الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1225-
(8) وعن ربيعة بن كعب الأسلمي، قال:((كنت أبيت عند حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أسمعه إذا قام من الليل يقول: سبحان رب العالمين الهوي، ثم يقول: سبحان الله وبحمده الهوي)) . رواه النسائي. وللترمذي نحوه، وقال: حديث حسن صحيح.
(33) باب التحريض على قيام الليل
{الفصل الأول}
1226-
(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يعقد الشيطان
ــ
1225-
قوله: (عن ربيعة بن كعب) بن مالك. (الأسلمي) صحابي من أهل الصفة، خدم النبي صلى الله عليه وسلم، فروى أحمد (ج4 ص59) عن نعيم بن مجمر عن ربيعة قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع حتى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة فأجلس ببابه إذا دخل بيته أقول: لعلها أن تحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة الخ. (كنت أبيت) وفي رواية لأحمد: كنت أنام. (عند حجرة النبي صلى الله عليه وسلم) أي عند باب الحجرة فيها النبي صلى الله عليه وسلم. (فكنت أسمعه) بصيغة المتكلم والضمير المنصوب للنبي صلى الله عليه وسلم. (إذا قام من الليل) يصلي. (يقول سبحان رب العالمين الهوي) بفتح الهاء وكسر الواو ونصب الياء المشددة. قال في النهاية: الحين الطويل من الزمان. وقيل: هو مختص بالليل، فإن قلت مالفرق بين قوله هويا منكراً في حديث حميد بن عبد الرحمن في الفصل الثالث من باب صلاة الليل وبين الهوي ههنا معرفا؟ قلت: التعريف لاستغراق الحين الطويل بالذكر بحيث لا يفتر عنه في بعضه، والتنكير لا يفيده نصاً، كما تقول قام زيد اليوم أي كله أو يوماً أي بعضه، ومنه قوله تعالى:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} [17: 1] أي بعضاً من الليل، قاله الطيبي:(ثم يقول سبحان الله وبحمده الهوي) وفي رواية لأحمد: فكنت أسمعه إذا قام من الليل يصلي الحمد لله رب العالمين الهوي، قال: ثم يقول سبحان الله العظيم وبحمده الهوي. وفي رواية له أيضاً: كنت أبيت عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيه وضوءه فأسمعه بعد هوي الليل يقول سمع الله لمن حمده، وأسمعه بعد الهوي من الليل يقول الحمد لله رب العالمين. (رواه النسائي) أي بهذا اللفظ في باب ذكر ما يستفتح به القيام من كتاب قيام الليل. (وللترمذي نحوه) أي بمعناه أخرجه في باب الدعاء إذا انتبه من الليل من أبواب الدعوات، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص57، 58) وابن ماجه في باب ما يدعو به إذا انتبه من الليل من أبواب الدعاء والبيهقي (ج2 ص486) .
(باب التحريض) أي الترغيب والتحثيث. (على قيام الليل) أي صلاة التهجد.
1226-
قوله: (يعقد) بكسر القاف أي يشد ويربط. (الشيطان) المراد به الجنس، ويكون فاعل ذلك
على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك طويل فارقد،
ــ
القرين أو غيره من أعوان الشيطان، ويحتمل أن يراد به رأس الشياطين وهو إبليس، وتجوز نسبة ذلك إليه، لكونه الآمر لأعوانه بذلك الداعي إليه (على فاقية رأس أحدكم) أي مؤخره، وقفاه وقافية كل شيء آخره، ومنه قافية الشعر، لأنه آخره. وظاهر قوله "أحدكم" التعميم في المخاطبين، ومن في معناهم، ويمكن أن يخص منه من ورد في حقه أنه يحفظ من الشيطان كالأنبياء ومن يتناوله قوله:{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} ، وكمن قرأ آية الكرسي عند نومه لطرد الشيطان، فقد ثبت أنه يحفظ من الشيطان حتى يصبح. (إذا هو نام) أي حين نام. قال الحافظ: كذا للأكثر، وللحموي والمستملي: إذا هو نائم بوزن فاعل، والأول أصوب، وهو الذي في الموطأ- انتهى. وقيل: بل الظاهر أن رواية المستملي أصوب، لأنها جملة اسمية والخبر فيها اسم. (ثلاث عقد) كلام إضافي منصوب، لأنه مفعول، والعقد بضم العين وفتح القاف جمع عقدة بسكون القاف، والتقييد بالثلاث. إما للتأكيد أو لأنه يريد أن يقطعه عن ثلاثة أشياء الذكر والوضوء والصلاة، فكأنه منع من كل واحدة منها بعقدة عقدها على مؤخر رأسه، وكان تخصيص القفا بذلك، ولكونه محل الواهمة ومحل تصرفها، وهو أطوع القوى للشيطان وأسرع إجابة لدعوته. (على كل عقدة) متعلق بيضرب، وللمستلي: على مكان عقدة، والكشمهيني: عند يلقي مكان كل عقدة. وقوله: يضرب أي بيده على العقدة تأكيداً وأحكاماً لها قائلاً: عليك ليل طويل. وقيل: معناه يلقي الشيطان في نفس النائم هذا القول ويسوله واقعاً ومستولياً على كل عقدة يعقدها من ضرب الشبكة على الطائر ألقاها عليه. وقيل ومعناه يحجب الحس عن النائم حتى لا يستيقظ، ومنه قوله تعالى:{وضربنا على آذانهم} [18: 11] أي حجبنا الحس أن يلج في آذانهم فينتبهوا، وفي حديث أبي سعيد: ما ينام أحد إلا ضرب على سماخه بجرير معقود. أخرجه المخلص في فوائده. والسماخ بكسر السين المهملة وآخره معجمة، ويقال بالصاد المهملة بدل السين. (عليك ليل طويل فارقد) أي يضرب على كل عقدة قائلاً عليك ليل طويل الخ. فالجملة مفعول للقول المحذوف، وارتفاع ليل بالابتداء وعليك خبره مقدماً، أي باق عليك ليل طويل، ويجوز أن يكون ارتفاع ليل بفعل محذوف، أي بقي عليك ليل طويل، وعلى هذا كان الفاء في قوله "فارقد" رابطة شرط مقدر، أي وإذا كان كذلك فارقد ولا تعجل بالقيام ففي الوقت متسع. وقيل: قوله عليك اغراء أي عليك بالنوم أمامك ليل طويل، فالكلام جملتان، والثانية مستأنفة كالتعليل للجملة الأولى. وفي رواية مسلم: عليك ليلاً طويلاً. قال عياض رواية الأكثرين عن مسلم بالنصب على الإغراء. قال القرطبي: الرفع أولى من جهة المعنى، لأنه الأمكن في الغرور من حيث أنه يخبره عن طويل الليل ثم يأمره بالرقاد بقوله "فارقد". وإذا نصب على الإغراء لم يكن فيه إلا الأمر بملازمة طول الرقاد، وحينئذٍ يكون قوله "فارقد" ضائعاً، ومقصود الشيطان بذلك تسويفه بالقيام والإلباس عليه. وقد اختلف في هذا العقد: فقيل هو على الحقيقة، وأنه كما يعقد الساحر من يسحره، وأكثر من يفعله النساء تأخذ إحداهن
فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة،
ــ
