المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌{الفصل الأول} 1342- (1) عن أنس: ((أن رسول الله صلى الله - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٤

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(24) باب تسوية الصف

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(25) باب الموقف

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(26) باب الإمامة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(27) باب ما على الإمام

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(28) باب ما على المأموم من المتابعة وحكم المسبوق

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(29) باب من صلى صلاة مرتين

- ‌{الفصل الأول}

- ‌((الفصل الثاني))

- ‌((الفصل الثالث))

- ‌(30) باب السنن وفضائلها

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(31) باب صلاة الليل

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(32) باب ما يقول إذا قام من الليل

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(33) باب التحريض على قيام الليل

- ‌{الفصل الأول}

- ‌((الفصل الثاني))

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(34) باب القصد في العمل

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(35) باب الوتر

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(36) باب القنوت

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(37) باب قيام شهر رمضان

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(38) باب صلاة الضحى

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(39) باب التطوع

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌(40) باب صلاة التسبيح

- ‌(41) باب صلاة السفر

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(42) باب الجمعة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(43) باب وجوبها

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(44) باب التنظيف والتبكير

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(45) باب الخطبة والصلاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

الفصل: ‌ ‌{الفصل الأول} 1342- (1) عن أنس: ((أن رسول الله صلى الله

{الفصل الأول}

1342-

(1) عن أنس: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى العصر بذي الحليفة

ركعتين)) . متفق عليه.

ــ

ليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت مصره أو قريته ويخلفها وراء ظهره، قال: وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد والشافعي وأبوإسحاق وأبوثور. وعن عطاء أنه كان يبيح القصر في البلد لمن نوى السفر. وعن الحارث ابن أبي ربيعة أنه أراد سفراً، فصلى بالجماعة في منزله ركعتين وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبد الله، وعن عطاء أنه قال: إذا دخل وقت صلاة بعد خروجه من منزله قبل أن يفارق بيوت المصر يباح له القصر- انتهى مختصراً. وفي رواية عن مالك أنه قال: لا يقصر إذا كانت قرية جامعة حتى يكون منها بنحو ثلاثة أميال، وبقول الجمهور قال أبوحنيفة وأصحابه وهو الراجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصر في سفره من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة، ولأن الرجل لا يكون ضارباً في الأرض حتى يخرج. وأما الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أن يقصر فاختلفوا فيه جداً، إلا أن الأشهر منها أربعة أقوال: أحدها مذهب مالك والشافعي: أنه إذا أزمع المسافر على إقامته أربعة أيام أتم، والثاني مذهب أبي حنيفة والثوري أنه إذا أزمع على إقامته خمسة عشر يوماً أتم. والثالث مذهب أحمد وداود: أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم. والرابع مذهب إسحاق بن راهويه: إنه إذا أزمع على أكثر من تسعة عشر يوماً أتم. فمدة القصر عند مالك والشافعي ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج، وعند أبي حنيفة أربعة عشر يوماً، وعند أحمد أربعة أيام وعند إسحاق تسعة عشر يوماً. والراجح عندي: ما ذهب إليه أحمد والله تعالى أعلم.

1342-

قوله: (صلى الظهر بالمدينة) أي في يوم الذي أراد فيه الخروج إلى مكة للحج أو العمرة. (أربعاً) أي أربع ركعات. (وصلى العصر بذي الحليفة) بضم المهملة وفتح اللام، تصغير حلفة. و"ذو حليفة" موضع على ثلاثة أميال من المدينة على الأصح، وهو ميقات أهل المدينة المشهور الآن ببئر علي. (ركعتين) قصراً؛ لأنه كان في السفر. والحديث دليل على أن من أراد السفر لا يقصر حتى يبرز من البلد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصر حتى خرج من المدينة. واستدل به على استباحة قصر الصلاة في السفر القصير؛ لأن بين المدينة وذي الحليفة ثلاثة أميال. وقيل: ستة أميال. وقيل: سبعة. وتعقب بأن ذا الحليفة لم تكن منتهى السفر وغايته، وإنما خرج إليها حيث كان قاصداً مكة فاتفق نزوله بها، وكانت أول صلاة حضرت بها العصر فقصرها، واستمر يقصر إلى أن رجع. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص145، 146) .

ص: 382

1343-

(2) وعن حارثة بن وهب الخزاعي، قال: ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أكثر ما كنا قط

وآمنه بمنى، ركعتين))

ــ

1343-

قوله: (وعن حارثة) بالحاء المهملة والمثلثة. (بن وهب) بفتح الواو وسكون الهاء. (الخزاعي) بضم الخاء المعجمة، نسبة إلى خزاعة، وحارثة هذا أخو عبيد الله بن عمر الخطاب لأمه، صحابي نزل الكوفة، وكان عمر زوج أمه أم كلثوم بنت جرول بن المسيب الخزاعية. (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن أكثر من كنا) برفع "أكثر" على أنه خبر نحن، و"ما" مصدرية، ومعناه الجمع؛ لأن ما أضيف إليه أفعل التفضيل يكون جمعاً. (قط) بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة في أفصح اللغات، ظرف بمعنى الدهر والزمان، متعلق بـ"كنا". ويختص بالماضي المنفي في الغالب الشائع، وربما استعمل بدون المنفي، كما في هذا الحديث وله نظائر. (وآمنه) بالرفع عطف على "أكثر" وقط مقدر ههنا، والضمير فيه راجع إلى "ما كنا". والواو في "ونحن" للحال المعترضة بين "صلى" ومعموله وهو. (بمنى) بكسر الميم والألف، منصرفاً وفي بعض النسخ: بمنى بالياء غير منصرف، وهو يذكر ويؤنث، فإن قصد الموضع فمذكر، ويكتب بالألف وينصرف، وإن قصد البقعة فمؤنث، ولا ينصرف ويكتب بالياء، والمختار تذكيره، وسمي بذلك لكثرة ما يمنى فيه أي يراق من الدماء. (ركعتين) أي في حجة الوداع. والمعنى صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، والحال أنا في ذلك الوقت أكثر أكواننا في سائر الأوقات عدداً، وأكثر أكواننا في سائر الأوقات أمناً. وإسناد الأمن إلى الأوقات مجاز، كذا قاله الطيبي. ويجوز أن تكون "ما" نافيه خبر المبتدأ الذي هو نحن و"أكثر" منصوباً على أنه خبر كان. ويجوز إعمال ما في ما قبلها إذا كانت بمعنى ليس، فكما يجوز تقديم خبر ليس عليه يجوز تقديم خبر ما في معناه عليه. والتقدير ونحن ما كنا قط أكثر منا في هذا الوقت ولا آمن منا فيه، وفي الحديث دليل على جواز القصر في السفر من غير خوف، ورد على من زعم أن القصر مختص بالخوف. وللحديث شاهد من حديث ابن عباس عند الترمذي وصححه، والنسائي بلفظ: خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله يصلي ركعتين، والذي قال إن القصر مختص بالخوف تمسك بقوله تعالى:{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذي كفروا} [101:4] . ولم يأخذ الجمهور بهذا المفهوم. فقيل: لأن شرط مفهوم المخالفة أن لا يكون خرج مخرج الغالب، والشرط هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك الخوف في الأسفار. وقيل: هو من الأشياء التي شرع الحكم فيها بسبب، ثم زال السبب، وبقي الحكم كالرمل. وقيل: القصر مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم من القصر مع الأمن. قال

