الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
وقال جماعة من نساء الكبراء والأمراء في مدينة مصر، منكرات على امرأة العزيز وعائبات عليها ومتعجبات منها: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، أي تحاول غلامها عن نفسه وتدعوه إلى نفسها، وما تزال محاولاتها مستمرة، بدلالة فعل {تُراوِدُ} الذي يفيد الاستمرار في الطلب في المستقبل، وما زال قلبها متعلقا به.
وأكدوا إنكارهم عليها بأمرين؛ لأن المألوف أن المرأة مطلوبة لا طالبة، وهي امرأة الوزير الأول، وتطلب مخالطة عبدها وخادمها:
الأول- {قَدْ شَغَفَها حُبًّا} أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها وهو غلافه المحيط به، ونفذ إلى سويدائه، فلم تعد تبالي بالعواقب وما يؤول إليه الحال.
والثاني- {إِنّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إنا لنعتقد ونعلم أنها في صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه لفي خطأ واضح وبعد عن الصواب وجهل يتنافى مع مكانتها. وأردن من هذا القول المكر والحيلة، ودفعها إلى دعوتهن والاقتناع بعذرها فيما فعلت. قال محمد بن إسحاق: بل بلغهن حسن يوسف، فأحببن أن يرينه، فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته.
{فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} أي باغتيابهن، وسوء مقالتهن، وكلامهن: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني، وسمي الاغتياب مكرا؛ لأنه في خفية وحال غيبة، كما يخفي الماكر مكره، فكما أن الغيبة تذكر على سبيل الخفية، فكذلك المكر.
{أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} أي لما بلغها ما تقوله النساء عنها غيابيا، أرسلت إليهن، أي دعتهن إلى منزلها للضيافة، وأعدت لهن ما يتكئن عليه من الكراسي
والوسائد والطعام الذي يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه، وأعطت كل واحدة من النساء سكينا لقطع اللحم والفاكهة. ونحوها، وذلك مكيدة منها، ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته، فمكرت بهن كما مكرن بها.
{وَقالَتِ: اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} أي وبيناهم في تناول الفاكهة والطعام، وكلّ تمسك بسكينها، أمرته بالخروج عليهن، بعد أن كانت قد خبأته في مكان آخر، وكانت ذكية ماهرة في اختيار الوقت المناسب وهو أن يفجأهن وقت انشغالهن بما يقطعنه ويأكلنه.
{فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ.} . أي فلما خرج ورأينه، أعظمنه، ودهشن لجماله الفائق وحسنه الكامل، وجعلن يقطعن أيديهن، اندهاشا برؤيته، فجرحن أيديهن، وهن يظنن أنهن يقطعن ما قدم لهن من طعام، وهكذا يفعل المدهوش الذي اجتذب نظره حادث مؤثر، أو منظر غريب، أو شيء مثير.
{وَقُلْنَ: حاشَ لِلّهِ} بحذف الألف للتخفيف واتباع المصحف، وقرأ أبو عمرو: وحاشا لله بإثبات الألف وهو الأصل، لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد، وحاشا: كلمة تفيد معنى التنزيه، أي وقلن لها على الفور تنزيها لله تعالى عن العجز، وتعجبا حيث قدر على خلق جميل مثله: وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا؛ لأنهن لم يرين في البشر مثله، ولا قريبا منه، فإنه عليه السلام قد أعطي شطر الحسن، كما
ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بيوسف عليه السلام في السماء الثالثة، فقال:«فإذا هو قد أعطي شطر الحسن» .
ما هذا الذي رأيناه من جنس البشر، وما هو إلا ملك كريم من الملائكة تمثل في صورة بشر، والمقصود إثبات الحسن العظيم له؛ لأنه استقر في الطباع أن لا حي أحسن من الملك، وأن لا حي أقبح من الشيطان. فلما رأت النساء روعة
جمال يوسف شبهنه بالملك، ونفين عنه البشرية، لغرابة جماله وروعة حسنه.
والأقرب عند الرازي: أن النسوة لما رأين عليه هيبة النبوة والرسالة، وعلامة التطهر والعفة، نفوا عنه آثار الشهوة البشرية والصفات الإنسانية، وأثبتوا له طهر الملائكة.
قالت، وقد نجحت في انبهارهن بجماله الأخاذ: فذلكن هو الذي وجهتن اللوم إلي بسببه، وعبتنّ علي فعلي. وإنما قالت {فَذلِكُنَّ} ولم تقل «فهذا» بالرغم من أنه حاضر أمامهن، رفعا لمنزلته في الحسن، وجدارة حبه والافتتان به، واستبعادا لمحله السامي، أي فذلك يوسف البعيد السامي في الكمال والجمال، فأنا معذورة، فهو حقيق أن يحب لجماله وكماله.