الخيط فتعقد منه عقدة، وتتكلم عليها بالكلمات السحرية، فيتأثر المسحور عند ذلك، ومنه قوله تعالى. {ومن شر النفاثات في العقد} [4:113] وعلى هذا فالمعقود شيء عند قافية الرأس لا قافية نفسها، وهل العقد في شعر الرأس أو في غيره؟ الأقرب الثاني إذ ليس لكل أحد شعر، ويؤيده رواية ابن ماجه بلفظ: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم بالليل بحبل فيه ثلاث عقد، ولأحمد: إذا نام أحدكم عقد على رأسه بجرير، ولابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر: ما من ذكر ولا أنثى إلا على رأسه جرير معقود حين يرقد-الحديث. والجرير بفتح الجيم هو الحبل وقيل: هو على المجاز كأنه شبه فعل الشيطان بالنائم من منعه من الذكر والصلاة بفعل الساحر بالمسحور بجامع المنع من التصرف، فلما كان الساحر يمنع بعقده ذلك تصرف من يحاول عقده كان هذا مثله من الشيطان للنائم الذي لا يقوم من نومه إلى ما يحب من ذكر الله والصلاة، وقيل: المراد به عقد القلب وتصميمه على الشيء كأنه يوسوس له، بأنه بقي من الليل قطعة طويلة فيتأخر عن القيام، وانحلال العقد كناية عن علمه بكذبه فيما وسوس به. وقيل: العقد كناية عن تثبيط الشيطان وتعويقه للنائم من قيام الليل بالقول المذكور، ومنه عقدت فلانًا عن امرأته أي منعته عنها، أو عن تثقيله عليه النوم وإطالته، كأنه قد سد عليه سداً وعقد عليه عقداً. قال البيضاوي: عقد الشيطان على قافيته استعارة عن تسويل الشيطان وتحبيبه النوم إليه والدعة والاستراحة، يعني أن الشيطان يحبب إليه النوم ويزين له الدعة والاستراحة، ويسول كلما انتبه أنه لم يستوف حظه من النوم، فيوثقه عن القيام إلى العبادة ويبطئه بتلك التسويلات عن النهوض إليها. (فإن استيقظ) أي من نوم الغفلة. (فذكر الله) بأي ذكر كان، لكن المأثور أفضل. قال الحافظ: لا يتعين للذكر شيء مخصوص لا يجزئ غيره بل كل ما صدق عليه ذكر الله أجزأ ويدخل فيه تلاوة القرآن وقراءة الحديث النبوي والاشتغال بالعلم الشرعي، وأولى ما يذكر به ما تقدم في الباب الذي قبله من حديث عبادة بن الصامت. (انحلت) أي انفتحت. (عقدة) واحدة من الثلاث. (فان توضأ) خص الوضوء بالذكر، لأنه الغالب، وإلا فالجنب لا تنحل عقدته إلا بالاغتسال والتيمم، يقوم مقام الوضوء والغسل، ويجزئ عنهما لمن ساغ له ذلك، ولا شك أن في معاناة الوضوء عوناً كبيراً على طرد النوم لا يظهر مثله في التيمم. (انحلت عقدة) أخرى ثانية. (فإن صلى) أي النافلة ولو ركعتين. قال العراقي في شرح الترمذي: السر في استفتاح الصلاة بركعتين خفيفتين المبادرة إلى حل عقد الشيطان، وبناه على أن الحل لا يتم إلا بتمام الصلاة. قال الحافظ: وهو واضح، وقد وقع عند ابن خزيمة عن أبي هريرة في آخر الحديث: فحلوا عقد الشيطان ولو بركعتين. وفعله صلى الله عليه وسلم مع كونه محفوظاً ومنزهاً عن عقد الشيطان تعليماً للأمة وإرشاداً لهم إلى ما يحفظهم من الشيطان. (انحلت عقدة) كذا في جميع النسخ الموجودة عندنا بلفظ الإفراد، وكذا وقع في المصابيح. قال الحافظ في الفتح قوله: انحلت عقده بلفظ الجمع بغير اختلاف في البخاري، ووقع لبعض رواة الموطأ بالإفراد-انتهى. قال
فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس، كسلان))
ــ
القاري: فينبغي أن يكون في المشكاة بلفظ الجمع لقوله في آخره: متفق عليه، لكن في جميع النسخ الحاضرة بلفظ الإفراد، ذكره ميرك-انتهى. قلت: وقع في نسخ البخاري الموجودة الحاضرة عندنا من طبعات الهند ومصر: انحلت عقدة أي بالإفراد. وقال القسطلاني قوله: عقده ضبطها في اليونينية بلفظ الجمع والإفراد، كما ترى. قال ابن قرقول في مطالعة كعياض في مشارقه: لا خلاف في الأولى، والثانية أنه بالإفراد، واختلف في الثالثة فقط فوقع في الموطأ لابن وضاح على الجمع، وكذا ضبطناه في البخاري، وكلاهما يعني الجمع والإفراد صحيح والجمع أوجه. لاسيما وقد جاء في رواية مسلم في الأولى عقدة، وفي الثانية عقدتان، وفي الثالثة العقد-انتهى. قال الحافظ: ويؤيد الإفراد رواية أحمد بلفظ: فإن ذكر الله انحلت عقدة واحدة، وإن قام فتوضأ أطلقت الثانية، فإن صلى أطلقت الثالثة، وكأنه محمول على الغالب، وهو من ينام مضطجعاً فيحتاج إلى الوضوء إذا انتبه، فيكون لكل فعل عقدة يحلها، ويؤيد الأول أي الجمع ما في بدء الخلق عند البخاري بلفظ: عقده كلها. ولمسلم: انحلت العقد. وظاهر رواية الجمع أن العقد تنحل كلها بالصلاة خاصة، وهو كذلك في حق من لم يحتج إلى الطهارة كمن نام متمكناً غير متكئ مثلاً، ثم انتبه فصلى من قبل أن يذكر أو يتطهر، فإن الصلاة يجزئه في حل العقد كلها، لأنها تستلزم الطهارة وتتضمن الذكر، وعلى هذا فيكون معنى قوله: فإذا صلى انحلت عقده كلها، إن كان المراد به من لا يحتاج إلى الوضوء، فظاهر على ما قررناه، وإن كان من يحتاج إليه، فالمعنى انحلت بكل عقده أو انحلت عقده كلها بانحلال الأخيرة التي بها يتم انحلال العقد-انتهى. (فأصبح) أي دخل في الصباح أو صار. (نشيطاً) أي لسروره بما وفقه الله له من الطاعة، وبما وعده من الثواب، وما زال عنه من عقد الشيطان. (طيب النفس) لما بارك الله له في نفسه من هذا التصرف الحسن، كذا قيل. قال الحافظ: والظاهر أن في صلاة الليل سراً في طيب النفس وإن لم يستحضر المصلي شيئاً مما ذكر. (وإلا) أي وإن لم يفعل كذلك بل ترك الذكر والوضوء والصلاة. (أصبح خبيث النفس) أي محزون القلب كثير الهم. قيل: هذا الحديث يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي. قال ابن عبد البر: وليس كذلك، لأن النهي إنما ورد عن إضافة المرء ذلك إلى نفسه كراهة لتلك الكلمة، وهذا الحديث وقع ذما لفعله، ولكل من الحديثين وجه. وقال الباجي: ليس بين الحديثين اختلاف؛ لأنه نهى عن إضافة ذلك إلى النفس؛ لكون الخبث بمعنى فساد الدين، ووصف بعض الأفعال بذلك تحذيراً منها وتنفيراً. قال الحافظ: تقرير الأشكال أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضافة ذلك إلى النفس فكل ما نهى المؤمن أن يضيفه إلى نفسه نهى أن يضيفه إلى أخيه المؤمن وقد وصف صلى الله عليه وسلم هذا المرء بهذه الصفة، فيلزم جواز وصفنا له بذلك لمحل التأسي، ويحصل الانفصال فيما يظهر بأن النهي محمول على ما إذا لم يكن هناك حامل على الوصف بذلك كالتنفير والتحذير-انتهى. (كسلان) لبقاء أثر تثبيط الشيطان ولشؤم تفريطه وظفر الشيطان
متفق عليه.
