الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من شدتها ورجفت، فخروا ميتين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يعذب الله تعالى أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح، فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة شعيب مع قومه على ما يأتي، ومجملة: إيقاع العذاب بعد الإعراض عن رسالة السماء:
1 -
اشتملت دعوة شعيب على جانبين: إصلاح العقيدة وإصلاح الحياة الاجتماعية، ففي الجانب الأول: دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي الجانب الثاني: أمرهم بإيفاء الكيل والميزان وترك البخس والنقص أو التطفيف، فإنهم كانوا مع كفرهم أهل بخس ونقص في حقوق الناس؛ كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام، أخذوا بكيل زائد، واستوفوا بغاية ما يقدرون عليه وظلموا؛ وإن جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص، وشحوا عليه بما يقدرون، فأمروا بالإيمان إقلاعا عن الشرك، وبالوفاء بالحق التام الكامل نهيا عن التطفيف، علما بأنهم كانوا بخير وفي سعة من الرزق وكثرة النعم، لكن الطمع والشره المادي أرادهم وجعل سمعتهم سيئة بين الناس.
2 -
كان عذاب أهل مدين عذاب استئصال في الدنيا، ودمار عام؛ لقوله تعالى:{وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} وصف اليوم بالإحاطة، أي الإحاطة بهم، فإن يوم العذاب إذا أحاط بهم، فقد أحاط العذاب بهم، وهو كقولك: يوم شديد؛ أي شديد حره. وقيل: هو عذاب النار في الآخرة. جاء
في الحديث الذي رواه الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء» .
3 -
اكتفى شعيب بمرة واحدة بالدعوة إلى توحيد الإله، ولكنه كرر وأكد النهي عن بخس الحقوق بألوان مختلفة، فأمر بالإيفاء (أي الإتمام) بعد أن نهى عن التطفيف تأكيدا، ووصف الإيفاء بالقسط أي بالعدل والحق، لكي يصل كل ذي حق إلى حقه، وأراد ألا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود، وكذا الصّنجات، ثم عمم بعد التخصيص عن بخس الناس أشياءهم، أي لا تنقصوهم مما استحقوه شيئا، ثم نهى عن الإفساد في مصالح الدنيا والآخرة:{وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي أن الخيانة في المكيال والميزان مبالغة في الفساد في الأرض.
وذكر أن البخس بطر وترف وطمع، فلم يكونوا بحاجة، وإنما كانوا بخير:
{إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ} أي سعة في الرزق والمعيشة، وقال:{بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ} أي ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة، وأحمد عاقبة مما تبقونه أنتم لأنفسكم من فضل التطفيف بالتجبر والظلم. وشرط للاستقامة وجود الإيمان:
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} شرط هذا؛ لأنهم إنما يعرفون صحة كون بقية الله خيرا إن كانوا مؤمنين.
وجعل رقابة الله في السر والعلن على كل تاجر هي الأساس والباعث على الخشية والطاعة وأداء الحقوق: {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي رقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم، فلا يمكنني شهود كل معاملة تصدر منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق.
4 -
كانت ردود القوم المحجوجين بالأدلة والبينات في غاية الجهالة والسفاهة، فأعلنوا تمسكهم بالتقليد في عبادة الأوثان والأصنام، وادعاء حريتهم التجارية التي لا تقوم على العدل والحق، وسخروا من صلاته وعبادته التي كان يكثر منها، ونالوا من صفاته، فقالوا على سبيل الاستهزاء والسخرية:
{أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ؟} {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ!} أي أنت ذو سفاهة
وطيش، وغواية وضلال، لا لشيء إلا لأن شعيبا عليه السلام أمرهم بترك ما كان يعبد آباؤهم!! وإنما أقروا له بذلك؛ لأنه كان مشهورا فيما بين الناس بصفة الحلم والرشد.
5 -
كان من قبائحهم قرض الدراهم لتنقيص قدرها، وكسرها لإفساد وصفها، قال المفسرون: كان مما ينهاهم عنه، وعذّبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم، كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة، وكانوا يتعاملون على الصحاح عدّا، وعلى المقروضة وزنا، وكانوا يبخسون في الوزن.
وتلك معاص ومفاسد تستحق العقاب، وتوجب ردّ الشهادة.
6 -
حسم شعيب عليه السلام أطماع الكفار، سواء في العقيدة أو في صلاح التعامل، وأعلن ثباته على مبدئه بقوله:{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أي ما أريد إلا فعل الصلاح وإزالة الفساد، وهو أن تصلحوا دنياكم بالعدل، وآخرتكم بالعبادة، ولم يتزحزح عن موقفه في توحيد الله تعالى:{أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} وثقته به وتفويض أمره إليه ورجوعه إليه في جميع النوائب، واعتماده في الرشد والتوفيق عليه:{وَما تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
وإذا كانت هذه صفاتي فاعلموا أن أمري بالتوحيد وترك إيذاء الناس هو دين حق، وأن مهمتي هي الإبلاغ والإنذار، وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه.
ولم يتردد شعيب عليه السلام لحظة واحدة في إيفاء الحقوق وإتمام الكيل والميزان: {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} أي واسعا حلالا، وكان شعيب عليه السلام كثير المال {وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ} أي ليس
أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به. وهكذا فإن فعل النبي مطابق لقوله؛ لأنه الأسوة الحسنة، ولا يعقل غير ذلك.
والخلاصة: إنه تعالى لما آتاني جميع السعادات الروحانية والجسمانية، وهي المال والرزق الحسن، فهل يسعني مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه، وأن أخالفه في أمره ونهيه.
7 -
دلّ قوله: {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} على أن ذلك الرزق إنما حصل من عند الله تعالى وبإعانته، وأنه لا مدخل للكسب فيه، وفيه تنبيه على أن الإعزاز من الله تعالى، والإذلال من الله تعالى، وإذا كان الكل من الله فإن شعيبا أراد القول لهم: فأنا لا أبالي بمخالفتكم، ولا أفرح بموافقتكم، وإنما أقرر دين الله، وأوضح شرائعه.
8 -
التهديد والإنذار بالعذاب قبل وقوعه رحمة بالناس ولطف بهم، لعلهم يرعوون ويرجعون من قريب إلى الله تعالى وإلى طاعته، وإلى توحيده، والتخلص من الشرك والوثنية. وقد أنذر شعيب عليه السلام قومه أهل مدين بقوله: لا يكسبنكم معاداتي أن يصيبكم عذاب الاستئصال في الدنيا، مثل ما حصل لقوم نوح عليه السلام من الغرق، ولقوم هود من الريح العقيم، ولقوم صالح من الرجفة، ولقوم لوط من الخسف، وكانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط.
9 -
الاستغفار والتوبة من الذنوب الماضية والتصميم على عدم العود إلى مثلها في المستقبل طريق النجاة والأمن من العذاب؛ لأن الله عظيم الرحمة كثير الودّ والمحبة لعباده لينقذهم من العقاب.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيبا قال: «ذاك خطيب الأنبياء» .
10 -
بعد أن يئس الكفار أهل مدين من تحقيق مآربهم عن طريق التهكم
والاستهزاء والسخرية من شعيب عليه السلام، لجؤوا إلى التهديد والوعيد مظهرين أنه ضعيف لا سند له، وأنهم أعزة أقوياء، ولولا مجاملة عشيرته لقتلوه رجما بالحجارة، وما هو بعزيز عليهم ولا كريم، ولا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع.
وهذا شأن الكفار عادة، يعتمدون على القوة المادية، ويهملون النظر إلى تدبير الله وقوته وقهره وقدرته، لذا أراد شعيب أن يلفت نظرهم إلى ضرورة رعاية جانب الله تعالى، وليس مجرد رعاية جانب قومه، فقال: أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكراما لرهطي، والله تعالى أولى أن يتبع أمره.
11 -
قابلهم شعيب عليه السلام بتهديد ووعيد أشد وآكد وأوقع وأصدق، وقال لهم:{اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ} سوف تعلمون الصادق من الكاذب، وسوف ترون من يأتيه عذاب يخزيه ويهلكه. وانتظروا العذاب والسخط، فإني منتظر النصر والرحمة.
12 -
كان عذاب أهل مدين كثمود بالصيحة، قيل: صاح بهم جبريل صيحة، فخرجت أرواحهم من أجسادهم، وصاروا ميتين، كأن لم يعيشوا في دارهم.
13 -
ينضم إلى العذاب الدعاء على الكفار وإعلان الطرد من رحمة الله تعالى: {أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ} أي هلاكا لهم وبعدا عن رحمة الله، كما هلكت قبلهم ثمود، وبعدت من رحمة الله تعالى.
14 -
من فضل الله ورحمته أنه نجى شعيبا ومن معه من المؤمنين، وهو تنبيه على أن كل ما يصل إلى العبد، لا يكون إلا بفضل الله ورحمته، وأن الخلاص والنجاة والإيمان والطاعة والأعمال الصالحة لا تحصل إلا بتوفيق الله تعالى.