ص: 383

الخطابي في المعالم (ج2:ص211) : ليس في قوله: صلى بنا، دليل على أن المكي يقصر الصلاة بمنى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسافراً بمنى، فصلى صلاة المسافر، ولعله لو سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاته لأمره بالإتمام، وقد يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان بعض المأمور في بعض المواطن اقتصاداً على ما تقدم من البيان السابق خصوصاً في مثل هذا الأمر الذي هو من العلم الظاهر العام، وكان عمر بن الخطاب يصلي بهم فيقتصر، فإذا سلم التفت إليهم، وقال أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر-انتهى. قلت: اتفق الأئمة على أن الحاج القادم مكة يقصر الصلاة بها وبمنى وسائر المشاهد؛ لأنه عندهم في سفر؛ لأن مكة ليست دار إقامة إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكذلك منى وعرفات والمزدلفة. واختلفوا في صلاة المكي بمنى وغيرها من المشاهد، فقال مالك: يتم بمكة ويقصر بمنى، وكذلك أهل منى يتمون بمنى ويقصرون بمكة وعرفات، قال: وهذه المواضع مخصوصة بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصر بعرفة لم يميز من وراءه، ولا قال لأهل مكة: أتموا، وهذا موضع بيان، وممن روى عنه أن المكي يقصر بمنى ابن عمر وسالم والقاسم وطاووس، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، وقالوا: إن القصر سنة الموضع، وإنما يتم بمنى وعرفات من كان مقيماً فيها. وقال أكثر أهل العلم: منهم عطاء والزهري والثوري والكوفيون وأبوحنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وأبوثور: ولا يقصر الصلاة أهل مكة بمنى وعرفات؛ لانتفاء مسافة القصر. وحاصل مذهب مالك، كما يدل عليه كلامه في الموطأ، أن القصر عنده لأجل النسك بشرط السفر، لكن لا للسفر الشرعي، بل لمطلق السفر، ولذلك يتم عنده أهل مكة ومنى وعرفة والمزدلفة في أمكنتهم، ويقصرون في غيرها، وضابطه عنده أن أهل كل مكان يتمون به ويقصرون فيما سواه، خلافاً للأئمة الثلاثة، فإن القصر عندهم للسفر الشرعي، فلا يقصر في هذه الأمكنة إلا من كان مسافراً شرعياً. قال ابن المنير المالكي: السر في القصر في هذه المواضع المتقاربة إظهاراً لله تعالى تفضله على عباده، حيث اعتد لهم بالحركة القريبة اعتداده في السفر البعيد، فجعل الوافدين من عرفة إلى مكة كأنهم سافروا إليها ثلاثة أسفار سفر إلى مزدلفة، ولهذا يقصر أهل مكة بمنى، فهي على قربها من عرفة معدودة بثلاث مسافات، كل مسافة منها سفر طويل. وسر ذلك-والله أعلم- أنهم كلهم وفد، وإن القرب كالبعيد في إسباغ الفضل، ذكره القسطلاني. وقال الباجي: إن أهل مكة إذا حجوا اقتضى ذلك بلوغاً إلى عرفة، ورجوعاً إلى مكة، ولو كان منتهى سفرهم عرفة لما قصروا الصلاة، واحتسب في هذا السفر بالذهاب والمجيء؛ لأن من خرج من مكة إلى عرفة محرماً بالحج فلا بد له من الرجوع إلى مكة بحكم الإحرام الذي دخل فيه؛ لأنه لا يصح أن يتم عمله الذي دخل فيه إلا بالرجوع إلى مكة. وأما سائر الأسفار فإن نوى فيه المسير والمجيء فإنه لا يلزمه الرجوع، وله أن يقيم في منتهى سفره، أو يمضي منه إلى موضع سواه. فالواجب على أهل مكة إذا خرجوا للحج أن يصلوا ركعتين حتى ينصرفوا إلى مكة، وذلك يقتضي أن يصلوا

ص: 384

متفق عليه.

1344-

(3) وعن يعلى بن أمية، قال. ((قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله تعالى: {أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقد أمن الناس. قال عمر:

ــ

ركعتين في البداءة والعودة، ويصلون كذلك بعرفة والمزدلفة وغيرهما- انتهى بتغير يسير. وقال بعض المالكية: لو لم يجز لأهل مكة القصر بمنى لقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أتموا، وليس بين مكة ومنى مسافة القصر، فدل على أنهم قصروا للنسك. وأجيب بأن الترمذي روى من حديث عمران بن حصين أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة ركعتين، ويقول: يا أهل مكة! أتموا، فإنا قوم سفر، وكأنه ترك إعلامهم بذلك بمنى استغناء بما تقدم بمكة. قال الحافظ: وهذا ضعيف؛ لأن الحديث من رواية علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، ولو صح فالقصة كانت في الفتح، وقصة منى في حجة الوداع، وكان لا بد من بيان ذلك لبُعد العهد-انتهى. قلت: روى البيهقي (ج3:ص135، 136) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة قال: سأل شاب عمران بن حصين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر. فقال: إن هذا الفتى يسألني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فاحفظوهن عني، ما سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً قط إلا صلى ركعتين حتى يرجع، وشهدت معه حنين والطائف فكان يصلي ركعتين، ثم حجت معه واعتمرت فصلى ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة! أتموا الصلاة، فإنا قوم سفر-الحديث. وفيه نص على أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في الحج أيضاً، ورد على ما قيل: إن القصة لم تكن إلا في الفتح. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبودواد في الحج والنسائي في الصلاة والبيهقي (ج3:ص134، 135) .

1344-

قوله: (قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله تعالى: أن تقصروا) وفي صحيح مسلم: قلت لعمر بن الخطاب: {ليس عليكم جناح أن تقصروا} [101:4] أي وإذا ضربتم في الأرض أي سافرتم فليس عليكم جناح، أي وزر وحرج أن تقصروا بضم الصاد أي في أن تقصروا أي في القصر، وهو خلاف المد، يقال: قصرت الشيء أي جعلته قصيراً يحذف بعض أجزاءه فمتعلق القصر جملة الشيء لا بعضه، فإن البعض متعلق الحذف دون القصر. فحينئذٍ قوله:(من الصلاة) ينبغي أن يكون مفعولاً لتقصروا على زيادة من حسب ما رآه الأخفش. وأما على رأي غيره من عدم زيادتها في الإثبات. فتجعل تبعيضية، ويراد بالصلاة الجنس، ليكون المقصور بعضاً منها، وهو الرباعيات، قاله أبوالسعود. (إن خفتم أن يفتنكم) أي ينالكم بمكروه. (الذين كفروا، فقد أمن الناس) أي وذهب الخوف، فما بالهم يقصرون الصلاة، أو فما وجه القصر؟. (قال عمر) وفي صحيح

ص: 385

عجبت ما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته))

