الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)) رواه مسلم
{الفصل الثاني}
1382-
(3) عن أبي الجعد الضمري،
ــ
(عن ودعهم) بفتح الواو وسكون الدال. (الجمعات) أي عن تركهم إياها والتخلف عنها تهاوناً من غير عذر، من ودع الشيء يدعه إذا تركه. وقول النحاة: أن العرب أماتوا ماضي يدع ومصدره أعني، ودع ودعا استغناء يترك تركاً معناه أن الغالب عدم استعمالها، أي يحمل على قلة استعمالها استغناء بما هو أخف منهما، لا أم معناه عدم استعمالهما أصلاً، وإلا نافاه استعمال الودع في هذا الحديث الفصيح. فالحق ثبوت استعمالهما في فصيح الكلام، وحمل كلام النحاة على ما مر. وقيل: قولهم مردود، والحديث حجة عليهم قال التوربشتي: لا عبرة بما قال النحاة، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم هو الحجة القاضية على كل ذي فصاحة. وقال السيوطي: والظاهر أن استعماله ههنا من الرواة المولدين الذين لا يحسنون العربية، ورده السندي بأنه لا يخفى على من تتبع كتب العربية أن قواعد العربية مبنية على الاستقراء الناقص دون التام عادة، وهي مع ذلك أكثريات لا كليات فلا يناسب تغليط الرواة. (أو ليختمن الله على قلوبهم) أي يطبع عليها ويغطيها بالرين كناية عن إعدام اللطف وأسباب الخير، يعني لينعنهم لطفه وفضله. وقال القرطبي: الختم عبارة عما يخلقه الله تعالى في قلوبهم من الجهل والجفاء والقسوة. وقال العراقي: المراد بالطبع على قلبه أنه يصير قلبه قلب منافق، كما روى الطبراني من حديث عبد الله ابن أبي أوفى مرفوعاً بإسناد جيد: من سمع النداء يوم الجمعة ولم يأتها ثم سمع النداء ولم يأتها ثلاثاً طبع على قلبه، فجعله قلب منافق. قال الهيثمي: وفيه من لم يعرف. قيل: ومن ختم على قلبه بالرين قد يتيقظ للخير في بعض الأوقات بخلاف الغافل عن مولاه، فلا يتفطن للخير أصلاً، فلهذا ترقى فقال (ثم ليكونن) بضم النون الأولى. (من الغافلين) أي ثم يترقى بهم في الشر إلى هذه المرتبة. قال الطيبي: ثم لتراخى الرتبة، فإن كونهم من جملة الغافلين المشهود عليهم بالغفلة ادعى لشقائهم وأنطق لخسرانهم من مطلق كونهم مختوماً عليهم. وقيل: المراد الدائمين في الغفلة. قال القاضي: والمعنى أن أحد الأمرين كائن لا محالة، أما الانتهاء عن ترك الجمعات أو ختم الله على قلوبهم فإن اعتياد ترك الجمعة يغلب الرين على القلب ويزهد النفوس في الطاعة، وذلك يؤدي بهم إلى أن يكونوا من الغافلين، أي عن اكتساب ما ينفعهم من الأعمال وعن ترك ما يضرهم منها. والحديث من أعظم الزواجر عن ترك الجمعة والتساهل فيها ومن أدلة أنها من فروض الأعيان. (رواه مسلم) وكذا البيهقي (ج3 ص171) وأخرجه أحمد والنسائي والبيهقي أيضاً (ج3 ص171-172) من حديث ابن عمر، وابن عباس.
1382-
قوله: (عن أبي الجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة. (الضمرى) بفتح الضاد المعجمة وسكون
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها، طبع الله على قلبه)) رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي.
1383-
(4) ورواه مالك عن صفوان بن سليم.