1227-
(2) وعن المغيرة، قال: ((قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له: لم تصنع هذا وقد غفر
لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً))
ــ
به بتفويته الحظ الأوفر من قيام الليل، فلا يكاد يخف عليه صلاة ولا غيرها من القربات والطاعات. وكسلان غير منصرف للوصف، وزيادة اللألف والنون مذكر كسلى، ومقتضى قوله وإلا أصبح أنه إن لم يجمع الأمور الثلاثة دخل تحت من يصبح خبيثاً كسلان وإن آتي ببعضها، لكن يختلف ذلك بالقوة والخفة، فمن ذكر الله مثلاً كان في ذلك أخف ممن لم يذكر أصلاً. وهذا الذم مختص بمن لم يقم إلى الصلاة وضيعها، أما من كانت له عادة فغلبته عينه، فقد ثبت أن الله يكتب له أجر صلاته ونومه عليه صدقة، ذكره ابن عبد البر. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2:ص51 وج3:ص15) وغيرهم.
1227-
قوله: (قام النبي صلى الله عليه وسلم) أي في صلاة الليل. وقال ابن حجر: أي صلى ليلاً طويلاً. وقيل: التقدير قام بصلاة الليل على وجه الإطالة والإدامة. (حتى تورمت) بتشديد الراء أي انتفخت من طول القيام. (قدماه) مرفوع، لأنه فاعل تورمت. وفي رواية البخاري: كان يصلي حتى ترم أو تنتفخ قدماه. وفي أخرى له: إن كان ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه. وفي حديث عائشة عند البخاري: كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. وفي حديث أبي هريرة عند النسائي: حتى تزلع، يعني تشقق قدماه. ولا إختلاف بين هذه الروايات فإنه إذا حصل الورم أو الانتفاخ حصل الزلع والتشقق. (فقيل له) لم يبين القائل من هو. وفي حديث عائشة فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ. (لم تصنع هذا) لم أجد هذه الجملة في رواية المغيرة عند أحد ممن خرج حديثه، نعم هي في حديث عائشة، كما تقدم. وفي رواية لمسلم من حديث المغيرة: أتكلف هذا، والمعنى أتلزم نفسك بهذه الكلفة والمشقة. وفي حديث أبي هريرة عند البزار: أتفعل هذا وقد جاءك من الله أن غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قيل: الاستفهام للتعجب. (وقد غفر لك) بصيغة المجهول. وفي البخاري: قد غفر الله لك. (ما تقدم من ذنبك وما تأخر) أي جميع ما فرط منك مما يصح أن تعاتب عليه. قيل: هو محمول على ترك الأولى، وسمي ذنباً لعظم قدره صلى الله عليه وسلم، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. قيل: المراد لو وقع منك ذنب لكان مغفوراً، ولا يلزم من فرض ذلك وقوعه، والله أعلم. (أفلا أكون عبداً شكوراً) تقديره أأترك عبادة ربي لما غفر لي، فلا أكون شاكراً على نعمة المغفرة وغيرها مما لا تعد ولا تحصى من خير الدارين، والعبادة لا تحصر في مغفرة الذنوب، بل إنما وجبت شكراً لنعم المولى تعالى. قال الطيبي: الفاء مسبب عن محذوف أي أأترك قيامي وتهجدي
متفق عليه.
1228-
(3) وعن ابن مسعود، قال: ((ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقيل له: ما زال نائماً حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة،
ــ
لما غفر لي، فلا أكون عبداً شكوراً، يعني أن غفران الله إياي سبب، لأن أقوم وأتهجد شكراً له، فكيف أتركه أي كيف لا أشكره وقد أنعم علي، وخصني بخير الدارين، فإن الشكور من أبنية المبالغة يقتضي بنعمة خطيرة، وتخصيص العبد بالذكر مشعر بغاية الإكرام والقرب من الله تعالى، ومن ثم وصفه به في مقام الإسراء، ولأن العبودية تقتضي صحة النسبة وليست إلا بالعبادة، والعبادة عين الشكر. وقال القرطبي: ظن من سأله عن سبب تحمله المشقة في العبادة، أنه إنما يعبد الله خوفاً من الذنوب وطلباً للمغفرة وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئاً فيتعين كثرة الشكر على ذلك، والشكر الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك منه سمي شكوراً، ومن ثم قال سبحانه وتعالى. {وقليل من عبادي الشكور} [13:34] قال ابن بطال في هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة وإن أضر ذلك ببدنه، لأنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له فكيف بمن لم يعلم بذلك فضلاً عمن لم يأمن أنه استحق النار-انتهى. قال الحافظ: ومحل ذلك إذا لم يفض إلى الملال، لأن حال النبي صلى الله عليه وسلم كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل من عبادة ربه وإن أضر ذلك ببدنه، بل صح أنه قال: وجعلت قرة عيني في الصلاة، كما أخرجه النسائي من حديث أنس، فأما غيره صلى الله عليه وسلم فإذا خشي الملل لا ينبغي له أن يكره نفسه وعليه، يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا. وفي الحديث مشروعية الصلاة للشكر، وفيه أن الشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان، كما قال الله تعالى. {اعملوا آل داود شكراً} [13:34] . (متفق عليه) واللفظ للبخاري في تفسير سورة الفتح إلا قوله "لم تصنع هذا" فإنه ليس عند البخاري بل ولا عند غيره من مخرجي هذا الحديث. وأخرجه مسلم في أواخر الكتاب في باب إكثار الأعمال والإجتهاد في العبادة والترمذي والنسائي وابن ماجه في الصلاة.
1228-
قوله: (ذكر) بضم الذال على بناء المفعول. (رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، لكن أخرج سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي عن ابن مسعود ما يؤخذ منه أنه هو ولفظه بعد سياق الحديث بنحوه: وأيم الله لقد بال في أذن صاحبكم ليلة يعني نفسه. (فقيل) أي قال رجل من الحاضرين. (له) ليس هذا اللفظ في الصحيحين ولا في المصابيح ولا في جامع الأصول (ج7:ص46) . (مازال) أي الرجل المذكور. (نائماً حتى أصبح) وفي رواية للبخاري: ذكر رجل نام ليلة حتى أصبح. (ما قام إلى الصلاة) اللام للجنس، ويحتمل
قال: ذلك رجل بال الشيطان في أذنه، أو قال: في أذنيه)) متفق عليه.