ــ

مسلم: فقال بزيادة الفاء وحذف الفاعل. (عجبت مما عجبت) أنت. (فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي عن ذلك كما في مسلم. (فقال: صدقة) أي قصر الصلاة في السفر صدقة. (تصدق الله) أي تفضل. (بها عليكم) أي توسعة ورحمة. قال السندي: أي شرع لكم ذلك رحمة عليكم، وإزالة للمشقة نظراً إلى ضعفكم وفقركم. وهذا المعنى يقتضي أن ما ذكر فيه من القيد فهو اتفاق، ذكره على مقتضى ذلك الوقت، وإلا فالحكم عام، والقيد لا مفهوم له. ولا يخفى ما في الحديث من الدلالة على اعتبار المفهوم في الأدلة الشرعية، وأنهم كانوا يفهمون ذلك، ويرون أنه الأصل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قررهم على ذلك، لكن بيّن أنه قد لا يكون معتبراً أيضاً بسبب من الأسباب، فإن قلت: يمكن التعجب مع عدم اعتبار المفهوم أيضاً بناء على أن الأصل هو الإتمام لا القصر، وإنما القصر رخصة جاءت مقيدة للضرورة، فعند انتفاء القيد مقتضى الأدلة هو الأخذ بالأصل، قلت: هذا الأصل إنما يعمل به عند انتفاء الأدلة. وأما مع وجود فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخلافه فلا عبرة به، ولا يتعجب من خلافه، فليتأمل- انتهى كلام السندي. (فاقبلوا صدقته) أي سواء حصل الخوف أم لا، وإنما قال في الآية. {إن خفتم} ؛ لأنه قد خرج مخرج الأغلب لكون أغلب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم تخل من خوف العدو لكثرة أهل الحرب إذ ذاك فحينئذٍ لا تدل الآية على عدم القصر إن لم يكن خوف؛ لأنه بيان للواقع إذ ذاك فلا مفهوم له. قال ابن القيم: قد أشكلت الآية على عمر وغيره، فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من الله، وشرع شرعة للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف. وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له- انتهى. وقد احتج بالحديث لمن قال بأن القصر رخصة، والإتمام أفضل. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص261) : في هذا حجة لمن ذهب إلى أن الإتمام هو الأصل، ألا ترى أنهما (أي يعلى بن أمية وعمر) قد تعجبا من القصر مع عدم شرط الخوف، فلو كان أصل صلاة المسافر ركعتين لم يتعجبا من ذلك، فدل على أن القصر إنما هو عن أصل كامل قد تقدمه، فحذف بعضه، وأبقى بعضه. وفي قوله:"صدقة تصدق الله بها عليكم" دليل على أنه رخصة رخص لهم فيها، والرخصة إنما تكون إباحة لا عزيمة- انتهى. وأجيب عن ذلك بأن الأمر بقبولها يقتضي وجوب القبول، وأنه لا محيص عنها، فإن أصل الأمر للوجوب، فلا يبقى له خيار الرد شرعاً، وجواز الإتمام رد لها لا قبول، على أن الصدقة من الله تعالى فيما لا يحتمل التمليك عبارة عن الإسقاط، فلا يحتمل اختيار القبول وعدمه. وأيضاً العبد فقير فإعراضه عن صدقة ربه يكون قبيحاً، ويكون من قبيل {أن رآه استغنى} . وفي رد صدقة أحد عليه من التأذى عادة ما لا يخفى فهذه من أمارات الوجوب، ويوافقه حديث: أنها تمام غير قصر. واحتج لهم أيضاً بقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [101:4]

ص: 386

فإن نفي الجناح لا يدل على العزيمة، بل على الرخصة، وعلى أن الأصل التمام، والقصر إنما يكون عن شيء أطول منه. وأجيب عنه بوجوه: منها أن الآية وردت في قصر صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء، وترك القيام إلى الركوب في الخوف. فالمراد بالقصر في الآية إدخال التخفيف في كيفية أداء الركعات في الخوف دون القصر في عدد الركعات في صلاة السفر. ومنها أن المراد بالقصر في الآية القصر في كمية الركعات وعددها، وبالصلاة صلاة الخوف لا صلاة المسافر. فالآية نزلت في قصر العدد في صلاة الخوف لا في صلاة السفر. ومنها أنه إنما أتى بهذه العبارة؛ لأن المسلمين لكمال ولعهم بالعبادة وتكثيرها وأدائها بالتمام كأنهم كانوا يتحرجون في القصر، وكانوا يعدونه جناحاً فقال:{ليس عليكم جناح أن تقصروا} ولا حرج، فإن الركعتين في حكم الأربعة كما قال الذين ذهبوا إلى وجوب السعي بين الصف والمروة في قوله تعالى:{فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [158:2] وقال ابن القيم في الهدي (ج1 ص131) : وقد يقال: إن الآية اقتضت قصر يتناول قصر الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين. وقيد ذلك بأمرين: الضرب بالأرض، والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصران، فيصلون صلاة الخوف، مقصورة عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران، فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفر والأمن قصر العدد، واستوفى الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة باعتبار تمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية. والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني يدل عليه كلام الصحابة كعائشة وابن عباس وغيرهما. قالت عائشة: فرضت الصلاة ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر. فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. وقال عمر بن الخطاب: صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه، وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما بالنا نقصر؟ وقد أمنا؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته. ولا تناقض بين حديثيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم، ودينه اليسر السمح، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد، كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر. وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 387

رواه مسلم.

1345-

(4) وعن أنس، قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين

ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة، قيل له: أقمتم بمكة شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً))

ــ

يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين، ولم يربع قط إلا شيئاً فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك ونبين ما فيه- انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد والترمذي في تفسير وأبوداود والنسائي وابن ماجه في الصلاة والبيهقي (ج3 ص134-141) وغيرهم.

1345-

قوله: (من المدينة) أي متوجهين (إلى مكة) أي للحج كما في رواية لمسلم. (فكان يصلي) أي الرباعية. (ركعتين ركعتين) أي كل رباعية ركعتين. (قيل له) أي لأنس. والقائل أي السائل هو يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي الراوي عن أنس كما صرح به في رواية للبخاري في الصلاة. (أقمتم) بحذف همزة الاستفهام وفي رواية أبي داود: هل أقمتم. (شيئاً) أي من الأيام. (قال) أي أنس. (أقمنا بها) أي بمكة وبضواحيها. (عشراً) أي عشرة أيام، وإنما حذفت التاء من العشرة مع أن اليوم مذكر؛ لأن المميز إذا لم يذكر جاز في العدد التذكير والتأنيث. ولا يعارض هذا حديث ابن عباس المذكور بعده وحديث عمران الآتي في الفصل الثاني؛ لأنهما في فتح مكة، وهذا في حجة الوداع، قال الإمام أحمد: إنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له غير هذا. واحتج بحديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة. (يوم الأحد) فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح في اليوم الثامن. (يوم الخميس) ثم خرج إلى منى، وخرج من مكة متوجهاً إلى المدينة بعد أيام التشريق. ومثله حديث ابن عباس عند البخاري بلفظ: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج

الحديث. قال الحافظ: ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى. وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة؛ لأن هذه المواضع مواضع النسك، وهي في حكم التابع لمكة؛ لأنها المقصود بالإصالة، لا يتجه سوى ذلك، كما قال الإمام أحمد- انتهى. وقد أشكل الحديث على الشافعية؛ لأنه قد تقرر عندهم أنه لو نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع عينه انقطع سفره بوصوله ذلك الموضع بخلاف ما لو نوى دونها وإن زاد عليه. ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان جازماً بالإقامة بمكة المدة المذكورة، وأجاب البيهقي في السنن الكبرى (ج3 ص149) بما نصه: وإنما أراد أنس بقوله "فأقمنا بها عشراً" أي بمكة ومنى وعرفات، وذلك لأن الأخبار الثابتة تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة في

