل" مرفوع عطفاً بالواو بمعنى مع على ما في ما بينه، أي بين يوم الجمعة الذي فعل فيه ما ذكر مع زيادة ثلاثة أيام على السبعة، أي وغفرت له ذنوب ثلاثة أيام مع السبع لتكون الحسنة بعشر أمثالها. وجوز الجر في "فضل" للعطف على الجمعة، والنصب على المفعول معه. قال النووي: معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وثلاثة أيام أن الحسنة بعشر أمثالها، وصار يوم الجمعة الذي فعل فيه هذه الأفعال الجميلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشر أمثالها. والمراد بما بين الجمعتين من صلاة الجمعة وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية حتى تكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقصان، ويضم إليها ثلاثة، فتصير عشرة. قال ابن حجر: لا ينافي ما قبله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان أخبر بأن المغفور ذنوب سبعة أيام ثم زيد له ثلاثة أيام، فأخبر به إعلاما بأن الحسنة بعشر أمثالها. (رواه مسلم) وأخرج البيهقي (ج3ص243) نحوه.
1395-
قوله: (من توضأ) قد استدل به على أن غسل الجمعة سنة. قال القرطبي: ذكر الوضوء وما معه مرتباً عليه الثواب المقتضى للصحة، فدل على أن الوضوء كافٍ، وقد تقدم الجواب عنه آنفاً. (فأحسن الوضوء) أي أتى بمكملاته من سننه ومستحباته. قال النووي: معنى إحسان الوضوء الإتيان به ثلاثاً ثلاثاً. وذلك الأعضاء وإطالة الغرة، والتحجيل، وتقديم الميامن، والإتيان بسننه المشهورة. (ثم أتى الجمعة) أي أتى المسجد لصلاة الجمعة. وقال القاري: أي حضر خطبتها وصلاتها. (فاستمع وأنصت) أي سكت للاستماع، قاله السندي. وقال الرازي في تفسيره: الإنصات سكوت مع استماع. ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات. وقال العيني في شرح البخاري: الإنصات هو السكوت مع الإصغاء-انتهى. (غفر له ما بينه وبين الجمعة) السابقة وهي سبعة أيام
ومن مس الحصا فقد لغا)) . رواه مسلم.
1396-
(4) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم الجمعة، وقفت الملائكة على باب المسجد، يكتبون الأول، فالأول، ومثل المهجر
ــ
بناء على أن الحساب من وقت الصلاة إلى مثله من الثانية فبزيادة ثلاثة أيام تتم عشرة. (ومن مس الحصى) أي لتسويتها سواء مسها في الصلاة أو قبلها بطريق اللعب في حال الخطبة. (فقد لغا) أي ومن لغا فلا جمعة له، كما جاء والمراد أنه يصير محروماً من الأجر الزائد. قال النووي: فيه النهي عن مس الحصى وغيره من العبث في حال الخطبة. وفيه إشارة إلى إقبال القلب والجوارح على الخطبة. والمراد باللغو ههنا الباطل المذموم المردود-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج3ص223) .
