الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمبادرته كانت للفرار، ومبادرتها كانت للتشبّث فيه، فأمسكت ثوبه وجذبته إليها. {وَقَدَّتْ} شقت قميصه من دبر، أي من الخلف والقد: الشق طولا. {وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ} وجدا زوجها وصادفاه عند الباب. {قالَتْ: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} أي نزهت نفسها، وأو همت زوجها أنها فرّت منه تبرئه لساحتها عنده وإغراء به للانتقام من يوسف. و {ما} نافية أو استفهامية، والمعنى: أي شيء جزاؤه إلا السجن أي الحبس. {أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ} مؤلم بأن يضرب.
وتعبير {وَاسْتَبَقَا الْبابَ} من اختصار القرآن المعجز، الذي يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة.
{قالَ: هِيَ راوَدَتْنِي} قال يوسف: هي طالبتني بالمواتاة، دفاعا عن نفسه لما عرضت له من السجن أو العذاب، ولو لم تكذب عليه لما قال ذلك. {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها} قيل:
ابن عمها، أو ابن خالها، وكان صبيا في المهد، أنطقه الله تعالى.
{مِنْ قُبُلٍ} من قدام أو أمام. {مِنْ دُبُرٍ} من خلف. {فَلَمّا رَأى} زوجها {قالَ:}
{إِنَّهُ} أي إن قولك: {ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} {مِنْ كَيْدِكُنَّ} أي من حيلتكن أيها النساء، والخطاب لها ولأمثالها، أو لسائر النساء. {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أي إن كيد النساء ألصق وأعلق بالقلب، وأشد تأثيرا في النفس، ولا قدرة للرجال عليه ولا يفطنون لحيلهن.
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} أي ثم قال زوجها: يا يوسف أعرض عن هذا الأمر، ولا تذكره واكتمه لئلا يشيع الخبر بين الناس. {وَاسْتَغْفِرِي} يا زليخا. {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ} أي الاثمين المذنبين، ولكن شاع الخبر واشتهر. والتذكير للتغليب.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى ما أكرم به يوسف من المكارم المادية بالإقامة في قصر عزيز مصر، والمعنوية من النبوة أو العلم والحكمة، ذكر هنا محنته مع امرأة العزيز، والتزامه العفة والنزاهة والطهارة، حتى إنه آثر دخول السجن على ارتكاب الفاحشة، والتخلص من افتتان النساء به.
التفسير والبيان:
كان يوسف عليه السلام في غاية الحسن والجمال، وقد أوصى عزيز مصر امرأته بإكرامه وحسن تعهده، فأحبته حبا شديدا لجماله وحسنه وبهائه، فحملها
ذلك على أن تجملت له، ودعته لمخالطتها، وتمحلت لمواقعته إياها، وأحكمت إغلاق الأبواب عليه قيل: كانت سبعة، وقالت: هيت لك، أي هلمّ أقبل وبادر، وتهيأت لك، وزيدت كلمة {لَكَ} لبيان المخاطب، مثل: سقيا لك ورعيا لك. وهذا أسلوب في غاية الاحتشام.
فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وقال: أعوذ بالله معاذا، وألتجئ إليه وأعتصم به مما تريدين مني، فهو يعيذني أن أكون من الجاهلين {إِنَّهُ} (الضمير للشأن والحديث) ربي أي سيدي ومالكي (قطفير){أَحْسَنَ مَثْوايَ} أي منزلي ومقامي وأحسن إلي، حين قال لك: أكرمي مثواه فلا أقابله بالخيانة، وإتيان الفاحشة في أهله، إنه لا يفلح الظالمون الذين يجازون الإحسان بالإساءة، أو لا يظفر الظالمون بمطالبهم، ومنهم الخائنون المجازون الإحسان بالسوء.
ولقد همّت بالانتقام منه والتنكيل به، لعصيانه أمرها، وعدم نزوله عند رغبتها، ومخالفته مرادها، وهي سيدته وهو عبدها، أو همت بمخالطته.
{وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} كثر كلام الناس وتعليقاتهم حول معنى هذه الآية، والأمر فيها سهل يسير، لا يصح تفسير كلمة {وَهَمَّ بِها} وحدها دون بقية الجملة، وإذا فسرت الجملة مع بعضها، تبين أنه لم يهمّ بها قط؛ لأن رؤية برهان ربه قد منعه من ذلك، بدليل أن {لَوْلا} حرف امتناع لوجود وجوابها محذوف دائما، وتقديره: لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ولخالطها؛ لأن قوله: {وَهَمَّ بِها} يدل عليه، كقولك:(هممت بقتله لولا أني خفت الله) معناه: (لولا أني خفت الله لقتلته) ففي الكلام تقديم وتأخير، أي لولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
ثم إن المراد بالهم: خطرات حديث النفس، والميل إلى المخالفة بحكم الطبيعة
البشرية، وهذا لا مؤاخذة فيه شرعا، فلا يقال: كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ ودليل رفع المؤاخذة على الهم الذي هو مرتبة دون العزم والحزم
ما أورده البغوي من حديث عبد الرزاق والصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: إذا همّ عبدي بحسنة، فاكتبوها له حسنة، فإن عملها، فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإن همّ بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإنما تركها من جرائي، فإن عملها فاكتبوها بمثلها» .
والبرهان الذي رآه: هو برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، أو هو حجة الله تعالى في تحريم الزنى، والعلم بما على الزاني من العقاب.
وقيل: هو تطهير نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة، وقيل: هو النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش، وجائز أن يراد كل هذه المعاني؛ لأنها متقاربة غير متعارضة، تحقق هدفا واحدا وهو طاعة الله عز وجل.
والخلاصة: لم يرتكب يوسف عليه السلام المعصية قط، ولولا حفظ الله ورعايته وعصمته لهمّ بها. وللعلماء في الآية تفسيران: الأول-إنه لم يهمّ بها لرؤية برهان ربه، فهو الذي منعه من الهمّ، والثاني-إنه همّ بمقتضى الطبيعة البشرية، ثم تنبه للمانع من وقوع المعصية، ورأى برهان الله وتذكره، مثل قوله تعالى:
{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء 74/ 17].
وبه تبين وجود الفارق بين الهمين: همها به وهمه، فهي قد همت بالانتقام منه والتنكيل به، شفاء لغيظها، أو همت بمخالطته، فكان همها المعصية، وهو همّ عزم وتصميم. وهو قد همّ بالدفاع عن نفسه، والتخلص منها، حين رأى بوادر الإقدام عليه، ولكنه رأى برهان ربه وعصمته التي جعلته يهم بالفرار من هذا المأزق، فكان همه النجاة منها وهو مجرد حديث نفس وخاطر، وما هم بالسوء بها لما رأى برهان ربه؛ لعصمة الأنبياء، قال تعالى:{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} لذا أتبعه بقوله: {وَاسْتَبَقَا الْبابَ} أي فبادر إلى الباب هربا، وبادرت هي إلى الباب صدا له عن الهرب. وأراد الله صرف السوء عنه فقال: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشاءَ إنه من عبادنا المخلصين} لذا أتبعه بقوله: {وَاسْتَبَقَا الْبابَ} أي فبادر إلى الباب هربا، وبادرت هي إلى الباب صدا له عن الهرب. وأراد الله صرف السوء عنه فقال:{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ} أي مثل ذلك التثبيت على العفة أمام دواعي الفتنة والإغراء ثبتناه، وكما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره. والسوء: المنكر والمعصية وخيانة السيد، والفحشاء: الزنى والفجور.
{إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي إن يوسف من عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم لوحيه ورسالته وصفاهم من الشوائب، فلا يستطيع الشيطان إغواءهم، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ} [ص 47/ 38].
وحدثت المفاجأة الغريبة المحرجة بقدوم زوجها، وهما يتسابقان إلى الباب، فقال تعالى:{وَاسْتَبَقَا الْبابَ} أي وتسابقا إلى الباب، بناء على حذف الجارّ وإيصال الفعل كقوله تعالى:{وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ} [الأعراف 155/ 7] أو بناء على تضمين {اِسْتَبَقَا} معنى: ابتدرا، والتسابق مختلف الغرض، فيوسف فرّ منها مسرعا يريد الباب ليخرج، وهي أسرعت وراءه لتمنعه الخروج. {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} أي لحقته في أثناء هربه، فأمسكت بقميصه من الخلف، فقطعته.
{وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ} أي وحينئذ وجدا سيدها وهو زوجها عند الباب، فحاولت بمكرها وكيدها التنصل من جرمها وإلصاق التهمة بيوسف، فقالت: ما جزاء من أراد بأهلك فاحشة إلا أن يحبس، أو عذاب مؤلم موجع، فيضرب ضربا شديدا. وكانت نساء مصر تلقب الزوج بالسيد، ولم يقل:
سيدهما؛ لأن استرقاق يوسف غير شرعي.
وهنا ذكر الرازي علامات كثيرة دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق وهي
(1)
:
1 -
إن يوسف عليه السلام كان في اعتبارهم عبدا، والعبد لا يتسلط على مولاه إلى هذا الحد.
2 -
شوهد يوسف يعدو عدوا شديدا ليخرج، وطالب المرأة لا يفعل ذلك.
3 -
زيّنت المرأة نفسها على أكمل الوجوه، خلافا لما كان عليه حال يوسف.
4 -
لم تكن سيرة يوسف في المدة الطويلة دالة على حالة تناسب، هذا الفعل المنكر.
5 -
لم تصرح المرأة بنسبته إلى الفاحشة، بل أجملت كلامها، وأما يوسف فصرح بالأمر.
6 -
إن زوج المرأة كان عاجزا، فطلب الشهوة منها أولى.
لكل هذا لم تطلب عقوبة شديدة، وإنما أرادت أن يحبس يوما أو أقل، على سبيل التخفيف والتخويف؛ لأن حبها الشديد ليوسف حملها على أن تشفق عليه، ولكنها من جانب آخر استحيت أن تقول: إن يوسف قصدني بالسوء، وأرادت تصيّد عذر ما، وحماية سمعتها وكرامتها أمام زوجها.
ذكر بعضهم: ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه.
ثم جاء دور براءة يوسف: {قالَ: هِيَ راوَدَتْنِي.} . قال يوسف بارّا صادقا مدافعا عن نفسه حينما اتهمته بقصد السوء: هي التي راودته عن نفسه،
(1)
المرجع السابق: 123/ 18
فامتنع منها، وأنها تبعته وجذبته حتى قدت قميصه، ولم تترك حيلة إلا لجأت إليها لمواقعتها.
{وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها.} . وللعلماء قولان في هذا الشاهد، هل هو صغير أو كبير؟ وهل هو إنسان أو القميص؟، فصار في تعيين هذا الشاهد ثلاثة أقوال:
الأول-أنه كان ابن عم لها كبير، وكان رجلا حكيما عاقلا حصيف الرأي، فقال: إن كان
(1)
شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب، وإن كان من خلفه فالرجل صادق وأنت كاذبة، فلما نظروا إلى القميص، ورأوا الشق من خلفه، قال ابن عمها:{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ.} . أي من عملكن، ثم قال ليوسف: أعرض عن هذا واكتمه، وقال لها: استغفري لذنبك. وهذا قول طائفة كبيرة من المفسرين.
والثاني-وهو قول ابن عباس وجماعة: أن ذلك الشاهد كان صبيا أنطقه الله تعالى في المهد.
روى ابن جرير حديثا مرفوعا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم» .
والثالث-أن ذلك الشاهد هو القميص. قال الرازي: وهذا في غاية الضعف؛ لأن القميص لا يوصف بهذا، ولا ينسب إلى الأهل.
ولما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به وظهر للقوم براءة يوسف عن هذا المنكر، قال العزيز أو الشاهد:{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} إن هذا
(1)
إن كان قميصه: كان في موضع جزم بالشرط، وفيه إشكال نحوي؛ لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان، فقال المبرد: هذا لقوة كان، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال. وقال الزجاج: المعنى: إن يكن، أي إن يعلم، والعلم لم يقع.