ص: 388

حجته لأربع خلون من ذي الحجة فأقام بها ثلاثاً يقصر، ولم يحسب اليوم الذي قدم فيه مكة؛ لأنه كان فيه سائراً، ولا يوم التروية؛ لأنه خارج فيه إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، فلما طلعت الشمس سار منها إلى عرفات، ثم دفع منها حيت غربت الشمس حتى أتى المزدلفة، فبات بها ليلتئذ حتى أصبح، ثم دفع منها حتى أتى منى فقضى بها نسكه، ثم أفاض إلى مكة فقضى بها طوافه، ثم رجع إلى منى فأقام بها، ثم خرج إلى المدينة، فلم يقم صلى الله عليه وسلم في موضع واحد أربعاً يقصر- انتهى كلام البيهقي. وتعقبه ابن التركماني، وتعقبه متجه عندي، قال: أقام بمكة أربعة أيام يقصر، فإنه صلى الله عليه وسلم قدم صبح رابعة من ذي الحجة، فأقام الرابع والخامس والسادس والسابع وبعض الثامن ناوياً للإقامة بها بلا شك، ثم خرج إلى منى يوم التروية، وهو الثامن قبل الزوال. وهذا يبطل تقديرهم بأربعة أيام، ولهذا حكى ابن رشد عن أحمد وداود أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم، قال واحتجوا بمقامه عليه السلام في حجته بمكة مقصراً أربعة أيام. وذكر صاحب التمهيد عن الأثرم قال أحمد: أقام عليه السلام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح بالأبطح في الثامن. فهذه إحدى وعشرون صلاة قصر فيها، وقد أجمع على إقامتها وظهر بهذا بطلان قول البيهقي:"فلن يقم عليه السلام في موضع واحد أربعاً يقصر". وكيف يقول كان سائراً في اليوم الرابع مع أنه قدم في صبيحته فأقام بمكة؟! أو كيف لا يحسب يوم الدخول مع أن الأحكام المتعلقة بالسفر لينقطع حكمها يوم الدخول إذا نوى الإقامة، ويلحق بما بعده أصله رخصة المسح والإفطار؟! فلا معنى لإخراجه بعد نية الإقامة بغير دليل شرعي، وكذا يوم الخروج قبل خروجه. وفي اختلاف العلماء للطحاوي روي عن ابن عباس وجابر أنه عليه السلام قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فكان مقامه إلى وقت خروجه أكثر من أربع، وقد كان يقصر الصلاة، فدل على سقوط الاعتبار بالأربع- انتهى كلام ابن التركماني. وأجاب بعضهم عن هذا التعقب بأنه إنما يخالفنا إذا أقام أربع ليال مع أيامها التامة. ويمكن أنه صلى الله عليه وسلم خرج في اليوم الثامن من قبل الوقت الذي دخل فيه في اليوم الرابع، فما تمت له أيام الأربع، كذا أجاب، ولا يخفى ما فيه، قلت: واستدل الشافعية والمالكية على مذهبهم بنهيه صلى الله عليه وسلم للمهاجر عن إقامة فوق ثلاث بمكة فتكون الزيادة عليها لإقامة لا قدر الثلاث. قال القسطلاني: الترخيص في الثلاث يدل على بقاء حكم السفر بخلاف الأربعة فالأربع حد الإقامة، وما دونه حد السفر يقصر فيه. وردّ ذلك بأن الثلاث قدر قضاء الحوائج لا لكونها غير إقامة. قال ابن حزم في المحلى (ج5ص24) : ليس في هذا الخبر نص ولا إشارة إلى المدة التي إذا أقامها المسافر يتم صلاته، وإنما هو في حكم المهاجر لا يقيم أكثر من ثلاثة أيام ليجاز شغله وقضى حاجته في الثلاث، ولا حاجة إلى أكثر منها، ولا يدل على أنه يصير مقيماً في الأربعة، ولو احتمل لا يثبت حكم شرعي بالاحتمال، قال وأيضاً

ص: 389

متفق عليه.

ــ

فإن المسافر مباح له أن يقيم ثلاثاً وأكثر من ثلاث لا كراهية في شيء من ذلك. وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث، فأي نسبة بين إقامة مكروهة وإقامة مباحة؟ وأيضاً فإن ما زاد على الثلاثة الأيام للمهاجر داخل عندهم في حكم أن يكون مسافراً. لا مقيماً وما زاد على الثلاثة فإقامة صحيحة. وهذا مانع من أن يقاس أحدهما على الآخر، وأيضاً فإن إقامة قدر صلاة واحدة زيادة على الثلاثة مكروهة للمهاجر، فينبغي عندهم إذا قاسوا عليه المسافر أن يتم، وهو خلاف مذهبهم. وقد ظهر بهذا أنه ليس حديث مرفوع صريح في ما ذهب إليه المالكية والشافعية. وكذا فيما ذهب إليه الحنفية كما صرح به ابن رشد في البداية. وقال صاحب العرف الشذى: لا مرفوع لأحد ولكل واحد آثار. فاستدل الحنفية بما روى الطحاوي عن ابن عباس وابن عمر قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوماً أكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها، ذكره الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في الدراية، والعيني في البناية وابن الهمام في فتح القدير. وروى نحوه محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن ابن عمر وحده. قال الشوكاني: ورد بأنه من مسائل الاجتهاد، ولا حجة في أقوال في المسائل التي للاجتهاد فيها مسرح، قال: والحق أن من حط رحله ببلد ونوى الإقامة بها أيامها من دون تردد لا يقال له مسافر، فيتم الصلاة ولا يقصر إلا لدليل ولا دليل ههنا إلا في ما في حديث الباب من إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة، والاستدلال به متوقف على ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم عزم على إقامة أربعة أيام إلا أن يقال: إن تمام أعمال الحج في مكة لا يكون في دون الأربع، فكان كل من يحج عازماً على ذلك فيقتصر على هذا المقدار، ويكون الظاهر والأصل في حق من نوى إقامة أكثر من أربع أيام هو التمام، وإلا لزم أن يقصر الصلاة من نوى إقامة سنين متعددة، ولا قائل به. ولا يرد على هذا قوله في إقامته بمكة في الفتح: إنا قوم سفر؛ لأنه كان إذ ذاك متردداً، ولم يعزم على إقامة مدة معينة- انتهى. قلت: لا شك أنه صلى الله عليه وسلم كان جازماً بالإقامة أربعة أيام بمكة في حجته؛ لأنه دخل بها صبيحة رابعة، وخرج منها إلى منى في بعض الثامن أي بعد صلاة الصبح، فكان ناوياً لإقامة تلك المدة بلا شك، وقد قصر بها الصلاة. فهذا يدل على مذهب الإمام أحمد. ولم يثبت من حديث مرفوع قولي أو فعلي أنه صلى الله عليه وسلم أزمع على أكثر من أربعة أيام وقصر الصلاة. فالقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد، والله أعلم. وأما حديث ابن عباس فسيأتي الكلام فيه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص136و145و148و153) وغيرهم.

ص: 390

1346-

(5) وعن ابن عباس، قال: ((سافر النبي صلى الله عليه وسلم سفراً، فأقام تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين

ركعتين، قال ابن عباس: فنحن نصلي فيما بيننا وبين مكة، تسعة عشر، ركعتين ركعتين،

ــ

1346-

قوله: (سافر النبي صلى الله عليه وسلم سفراً) أي في فتح مكة، ففي رواية للبخاري في المغازي: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين. وذكره المجد بن تيمية في المنتقى بلفظ: لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أقام فيها تسع عشرة يصلي ركعتين. (فأقام) أي فلبث. (تسعة عشر) بتقديم الفوقية على السين. (يوماً) بليلته. (يصلي) أي حال كونه يصلي. (ركعتين ركعتين) أي يقصر الصلاة الرباعية؛ لأنه كان متردداً متى تهيأ له فراغ حاجته وهو انجلاء حرب هوازن ارتحل، وأعلم أنه اختلفت الروايات في إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح، فروي تسعة عشر، كما ذكره المصنف. وروي عشرون، أخرجه عبد بن حميد في مسنده. وروي سبعة عشر بتقديم السين، أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي. وروي خمسة عشر، أخرجه أبوداود والنسائي كلها عن ابن عباس. وروي ثمانية عشر، كما في حديث عمران الآتي. قال البيهقي في السنن الكبرى (ج3 ص151) : وأصح هذه الروايات في ذلك عندي رواية من روى تسع عشرة أي بتقديم التاء، وهي الرواية التي أودعها للبخاري في الجامع الصحيح، وجمع أيضاً البيهقي بين روايات تسع عشرة وثمان عشرة وسبع عشرة بأن من رواها تسع عشرة عد يوم الدخول ويوم الخروج، ومن روى ثمان عشرة لم يعد أحد اليومين، ومن قال سبع عشرة لم يعدهما، قال الحافظ في التلخيص (ص129) : وهو جمع متين، وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، ورواية عشرين، وهي صحيحة الإسناد إلا أنها شاذة أيضاً، اللهم إلا أن يحمل على جبر الكسر، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد، أي لما في سنده علي زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وسيأتي الكلام فيه، وقال في الفتح بعد ذكر الجمع المذكور: وأما رواية خمسة عشر فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك. وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة. واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات. وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضاً إنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة، وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمس عشرة، لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقاً- انتهى. (قال ابن عباس) استنباطاً من هذا الحديث. (فنحن نصلي فيما بيننا وبين مكة تسعة عشر) أي يوماً. ولفظ الترمذي: فنحن نصلي فيما بيننا وبين تسع عشرة. (ركعتين ركعتين) وفي رواية للبخاري: ونحن نقصر ما بيننا وبين تسع عشرة. وفي رواية للبيهقي (ج3 ص150) : فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسعة عشر صلينا ركعتين ركعتين، ولأبي يعلى: إذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر.