ــ
الميم، نسبة إلى ضمرة بن بكر بن عبد مناة، قاله في جامع الأصول، وكذا في المغني لمحمد طاهر الفتني، ووقع في بعض نسخ المشكاة: الضميري، بضم الضاد وفتح الميم، وهو خطأ، وأبوالجعد الضمري، لا يعرف اسمه. قال الترمذي: سألت محمداً عن اسم أبي الجعد، فلم يعرف اسمه. وقيل: اسمه كنيته. وقيل: اسمه أدرع. وقيل: عمرو بن بكر. وقيل: جنادة، صحابي، قال الخزرجي: له أربعة أحاديث، وعند الأربعة حديث، قال ابن سعد: بعثه النبي صلى الله عليه وسلم بجيش قومه لغزوة الفتح، ولغزوة تبوك. ويقال: إن عثمان استقضاه، قتل مع عائشة يوم الجمل. (من ترك) أي ممن تجب عليه. (ثلاث جمع) بضم الجيم وفتح الميم. قال الباجي: وأما اعتبار العدد في الحديث فانتظار للفيئة وإمهال منه تعالى عبده للتوبة. قال الشوكاني: يحتمل أن يراد حصول الترك مطلقاً سواء توالت الجمعات أو تفرقت، حتى لو ترك في كل سنة جمعة لطبع الله على قلبه بعد الثالثة، وهو ظاهر الحديث. ويحتمل أن يراد ثلاث جمع متوالية، كما في حديث أنس عند الديلمي في مسند الفردوس؛ لأن موالاة الذنب ومتابعته مشعرة بقلة المبالاة به-انتهى. قلت: الاحتمال الثاني هو المتعين لما تقرر في الأصول من حمل الروايات المطلقة على المقيدة، ويؤيد حديث أنس ما رواه أبويعلى برجال الصحيح عن ابن عباس: من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره. قال الشوكاني: هكذا ذكره موقوفاً، وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي، كما قال العراقي. (تهاوناً بها) قيل: المراد بالتهاون الترك من غير عذر، فيكون مفعولاً مطلقاً للنوع، وقيل: هو مفعول له. وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي متهاوناً. قال في اللمعات: الظاهر أن المراد بالتهاون التكاسل وعدم الجد في أدائه وقلة الاهتمام به، لا الإهانة والاستخفاف، فإن الاستخفاف بفرائض الله كفر، وفيه أن الطبع المذكور إنما يكون على قلب من ترك ذلك تهاوناً، فينبغي أن تحمل الأحاديث المطلقة على هذا الحديث المقيد بالتهاون، وكذلك تحمل الأحاديث المطلقة على المقيدة بعدم العذر. (طبع الله على قلبه) أي ختم عليه وغشاه ومنعه الألطاف أو صير قلبه قلب منافق. (رواه أبوداود الخ) وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد (ج3ص424) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبغوي والدولابي في الكنى (ج1ص21- 22) والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (ج3ص172، 247) وفي رواية لابن خزيمة وابن حبان: من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عذر فهو منافق. والحديث قد حسنه الترمذي، وصححه وابن السكن، وسكت عنه أبوداود.
1383-
قوله: (ورواه مالك) في الموطأ. (عن صفوان بن سليم) قال مالك: لا أدري أعن النبي صلى الله عليه وسلم أم
1384-
(5) وأحمد عن أبي قتادة.
1385-
(6) وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك الجمعة من غير عذر فليصدق بدينار، فإن لم يجد فبنصف دينار)) . رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه.
ــ
لا أنه قال: من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه. وصفوان بن سليم بضم السين وفتح اللام، المدني أبوعبد الله القرشي الزهري، مولاهم ثقة، فقيه، تابعي، عابد، زاهد، مات سنة. (132) وهو ابن (72) سنة، فالحديث مرسل ومع ذلك قد تردد الإمام مالك في رفعه. قال ابن عبد البر: هذا يسند من وجوه أحسنها حديث أبي الجعد الضمري. أخرجه الشافعي وأصحاب السنن الأربعة-انتهى. ذكره السيوطي.
1384-
(وأحمد)(ج5ص300) . (وعن أبي قتادة) مرفوعاً: من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع على قلبه، وإسناده حسن، كما قال المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص192) والدارقطني في العلل. وأخرجه أيضاً الحاكم وقال: صحيح الإسناد. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكرهم الشوكاني في النيل والهيثمي في مجمع الزوائد.