1396-
قوله: (إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة) هم غير الحفظة، كما يدل عليه الأحاديث الواردة في فضل التبكير. والمعنى أنهم يستمرون من طلوع الفجر وهو أول اليوم شرعاً أو من طلوع الشمس، وهو أول النهار العرفي، أو من ارتفاع النهار، أو من حين الزوال. قال القاري: وهو أقرب، ورجحه أيضاً الشاه ولي الله الدهلوي في المسوى شرح الموطأ (ج1ص150) وإليه مال الشوكاني، وبه قالت المالكية، وهو وجه للشافعية والأول هو ظاهر كلام الشافعي، وصححه النووي والرافعي وغيرهما. والثاني أيضاً وجه للشافعية. والراجح عندي هو الثالث، وقد اختاره ابن رشد في البداية، وسيأتي بسط الكلام في ذلك. (على باب المسجد) وعند ابن خزيمة على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول. قال الحافظ: فكان المراد بقوله "على باب المسجد" ههنا جنس الباب، ويكون من مقابلة المجموع بالمجموع. قلت: وفي رواية للشيخين، إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة. وفي أخرى لمسلم: على كل باب من أبواب المسجد ملك يكتب. وفي رواية للنسائي: تقعد الملائكة على أبواب المسجد. وكذا في حديث أبي أمامة عند أحمد والطبراني، وحديث علي وأبي سعيد عند أحمد. (يكتبون الأول فالأول) قال الطيبي: أي الداخل الأول. والفاء فيه، و"ثم" في قوله:"ثم كالذي يهدي بقرة" كلتاهما لترتيب النزول من الأعلى إلى الأدنى، لكن في الثانية تراخ ليس في الأولى-انتهى. قال القسطلاني قال في المصابيح نصب. (أي الأول) على الحال، وجاءت معرفة، وهو قليل. (ومثل المهجر) بضم الميم وتشديد الجيم المكسورة، اسم فاعل من التهجير أي صفة المبكر إلى الجمعة. فالمراد بالتهجير التبكير أي المبادرة إلى الجمعة بعد الصبح. وقيل: المراد الذي يأتي في المهاجرة أي عند شدة الحر قرب نصف النهار، فيكون دليلاً للمالكية في قولهم: إن الساعات من حين الزوال، وإن الذهاب إلى الجمعة بعد الزوال لا قبله؛ لأن التهجير هو
كمثل الذي يهدي بدنه، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشاً، ثم دجاجة، ثم بيضة،
ــ
السير في الهاجرة أي نصف النهار. قال الحافظ: وأجيب بأن المراد بالتهجير هنا التبكير كما تقدم نقله عن الخليل في المواقيت. وقال القرطبي: الحق أن التهجير هنا من الهاجرة، وهو السير في وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، فلا حجة فيه لمالك. وقال التوربشتي: من ذهب في معناه إلى التبكير فإنه أصاب وسلك طريقاً حسناً من طريق الاتساع، وذلك أنه جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة تغليباً، بخلاف ما بعد الزوال، فإن الحر يأخذ في الانحطاط، وهذا كما يسمى النصف الأول من النهار غدوة، والآخر عشية. ومما يدل على استعمالهم التهجير في أول النهار ما أنشد ابن الأعرابي في نوادره لبعض العرب: يهجرون تهجير الفجر. (كمثل الذي يهدي) بضم أوله وكسر ثالثه أي يقرب. (بدنة) بفتحتين أي بعيراً ذكراً كان أو أنثى. والتاء للوحدة لا للتأنيث، وهو خبر عن قوله:"مثل المهجر"، والكاف لتشبيه صفة بصفة. والمعنى صفة المبكر إلى الجمعة مثل صفة الذي يتصدق بإبل متقرباً إلى الله تعالى. وقيل: المراد كالذي يهديها إلى مكة، ولا يناسبه الدجاجة والبيضة. قال الطيبي: سميت بدنة لعظم بدنها، وهي الإبل خاصة، وفي اختصاص ذكر الهدي، وهو مختص بما يهدى إلى الكعبة، إدماج لمعنى التعظيم في إنشاء الجمعات، وأن المبادر إليها كمن ساق الهدى، وأنه بمثابة الحضور في عرفات. (ثم) الثاني (كالذي يهدي بقرة) ذكرا أو أنثى. والتاء للوحدة لا للتأنيث. وفيه دليل على أن البدنة لا تشمل البقرة لتقابلها بها وإليه ذهب الشافعي، وقال أبوحنيفة: البدنة تطلق على البقر أيضاً، وإنما أريد هنا البعير خاصة لقرينة المقابلة، وهذا لا ينفي عموم الإطلاق. (ثم) الثالث كالذي يهدي. (كبشاً) بفتح الكاف وسكون الموحدة، وهو الفحل الذي يناطح، قاله في المجمع. وقال في القاموس: الكبش الحمل إذا أثنى أو إذا خرجت رباعيته. وفي ذكر الكبش، وهو الذكر، إشارة إلى أنه أفضل من الأنثى. وفي رواية: كبشاً أقرن. قال النووي: وصفه به؛ لأنه أكمل وأحسن صورة. ولأن قرنه ينتفع به. وفي رواية النسائي: ثم كالمهدي شاة، واستدل بالترتيب المذكور على أن التقرب بالإبل أفضل من التقرب بالبقر، والتقرب بالبقر أفضل من التقرب بالشاة، وهو متفق عليه في الهدي، مختلف فيه في الأضحية، والجمهور على أنها كذلك. وقال مالك: الأفضل في الضحايا الغنم ثم البقر ثم الإبل. ثم إنه وقع في رواية النسائي زيادة البطة بين الشاة والدجاجة، وهي زيادة شاذة، كما صرح به النووي في الخلاصة. (ثم) الرابع كالذي يهدي. (دجاجة) بفتح الدال في الأفصح ويجوز الكسر والضم، ودخلت الهاء فيها لأنه واحد من جنس مثل حمامة وبطة ونحوهما، ووقع في رواية أخرى للنسائي: زيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة، وهي العصفور وهي أيضاً زيادة شاذة. (ثم) الخامس كالذي يهدي. (بيضة) هي واحدة من البيض، والجمع بيوض، وجاء في الشعر بيضات، وإنما
فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر.