ص: 391

فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعاً)) رواه البخاري.

ــ

(فإذا أقمنا) أي مكثنا (أكثر من ذلك صلينا أربعاً) وقد أخذ به إسحاق بن راهويه أيضاً، كما تقدم في كلام الحافظ، فمدة القصر عنده وعند ابن عباس تسعة عشر يوماً، فإذا أجمع على أكثر من ذلك في موضع أتم. قال الترمذي: أما إسحاق فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس هذا، قال: لأن أبن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تأوله بعد النبي صلى الله عليه وسلم. (يعني أخذ به وعمل عليه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم) - انتهى. قلت: الاستدلال بهذا الحديث على أن من يقيم هذه المدة. (تسعة عشر أو خمسة عشر على اختلاف الروايتين والمذهبين) قصداً يقصر، لا يخلو عن إشكال؛ لأنه موقوف على ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم أزمع في أول الأمر على إقامته بمكة هذه المدة، ولا دلالة في هذه القصة على ذلك أصلاً، بلا الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة هذه المدة اتفاقاً، ولا يدري أول الأمر أن إقامته تمتد إلى متى؛ لأنه كان متردداً متى تهيأ له فراغ حاجته يرحل. ومن كان كذلك يقر أبداً؛ لأنه لم ينو الإقامة، والأصل بقاء السفر، ولذا قال الترمذي: أجمع أهل العلم على أن المسافر يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون، وكذا قال ابن المنذر. وأما الاستدلال بحديث ابن عباس على أن من يزيد على هذه المدة يتم، كما قال ابن عباس وإسحاق ففي غاية الخفاء، هذا وقد أجاب عن الأشكال المذكور الإمام ابن تيمية في أحكام السفر (ص81) بأنه معلوم بالعادة أن ما كان يفعل بمكة وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال إنه كان يقول اليوم أسافر، غداً أسافر، بل فتح مكة وأهلها وما حولها كفار محاربون له، وهي أعظم مدينة فتحها، وبفتحها ذلت الأعداء، وأسلمت العرب. ومثل هذه الأمور مما يعلم أنها لا ينقضي في أربعة أيام، فعلم أنه أقام لأمور يعلم أنها لا تنقضي في أربعة أيام، وكذلك تبوك إلى آخر ما قال. ولا يخفى ما فيه على المتأمل. (رواه) أي أصل الحديث. (البخاري) وإلا فالسياق المذكور ليس للبخاري، فإن الحديث رواه البخاري في الصلاة بلفظ: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين، ومطولاً بلفظ: أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر تسع عشرة نقصر الصلاة. وقال ابن عباس: ونحن نقصر ما بيننا وبين تسع عشرة، فإذا أزدنا أتممنا. والسياق الذي ذكره المصنف إنما هو للترمذي والبيهقي بفرق يسير. والبغوي إنما ذكر في المصابيح سياق البخاري المختصر. ولعل المصنف أعرض عنه لاختصاره، وأورد سياق الترمذي والبيهقي، لكونه واضحاً مطولاً، لكن كان ينبغي له أن ينبه على تصرفه هذا، فإن صنيعه يدل على أن السياق المذكور للبخاري، والأمر ليس كذلك، كما عرفت، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص149، 150، 151) .

ص: 392

1347-

(6) وعن حفص بن عاصم، قال:((صحبت ابن عمر في طريق مكة، فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم جاء رحله، وجلس، فرأى ناساً قياماً، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون. قال: لو كنت مسبحاً أتممت صلاتي. صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كذلك))

ــ

1347-

قوله: (وعن حفص بن عاصم) بن عمر بن الخطاب ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين (صحبت ابن عمر) أي رافقت عمي عبد الله بن عمر بن الخطاب. (فصلى لنا الظهر ركعتين) قصراً ثم أقبل وأقبلنا معه. (ثم جاء) وفي مسلم: حتى جاء. (رحله) أي منزله ومسكنه. (وجلس) وجلسنا معه، فحانت منه إلتفاتة نحو حيث صلى. (فرأى ناساً قياماً) بكسر القاف جمع قائم أي قائمين للصلاة في المكان الذي صلوا الفرض فيه. (فقال) إنكاراً:(ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون) أي يصلون النافلة، فالسبحة هنا صلاة النفل، (لو كنت مسبحاً) أي مصلياً النافلة في السفر. (أتممت صلاتي) أي المكتوبة. قال السندي: لعل المعنى لو كنت صليت النافلة على خلاف ما جاءت به السنة لأتممت الفرض على خلافها، أي لو تركت العمل بالسنة لكان تركها لإتمام الفرض أحب وأولى من تركها لإتيان النفل، وليس المعنى لو كانت النافلة مشروعة لكان الإتمام مشروعاً حتى يرد عليه ما قيل: إن شرع الفرض تاماً يفضي إلى الحرج، إذ يلزم حينئذٍ الإتمام. وأما شرع النفل فلا يفضي إلى حرج، لكونها إلى خيرة المصلي- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: مراد ابن عمر بقوله هذا يعني أنه لو كان مخيراً بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه، لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يصلي الراتبة ولا يتم. (فكان لا يزيد في السفر على ركعتين) أي في غير المغرب، إذ لا يصح ذلك في المغرب قطعاً. والمعنى لا يزيد نفلاً قبل الفريضة وبعدها. (وأبا بكر) أي وصحبت أبا بكر. (وعمر وعثمان كذلك) أي صحبتهم كما صحبته صلى الله عليه وسلم، وكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين. وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم واظب على القصر في السفر ولازمه، ولم يصل تماماً. وذكر الموقوف بعد المرفوع مع أن الحجة قائمة بالمرفوع ليبين أن العمل استمر على ذلك، ولم يطرق إليه نسخ ولا معارض ولا راجح، لكن في ذكر عثمان إشكال؛ لأنه كان في آخر أمره يتم الصلاة. وأجيب بما سيأتي في الفصل الثالث من حديث ابن عمر وعثمان صدراً من خلافته. قال في المصابيح: وهو الصواب، ذكره القسطلاني، أو المراد أنه إنما كان يتم إذا كان نازلاً. وأما إذا كان سائراً فيقصر. فلذلك قيده في هذه الرواية بالسفر. وقال الزركشي: ولعل ابن عمر أراد في هذه الرواية أيام عثمان في سائر أسفاره في غير منى؛ لأن إتمامه كان بمنى، كما فسره عمران بن الحصين في روايته. والحديث فيه إشكال آخر، فإنه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتنفل في السفر. وقد روى ابن عمر