ــ
العهد، ويراد به صلاة الليل أو المكتوبة أي العشاء أو الصبح. ويدل لكون المراد المكتوبة قول سفيان فيما أخرجه ابن حبان في صحيحه: هذا عندنا نام عن الفريضة، وظاهر صنيع مسلم والنسائي وابن ماجه يدل على كون المراد صلاة الليل. قال الطيبي: يحتمل أن يكون أصبح تامة، وما قام في محل النصب حالاً من الفاعل، أي أصبح وحاله أنه غير قائم إلى الصلاة، ويحتمل أن تكون ناقصة وما قام خبرها، ويحتمل أن تكون ما قام جملة مستأنفة مبنية للجملة الأولى أو مؤكدة مقررة لها. (قال) صلى الله عليه وآله وسلم. (ذلك رجل) وفي الصحيحين: ذاك رجل. وكذا نقله الجزري. (بال الشيطان في أذنه) بالإفراد للجنس، وهو بضم الهمزة والذال وسكونها. (أو قال في أذنيه) بالتثنية للمبالغة وأو للشك من الراوي، وهي رواية جرير عن منصور عن أبي وائل عن ابن مسعود. وفي رواية أبي الأحوص عن منصور، عند البخاري: بال في أذنه أي بالإفراد فقط، واختلف في بول الشيطان، فقيل: هو على حقيقته. قال القرطبي وغيره: لا مانع من ذلك إذ لا إحالة فيه، لأنه ثبت أن الشيطان يأكل ويشرب ويضرط وينكح، فلا مانع من أن يبول. وقد يتأول بتأويلات مناسبة: منها أنه تمثيل شبه تثاقل نومه وإغفاله عن الصلاة وعدم سماعه صوت المؤذن وعدم انتباهه بصياح الديك ونحوه، بحال من وقع البول في أذنه فثقل سمعه وأفسد حسه والبول ضار مفسد، قاله الخطابي: قال الحافظ: والعرب تكنى عن الفساد بالبول. قال الراجز: بال سهيل في الفضيخ ففسد. وكنى بذلك عن طلوعه، لأنه وقت إفساد الفضيخ فعبر عنه بالبول. ومنها أن المراد أن الشيطان ملأ سمعه بالأباطيل وبأحاديث اللغو، فأحدث ذلك في أذنه وقرا عن استماعه دعوة الحق، قاله التوربشتي. ومنها أنه كناية عن استهانة الشيطان والاستخفاف والازدراء به، يعني أن الشيطان استولى عليه واستخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول، إذ من عادة المستخف بالشيء غاية الاستخفاف أن يبول عليه. ومنها أنه كناية عن سد الشيطان أذن الذي ينام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر. ومنها أنه استعارة عن تحكمه فيه وجعله مسخراً ومطيعاً ومنقاداً للشيطان، يقبل ما يأمره من ترك الصلاة وغيرها. قال الطيبي: خص الأذن بالذكر والعين أنسب بالنوم إشارة إلى ثقل النوم، فإن المسامع هي موارد الإنتباه بالأصوات ونداء حي على الصلاة. قال الله تعالى. {فضربنا على آذانهم في الكهف} [11:18] أي أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات، وخص البول من الأخبثين، لأنه مع خباثته أسهل مدخلاً في تجاويف الخروق وأوسع نفوذاً في العروق، فيورث الكسل في جميع الأعضاء. (متفق عليه) أخرجه البخاري في التهجد من طريق أبي الأحوص. وفي صفة إبليس من بدأ الخلق من طريق جرير. وأخرجه مسلم من طريق جرير فقط، والسياق المذكور إلى قوله: ما قام إلى الصلاة لأبي الأحوص وما بعده من رواية جرير. والحديث أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي (ج3:ص15) .
1229-
(4) وعن أم سلمة، قالت: ((استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعاً، يقول: سبحان الله! ماذا
أنزل الليلة من الخزائن؟ ! وماذا أنزل من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات – يريد
أزواجه – لكي يصلين؟ رب كاسية في الدنيا
ــ
1229-
قوله: (عن أم سلمة) أم المؤمنين. (استيقظ) أي تيقظ فالسين ليست هنا للطلب، أي انتبه من النوم. (ليلة) أي من لياليها. (فزعاً) بكسر الزاى حال أي خائفاً مضطرباً مما شاهده. (يقول) حال أيضاً. (سبحان الله) وفي رواية: فقال سبحان الله. وفي أخرى: استيقظ من الليل وهو يقول: لا إله إلا الله. وقوله: سبحان الله بالنصب على المصدرية بفعل لازم الحذف، قاله تعجباً واستعظاماً، والعرب قد تستعمله في مقام التعجب والتعظيم. وقوله:(ماذا أنزل الليلة) كالتقرير والبيان، لأن ما استفهامية متضمنة لمعنى التعجب والتعظيم. وأنزل بضم الهمزة وكسر الزاي، والليلة بالنصب على الظرفية. وهذه رواية أبي ذر عن الكشمهيني. وفي رواية غيره: ماذا أنزل الله بإظهار الفاعل. (من الخزائن وماذا أنزل من الفتن) عبر عن الرحمة بالخزائن كقوله تعالى. {خزائن رحمة ربك} [9:38] وقوله: {خزائن رحمة ربي} [100:17] وعبر عن العذاب بالفتن، لأنها أسباب مؤدية إلى العذاب، وجمعهما لسعتهما وكثرتهما، واستعمل المجاز في الإنزال، والمراد إعلام الملائكة بالأمر المقدور، وكأنه صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه سيقع بعده فتن. وتفتح لهم الخزائن، أو أوحى الله تعالى إليه ذلك قبل النوم، فعبر عنه بالإنزال، وهو من المعجزات، فقد فتحت خزائن فارس والروم وغيرهما كما أخبر عليه السلام، ووقعت الفتن بعده كما هو المشهور. (من يوقظ) أي من ينتدب فيوقظ. قال ابن الملك: استفهام أي هل أحد يوقظ؟ قال الحافظ: أراد بقوله: من يوقظ بعض خدمه، كما قال يوم الخندق: من يأتيني بخبر القوم؟ وأراد أصحابه، لكن هناك عرف الذي انتدب، وهنا لم يذكر (صواحب الحجرات) كلام إضافي مفعول لقوله: يوقظ. وصواحب جمع صاحبة. والحجرات بضم الحاء المهملة وفتح الجيم. قال القسطلاني: والذي في اليونينية بضم الجيم أيضاً جمع حجرة، وهي منازل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. (يريد أزواجه) أي يعني صلى الله عليه وسلم بصواحب الحجرات أزواجه الطاهرات. (لكي يصلين) ويستعذن مما أراه الله من الفتن النازلة كي يوافقن المرجو فيه الإجابة. وفي رواية: حتى يصلين، وإنما خصهن بالإيقاظ، لأنهن الحاضرات حينئذٍ، أومن باب: إبدأ بنفسك ثم بمن تعول. وهذا يدل على أن المراد بالايقاظ: الإيقاظ لصلاة الليل، لا لمجرد الإخبار بما أنزل، لأنه لو كان لمجرد الإخبار لكان يمكن تأخيره إلى النهار، لأنه لا يفوت. وبهذا ظهرت مطابقة الحديث للباب، وأن فيه التحريض على صلاة الليل. ويؤخذ منه أنها ليست بواجبة، لأنه ترك إلزامهن بذلك، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث: باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل من غير إيجاب. (رب كاسية) وفي رواية: "فرب " زيادة فاء في أوله. وفي رواية "يا رب كاسية"
عارية في الآخرة)) . رواه البخاري.