ــ
قدرنا الثاني، لأنه-كما قال في المصابيح-لا يصح العطف على الخبر لئلا يقعا معاً خبراً عن واحد، وهو مستحيل، وحينئذٍ فهو خبر مبتدأ محذوف مقدر بما مر. وكذا قوله:"ثم كبشاً" لا يكون معطوفاً على بقرة؛ لأن المعنى يأباه، بل هو معمول فعل محذوف دل عليه المتقدم. والتقدير-كما مر-، ثم الثالث كالذي يهدي كبشاً وكذا ما بعده، واستشكل ذكر الدجاجة والبيضة؛ لأن الهدي لا يكون منهما. وأجيب بأنه من باب المشاكلة أي من تسمية الشيء باسم قرينه. والمراد بالإهداء هنا التصدق، كما دل عليه لفظ: قرب في رواية أخرى وهو يجوز بهما. (فإذا خرج الإمام) أي من الصف إلى المنبر يعني ظهر بطلوعه على المنبر. (طووا) أي الملائكة (صحفهم) التي كتبوا فيها درجات السابقين على من يليهم في الفضيلة، قال الحافظ: وقع في حديث عمر صفة الصحف المذكورة، أخرجه أبونعيم في الحلية مرفوعاً بلفظ: إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور، وأقلام من نور-الحديث. وهو دال على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة، وظيفتهم كتابة حاضري الجمعة خاصة. والمراد بطي الصحف طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة. وإدراك الصلاة والذكر والدعاء والخشوع ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعاً. ووقع في آخر الحديث عند ابن ماجه فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء لحق الصلاة يعني فله أجر الصلاة، وليس له شيء من الزيادة في الأجر. فإن قلت: وقع في رواية للشيخين: فإذا جلس الإمام طووا الصحف فما الفرق بين الروايتين؟ قلت: بخروج الإمام يحضرون إلى المنبر من غير طي، فإذا جلس الإمام على المنبر طووها. ويقال: ابتداء طيهم الصحف عند ابتداء خروج الإمام، وانتهاؤه بجلوسه على المنبر، وهو أول سماعهم للذكر. (ويستمعون) أي الملائكة. (الذكر) أي الخطبة. قال العيني والحافظ: المراد بالذكر ما في الخطبة من المواعظ وغيرها-انتهى. وأتى بصيغة المضارع لاستحضار صورة الحال اعتناء بهذه المرتبة، وحملاً على الإقتداء بالملائكة. قال التيمي في استماع الملائكة حض على استماعها والإنصات إليها. وفي الحديث فوائد كثيرة لا تخفي على المتأمل. وقد رواه أيضاً الشيخان بلفظ: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا أخرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر. قال الحافظ: في هذا الحديث الحض على الإغتسال يوم الجمعة وفضله وفضل التبكير إليها، وأن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمعهما، وعليه ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل. وفيه أن مراتب الناس في الفضل بحسب أعمالهم. وأن القليل من الصدقة غير محتقر في الشرع. واعلم أنه اختلف العلماء في الساعات المذكورة في هذه الرواية ما المراد منها؟ واختلفوا أيضاً في أن ابتداء هذه الساعات من حين الزوال أو من قبله، فقال مالك والقاضي حسين وإمام الحرمين من الشافعية،
المراد بالساعات الخمس لحظات خفيفة لطيفة أولها زوال الشمس، وآخرها قعود الخطيب على المنبر، فالساعات الخمس المذكورة كلها في ساعة واحدة أي هي أجزاء من الساعة السادسة الزمانية بعد الزوال، ولم ير هؤلاء التبكير إلى الجمعة قبل الزوال لا من طلوع الفجر، ولا من طلوع الشمس، ولا من ارتفاع النهار. واختار هذا القول الشاه ولي الله في المسوي. ومال إليه الشوكاني في النيل. واستدل لهم بوجوه: منها لفظ: الرواح في الرواية المتقدمة، فإنه يدل على أن أول الذهاب إلى الجمعة من