1385-
قوله: (من ترك الجمعة) أي صلاتها ممن تلزمه. (فليتصدق بدينار) قال في المفاتيح: الأمر للندب لدفع إثم الترك. (بدينار) أي كفارة. (فإن لم يجد) أي الدينار. (فبنصف دينار) أي فليتصدق بنصفه. قال ابن حجر: وهذا التصدق لا يرفع إثم الترك أي بالكلية حتى ينافي خبر من ترك الجمعة من غير عذر لم يكن لها كفارة دون يوم القيامة، وإنما يرجى بهذا التصدق تخفيف الإثم. وذكر الدينار ونصفه لبيان الأكمل، فلا ينافي ذكر الدرهم أو نصفه، وصاع حنطة أو نصفه في رواية لأبي داود؛ لأن هذا البيان أدنى ما يحصل به الندب، ذكره القاري. يعني أن الأمر بالتصدق بدينار للواجد وبنصفه لغير الواجد بيان للأكمل، وإلا فيحصل أصل السنة بالتصدق بالدرهم ونصفه الخ. وقيل: الأولى أن يقال إن التصدق بالدرهم أو نصفه لمن لم يجد الدينار ونصفه. قال السندي: والظاهر أن الأمر للاستحباب، ولا بد من التوبة بعد ذلك، فإنها الماحية للذنب. (رواه أحمد)(ج5ص8، 14) . (وأبوداود وابن ماجه) والنسائي والبيهقي (ج3ص248) أيضاً. أما أحمد وأبوداود فأخرجاه من طريق همام عن قتادة عن قدامة بن وبرة عن سمرة. وأما ابن ماجه فأخرجه من طريق نوح بن قيس عن أخيه عن قتادة عن الحسن عن سمرة. وأخرجه النسائي من الطريقين، وكذا البيهقي. وقدامة بن وبرة قال الحافظ: مجهول. وقال الذهبي: لا يعرف. وقال أبوحاتم عن أحمد: لا يعرف. وقال مسلم: قيل لأحمد: يصح حديث سمرة من ترك الجمعة؟ فقال قدامة يرويه لا نعرفه. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال
1386-
(7) وعن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الجمعة على من سمع النداء)) رواه أبوداود.
ــ
البخاري: لم يصح سماعه من سمرة. وقال ابن خزيمة في صحيحه: لا أقف على سماع قدامة من سمرة، ولست أعرف قدامة بن وبرة بعدالة ولا جرح، كذا في التهذيب. فطريق قدامة ضعيف لجهالته ولعدم سماعه من قتادة وأما طريق الحسن عن سمرة فقد تقدم ما فيه من الكلام.
1386-
قوله: (الجمعة على من سمع النداء) وفي أبي داود: الجمعة على كل من سمع النداء. ورواه الدارقطني، ومن طريقه البيهقي بلفظ: إنما الجمعة على من سمع النداء أي حقيقة أو حكماً. قال الشوكاني: ظاهر الحديث عدم وجوب الجمعة على من لم يسمع النداء، سواء كان في البلد الذي تقام فيه الجمعة أو في خارجه، وقد ادعى في البحر الإجماع على عدم اعتبار سماع النداء في موضعها، واستدل لذلك بقوله: إذا لم تعتبره الآية، وأنت تعلم أن الآية قد قيد الأمر بالسعي فيها بالنداء لما تقرر عند أئمة البيان من أن الشرط قيد لحكم الجزاء والنداء المذكور فيها يستوي فيه من في المصر الذي تقام فيه الجمعة ومن خارجه، نعم إن صح الإجماع كان هو الدليل على عدم اعتبار سماع النداء لمن في موضع إقامة الجمعة عند من قال بحجية الإجماع. وقد حكى العراقي في شرح الترمذي عن الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل أنهم يوجبون الجمعة على أهل المصر وإن لم يسمعوا النداء. وقد اختلف أهل العلم فيمن كان خارجاً عن البلد الذي تقام فيه الجمعة، ثم بسط الأقوال فيه مع العزو إلى قائليها، قال: والمراد بالنداء المذكور في الحديث هو النداء الواقع بين يدي الإمام في المسجد؛ لأنه الذي كان في زمن النبوة لا الواقع على المنارات، فانه محدث، كما سيأتي، وقال ابن الملك: المراد به الأذان أول الوقت كما هو الآن في زماننا ليعلم الناس وقت الجمعة ليحضروا ويسعوا إلى ذكر الله، وإنما زاده عثمان لينتهي الصوت إلى نواحي المدينة. والظاهر عندي ما قاله الشوكاني. (رواه أبوداود) والدارقطني والبيهقي أيضاً من طريق قبيصة بن عقبة السوائي عن سفيان الثوري عن محمد بن سعيد الطائفي عن أبي سلمة بن نبيه عن عبد الله بن هارون عن عبد الله بن عمرو. قال أبوداود: روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصورا. (أي موقوفاً) على عبد الله بن عمرو، وإنما أسنده قبيصة –انتهى. وقد تفرد به محمد بن سعيد عن أبي سلمة، وتفرد به أبوسلمة عن عبد الله بن هارون. وأبوسلمة وعبد الله بن هارون كلاهما مجهولان، كما في التقريب. وقد ورد من وجه آخر أخرجه الدارقطني من رواية الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً. وزهير بن محمد روى عن أهل الشام مناكير. والوليد مدلس، وقد رواه بالعنعنة. وأخرجه الدارقطني من وجه آخر من رواية محمد بن الفضل عن حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً. ومحمد بن الفضل
187-
(8) وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((الجمعة على من آواه الليل إلى أهله)) رواه الترمذي: وقال: هذا حديث إسناده ضعيف.