1230-
(5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا
ــ
بزيادة حرف النداء في أوله، أي يا قوم أو يا سامعين، فالمنادى فيه محذوف. وفي رواية:"كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة، وهي تدل على أن "رب" ههنا للتكثير، لأن معنى كم الخبرية التكثير بلا خلاف، ولأنه ليس مراده أن ذلك قليل، بل المتصف بذلك من النساء كثير. (عارية) بتخفيف الياء. قال الحافظ: وهي مجرورة في أكثر الروايات على النعت. قال السهيلي: إنه الأحسن عند سيبوية، لأن رب عنده حرف جر يلزم صدر الكلام، قال: ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ، والجملة في موضع النعت أي هي عارية، والفعل الذي تتعلق به رب محذوف، أي رب كاسية هي عارية عرفتها-انتهى. واختار الكسائي أن تكون رب اسماً مبتدأ، والمرفوع خبرها. واختلف في المراد بقوله: كاسية وعارية على أوجه: أحدها رب امرأة أو نسمة أو نفس كاسية في الدنيا بالثياب لوجود الغنى، عارية في الآخرة من الثواب لعدم العمل في الدنيا. ثانيها: كاسية بالثياب، لكنها رقيقة لا تمنع إدراك البشرة، شفافة لا تستر العورة، عارية في الآخرة جزاء على ذلك، أي معاقبة في الآخرة بفضيحة التعري، ففيه نهي عن لبس ما يشف من الثياب. ثالثها: كاسية من نعم الله، عارية من الشكر الذي تظهر ثمرته في الآخرة بالثواب. رابعها: كاسية جسدها، لكنها تشد به خمارها من ورائها، فيبدو صدرها، فتصير عارية، فتعاقب في الآخرة. خامسها: كاسية من خلعة التزوج بالرجل الصالح، عارية في الآخرة من العمل، فلا ينفعها صلاح زوجها، كما قال تعالى: {فلا أنساب بينهم} [23: 101] . قال الطيبي: قوله: "رب كاسية" كالبيان لموجب استيقاظ الأزواج للصلاة، أي لا ينبغي لهن أن يتغافلن عن العبادة، ويعتمدن على كونهن أهالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كاسيات خلعة نسبة أزواجه، متشرفات في الدنيا بها، فهي عاريات في الآخرة، إذ لا أنساب فيها، وهذا وإن ورد في أمهات المؤمنين، لكن الحكم عام لهن ولغيرهن، فإن العبرة بعموم اللفظ، لا لخصوص السبب والمورد. قال ابن بطال: في هذا الحديث أن المفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال، بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه، وأن يبخل به فيمنع الحق أو يبطر صاحبه فيسرف، فأراد صلى الله عليه وسلم تحذير أزواجه من ذلك كله وكذا غيرهن ممن بلغه ذلك. وفي الحديث الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة، ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة، فتكشف أو يسلم الداعي أو من دعا له. وفيه جواز قول سبحان الله عند التعجب وندبية ذكر الله بعد الاستيقاظ، وإيقاظ الرجل أهله بالليل للعبادة لا سيما عند آية تحدث. (رواه البخاري) في موضع بألفاظ متقاربة، واللفظ المذكور له في الفتن. وأخرجه أيضاً أحمد (ج6:ص297) ومالك في كتاب الجامع من الموطأ مرسلاً، والترمذي في الفتن.
1230-
قوله: (ينزل ربنا) أي نزولاً يليق بجنابة المقدس. والحاصل أن التفويض والتسليم أسلم،
والقدر الذي قصد إفهامه معلوم، وهو أن الثلث الأخير وقت استجابة وعموم رحمة ووفور مغفرة، فينبغي لطالب الخير أن يدركه ولا يفوته، فعلى الإنسان أن يقتصر على هذا القدر، ولا يتجاوز عنه، إذ لا يتعلق بأزيد منه غرض، قاله السندي. واعلم أنه اختلف في ضبط قوله "ينزل"، فقيل: بضم الياء من الإنزال. قال أبوبكر بن فورك: ضبط لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بضم الياء من ينزل يعني من الإنزال، وذكر أنه ضبط عمن سمع منه من الثقات الضابطين. وكذا قال القرطبي: قد قيده بعض الناس بذلك، فيكون معدياً إلى مفعول محذوف، أي ينزل الله ملكاً، قال: ويقويه ما رواه النسائي من حديث الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة بلفظ: أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر منادياً يقول: هل من داع فيستجاب له-الحديث. وصححه عبد الحق. وفي حديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد: ينادي مناد هل من داع يستجاب له-الحديث. وعلى هذا فلا إشكال في الحديث. وأما على ما هو المشهور في ضبطه، وهو فتح الياء من النزول، فالحديث مشكل، لأن النزول انتقال الجسم من فوق إلى تحت، والله تعالى منزه عن ذلك. ويؤيد هذا الضبط رواية مسلم بلفظ: يتنزل ربنا بزيادة تاء بعد ياء المضارعة، وعلى هذا فالحديث من المتشابهات. والعلماء فيه على قسمين: الأول المفوضة أجروه على ما ورد مؤمنين به على طريق الإجمال، منزهين الله تعالى عن الكيفية والتشبيه، وهم جمهور السلف، ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وابن المبارك والزهري ومكحول وغيرهم. والثاني: المؤلة فأولوه بتأويلين: أحدهما أن معنى ينزل ربنا ينزل أمره لبعض ملائكته، أو ينزل ملكه بأمره، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. والثاني: أنه استعارة، ومعناه الإقبال على الداعي بالإجابة واللطف والرحمة وقبول المعذرة، كما هو ديدن الملوك الكرماء والسادة الرحماء إذا نزلوا بقرب قوم محتاجين ملهوفين فقراء مستضعفين. قال البيضاوي: لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع أعلى إلى ما هو أخفض منه، فالمراد: وفور رحمته أي ينتقل من مقتضي صفات الجلال التي تقتضي الأزفة من الأرذال وقهر الأعداء والانتقام من العصاة إلى مقتضى صفات الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة والعفو-انتهى. هذا، وقد أفرط بعضهم في التأويل حتىكاد أن يخرج إلى نوع من التحريف، وحمله بعضهم على ظاهره وحقيقته، وهم المشبهة تعالى الله عن قولهم، وأنكر بعضهم صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة، وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة. والعجب أنهم أوّلوا ما في القرآن من نحو ذلك، وأنكروا ما في الحديث إما جهلاً وإما عنادا. قلت: الحق عندنا هو قول جمهور السف، فنؤمن بما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة على طريق الإجمال، وننزه الله سبحانه وتعالى عن الكيف والشبه بخلقه، ونذهب إلى ما وسع سلفنا الصالح من السكوت عن التأويل، ونقول ما قال البيهقي: وأسلمها الإيمان بلا كيف
تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر،
ــ