وإذا كان هذا حالكن معه في لحظة، فماذا أفعل وهو معي دائما في المنزل، وإني أعترف وأقر أني والله لقد راودته عن نفسه، فامتنع بإباء وشمم عما أردته منه؛ لأنه عفيف طاهر، ورث العفة عن أسلافه.
قال بعضهم: لما رأين جماله الظاهر، أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن، وهي العفة مع هذا الجمال.
ثم قالت متوعدة إياه بالعقاب: ولئن لم يفعل ما آمره به في المستقبل القريب، ليسجنن وليكونن من الذليلين المقهورين؛ لأن زوجي لا يخالف أمري ورغبتي.
وهذا دليل على أن حبه استولى على مجامع نفسها، وأن السجن المؤكد الدائم سيكون عقابه، لا مجرد الحبس المؤقت الذي كانت قد أشارت به على زوجها، عند اكتشاف أمرها لدى الباب، وأنها بهذا التهديد واثقة بسطانها على زوجها، مع علمه بأمرها، واستنكاره سلوكها، فقد أصبح عشقها له، وحبها المتناهي أمرا علنيا لا تواري فيه، ولا تخشى أحدا من نقدها وتوجيه اللوم لها.
فعندئذ استعاذ يوسف عليه السلام من شرهن وكيدهن. والكيد: الاحتيال والاجتهاد، وقال:{رَبِّ السِّجْنُ..} . أي يا رب، أنت ملاذي وملجئي، إن السجن الذي توعدت به أحب إلي مما يدعونني إليه هؤلاء النسوة من الفاحشة وارتكاب المعصية.
وكنى عن امرأة العزيز في قوله {كَيْدَهُنَّ} بخطاب الجمع، إما لتعظيم شأنها في الخطاب، وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض. والأولى حمل اللفظ على العموم، أي كيد النساء، وليس كيد امرأة العزيز فقط.
وقد أسند الدعوة إلى النساء جميعا؛ لأنهن زيّن له مطاوعتها ونصحنه بالاستجابة لرغبتها، وقلن له: إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار.
وهو في دعائه هذا آثر المشقة على اللذة؛ لأن العذاب المكروه وهو السجن مع البراءة أهون من الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، فإن البريء المسجون يشعر بسعادة عظيمة وهي المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة، وقد اختار أهون الشرين وأخف الضررين: السجن والزنى، ففي السجن راحة بال وهدوء نفس وخروج عن بيئة الفساد، وتخلص من التحكم في أمره.
ثم أكد دعاءه مبينا عجزه وضعفه، ومفوضا أمره لمن له القدرة والقوة، فقال:{وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ.} . أي وإن لم تبعد عني أثر كيدهن، أمل إلى موافقتهن على أهوائهن، وأكن من الجاهلين السفهاء الذين تستهويهم الشهوات، والذين لا يعملون بما يعلمون؛ لأن الحكيم لا يفعل القبيح، ولأن من لا ينتفع بعلمه فهو ومن لا يعلم سواء.
أي إن وكلتني إلى نفسي، فليس لي منها قدرة، وإنما أعتصم وألجأ إلى حولك وقوتك، فأنت المستعان وعليك التكلان، فلا تكلني إلى نفسي. وهذا
فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه من الصبر.
{فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ.} . أي فأجاب ربه دعاءه المفهوم من قوله: {وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي.} . الذي فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف، فصرف عنه كيدهن، وعصمه عصمة عظيمة، وحماه من التورط في المعصية أو الجهل والسفه باتباع أهوائهن، إنه تعالى السميع لدعاء الملتجئين إليه، العليم بصدق إيمانهم وبأحوالهم وما يصلحهم.
وهذا دليل على حراسة ربه له وعنايته به وتربيته تربية مثلي تليق بالأنبياء.
وقد ترفع مع شبابه وجماله وكماله عن مواقعة امرأة عزيز مصر التي كانت أيضا في غاية الجمال والأبهة، وأختار السجن خوفا من الله ورجاء ثوابه،
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلّق بالمساجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل تصدّق بصدقة، فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يميه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» .
{ثُمَّ بَدا لَهُمْ.} . ثم ظهر من المصلحة والرأي للعزيز وامرأته والشاهد الذي شهد عليها من أهلها بعد شيوع الخبر، وبعد ما عرفوا براءته، وظهرت الآيات وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته، ظهر لهم أن يسجنوه لأجل غير معلوم، إيهاما أنه راودها عن نفسها، وأنهم سجنوه على ذلك، وتنفيذا لرغبة زوجة العزيز التي تبين أنها ذات سلطان على زوجها، وأنه فقد الغيرة عليها، وآثر رضاها بأى ثمن كان.