ــ
ضعيف جداً نسبوه إلى الكذب. والحجاج مدلس مختلف في الاحتجاج به. وقد ظهر بذلك أن جميع طرق هذا الحديث متكلم فيه، ففي الاستدلال به على اعتبار سماع النداء حقيقة أو حكماً لمن في وضع إقامة الجمعة نظر لا يخفى على المتأمل. فالحق عدم اعتبار ذلك، والقول بوجوب شهود الجمعة على كل من في موضع إقامة الجمعة لإطلاق الآية وعمومها. والله أعلم.
1387-
قوله: (الجمعة من آواه الليل إلى أهله) قال الجزري: يقال أويت إلى المنزل وآويت غيري، وأويئته. وفي الحديث من المتعدي. قال المظهر: أي للجمعة واجبة على من كان بين وطنه وبين الموضع الذي يصلي فيه الجمعة مسافة يمكنه الرجوع بعد أداء الجمعة إلى وطنه قبل الليل، ذكره القاري. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث ما نصه: والمعنى أنها تجب على من يمكنه الرجوع إلى أهله قبل دخول الليل. واستشكل بأنه يلزم منه أنه يجب السعي من أول النهار، وهو بخلاف الآية-انتهى. وقيل: معناه أن الجمعة على من كان آوياً إلى أهله أي مقيماً في وطنه غير مسافر. وحاصله أن الجمعة واجبة على المقيم لا على المسافر. قلت: الحديث قد استدل به من قال من السلف: أنها تجب على من يؤويه الليل إلى أهله، لكنه حديث ضعيف غير صالح للاحتجاج، كما ستعرف. (رواه الترمذي) من طريق الحجاج بن نصير عن معارك بن عباد عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة. وروى البيهقي (ج3:ص176) نحوه من طريق مسلم عن معارك. (وقال هذا حديث إسناده ضعيف) ونقل عن أحمد أنه لم يعده شيئاً، وضعفه لحال إسناده، وقال لمن ذكره له: استغفر ربك. وهذا لأن في سنده ثلاثة ضعفاء، الأول الحجاج بن نصير قال الحافظ: ضعيف كان يقبل التلقين. ضعفه ابن معين والنسائي وابن سعد والدارقطني والأزدي وغيرهم. وقال أبوداود: تركوا حديثه. والثاني معارك بن عباد ضعفه الدارقطني. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: واهي الحديث. والثالث عبد الله بن سعيد المقبري، وهو متروك الحديث. واعلم أنهم اتفقوا على أنه يشترط للجمعة الجماعة والوقت والخطبة والعقل البلوغ والذكورة والحرية والسلامة من المرض والإقامة والاستيطان. واختلفوا في أنه هل يشترط العدد المخصوص المعين أم لا، وفيه أقوال كثيرة ذكرها الحافظ في الفتح (ج4ص507) وابن حزم في المحلى (ج5ص46- 49) والشوكاني في النيل (ج3ص108- 109) منها أنه اثنان كالجماعة، وهو قول النخعي وأهل الظاهر. ومنها اثنان مع الإمام، وهو قول أبي يوسف ومحمد. ومنها أنه ثلاثة معه، وهو مذهب أبي حنيفة.