ص: 393

نفسه، كما سيأتي في الفصل الثاني، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة بعد الظهر والمغرب. وورد في حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة النوم عن صلاة الصبح في السفر: ثم صلى ركعتين قبل الصبح ثم صلى الصبح. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الضحى في السفر. كما تقدم، وصلاة الليل على الدابة، كما سيأتي من حديث ابن عمر، وصلاة الزوال أو الراتبة قبل الظهر، كما في حديث البراء عند الترمذي وأبي داود. وأيضاً يشكل على إنكار ابن عمر على المتنفلين ما سيأتي في آخر الباب أن ابن عمر كان يرى ابنه عبيد الله يتنفل في السفر، فلا ينكر عليه، وما روي عن ابن عمر أنه كان يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به. قال العراقي: الجواب: أن النفل المطلق وصلاة الليل لم يمنعهما ابن عمر ولا غيره. فأما السنن الرواتب فيحمل حديث الباب على الغالب من أحواله في أنه لا يصلى الرواتب، وحديثه في فعل أنه فعله في بعض الأوقات لبيان استحبابها وإن لم يتأكد فعلها فيه كتأكده في الحضر، أو أنه كان نازلاً في وقت الصلاة ولا شغل له يشتغل به عن ذلك، أو سائراً، وهو على راحلته. ولفظ "كان" في حديث الباب لا يقتضي الدوام ولا التكرار على الصحيح، فلا تعارض بين حديثيه. وقيل: مذهب ابن عمر الفرق بين الرواتب والنوافل المطلقة كالتهجد والوتر والضحى وغير ذلك، فيحمل الإنكار على الأول، والإثبات على الثاني، ولا يخفى ما فيه. وقيل: نفي التطوع في السفر محمول على ما بعد الصلاة خاصة أي الرواتب البعدية، فلا يتناول ما قبلها ولا ما لا تعلق له بها من النوافل المطلقة، وإليه مال البخاري، كما يظهر من تبويبة. قال الحافظ: وهو فيما يظهر أظهر. قلت: بل هو غاية الخفاء فضلاً عن أن يكون ظاهراً فضلاً عن أن يكون أظهر لما سيأتي من حديث ابن عمر نفسه في إثبات الرواتب البعدية. وقيل: لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله فلا يراه ابن عمر. وقيل: النفي محمول على الصلاة على الأرض، والإثبات على الدابة. قال الحافظ: وقد جمع ابن بطال بين ما اختلف عن ابن عمر في ذلك بأنه كان يمنع التنفل على الأرض، ويقول به على الدابة. وقيل: الأولى أن يحمل حديث الباب أي عدم الزيادة على ركعتي الفرض على حالة السير وحديث الثبوت على حالة النزول والقرار، وهو المختار من مذهب الحنفية، كما صرح به الدر المختار وفي الكبرى، هو أعدل الأقوال. قلت: قد اختلف العلماء في التنفل في السفر على ستة أقوال: أحدها المنع مطلقاً. الثاني الجواز مطلقاً. الثالث: الفرق بين الرواتب والمطلقة، وهو مذهب ابن عمر، كما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. الرابع: الفرق بين الليل والنهار في المطلقة. الخامس: الفرق بين الرواتب البعدية وغيرها، فيحمل النفي على الأولى، فلا يتناول ما قبلها ولا النوافل المطلقة. السادس: ما اختاره ابن القيم حيث قال في الهدي (ج1 ص134) : كان من هديه صلى الله عليه وسلم الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى سنة الصلاة

ص: 394

متفق عليه.

1348-

(7) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر،

ــ

قبلها ولا بعدها إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعهما حضراً ولا سفراً، قال: وأما ابن عمر فكان لا يتطوع قبل الفريضة ولا بعدها إلا من جوف الليل مع الوتر، وهذا هو الظاهر من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، كان لا يصلي قبل الفريضة المقصورة ولا بعدها شيئاً، ولم يكن يمنع من التطوع قبلها ولا بعدها، فهو كالتطوع المطلق لا أنه سنة راتبة للصلاة كسنة صلاة الإقامة. ويؤيد هذا أن الرباعية قد خففت إلى ركعتين تخفيفاً على المسافر، فكيف يجعل لها سنة راتبة يحافظ عليها، وقد خفف الفرض ركعتين، فلولا قصد التخفيف على المسافر وإلا كان الإتمام أولى به، وقال أيضاً (ج1 ص83) : وكان أي النبي صلى الله عليه وسلم في السفر يواظب على سنة الفجر، والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السنن، ولم ينقل في السفر أنه صلى الله عليه وسلم صلى سنة راتبة غيرهما، ولذلك كان ابن عمر لا يزيد على ركعتين، وسئل عن سنة الظهر في السفر، فقال: لو كنت مسبحاً لأتممت. وهذا من فقهه رضي الله عنه، فإن الله سبحانه وتعالى خفف عن المسافر في الرباعية شطرها، فلو شرع له الركعتان قبلها أو بعدها لكان الإتمام أولى به. وتعقب قوله: لم يتنفل في السفر أنه صلى الله عليه وسلم صلى سنة راتبة غير سنة الفجر والوتر، بما سيأتي من حديث ابن عمر في إثبات الراتبة البعدية للظهر والمغرب. قال الترمذي: اختلف أهل العلم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتطوع الرجل في السفر، وبه يقول أحمد وإسحاق، ولم ترَ طائفة أن يصلي قبلها ولا بعدها، ومعنى من لم يتطوع في السفر قبول الرخصة، ومن تطوع فله في لك فضل كثير، وهو قول أكثر أهل العلم يختارون التطوع في السفر- انتهى. قلت: والراجح عندي أن لا يترك في السفر الوتر وسنة الفجر. وأما غيرهما من الرواتب القبلية والبعدية فهي إلى خيرته، إن شاء فعلها وحصل ثوابها، وإن شاء تركها ولا شيء عليه، أعني أنها لا تبقى في حقه متأكدة كسنة صلاة الإقامة، والله أعلم. (متفق عليه) فيه أن السياق المذكور ليس لهما ولا لأحدهما، بل هو مجموع من مجموع ما فيهما، فأول الحديث إلى قوله "أتممت صلاتي" من إفراد مسلم، لم يروه البخاري أصلاً. وقوله: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر الحديث" وهو سياق البخاري. وعند مسلم: يا ابن أخي! إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى:{لقد كان لكن في رسول الله أسوة حسنة} [21:33] وسياق المشكاة موافق لما في المصابيح. ولو نبه المصنف على تصرف البغوي في سياق الحديث لكان أحسن. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص158) .

1348-

قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر) أي جمع تأخير، وهو أن يؤخر

ص: 395

إذا كان على ظهر يسير، ويجمع بين المغرب والعشاء))

ــ

الظهر إلى أن يدخل وقت العصر، فيصلي الظهر والعصر جميعاً في وقت العصر. (إذا كان على ظهر يسير) قال القسطلاني: بإضافة ظهر يسير. وللأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت وأبي ذر عن الكشمهيني: ظهر بالتنوين، يسير بلفظ المضارع بتحتانية مفتوحة في أوله أي حال كونه يسير، وعزا في الفتح الأولى للأصيلي، والثانية للكشمهيني. ولفظ ظهر في قوله:"ظهر يسير" مقحم للتأكيد كقوله: الصدقة عن ظهر غنى. وقد يزاد في مثل هذا اتساعاً للكلام، كأن السير مستند إلى ظهر قوي من المطي مثلاً. وقيل: جعل للسير ظهر؛ لأن الراكب ما دام سائراً فكأنه راكب ظهر، وفيه جناس التحريف بين الظهر والعصر. (ويجمع بين المغرب والعشاء) أي كذلك. واستدل به على جواز جمع التأخير في السفر. وأما جمع التقديم فسيأتي الكلام فيه في شرح حديث معاذ بن جبل الآتي. واحتج بحديث ابن عباس هذا من قال باختصاص الجمع بالسائر دون النازل. وفي مسألة الجمع بين الصلاتين في السفر سبعة أقوال: أحدها أنه يجوز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في السفر في وقت أحدها جمعاً حقيقياً تقديماً وتأخيراً مطلقاً، أي سواء كان سائراً أم لا، وسواء كان سيراً مجداً أم لا. قال به كثير من الصحابة والتابعين، ومن الفقهاء الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وابن المنذر وأشهب. وحكاه ابن قدامة عن مالك أيضاً. وقال الزرقاني: وإليه ذهب مالك في رواية مشهورة. قلت: وهو مختار المالكية، كما في فروعهم، واختاره الشاه ولي الله الدهلوي، حيث قال في حجة الله (ج2 ص18) : من رخص السفر الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، والأصل فيه ما أشرنا أن الأوقات الأصلية ثلاثة الفجر والظهر والمغرب، وإنما اشتق العصر من الظهر والمغرب من العشاء، ولئلا تكون المدة الطويلة فاصلة بين الذكرين، ولئلا يكون النوم على صفة الغفلة، فشرع لهم جمع التقديم والتأخير، لكنه لم يواظب عليه ولم يعزم عليه مثل ما فعل في القصر- انتهى. والثاني أنه يختص الجمع بمن يجدّ في السير أي يسرع، قاله الليث، وهو قول مالك في المدونة. واستدل لهما بما روي في الصحيح عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء (جمع تأخير) إذا جد به السير، وسيأتي الجواب عنه. والثالث أنه يختص بما إذا كان سائراً لا نازلاً، قاله ابن حبيب من المالكية. واستدل لذلك بقوله: إذا كان على ظهر سير في حديث الباب. وأجيب عن ذلك بما وقع من التصريح في حديث معاذ بن جبل في الموطأ بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة (في غزوة تبوك) خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل ثم خرج، فصلى المغرب والعشاء جميعاً. قال الشافعي في الأم قوله:"ثم دخل ثم خرج" لا يكون إلا وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلاً ومسافراً. وقال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل في الرد على من قال لا يجمع إلا من جد به السير، وهو قاطع للالتباس. وقال الباجي: مقتضى قوله: "ثم دخل ثم خرج" أنه مقيم غير سائر؛ لأنه إنما يستعمل في الدخول في المنزل والخباء، والخروج منهما، وهو غالب الاستعمال إلا أن يريد