الزوال؛ لأن حقيقة الرواح من الزوال إلى آخر النهار، والغدو من أوله إلى الزوال. قال المازرى: تمسك مالك بحقيقة الرواح، وتجوز في الساعة، وعكس غيره. وأجيب بأن الرواح-كما قال الأزهري -: يطلق لغة على الذهاب سواء كان أول النهار أو آخره أو في الليل. قال الأزهري: وهي لغة أهل الحجاز. ونقل أبوعبيد في الغريبين نحوه. ثم إنه لم يقع التعبير بالرواح-كما قال الحافظ-إلا في رواية مالك عن سمي، ورواه ابن جريج عن سمي بلفظ: غدا. ورواه أبوسلمة عن أبي هريرة بلفظ: المتعجل إلى الجمعة. صححه ابن خزيمة، وفي حديث سمرة عند ابن ماجه: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الجمعة في التبكير كناحر البدنة الخ. وفي حديث علي عند أبي داود: إذا كانت الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق، وتغدو الملائكة فتجلس على باب المسجد، فتكتب الرجل من ساعة
…
الحديث، فدل مجموع هذه الأحاديث على أن المراد بالرواح الذهاب. وقيل: النكتة في التعبير بالرواح الإشارة إلى أن الفعل المقصود إنما يكون بعد الزوال، فيسمى الذاهب إلى الجمعة رائحاً وإن لم يجيء وقت الرواح، كما سمى القاصد إلى مكة حاجاً. ومنها لفظ المهجر فإنه مشتق من التهجير، وهو السير في وقت الهاجرة، وهي نصف النهار عند اشتداد الحر، تقول منه هجر النهار، وقد ذكر المراتب الباقية بلفظ:"ثم" من غير ذكر الساعات. وقد تقدم الجواب عن هذا. ومنها أن الساعة في اللغة الجزء من الزمان، وحملها-كما ذهب إليه الجمهور- على الزمانية التي يقسم النهار فيها إلى اثنا عشر جزء يبعد إحالة الشرع عليه لاحتياجه إلى حساب ومراجعة آلات تدل عليه. وأجيب بأن الساعة قد يطلق على جزء من أربعة وعشرين جزءاً هي مجموع اليوم والليلة. ويدل على اعتبارها في عرف الشرع ما روى أبوداود والنسائي، وصححه الحاكم من حديث جابر مرفوعاً: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة. وهذا وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد بالساعات. ومنها أن الساعة لو طلعت للزم تساوى الآتين فيها، والأدلة تقتضى رجحان السابق بخلاف ما إذا قيل: إنها لحظة خفيفة لطيفة. وأجيب بأن التساوي وقع مسمى البدنة، والتفاوت
صفاتها يعني أن بدنة الأول مثلاً أكمل من بدنة الأخير، وبدنة المتوسط متوسطة، فمراتبهم متفاوتة، وإن اشتركوا في البدنة مثلاً. ومنها عمل أهل المدينة، فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار، وأيضاً لم يعرف أن أحداً من الصحابة كان يأتي المسجد لصلاة الجمعة عند طلوع الشمس وصفائها، ولا يمكن حمل حالهم على ترك هذه الفضيلة العظيمة. وهذا يدل على أن المراد من الساعات لحظات خفيفة بعد الزوال، لا الساعات الزمانية المعروفة عند أهل الفلك وعلم الميقات. وأجيب بأن عمل أهل المدينة ليس بحجة، كما تقرر في موضعه، وأيضاً ليس في عمل أهل المدينة هذا إلا ترك الرواح إلى الجمعة من أول النهار، وهذا جائز بالضرورة. وقد يكون اشتغال الرجل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار. وترك أهل المدينة وغيرهم ذلك لا يدل على أنه مكروه. وقال القاري: وقد كان السلف يمشون على السرج يوم الجمعة إلى الجامع. وفي الإحياء وأول بدعة حدثت في الإسلام ترك التبكير إلى المساجد-انتهى. وقد أنكر عمر على عثمان ترك التبكير بمحضر من الصحابة، وكبار التابعين من أهل المدينة. وهذا يرد على من ادعى إجماع أهل المدينة على ترك التبكير. ومنها أن حملها على الساعات الفلكية يستلزم صحة صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن تقسيم الساعات إلى خمس، ثم تعقيبها بخروج الإمام وخروجه عند أول الزوال يقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة، وهي قبل الزوال. وقد أجاب عنه الحافظ بأنه ليس في شيء من طرق هذا الحديث ذكر الإتيان من أول النهار، فلعل الساعة الأولى منه جعلت للتأهب بالاغتسال وغيره، ويكون مبدأ المجيء من أول الثانية، فهي أولى بالنسبة إلى المجيء ثانية بالنسبة للنهار. وعلى هذا فآخر الخامسة أول الزوال. وإلى هذا أشار الصيدلاني شارح المختصر حيث قال: إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار، وهو أول الضحى، وهو أول الهاجرة. ويؤيده الحث على التهجير إلى الجمعة. وحمل الجمهور الساعات المذكورة في الحديث على الساعات الزمانية. كما في سائر الأيام. وقد تقدم حديث جابر مرفوعاً: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة. والمراد بها الساعات الآفاقية التي لا يختلف عددها بطول النهار وقصره، فالنهار اثنتا عشرة ساعة، لكن يزيد كل منها وينقص، والليل كذلك. ثم اختلفوا فقالت طائفة منهم: ابتداء هذه الساعات من طلوع الشمس، والأفضل عندهم التبكير في ذلك الوقت إلى الجمعة، وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد. قال الماوردي: إنه الأصح ليكون قبل ذلك من طلوع الفجر زمان غسل وتأهب. وقال الروياني: إن ظاهر كلام الشافعي أن التبكير يكون من طلوع الفجر، وصححه الروياني، وكذلك صاحب المهذب قبله، ثم الرافعي والنووي. وحكى الصيدلاني أن أول التبكير من ارتفاع
متفق عليه.
1397-
(5) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب،
ــ
النهار، وهو أول الضحى، وهو أول الهاجرة. قلت: وهذا القول هو الراجح عندي، وبه تجتمع الأحاديث، وبه يرتفع الإشكال الذي يرد على مذهب مالك. وسيأتي ذكره في كلام النووي. ويؤيد هذا القول الحث على التهجير إلى الجمعة، فقد تقدم في كلام القرطبي أن التهجير هنا من الهاجرة، وهو السير في وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده-انتهى. ومن المعلوم أن اشتداد الحر يكون من ربع النهار غالباً، فمن راح إلى الجمعة في هذا الوقت أي عند ارتفاع النهار يعني في أول الضحى وأول الهاجرة صدق عليه الألفاظ الواردة في الأحاديث التي أشرنا إليها، وهي المتعجل والتبكير والغدو والرواح والتهجير. قال النووي: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملائكة تكتب من جاء في الساعة الأولى، وهو كالمهدي بدنة، ثم من جاء في الساعة الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، فإذا خرج الإمام طووا الصحف، ولم يكتبوا بعد ذلك أحداً. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الجمعة متصلاً بعد الزوال، فدل على أنه لا شيء من الهدي والفضيلة لمن جاء بعد الزوال، وكذا ذكر الساعات إنما كان للحث على التبكير إليها، والترغيب في فضيلة السبق، وتحصيل الصف الأول، وانتظارها بالاشتغال بالتنفل والذكر ونحوه. وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال، ولا فضيلة لمن أتى بعد الزوال؛ لأن النداء يكون حينئذٍ، ويحرم التخلف بعد النداء-انتهى. هذا. وقد بسط ابن القيم الكلام على ذلك في الهدي (ج1ص110- 112) ورجح قول من قال: إن ابتداء الساعات من أول النهار. من شاء البسط رجع إليه. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب الاستماع إلى الخطبة من كتاب الجمعة. وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي وغيرهم.