والسكوت عن المراد، إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه، نقله الحافظ في الفتح، وقال: من الدليل على ذلك اتفاقهم على أن التأويل المعين غير واجب، فحينئذٍ التفويض أسلم هذا، وقد أطال الكلام في مسألة النزول وأشباهها من أحاديث الصفات الأئمة المتقدمون كشيخ الإسلام والمسلمين الإمام ابن تيمية وتلميذيه الإمام ابن القيم والحافظ الذهبي وغيرهم، فعليك أن ترجع إلى ما ألفوا في ذلك من الكتب. تبارك وتعالى جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه وهو قوله:(كل ليلة) أي في وقت خاص. (إلى السماء الدنيا) وفي حديث أبي الخطاب: رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله يهبط من السماء العليا إلى السماء الدنيا – الحديث. أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب السنة بإسناده. (حين يبقى ثلث) بضم لام وسكونه. (الليل) بالجر. (الآخر) بكسر الخاء المعجمة وضم الراء المهملة صفة ثلث، وتخصيصه بالليل وبالثلث الأخير منه، لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عمن يتعرض لنفحات رحمة الله تعالى، وعند ذلك تكون النية خالصة، والرغبة إلى الله وافرة. وذلك مظنة القبول والإجابة، ولكن اختلف الروايات في تعيين الوقت على ستة أقوال: الأولى هي التي ههنا، وهي حين يبقى ثلث الليل الآخر، قال الترمذي: هذا أصح الروايات في ذلك. وقال العراقي: أصحها ما صححه الترمذي. وقال الحافظ: ويقوي ذلك أن الروايات المخالفة له اختلف فيها على رواتها. والثانية: حين يمضي الثلث الأول، وهي عند الترمذي ومسلم. والثالثة: حين يبقى نصف الليل الآخر. وفي لفظ: إذا كان شطر الليل. وفي آخر: إذا مضى شطر الليل. الرابعة: ينزل الله تعالى شطر الليل أو ثلث الليل الآخر على الشك أو التنويع. الخامسة: إذا مضى نصف الليل أو ثلث الليل أي الأول. وفي لفظ: إذا ذهب ثلث الليل أو نصفه. والسادسة: الإطلاق ولا تعارض بين رواية من عين الوقت ومن لم يعين، كما هو ظاهر جلي، فالروايات المطلقة تحمل على المقيدة. وأما من عين الوقت، واختلفت ظواهر رواياتهم، فقد صار بعض العلماء إلى الترجيح كالترمذي على ما تقدم، إلا أنه عبر بالأصح، فلا يقتضي تضعيف غير تلك الرواية. وأما القاضي عياض فعبر في الترجيح بالصحيح، فاقتضى ضعف الرواية الأخرى، ورده النووي بأن مسلماً رواها في صحيحه بإسناد لا يطعن فيه عن صحابيين، فكيف يضعفها؟ وإذا أمكن الجمع ولو على وجه فلا يصار إلى التضعيف. قال النووي: ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بأحد الأمرين في وقت فأخبر به، ثم أعلم بالآخر في وقت فأعلم به، وسمع أبوهريرة الخبرين جميعاً فنقلهما، وسمع أبوسعيد الخدري خبر الثلث الأول فقط فأخبر به-انتهى. وقال الحافظ: أما الرواية التي بأو، فإن كانت أو للشك فالمجزوم به مقدم على المشكوك فيه، وإن كانت للتردد بين حالين فيجمع بين الروايات بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال، لكون أوقات الليل تختلف في الزمان، وفي الآفاق باختلاف تقدم دخول الليل عند قوم، وتأخره عند قوم. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون النزول يقع في الثلث الأول، والقول يقع في النصف وفي الثلث الثاني. وقيل: يحتمل على أن ذلك يقع في
يقول من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)) متفق عليه.
ــ
جميع الأوقات التي وردت بها الأخبار، ويحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به، ثم أعلم به في وقت آخر فأخبر به، فنقل الصحابة ذلك عنه-انتهى كلام الحافظ. وقال القاري: لا تنافي بين الروايات، لأنه يحتمل أن يكون النزول في بعض الليالي هكذا وفي بعضها هكذا، كذا قاله ابن حبان. وقال ابن حجر: ويحتمل أن يتكرر النزول عند الثلث الأول والنصف والثلث الأخير، واختص بزيادة الفضل لحثه على الاستغفار بالأسحار، ولإتفاق الصحيحين على روايته-انتهى. (من يدعوني فاستجب له) بالنصب على جواب الاستفهام، وبالرفع على تقدير مبتدأ، أي فأنا أستجيب له، وكذلك حكم فأعطيه فأغفر له. وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2:ص308) : ضبطت هي وما بعدها في النسخة اليونينية من البخاري (ج2:ص53) بالنصب فقط، ولكن قال الحافظ في الفتح: بالنصب على جواب الاستفهام، وبالرفع على الاستئناف. وكذا قوله: فأعطيه وأغفرله. وقد قرئ بهما في قوله تعالى. {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له} [245:2] الآية وليست السين في قوله تعالى: فأستجيب للطلب بل أستجيب بمعنى أجيب. (من يسألني فأعطيه) بفتح الياء وضم الهاء وبسكون الياء وكسر الهاء. (من يستغفرني فأغفر له) قيل: الثلاثة المذكورة، وهي الدعاء والسؤال والاستغفار، بمعنى واحد وإن اختلف اللفظ، يعني أن المقصود واحد، واختلاف العبارات لتحقيق القضية وتأكيدها. وقيل: الفرق بين الثلاثة أن المطلوب إما لدفع المضار أو جلب المسار، والثاني إما ديني وإما دنيوي، ففي الاستغفار إشارة إلى الأول، وفي السؤال إشارة إلى الثاني، وفي الدعاء إشارة إلى الثالث. وزاد في رواية عند النسائي: هل من تائب فأتوبه عليه؟ وزاد في رواية عنده أيضاً: من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟، من ذا الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه. وزاد في رواية: ألا سقيم يستشفي فيشفى؟ ومعانيها داخلة في ما تقدم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي في الصلاة، وفي الدعوات، وأبوداود في الصلاة، والنسائي في النعوت، وفي اليوم والليلة، وابن ماجه في الصلاة، والبيهقي (ج3:ص2) . وفي الباب عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد ورفاعة الجهني وجبير بن مطعم وابن مسعود وأبي الدرداء وعثمان بن أبي العاص وجابر بن عبد الله وعبادة بن الصامت وعقبة بن عامر وعمرو بن عبسة وأبي الخطاب وأبي بكر الصديق وأنس بن مالك وأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وأبي ثعلبة الخشني وعائشة وابن عباس ونواس بن سمعان وأم سلمة وجد عبد الحميد بن سلمة، سرد أسماءهم العيني في شرح البخاري (ج7:ص197، 198) مع تخريج أحاديثهم، وإنما أشرت إلى كثرة الروايات في ذلك، لأن بعض الناس يستنكفون عن مثل هذا، وينكرون صحة الأحاديث الواردة في هذا الباب؛ لقلة فهمهم وكثرة جهلهم أو لعنادهم، كما تقدم عن الخوارج والمعتزلة، وذكر ابن حبان في كتاب السنة عن أبي زرعة قال: هذه الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا. قد رواه عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وفي رواية لمسلم: ((ثم يبسط يديه ويقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم؟ حتى ينفجر الفجر)) .
