الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
ولقد أرسلنا إلى ثمود الذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة، وكانوا بعد عاد، أرسلنا لهم رجلا منهم أي من قبيلتهم، وهو صالح عليه السلام، فأمرهم بعبادة الله وحده، وأقام لهم دليلين على التوحيد:
الدليل الأول-قوله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أي ابتدأ خلقكم منها، إذ خلق منها أباكم آدم فهو أبو البشر، ومادة التراب هي المادة الأولى التي خلق منها آدم، ثم خلقكم أنتم من سلالة من طين، بالوسائط التالية: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة تكسى بعدئذ بهيكل عظمي ولحم، وأصل النطفة من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء إما من نبات الأرض أو من اللحم الذي يرجع إلى النبات.
والدليل الثاني- {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها} أي جعلكم عمارا تعمرونها وتستغلونها بالزراعة والصناعة والبناء والتعدين. فكون الأرض قابلة للعمارة النافعة للإنسان، وكون الإنسان قادرا عليها، دليل على وجود الصانع الحكيم، الذي قدر فهدى، ومنح الإنسان العقل الهادي والأداة لتسخير موجودات الدنيا، وجعل له القدرة على التصرف.
وإذا كان الله هو المستحق للعبادة وحده، فاستغفروه لسالف ذنوبكم، من الشرك والمعصية، ثم توبوا إليه بالإقلاع عن الذنب في الماضي، والعزم على عدم العودة إليه وإلى أمثاله في المستقبل.
إن ربي قريب من خلقه بالرحمة والعلم والسمع، مجيب دعوة الداعي المحتاج المخلص بفضله ورحمته، كقوله تعالى:{وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ} [البقرة 186/ 2]
فأجابوه بكلام يدل على الجهل والعناد: {قالُوا: يا صالِحُ.} . أي قال قوم ثمود: يا صالح، قد كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت، أو كنا نأمل أن تكون سيدا أو مستشارا في الأمور؛ لما نرى لك من رجاحة في العقل وسداد في التفكير، فالآن خيبت الآمال وقطعت الرجاء. وقال كعب: كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم؛ لأنه كان ذا حسب وثروة. وعن ابن عباس: كان فاضلا خيّرا. والظاهر الذي حكاه الجمهور أن قوله: {مَرْجُوًّا} مشورا نؤمل فيك أن تكون سيدا سادّا مسدّ الأكابر.
ثم تعجبوا من دعوته قائلين:
أتنهانا عن عبادة الآباء والأسلاف؟ وقد تتابعوا على تلك العبادة كابرا عن كابر دون إنكار من أحد.
وإننا نشك كثيرا في صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وحده، وترك التوسل إليه بالشفعاء المقربين عنده، وهو شك موقع في التهمة وسوء الظن.
والشك: هو أن يبقى الإنسان متوقفا بين النفي والإثبات، والمريب: هو الذي يظن به السوء.
والمقصود من هذا الكلام التمسك بطريق التقليد، ووجوب متابعة الآباء والأسلاف. وهذا نظير ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ} [ص 5/ 38].
فأجابهم صالح مبينا ثباته على المبدأ ومنهج النبوة: {قالَ: يا قَوْمِ، أَرَأَيْتُمْ.} . أي كيف أعصي الله في ترك ما أنا عليه من البينة؟ أخبروني ماذا أفعل، إن كنت على برهان وبصيرة ويقين فيما أرسلني به إليكم، وآتاني منه رحمة، أي نبوة تتضمن تبليغ ما أوحى به إلي.
وقدّروا أني نبي على الحقيقة، وكان على يقين أنه على بيّنة؛ لأن خطابه للجاحدين، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره، فمن يمنعني من عذاب الله؟! وإذا تابعتكم وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده، لما نفعتموني، ولما رددتموني حينئذ غير خسارة وضلال، باستبدال بما عند الله ما عندكم.
ولما كانت عادة الأنبياء ابتداء الدعوة إلى عبادة الله، ثم اتباعها بدعوى النبوة، فإن صالحا عليه السلام الذي طلبوا منه المعجزة على صحة قوله، أتاهم بمعجزة الناقة. روي أن قومه خرجوا في عيد لهم، فسألوه أن يأتيهم بآية، وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة، فدعا صالح ربه، فخرجت الناقة كما سألوا.
وقال لهم: هذه آية على صدقي: ناقة الله، التي تتميز عن سائر الإبل بأكلها وشربها وغزارة لبنها، كما قال تعالى:{إِنّا مُرْسِلُوا النّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر 27/ 54 - 28].
فاتركوها تأكل ما شاءت في أرض الله من المراعي، دون أن تتحملوا عبء مؤنتها، ولا تمسوها بسوء أيا كان نوعه، فيأخذكم عذاب عاجل لا يتأخر عن إصابتكم إلا يسيرا وذلك ثلاثة أيام، ثم يقع عليكم.
فلم يسمعوا نصحه، وكذبوه وعقروها، عقرها بأمرهم قدار بن سالف، كما قال تعالى:{فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ} [القمر 29/ 54] فقال لهم: استمتعوا بالعيش في داركم، أي بلدكم، وتسمى البلاد الديار، مدة ثلاثة أيام، ذلك وعد مؤكد غير مكذوب فيه.
ثم وقع ما أوعدهم به: {فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا.} . أي فلما حان وقت أمرنا بالعذاب والإهلاك، وحل العقاب ووقعت الواقعة، ونزلت الصاعقة، نجينا صالحا والمؤمنين معه، برحمة منا، ونجيناهم من عذاب شديد، ومن ذل ومهانة