1397-
قوله: (إذا قلت) بلفظ الخطاب. (لصاحبك) الذي تخاطبه إذ ذاك أو جليسك. وإنما ذكر الصاحب لكونه الغالب. (يوم الجمعة) فيه دلالة على أن الخطبة غير الجمعة ليست مثلها ينهى عن الكلام حالها. قال الحافظ: قوله. (يوم الجمعة) مفهومة أن غير يوم الجمعة بخلاف ذلك، وفيه بحث-انتهى. (أنصت) أي أسكت عن الكلام مطلقاً واستمع للخطبة. وقال ابن خزيمة: المراد بالإنصات السكوت عن مكالمة الناس دون ذكر الله. قال الحافظ: وتعقب بأنه منه جواز القراءة والذكر حال الخطبة، فالظاهر أن المراد السكوت مطلقاً، ومن فرق احتاج إلى دليل. ولا يلزم من تجويز التحية لدليلها الخاص جواز الذكر مطلقاً. (والإمام يخطب) جملة
فقد لغوت)) .
ــ
حالية مشعرة بأن ابتداء الإنصات من الشروع في الخطبة. ففيه دليل على أنه يختص النهي بحال الخطبة، ورد على من جعل وجوب الإنصات، والنهي عن الكلام من حال خروج الإمام. نعم الأولى والأحسن الإنصات. (فقد لغوت) أي ومن لغا فلا أجر له، فإذا كان هذا القدر مبطلاً للأجر مع أنه أمر بالمعروف، فكيف ما فوقه، واختلفوا في معنى قوله:"لغوت" فقال الأخفش: اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه. وقال ابن عرفة: اللغو السقط من القول. وقيل: الميل عن الصواب. وقيل: اللغو الإثم، كقوله تعالى:{وإذا مروا باللغو مروا كراماً} [72:25] . وقال الباجي: اللغو رديء الكلام وما لا خير فيه. وقال المجد: اللغو واللغى، كالفتي، السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره. وقال الزين بن المنير: اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام. وقال النضر بن شميل: معنى لغوت خبت من الأجر. وقيل: بطلت فضيلة جمعتك. وقيل: صارت جمعتك ظهراً. قال الحافظ: أقوال أهل اللغة متقاربة المعنى. ويشهد للقول الأخير ما رواه أبوداود وابن خزيمة والبيهقي (ج3:ص231) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً. قال ابن وهب أحد رواته: أجزأت عنه الصلاة، وحرم فضيلة الجمعة. ولأحمد من حديث علي مرفوعاً: من قال صه فقد تكلم، ومن تكلم فلا جمعة له. ولأبي داود ونحوه. ولأحمد والبزار من حديث ابن عباس مرفوعاً: من تكلم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فهو كالحمار يحمل أسفاراً. والذي يقول له أنصت ليست له جمعة. وله شاهد قوي في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفاً. قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه-انتهى. واستدل بالحديث على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة؛ لأنه إذا جعل قوله: "أنصت" مع كونه أمراً بمعروف لغواً فغيره من الكلام أولى أن يسمى لغواً، ويؤيده حديثاً علي وابن عباس المتقدمان في كلام الحافظ لإطلاق الكلام فيهما، وعدم الفرق بين ما لا فائدة فيه وغيره. والمسألة مختلف فيها عند الأئمة، فقال الشافعية: يكره الكلام حال الخطبة من إبتدائها لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [204:7] . وقد ذكر كثير من المفسرين أنه نزل في الخطبة، وسميت قرآناً لاشتمالها عليه، ولحديث أبي هريرة الذي نحن بصدد شرحه. ولا يحرم للأحاديث الدالة على ذلك كحديث أنس المروي في الصحيحين في قصة السائل في الاستسقاء، وكحديث أنس أيضاً المروي بسند صحيح عند البيهقي في قصة السائل عن وقت الساعة. وجه الدلالة أنه لم ينكر عليهما الكلام، ولم يبين لهما وجه السكوت، والأمر في الآية للندب، ومعنى "لغوت" تركت الأدب جمعاً بين الأدلة. قال العيني: وفي التوضيح والجديد الصحيح من مذهب الشافعي أنه لا يحرم الكلام، ويسن الإنصات، وبه قال الثوري وداود. والقديم أنه يحرم، وبه قال مالك والأوزاعي
وأبوحنيفة وأحمد-انتهى. وقال الحافظ: للشافعي في المسألة قولان مشهوران، وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف في أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ فعلى الأول يحرم لا على الثاني، والثاني هو الأصح. فمن ثم أطلق من أطلق إباحة الكلام. وعن أحمد أيضاً روايتان. واختلفوا فيمن كان به صمم أو بعد عن الإمام بحيث لا يسمع، فقال المالكية: يحرم الكلام عليه أيضاً لعموم وجوب الإنصات، وعن أحمد والشافعي التفرقة بين من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها، قال العيني: نقل ابن بطال: أن أكثر العلماء أن الإنصات واجب على من سمعها ومن لم يسمعها وأنه قول مالك، وكان عروة لا يرى بأساً بالكلام إذا لم يسمع الخطبة. وقال أحمد: لا بأس أن يذكر الله ويقرأ من لم يسمع الخطبة. قال العيني: واختلف المتأخرون. (أي من الحنفية) فيمن كان بعيد لا يسمع الخطبة، فقال محمد بن سلمة: المختار السكوت، وهو الأفضل. وقال نصر بن يحيى: يسبح ويقرأ القرآن، وهو قول الشافعي. وأجمعوا أنه لا يتكلم. وقيل: الاشتغال بالذكر وقراءة القرآن أفضل من السكوت-انتهى. قال الحافظ: ويدل على الوجوب في السامع أن في حديث علي المشار إليه: ومن دنا فلم ينصت كان عليه كفلان من الوزر، ولأن الوزر لا يترتب على من فعل مباحاً ولو كان مكروها كراهة تنزيه. وأما ما استبدل به من أجاز مطلق من قصة السائل في الاستسقاء ونحو ففيه نظر؛ لأنه استدل بالأخص على الأعم، فيمكن أن يخص عموم الأمر بالإنصات بمثل ذلك كأمر عارض في مصلحة عامة كما خص بعضهم منه رد السلام بوجوبه. ونقل صاحب المغني الإتفاق على أن الكلام الذي يجوز في الصلاة يجوز في الخطبة كتحذير الضرير من البئر. وعبارة الشافعي: وإذا خاف على أحد لم أر بأساً إذا لم يفهم عنه بالإشارة أن يتكلم-انتهى. وأجيب أيضاً عن حديث أنس في قصة الاستسقاء وما في معناه بأنه غير محل النزاع؛ لأن محل النزاع الإنصات والإمام يخطب. وأما سؤال الإمام وجوابه فهو قاطع لكلامه، فيخرج عن ذلك. واختلف في رد السلام وتشميت العاطس، وتحميد العاطس، فرخص فيه أحمد والشافعي وإسحاق. قال الشافعي في الأم: ولو سلم رجل على رجل يوم الجمعة كرهت ذلك له، ورأيت أن يرد عليه بعضهم؛ لأن رد السلام فرض، وقال أيضاً ولو عطس رجل يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه؛ لأن التشميت سنة-انتهى. وقال ابن الهمام: يكره تشميت العاطس ورد السلام، وهل يحمد إذا عطس؟ الصحيح نعم في نفسه، وذكر العيني عن أبي حنيفة إذا سلم عليه يرده بقلبه، وعن أبي يوسف: يرد السلام، ويشمت العاطس فيها، وعن محمد: يرد ويشمت بعد الخطبة ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه-انتهى. وفي المدونة قال مالك فيمن عطس والإمام يخطب. فقال: يحمد الله في نفسه سراً ولا يشمت أحد العاطس-انتهى. واختلفوا في وقت الإنصات، فقال أبوحنيفة: خروج الإمام يقطع الصلاة والكلام جميعاً لما روى الطبراني
متفق عليه.