ص: 396

أنه خرج من الطريق إلى الصلاة، ثم دخله للسير، وفيه بعد. وكذا حكى عياض هذا التأويل عن بعضهم ثم استبعده ولا شك في بعده، وكأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر عادته التفرقة في حال الجمع بين ما إذا كان سائراً أو نازلا، ومن ثم قال الشافعية ترك الجمع أفضل. والرابع أن الجمع مكروه، قال ابن العربي: إنها رواية المصريين عن مالك، والخامس أنه يختص بمن له عذر حكى عن الأوزاعي. والسادس أنه يجوز جمع التأخير دون التقديم وهو اختيار ابن حزم، وسيأتي الكلام فيه. والسابع أنه لا يجوز الجمع مطلقاً إلا بعرفة والمزدلفة، وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنفية وصاحبيه، ووقع عند النووي أن الصاحبين خالفا شيخهما، ورد عليه السروجي في شرح الهداية، وهو أعرف بمذهبه، وأجاب هؤلاء عما ورد من الأخبار في ذلك الذي وقع جمع صوري، وهو أنه أخر المغرب مثلاً إلى آخر وقتها، وعجل العشاء في أول وقتها. وتعقبه الخطابي في المعالم (ج1 ص264) بما حاصله: أن الجمع من الرخص العامة لجميع الناس عامهم وخاصهم، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقاً من الإتيان بكل صلاة في وقتها؛ لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامة. وأما أمره صلى الله عليه وسلم للمستحاضة بالجمع الصوري، فهو وارد في شيء يندر وجوده، على أنه صلى الله عليه وسلم قيد ذلك بقوله: إن قويت كما تقدم، فإن قدرت المستحاضة على معرفة أوائل الأوقات وأواخرها، وعلى الاغتسال ثلاث مرات جمعت بين الصلاتين فعلاً وصورة. ومن الدليل على أن الجمع رخصة، قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته، أخرجه مسلم. وهذا يقدح في حمله على الجمع الصوري؛ لأن النزول للصلاتين والخروج إليهما مرة واحدة وإن كان أسهل من النزول مرتين، لكن لا يخلو ذلك عن حرج ومشقة بسبب عدم معرفة أكثر الناس أوائل أوقات الصلاة وأواخرها بخلاف الجمع الوقتي فهو أيسر وأخف من الجمع الفعلي، وهذا ظاهر وأيضاً فإن الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين، وهي نصوص صريحة لا تحتمل تأويلاً، كما سيأتي. قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص129) : حمل أصحابنا يعني الحنفية الأحاديث الواردة في الجمع على الجمع الصوري. وقد بسط الطحاوي الكلام فيه في شرح معاني الآثار، لكن لا أدري ماذا يفعل بالروايات التي وردت صريحاً بأن الجمع كان بعد ذهاب الوقت، وهي مروية في صحيح البخاري وسنن أبي داود وصحيح مسلم وغيرها من الكتب المعتمدة على ما لا يخفى على من نظر فيها، فإن حمل على أن الرواة لم يحصل التمييز لهم، فظنوا قرب خروج الوقت، خروج الوقت، فهذا بعيد عن الصحابة الناصين على ذلك، وأن أختير ترك تلك الروايات بأبداء الخلل في الإسناد فهو أبعد وأبعد مع إخراج الأئمة لها وشهادتهم بتصحيحها، وإن عورض بالأحاديث التي صرحت بأن الجمع كان بالتأخير إلى آخر الوقت والتقديم في أول الوقت فهو أعجب، فإن الجمع بينهما بحملها على اختلاف الأحوال ممكن

ص: 397

رواه البخاري.

1349-

(8) وعن ابن عمر قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به

ــ

بل هو الظاهر- انتهى كلام الشيخ اللكنوي. وأيضاً المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع هو الجمع الوقتي لا الفعلي. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص264) : ظاهر اسم الجمع عرفاً لا يقع على من أخر الظهر حتى صلاها في آخر وقتها، وعجل العصر فصلاها في أول وقتها؛ لأن هذا قد صلى كل صلاة منهما في وقتها الخاص بها، وإنما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معاً في وقت إحداهما ألا ترى أن الجمع بينهما بعرفة والمزدلفة كذلك- انتهى. ولو سلم أن لفظ الجمع عام يشمل الوقتي والفعلي كليهما فالروايات الصريحة في جمع التقديم والتأخير معين للمراد من لفظ الجمع في الروايات المطلقة، وأن المقصود هو الجمع الوقتي أي الحقيقي لا الصوري أي الفعلي. ومما يرد الحمل على الجمع الصوري جمع التقديم الآتي ذكره في الفصل الثاني. قال الحافظ: وفي هذه الأحاديث أي أحاديث الجمع الحقيقي الصريحة المفسرة تخصيص لحديث الأوقات التي بينها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وبينها النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حيث قال في آخرها: الوقت ما بين هذين- انتهى. وبهذا يندفع ما قيل: إن هذه الصلوات عرفت مؤقتة بأوقاتها بالدلائل المقطوع بها من الكتاب والسنة والإجماع، فلا يجوز تغييرها عن أوقاتها بخبر الواحد؛ لأن خبر الواحد لا يقبل في معارضة الدليل المقطوع به؛ لأن أحاديث الأوقات عامة وأحاديث الجمع خاصة بالسفر، ولا تعارض بين العام والخاص، فتحمل أحاديث الأوقات على ما عدا حالة السفر. (رواه البخاري) من طريق عكرمة عن ابن عباس. قال ميرك: ورواه مسلم بمعناه. قلت: روى مسلم من طريق أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أرادا أن لا يحرج أمته. وأخرج البيهقي الرواية الأولى (ج3 ص164) .

1349-

قوله: (على راحلته) الراحلة من الإبل ما كان منها صالحاً؛ لأن يرتحل أي يشد عليه الرحل والقوي منها على الأحمال والأسفار للذكر والأنثى، والتاء للمبالغة. (حيث توجهت به) أي ولو إلى غير القبلة. قيل الضمير عائد إلى حيث أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والباء للتعدية، والعائد إلى حيث محذوف أي إليه. وقوله:"حيث توجهت به" متعلق بقوله: "يصلي". ففي حديث عامر بن ربيعة عند البخاري: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على الراحلة، يسبح يومئ برأسه قبل أي وجه توجه. قيل: وهو قيد احتراز، فصوب أي جهة سفره قبلته، فلو صلى إلى غير ما توجهت به دابته لا يجوز. قال الحافظ: واستدل به على أن جهة الطريق تكون بدلاً عن القبلة، حتى يجوز الانحراف عنها عامداً قاصداً لغير حاجة المسير إلا إن كان سائراً في غير جهة القبلة فانحرف إلى جهة

ص: 398

يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته))

ــ

القبلة فإن ذلك لا يضره على الصحيح. وقال ابن قدامة: وقبلة هذا المصلي حيث كانت وجهته، فإن عدل عنها نظرت فإن كان عدوله إلى جهة الكعبة جاز؛ لأنها الأصل، وإنما جاز تركها للعذر، فإذا عدل إليها أتى بالأصل، وإن عدل إلى غيرها عمداً فسدت صلاته؛ لأنه ترك قبلته عمداً. (يومئ) بياء مبدلة من همزة من أومأ. قال الطيبي: حال من فاعل يصلي، وكذا على راحلته. (إيماء) نصب على المصدرية أي يشير برأسه إلى الركوع والسجود من غير أن يضع جبهته على ظهر الراحلة، وكان يومئ للسجود أخفض من الركوع تمييزاً بينهما، وليكون البدل على وفق الأصل، وقد وقع ذلك صريحاً في حديث جابر الآتي في الفصل الثاني. (صلاة الليل) مفعول يصلي. وفيه أن المراد بقوله:{وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [144:2] الفرائض. (إلا الفرائض) مستثنى من صلاة الليل أي لكن الفرائض. فلم يكن يصليها على الراحلة، فالاستثناء منقطع لا متصل؛ لأن المراد خروج الفرائض من الحكم ليلية أو نهارية. (ويوتر) بعد فراغه من صلاة الليل. (على راحلته) قال ابن الملك: يدل على عدم وجوب الوتر يعني؛ لأنه لو كان واجباً لما جازت صلاته على الدابة. قلت: الحديث نص في جواز الوتر على الدابة في السفر وهو من علامات عدم وجوب الوتر. واختلف فيه أهل العلم، فقال مالك والشافعي وأحمد بجوازه، وهو مروي عن على وابن عمر وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري. وقولهم هو الحق. وقال أبوحنيفة وصاحباه: لا يجوز الوتر إلا على الأرض، كما في الفرائض وهو خلاف السنة الثابتة. قال محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر بعد رواية الأحاديث والآثار الدالة على جواز الوتر على الدابة ما لفظه: وزعم النعمان يعني أبا حنيفة أن الوتر على الدابة لا يجوز خلافاً لما روينا. واحتج له بعضهم بحديث رواه عن ابن عمر أنه نزل عن دابته فأوتر بالأرض. فيقال لمن احتج بذلك: هذا ضرب من الغفلة، هل قال أحد لا يحل للرجل أن يوتر بالأرض؟ إنما قال العلماء: لا بأس أن يوتر على الدابة، وإن شاء أوتر بالأرض، وكذلك كان ابن عمر يفعل ربما أوتر على الدابة، وربما أوتر على الأرض. (أي طلباً للأفضل) . وعن نافع أن ابن عمر كان ربما أوتر على راحلته، وربما نزل. وفي رواية: كان يوتر على راحلته، وكان ربما نزل- انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص131) : أخذ أصحابنا يعني الحنفية بالآثار الواردة بنزول ابن عمر للوتر، وشيدوه بالأحاديث المرفوعة في نزوله صلى الله عليه وسلم للوتر. وقال المجوزون لأدائه على الدابة: إنه لا تعارض ههنا إذ يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين، فأحيانا أدى الوتر على الدابة وأحياناً على الأرض واقتدى به ابن عمر. ويؤيده ما أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار عن مجاهد عن محمد ابن إسحاق عن نافع قال: كان ابن عمر يوتر على الراحلة، وربما نزل فأوتر على الأرض. وذكر الطحاوي بعد ما أخرج آثار الطرفين الوجه في ذلك عندنا أنه قد يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على الراحلة قبل أن

ص: 399

متفق عليه.

ــ

يحكم بالوتر، ويغلظ أمره، ثم أحكم بعد ولم يرخص في تركه، ثم أخرج حديث: إن الله أمدكم بصلاة هي خر لكم من حمر النعم الخ من حديث خارجة وأبي بصرة، ثم قال: فيجوز أن يكون ما روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وتره على الراحلة كان منه قبل تأكيده إياه، ثم نسخ ذلك- انتهى. وفيه نظر لا يخفى إذ لا سبيل إلى إثبات النسخ بالاحتمال ما لم يعلم ذلك بنص وارد في ذلك- انتهى كلام الشيخ اللكنوي. وفي الحديث جواز التنفل على الراحلة في السفر، وهو مما أجمع عليه المسلمون. قال الشوكاني: جواز التطوع على الراحلة للمسافر قبل جهة مقصده إجماع كما قال النووي والعراقي والحافظ وغيرهم، وإنا الخلاف في جواز ذلك في الحضر، فجوزه أبويوسف وأبوسعيد الأصطخري من أصحاب الشافعي وأهل الظاهر. وقال ابن حزم: وقد روينا عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يصلون على رحالهم ودوابهم حيثما توجهت، قال: وهذه حكاية عن الصحابة والتابعين عموماً في الحضر والسفر. قال النووي: وهو محكي عن أنس بن مالك. قال العراقي: استدل من ذهب إلى ذلك بعموم الأحاديث التي لم يصرح بذكر السفر، وهو ماش على قاعدتهم أنه لا يحمل المطلق على المقيد، بل يعمل على كل منهما. فأما من يحمل المطلق على المقيد، وهم الجمهور فحملوا الروايات المطلقة على المقيدة. وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين السفر الطويل والقصير. (لأن الروايات ليس فيها شيء من التحديد فوجب الامتثال بالعموم) وإليه ذهب الشافعي وجمهور العلماء. (أبوحنيفة وصاحباه وأحمد وداود وغيرهم) وذهب مالك إلى أنه لا يجوز إلا في سفر يقصر في مثله الصلاة. (لأن الروايات التي حكاها ابن عمر وغيره وردت فيما يقصر فيه الصلاة)، وهو محكي عن الشافعي لكنها حكاية غريبة- انتهى. وقال الحافظ: قد أخذ بمضمون هذه الأحاديث فقهاء الأمصار، إلا أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة. والحجة لذلك حديث الجارود بن أبي سبرة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث وجهت ركابه، أخرجه أبوداود وأحمد والدارقطني- انتهى. وقال ابن قدامة في المغني (ج1 ص436) : وإن كان يعجز عن استقبال القبلة في ابتداء الصلاة كراكب راحلته لا تطيعه أو كان في قطار أي جماعة الإبل التي تربط بعضها ببعض فليس عليه استقبال القبلة في شيء من الصلاة، وإن أمكنه افتتاحها إلى القبلة تخرج فيه روايتان: إحداهما يلزمه لرواية أنس عند أحمد وأبي داود أنه عليه السلام استقبل بناقته القبلة، فكبر، والثانية: لا يلزمه؛ لأنه جزء من أجزاء الصلاة أشبه سائر أجزائها والحديث يحمل على الفضيلة والندب- انتهى. وكان السر فيما ذكر من جواز التطوع على الدابة في السفر تحصيل النوافل على العباد وتكثيرها تعظيماً لأجورهم رحمة من الله بهم. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب الوتر في السفر، وأخرجه أيضاً مالك وأحمد وأبوداود والنسائي والطحاوي والبيهقي (ج2 ص5، 491) .

ص: 400