ومنها أنه اثنا عشر، ومنها أربعون بالإمام، وهو قول الشافعي، وإليه ذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه. ومنها خمسون في رواية عن أحمد. والراجح عندي ما ذهب إليه أهل الظاهر أنه تصح الجمعة باثنين؛ لأنه لم يقم دليل على اشتراط عدد مخصوص، وقد صحت الجماعة في سائر الصلوات باثنين، ولا فرق بينها وبين الجمعة في ذلك، ولم يأت نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا. قال الشوكاني: الجمعة يعتبر فيها الاجتماع، وهو لا يحصل بواحد. وأما الاثنان فبإنضمام أحدهما إلى الآخر يحصل الاجتماع. وقد أطلق الشارع اسم الجماعة عليهما، فقال: الاثنان فما فوقهما جماعة كما تقدم، وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالإجماع. والجمعة صلاة فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل، ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها. وقد قال عبد الحق: إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث، وكذلك قال السيوطي: لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص-انتهى. واختلفوا أيضاً في محل إقامة الجمعة، فقال أبوحنيفة وأصحابه: لا تصح إلا في مصر جامع، وذهب الأئمة الثلاثة إلى جوازها وصحتها في المدن والقرى جميعاً. واستدل لأبي حنيفة بما روي عن علي مرفوعاً: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع. وقد ضعف أحمد، وغيره رفعه، وصحح ابن حزم، وغيره وقفه، وللاجتهاد فيه مسرح، فلا ينتهض للاحتجاج به فضلاً عن أن يخصص به عموم الآية أو يقيد به إطلاقها، مع أن الحنفية قد تخبطوا في تحديد المصر الجامع وضبطه على أقوال كثيرة متباينة متناقضة متخالفة جداً، كما لا يخفى على من طالع كتب فروعهم. وهذا يدل على أنه لم يتعين عندهم معنى الحديث. والراجح عندنا ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من عدم اشتراط المصر، وجوازها في القرى لعموم الآية وإطلاقها، وعدم وجود ما يدل على تخصيصها، ولا بد لمن يقيد ذلك بالمصر الجامع أن يأتي بدليل قاطع من كتاب أو سنة متواترة أو خبر مشهور بالمعنى المصطلح عند المحدثين، وعلى التنزل بخبر واحد مرفوع صريح صحيح يدل على التخصيص بالمصر الجامع. ويدل أيضاً على شرعيتها في القرى ما روى البخاري وغيره عن ابن عباس: أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثي قرية من قرى البحرين. كذا في رواية وكيع عند أبي داود، وكذا للإسماعيلي. وهذا أولى من قول البكري وغيره: إنها مدينة؛ لأن ما ثبت في نفس الحديث أصح مع احتمال أن تكون في أول قرية ثم صارت مدينة. وأما ما حكى الجوهري والزمخشري والجزري أن جواثي اسم حصن بالبحرين فلا ينافي كونها قرية. والظاهر أن عبد القيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي، ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن، كما استدل جابر وأبوسعيد على جواز العزل، فإنهم
فعلوه، والقرآن ينزل، فلم ينبهوا عنه، ولم يثبت برواية قوية أو ضعيفة أنه أسلم أهل قرية قبل عبد القيس. ومن ادعى ذلك فعلية البيان. قال الحافظ في شرح حديث ابن عباس المذكور: فيه إشعار بتقدم إسلام عبد القيس على غيرهم من أهل القرى وهو كذلك، كما قررته في أواخر كتاب الإيمان، وقال في شرح حديث عبد القيس، ما لفظه: فيه دليل على تقدم إسلام عبد القيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبد القيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق. ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضاً ما رواه المصنف (يعني البخاري) في الجمعة عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت الخ، قال: وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام-انتهى مختصراً. ويدل عليه أيضاً ما روى البيهقي في المعرفة أن النبي صلى الله عليه وسلم حين ركب من بني عمرو بن عوف في هجرته إلى المدينة مر على بني سالم، وهي قرية بين قباء والمدينة، فأدركته الجمعة فصلى فيهم الجمعة، وكانت أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم، وما روى ابن أبي شيبة وابن حزم عن عمر أنه كتب إلى أهل البحرين أن جمعوا حيثما كنتم. قال الحافظ: وهذا يشمل المدن والقرى، وما روى عبد الرزاق عن ابن عمر أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعيب عليهم. وذكره ابن حزم بلفظ: فلا ينهاهم عن ذلك. وروى البيهقي (ج3ص178) من طريق الوليد بن مسلم سألت الليث بن سعد فقال: كل مدينة أو قرية فيها جماعة أمروا بالجمعة، فإن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر وعثمان بأمرهما، وفيهما رجال من الصحابة. واختلفوا أيضاً أنه إذا وجبت الجمعة في موضع بشرائطها فعلى من يجب شهودها من أهل ذلك الموضع، وممن كان في حواليه، فقالت طائفة: تجب الجمعة على من آواه الليل إلى أهله، واستدلوا لذلك بحديث أبي هريرة، الذي فرغنا من شرحه، وقد عرفت أنه ضعيف جداً. وقالت طائفة: إنها تجب على من سمع النداء حقيقة أو حكماً. واستدلوا لذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدم، وقد تقدم أنه أيضاً ضعيف. وقالت طائفة: تجب على من بينه وبين المنار ثلاثة أميال. أما من هو في البلد فتجب عليه ولو كان من المنار على ستة أميال. وقالت طائفة: تجب على أهل المصر، ولا تجب على من كان خارج المصر، سمع النداء أو لم يسمع. وقال أبوحنيفة: لا تجب إلا في مصر جامع أو فيما هو في حكمه كمصلى العيد. قال ابن الهمام: ومن كان من توابع المصر فحكمه حكم أهل المصر في وجوب الجمعة عليه. واختلفوا فيه، فعن أبي يوسف إن كان الموضع يسمع فيه النداء من المصر فهو من توابع المصر، وإلا فلا. وعنه أنها تجب في ثلاثة فراسخ. وقال بعضهم: قدر ميل. وقيل: قدر ميلين. وقيل: ستة أميال. وقيل: إن أمكنه أن يحضر الجمعة ويبيت بأهله من غير تكلف تجب عليه الجمعة، وإلا فلا. قال في البدائع: وهذا أحسن-انتهى. والراجح عندي: أنه لا يشترط سماع الأذان في المصر، وكذا في القرية
1388-
(9) وعن طارق بن شهاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا على أربعة: عبد مملوك
ــ
الكبيرة. وأما من كان خارج المصر والقرية الكبيرة من أهالي القرى الصغيرة القريبة أو البعيدة فلا يجب عليهم الشهود في المصر أو القرية الكبيرة للجمعة، بل لهم أن يقيموا الجمعة في مساكنهم لوجوب الجمعة عليهم لعموم قوله تعالى:{إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [62: 9] ، ولعدم ما يدل على وجوب الإتيان إلى المصر للجمعة على من كان في حواليه. وارجع لمزيد التفصيل إلى عون المعبود (ج1ص413- 416) وقد ألف علماؤنا رسائل عديدة في مسئلة إقامة الجمعة في القرى، وبسطوا الكلام فيها على الرد على الحنفية، فعليك أن تراجع هذه الرسائل.
1388-
قوله: (وعن طارق بن شهاب) بن عبد شمس البجلي الأحمسى أبوعبد الله الكوفي أدرك الجاهلية، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئاً. قال أبوحاتم: ليست له صحبة، والحديث الذي رواه مرسل. قال الحافظ في الإصابة: إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي على الراجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح. وقد أخرج له النسائي عدة أحاديث. وذلك مصير منه إلى إثبات صحبته. وأخرج له أبوداود حديثاً واحداً، وقال: طارق رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئاً-انتهى. وقال ابن الأثير في جامع الأصول: رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له سماع منه إلا شاذاً، ذكره ابن التركماني في الجوهر النقي، والمصنف في رجال المشكاة. غزا طارق في خلافة أبي بكر وعمر ثلاثاً وثلاثين أو أربعاً وثلاثين غزوة، ومات سنة (82 أو83أو 84) . (الجمعة) أي صلاتها. (حق واجب) أي فرض مؤكد. (على كل مسلم) فيه دليل على أن صلاة الجمعة من فروض الأعيان، ورد على من قال بأنها فرض كفاية. (في جماعة) ؛ لأنها لا تصح إلا بجماعة بالإجماع، وإنما اختلفوا في العدد المخصوص الذي تحصل به، كما تقدم. (إلا على أربعة عبد مملوك) بالجر على أنه عطف بيان للأربعة، قال القاري: وفي بعض النسخ برفع عبد، وما بعده على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو هم. و"أو" بمعنى الواو. قال الطيبي:"إلا" بمعنى غير، وما بعده مجرور صفة لمسلم أي على كل مسلم غير عبد مملوك الخ وقال ابن حجر: الأحسن جعله استثناء من واجب على كل مسلم. والتقدير إلا أنها لا تجب على أربعة. ولفظ أبي داود: إلا أربعة عبد مملوك أي بإسقاط لفظ "على". قال السيوطي: وقد يستشكل. (أي قوله عبد مملوك بصورة المرفوع) بأن المذكورات عطف بيان لأربعة، وهو منصوب؛ لأنه استثناء من موجب. والجواب أنها منصوبة لا مرفوعة، وكانت عادة المتقدمين أن يكتبوا المنصوب
أو امرأة، أو صبي، أو مريض)) . رواه أبوداود.
