الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{أَوْلِياءَ} أنصار يمنعونهم من عذابه أو عقابه، ولكنه أخر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون أشد وأدوم. {يُضاعَفُ لَهُمُ} بإضلالهم غيرهم. {ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} للحق. {وَما كانُوا يُبْصِرُونَ} أي يبصرونه، لفرط كراهتهم له، كأنهم لم يستطيعوا ذلك. {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم. {وَضَلَّ} غاب. {يَفْتَرُونَ} على الله من ادعاء الشريك.
{لا جَرَمَ} حقا. قال الفراء: إنها بمنزلة قولنا: لا بد ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة (حقا). تقول العرب: لا جرم أنك محسن، على معنى: حقا إنك محسن.
{وَأَخْبَتُوا} خشعوا وسكنوا وأخلصوا لله تعالى، وأصل الإخبات: قصد الخبث وهو المكان المطمئن المستوي. {مَثَلُ} صفة. {الْفَرِيقَيْنِ} الكفار والمؤمنين. {كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ} هذا مثل الكافر، وتشبيه بالأعمى لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لعدم استماعه كلام الله تعالى وتدبر معانيه. {وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} هذا مثل المؤمن لتبصره بالقرآن وسماعه له سماع تدبر وإمعان، فيكون كل واحد منهما مشبها باثنين. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} تتعظون، أصله: تتذكرون، فأدغم التاء في الذال.
المناسبة:
بعد أن تحدث القرآن عن فريقي الناس: وهما الذي يريد الدنيا وزينتها، والذي يريد الآخرة، أبان حال كل من الفريقين في الدنيا والآخرة.
وكان القصد من آية {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها} ذم الحريصين على الدنيا ونسيان الآخرة، والقصد من آية {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} الرّد على منكري نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن في معجزاته، وأما المراد من آية {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً} فهو الرّد على المشركين الذين يزعمون أن الأصنام شفعاؤهم عند الله، وهذا محض الافتراء على الله تعالى، وهو داخل تحت عموم وعيد المفترين على الله تعالى.
التفسير والبيان:
يبين الله تعالى حال المفترين عليه ووصفهم بأنهم أظلم الناس، وفضيحتهم في الآخرة أمام الخلائق كلهم، فيذكر أنه لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن اختلق
الكذب على الله تعالى، في صفته أو حكمه أو وحيه، أو زعم وجود شفعاء له بدون إذنه، أو اتخاذه ولدا من الملائكة كالعرب القائلين بأن الملائكة بنات الله، واليهود القائلين بأن عزيرا ابن الله، والنصارى القائلين بأن المسيح ابن الله.
{أُولئِكَ يُعْرَضُونَ.} . أي أولئك المغرقون في الكفر والشرك والافتراء على الله، يعرضون على ربهم أي يحاسبهم ربهم حسابا شديدا، ويقول الأشهاد من الملائكة الأبرار: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم وافتروا عليه، فلعنة الله على الظالمين، أي أنهم مطرودون من رحمة الله تعالى.
وبما أن العرض عام في كل العباد، فإن المراد به هنا عرض خاص وهو العرض بقصد افتضاحهم، فيحصل لهم الخزي والنكال في أسوأ حال، والعرض يكون على الأماكن المعدة للحساب والسؤال، أو على من شاء الله من الخلق بأمر الله تعالى، من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.
والآية مثل قوله تعالى: {إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ، وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ} [غافر 51/ 40 - 52].
وروى الإمام أحمد والشيخان عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة: «إن الله عز وجل يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين» .
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ.} . إن هؤلاء الظالمين يردون الناس عن اتباع الحق
والإيمان والطاعة، وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله عز وجل، ويحولون بينهم وبين الجنة، {وَيَبْغُونَها عِوَجاً} أي ويعدلون بالناس عن سبيل الله إلى المعاصي والشرك، فهم يريدون أن يكون طريقهم عوجا غير معتدلة، والحال أنهم كافرون بالآخرة أي جاحدون بها مكذبون، وأعاد لفظ {هُمْ} تأكيدا.
{أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ..} . إن أولئك الظالمين الصادين عن سبيل الله لا يعجزون ربهم أن يعاقبهم بالدمار والخسف كما فعل بغيرهم، بل هم تحت قهره وسلطانه، وهو قادر على الانتقام منهم في الدنيا قبل الآخرة، وليس لهم أنصار ينصرونهم من دون الله تعالى، ويحجبون عنهم العذاب، ويضاعف لهم العقاب بسبب إضلالهم غيرهم، كما ضلوا بأنفسهم، وكانوا صمّا عن سماع الحق، عميا عن اتباعه.
ونظير الآية قوله تعالى: {إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ} [إبراهيم 42/ 14] وقوله سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل 88/ 16] وقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» .
وعلة مضاعفة العذاب هي: {ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ} أي لم يستمعوا إلى القرآن سماع تدبر واتعاظ، ولم يبصروا طريق الحق والخير وينظروا إلى آيات القرآن وآيات الكون، الدالة على صدق الوحي، كما قال تعالى:{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ، وَالْغَوْا فِيهِ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت 26/ 41] وقال: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام 26/ 6].
فليس المراد نفي السمع والبصر، بل المقصود أنهم وإن كانوا يسمعون ويبصرون في الظاهر، إلا أنهم ما استخدموا هاتين الحاستين استخداما صحيحا في
تلقي المعارف والمعلومات وتكوين العقيدة السلمية، ونظرا لعنادهم وعتوهم وكراهتهم الحق والهدى، ما كانوا يطيقون سمع آيات القرآن والتبصر بآيات الكون.
{أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا..} . أي أولئك الموصوفون بالأوصاف السابقة خسروا أنفسهم؛ لأنهم أدخلوا نارا حامية يتزايد سعيرها، كما قال تعالى:
{مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً} [الإسراء 97/ 17] ولا موت ولا حياة فيها.
وضلّ عنهم أي ذهب عنهم الذي كانوا يفترونه من دون الله من الأنداد والأصنام، فلم تجد عنهم شيئا، بل ضرتهم كل الضرر، كما قال تعالى:{وَإِذا حُشِرَ النّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ} [الأحقاف 6/ 46] وقال سبحانه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم 81/ 19 - 82].
{لا جَرَمَ..} . حقا إنهم في الآخرة أخسر الناس صفقة؛ لأنهم استبدلوا بنعيم الجنان ودرجاتها عذاب جهنم ودركاتها، واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن شرب الرحيق المختوم بسموم وحميم، وعن الحور العين بطعام من غسلين، وعن القصور العالية بالهاوية، وعن قرب الرحمن بغضب الديان وعقابه.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ..} . بعد أن ذكر تعالى حال الأشقياء أعقبه بذكر السعداء، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا في الدنيا الأعمال الصالحة، فآمنت قلوبهم، وثابروا على الطاعات وترك المنكرات، وخشعوا لله وأنابوا إليه، فلهم جنات العلى ذات النعم التي لا تعد ولا تحصى، من كل ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم مخلدون فيها، ماكثون فيها على الدوام، لا يموتون ولا يهرمون، ولا يمرضون، ولا يخرج منهم مستقذر، وإنما هو رشح مسك يعرقون به.