1231-
(6) وعن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن في الليل لساعة
ــ
وهي عندنا صحاح قوية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينزل ولم يقل كيف ينزل، فلا نقول كيف ينزل، نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى البيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن أبي محمد أحمد بن عبد الله المزني يقول: حديث النزول قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه صحيحة، وورد في التنزيل ما يصدقه، وهو قوله. {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} [22:90] انتهى. وذكر البيهقي عنه مثل هذا في السنن الكبرى (ج3:ص3) أيضاً. (وفي رواية لمسلم: ثم يبسط يديه) قال النووي: هو إشارة إلى نشر رحمته، وكثرة عطائه، وإجابته، وإسباغ نعمته. (ويقول) أي بذاته، أو على لسان ملك من خواص ملائكته. (من يقرض) بضم الياء من الإقراض. والمراد بالقرض عمل الطاعة، سواء فيه الصدقة والصلاة والصوم والذكر وغيرها من الطاعات، وسماه قرضاً ملاطفة للعباد، وتحريضاً لهم على المبادرة إلى الطاعة، فإن القرض إنما يكون ممن يعرفه المقترض، وبينه وبينه موانسة ومحبة، فحين يتعرض للقرض يبادر المطلوب منه بإجابته لفرحه بتأهيله للاقتراض منه، وإدلاله عليه، وذكره له. والمعنى من يعطي العبادة البدنية والمالية على سبيل القرض وأخذ العوض. (غير عدوم) أي رباً غنياً غير فقير عاجز عن العطاء. (ولا ظلوم) بعدم وفاء دينه أو بنقصه أو بتأخير أدائه عن وقته. وإنما خص نفي هاتين الصفتين، لأنهما المانعان غالباً عن الإقراض، فوصف الله تعالى ذاته بنفي هذا المانع. وحاصل المعنى من يعمل خيراً في الدنيا يجد جزاءه كاملاً في العقبى، فشبه هذا المعنى بالإقراض. وفيه تحريض على عمل الطاعة، وإشارة إلى جزيل الثواب عليها. (حتى ينفجر الفجر) أي ينشق أو يطلع ويظهر الصبح وهي غاية للبسط والقول، أي لا يزال يقول ذلك حتى يضيء الفجر. وفيه دليل على امتداد وقت الرحمة واللطف التام إلى إضاءة الفجر. وزاد في رواية للدارقطني في آخر الحديث: ولذلك كانوا يفضلون صلاة آخر الليل على أوله، وله من رواية ابن سمعان عن الزهري ما يشير إلى أن قائل ذلك هو الزهري. وبهذه الزيادة تظهر وتتضح مناسبة ذكر الحديث في باب التحريض على قيام الليل. وفي الحديث من الفوائد تفضيل صلاة آخر الليل على أوله، وتفضيل تأخير الوتر، لكن ذلك في حق من طمع أن ينتبه، وأن آخر الليل أفضل للدعاء والاستغفار. ويشهد له قوله تعالى، وإن الدعاء في ذلك الوقت مجاب. ولا يعترض على ذلك بتخلفه عن بعض الداعين، لأن سبب التخلف وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء، كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس، أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء باثم أو قطعية رحم أو تحصل الإجابة، ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى.
1231-
قوله: (إن في الليل لساعة) بلام التأكيد، أي مبهمة كساعة الجمعة، وليلة القدر، وأبهمت
لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله فيها خيراً من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة)) رواه مسلم
1232-
(7) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه،
ــ
لأجل أن يجتهد الشخص جميع الليل، ولا يقتصر على العبادة في وقت دون وقت، وسيأتي مزيد الكلام فيه. (لا يوافقها رجل مسلم) وكذا امرأة مسلمة. وهذه الجملة صفة لساعة أي ساعة من شأنها أن يترقب لها ويغتنم الفرصة لإدراكها؛ لأنها من نفحات رب رؤوف رحيم، وهي كالبرق الخاطف، فمن وافقها أي تعرض لها واستغرق أوقاته مترقباً للمعاتها فوافقها قضى وطره. (يسأل الله) أي فيها، والجملة صفة ثانية أو حال. (خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه) أي حقيقة أو حكماً. (وذلك) أي المذكور من ساعة الإجابة. (كل ليلة) بالنصب على الظرفية، وهو خبر ذلك أي ثابت في كل ليلة، يعني وجود تلك الساعة، لا يتقيد بليلة مخصوصة، أي لا يختص ببعض الليالي دون بعض، فينبغي تحري تلك الساعة ما أمكن كل ليلة. قال النووي: فيه إثبات ساعة الإجابة في كل ليلة، ويتضمن الحث على الدعاء في جميع ساعات الليل رجاء مصادفتها-انتهى. وقال العزيزي: قال الشيخ: ظاهر الرواية التعميم في كل الليل، لكن من المعلوم أن الجوف أفضله، فعلى كل حال ساعة أول النصف الثاني والتي بعدها أفضل، نعم من لم يقم فيها فالأخيرة لرواية الحاكم: أنه لا يزال ينادي إلا إلا إلا، وفي أخرى: هل من تائب هل من مستغفر الخ. حتى يطلع الفجر-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد.