ــ
بغير (ألف) ويكتبوا عليه تنوين النصب، ذكره النووي في شرح مسلم. قال السيوطي ورأيته أنا في كثير من كتب المتقدمين المعتمدة، ورأيته في خط الذهبي في مختصر المستدرك. وعلى تقدير أن تكون مرفوعة تعرب خبر مبتدأ-انتهى. وقوله:"عبد مملوك" فيه دليل على أن الحرية شرط لوجوب الجمعة، وأن الجمعة غير واجبة على العبد، وهو متفق عليه إلا عند داود، فقال بوجوبها عليه لدخوله تحت عموم الخطاب في قوله:{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة} [62: 9] الخ، وأجيب عنه بأنه خصصته الأحاديث وإن كان فيها مقال، فإنه يقوي بعضها بعضاً. (أو امرأة) فيه أن الذكورة من شرائط وجوب الجمعة، وأن الجمعة لا تجب على المرأة، وهو مجمع عليه. وقال الشافعي: يستحب للعجائز حضورها بإذن الزوج. (أو صبي) فيه أن البلوغ شرط لوجوب الجمعة، وهو متفق على أن لا جمعة على الصبي، وفي معناه المجنون. (أو مريض) أي مرضاً يشق معه الحضور عادة فيه أن المريض لا تجب عليه الجمعة إذا كان الحضور يجلب عليه مشقة، وهو يدل على أن صحة البدن من شرائط وجوب الجمعة. قال البيهقي في المعرفة: وعند الشافعي لا جمعة على المريض الذي لا يقدر على شهود الجمعة إلا بأن يزيد في مرضه...... أو يبلغ به مشقة غير محتملة، وكذلك من كان في معناه من أهل الأعذار-انتهى. وقال ابن الهمام: الشيخ الكبير الذي ضعف يلحق بالمريض، فلا يجب عليه-انتهى. وقد ألحق أبوحنيفة الأعمى بالمريض وإن وجد قائداً لما في ذلك من المشقة، ولأن القادر بقدرة الغير غير قادر عنده، وقال الشافعي وأبويوسف ومحمد: إنه غير معذور إن وجد قائداً، فيجب عليه عندهم عند تيسر القائد. (رواه أبوداود) وقال طارق: قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً، قال ابن الهمام: وليس هذا قدحاً في صحبته ولا في الحديث، بل بيان للواقع-انتهى. والحديث أخرجه أيضاً البيهقي في السنن (ج3ص172، 183) والدارقطني (ص164) وأخرجه الحاكم (ج1ص288) والبيهقي في المعرفة من حديث طارق المذكور عن أبي موسى. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في التلخيص: وصححه غير واحد. وقال الخطابي في المعالم (ج1ص244) : ليس إسناد هذا الحديث بذلك، وطارق بن شهاب لا يصح له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم-انتهى. قال العراقي: فإذا قد ثبتت صحبته فالحديث صحيح. وغايته أن يكون مرسل صحابي، وهو حجة عند الجمهور، إنما خالف فيه أبوإسحاق الاسفرايني، بل ادعى بعض الحنفية الإجماع على أن مرسل الصحابي حجة-انتهى. وبنحو هذا قال النووي في شرح المهذب (ج4ص483) ، وفي الخلاصة، قلت: وقد اندفع الإعلال بالإرسال بما في رواية الحاكم من ذكر أبي موسى، على أن للحديث شواهد ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص170) والشوكاني في النيل (ج3ص103) والزيلعي في نصب الراية (ج2ص199) ، فمنها حديث جابر عند الدارقطني (ص164) ، والبيهقي (ج3ص184)