1398-
(6) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف
ــ
في الكبير من حديث ابن عمر رفعه. إذا دخل أحدكم المسجد، والإمام على المنبر، فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام، وهو حديث ضعيف فيه أيوب بن نهيك، وهو منكر الحديث، قاله أبوزرعة وأبوحاتم، ذكره الحافظ. وقال الهيثمي: هو متروك ضعفه جماعة. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ. وقال طائفةك لا يجب الإنصات إلا عند إبتداء الخطبة، ولا بأس بالكلام قبلها، وهو قول مالك والثوري وأبي يوسف ومحمد والشافعي. قلت: والراجح عندي في المسائل المذكورة أن السكوت في حال الخطبة واجب والكلام حرام، هذا فيمن يدنو من الإمام ويسمع الخطبة. وأما من كان بعيداً عنه، ولا يسمع الخطبة، أو كان به صمم، فالسكوت في حقه أحوط، ويجوز تشميت العاطس ورد السلام سراً في النفس، وكذا الحمد عن العطسة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكره الإشارة بالرأس أو باليد أو بالعين لإزالة منكر أو جواب سائل. ووقت الإنصات هو ابتداء الخطبة والشروع فيها لا خروج الإمام. هذا ما عندي. والله تعالى أعلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص218، 219) وغيرهم في الباب عن جماعة من الصحابة ذكرهم العيني (ج6:ص240) .
1398-
قوله: (لا يقيمن أحدكم أخاه) قال الحافظ: هذا لا مفهوم له، بل ذكر لمزيد التنفير عن ذلك لقبحه؛ لأنه إن فعله من جهة الكبر كان قبيحاً، فإن فعله من جهة الأشرة كان أقبح. (يوم الجمعة) فيه أن النهي المذكور مقيد بيوم الجمعة، وقد ورد ذلك بلفظ العموم، كما في حديث ابن عمر الآتي في الفصل الثالث من هذا الباب. قال الشوكاني: ذكر يوم الجمعة في حديث جابر من باب التنصيص على بعض أفراد العام، لا من باب التقييد للأحاديث المطلقة، ولا من باب التخصيص للمعلومات، فمن سبق إلى موضع مباح، سواء كان مسجداً أو غيره في يوم جمعة، أو غيرها، لصلاة أو لغيرها من الطاعات، فهو أحق به، ويحرم على غيره إقامته منه، والقعود فيه، إلا أنه يستثنى من ذلك الموضع الذي قد سبق لغيره فيه حق كان يقعد رجل في موضع، ثم يقوم منه لقضاء حاجة من الحاجات، ثم يعود إليه، فإنه أحق به ممن قعد فيه بعد قيامه؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد ومسلم مرفوعاً بلفظ: إذا قام أحدكم من مجلسه، ثم رجع إليه، فهو أحق به، ولحديث وهب بن حذيفة عند أحمد والترمذي رفعه: الرجل أحق بمجلسه وإن خرج لحاجته ثم عاد فهو أحق بمجلسه. قال الشوكاني: وظاهرهما عدم الفرق بين المسجد وغيره. ويجوز له إقامة من قعد فيه، وقد ذهب إلى ذلك الشافعية (ثم يخالف) قال القاري بالرفع.