1232-
قوله: (أحب الصلاة) أي أكثر ما يكون محبوباً من جهة شرف الوقت وزيادة المشقة على النفس. (إلى الله) أي من النوافل. (صلاة داود) عليه السلام. (وأحب الصيام) أي أكثر ما يكون محبوباً. (إلى الله صيام داود) وفي رواية: وأحب الصوم إلى الله صوم داود. واستعمال أحب بمعنى محبوب قليل؛ لأن الأكثر في أفعل التفضيل أن يكون بمعنى الفاعل. ونسبة المحبة فيهما إلى الله تعالى على معنى إرادة الخير لفاعلهما. (كان) استئناف مبين للجملتين السابقتين. وفي بعض النسخ: وكان بزيادة الواو. (ينام) أي داود. (نصف الليل) أي نصفه الأول، والظاهر أن المراد كان ينام من الوقت الذي يعتاد فيه النوم إلى نصف الليل، أو المراد بالليل ما سوى الوقت الذي لا يعتاد فيه النوم من أول. والقول بأنه ينام من أول الغروب لا يخلو عن بُعد. (ويقوم) أي بعد ذلك، ففي رواية لمسلم: كان يرقد شطر الليل ثم يقوم ثلث الليل بعد شطره. (ثلثه) أي في الوقت الذي ينادي فيه الرب تعالى
وينام سدسه، ويصوم يوماً، ويفطر يوماً))
ــ
هل من سائل هل من مستغفر؟. (وينام سدسه) بضم الدال ويسكن أي سدسه الأخير، ثم يقوم عند الصبح، وكان ينام السدس الأخير ليستريح من نصب القيام في بقية الليل، وإنما صارت هذه الطريقة أحب إلى الله تعالى؛ لأنه أخذ بالرفق التي يخشى منها السآمة التي هي سبب ترك العبادة، والله تعالى يحب أن يديم فضله ويوالى إحسانه، قاله الكرماني. وإنما كان ذلك أرفق؛ لأن النوم بعد القيام يريح البدن ويذهب ضرر السهر وذبول الجسم، بخلاف السهر إلى الصباح. وفيه من المصلحة أيضاً استقبال صلاة الصبح، وأذكار النهار بنشاط وإقبال، ولأنه أقرب إلى عدم الرياء؛ لأن من نام السدس الأخير أصبح ظاهر اللون سليم القوى، فهو أقرب إلى أن يخفى عمله الماضي على من يراه، أشار إليه ابن دقيق العيد. قال في اللمعات: قيل: الحديث يشكل بأنه لم يكن عمل نبينا صلى الله عليه وسلم دائماً على هذا الوجه، فالجواب أن صيغة التفضيل إما بمعنى أصل الفعل أو الأحبية إضافية محمولة على بعض الوجوه، لكونه أقرب إلى الاعتدال وحفظ صحته، ولما قيل في نوم السدس الأخير من دفع الكلفة والملال- انتهى. وقال القاري: ولعله صلى الله عليه وسلم ما التزم هذا النوم، ليكون قيامه جامعاً سائر الأنبياء، وليهون على أمته في القيام بوظيفة الإحياء. (ويصوم) أي داود. (يوماً ويفطر يوماً) قال ابن المنير: كان داود عليه السلام يقسم ليله ونهاره لحق ربه وحق نفسه، فأما الليل فاستقام له ذلك في كل ليلة، وأما النهار فلما تعذر عليه أن يجزئه بالصيام؛ لأنه لا يتبعض، جعل عوضاً من ذلك أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فيتنزل ذلك منزلة التجزئه في شخص اليوم، قيل: وهو أشد الصيام على النفس، فإنه لا يعتاد الصوم ولا الإفطار، فيصعب عليه كل منهما. وظاهر قوله: أحب الصيام يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقاً، ووقع في بعض الروايات أفضل الصيام صيام داود، ومقتضاه أن تكون الزيادة عليه كصوم يومين وإفطار يوم، وكصيام الدهر بلا صيام أيام الكراهة مفضولة، وإنما كان ذلك أعدل الصيام وأحبه إلى الله؛ لأن فاعله يؤدي حق نفسه وأهله وزائر أيام فطره، بخلاف من يصوم الدهر أي يتابع الصوم ويسرده، فإنه قد يفوت بعض الحقوق وقد لا يشق باعتياده، فلا يحصل المقصود من قمع النفس، نظير ما قاله الأطباء: من أن المرض إذا تعود عليه البدن لم يحتج إلى دواء، ولم يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم الوصف المذكور في صيامه لما قيل: إن فعله كان مختلفاً يتضمن مصالح راجعة إلى أمته أقوياءهم وضعفاءهم، وكان يفعل العبادات بحسب ما يظهر له من الحكمة في أوقات الطاعات دون الحالات المألوفات والعادات. وقد روى البخاري وغيره عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل بالشيء، وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، زاد في رواية قالت: وكان يحب ما خف على الناس. قال الشوكاني: الحديث يدل على أن صوم يوم وإفطار يوم أحب إلى الله من غيره، وإن كان أكثر منه، وما كان أحب إلى الله عزوجل فهو أفضل، والاشتغال به أولى، وفي رواية لمسلم: أن عبد الله بن عمرو قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أطيق أفضل من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم:
متفق عليه.
1233-
(8) وعن عائشة، قالت: ((كان - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام أول الليل، ويحيي آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم نام، فإن كان عند النداء الأول جنباً، وثب فأفاض عليه الماء،
ــ
لا أفضل من ذلك. ويدل على أفضليته قيام ثلث الليل بعد نوم نصفه، وتعقيب قيام ذلك الثلث بنوم السدس الآخر. (متفق عليه) أخرجه البخاري في قيام الليل، وفي كتاب الأنبياء، ومسلم في الصيام، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود في الصوم، والنسائي فيه وفي الصلاة، وابن ماجه في الصوم، والبيهقي. (ج3 ص3) وأخرج الترمذي فضل الصوم فقط.
1233-
قوله: (تعني) تفسير لضمير كان. قال ابن الملك: أي تريد عائشة بذلك. (رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالنصب وهو مفعول تعني في الظاهر، واسم كان في المعنى. (ينام أول الليل) أي إلى تمام نصفه الأول ومعلوم أنه كان لا ينام إلا بعد فعل العشاء"؛ لأنه يكره النوم قبلها. (ويحيي أخره) أي بالصلاة. قال السندي: من الإحياء، وإحياء الليل تعميره بالعبادة، وجعله من الحياة على تشبيه النوم بالموت، وضده بالحياة لا يخلو عن سوء أدب- انتهى. وهذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري: كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي. (أي في السدس الرابع والخامس)، ثم يرجع إلى فراشه. (أي لينام السدس السادس ليقوم لصلاة الصبح بنشاط) . (ثم) أي بعد صلاته وفراغه من ورده. (إن كانت له حاجة إلى أهله) المراد مباشرة زوجته. (قضى حاجته) أي فعلها. وفي رواية النسائي: فإذا كان له حاجة ألمّ بأهله أي قرب من زوجته، وهو كناية عن الجماع. وكلمة ثم بابها، كما تقدمت الإشارة إليه، فيؤخذ منه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقدم التهجد ثم يقضي بعد إحياء الليل حاجته من نساءه، فإن الجدير به أداء العبادة قبل قضاء الشهوة. وقيل: يمكن أن ثم ههنا لتراخي الإخبار أخبرت أولاً أن عادته صلى الله عليه وسلم كانت مستمرة بنوم أول الليل وإحياء أخره. ثم أن اتفق له احتياج إلى أهله يقضي حاجته، ثم ينام في كلتا الحالتين. قال ابن حجر: وتأخير الوطأ إلى آخر الليل أولى؛ لأن أول الليل قد يكون ممتلئاً، والجماع على الامتلاء مضر بالإجماع. (ثم ينام) أي السدس الأخير ليستريح. (فإن كان عند النداء الأول) تعني الأذان المتعارف عند تبيين الصبح. (جنباً وثب) بواو ومثلثة وموحدة مفتوحات أي قام بنهجه وشدة وسرعة. (فأفاض عليه الماء) أي أسال على جميع بدنه الماء يعني اغتسل. هكذا في جميع النسخ للمشكاة، وكذا في المصابيح أي فإن عند النداء الأول جنباً وثب فأفاض عليه الماء. ولفظ مسلم: فإذا كانت عند النداء الأول قالت وثب ولا والله ما قالت: