الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من عند أنفسكم، إن صحّ أني اختلقته من عند نفسي، فإنكم عرب فصحاء مثلي، تقدرون على مثل ما أقدر عليه، بل أنتم أقدر لمعرفتكم بأساليب البيان خطابة وشعرا ونثرا. {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ} أي غيره إلى المعاونة على المعارضة. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أنه مفترى.
{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} أي بالإتيان بما دعوتم إليه للمعاونة. والاستجابة: الإجابة. وجمع ضمير {لَكُمْ} إما لتعظيم الرّسول صلى الله عليه وسلم، أو لأن المؤمنين أيضا كانوا يتحدّونهم أيضا. {فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ} خطاب للمشركين: فاعلموا أنما أنزل مصحوبا بعلم الله فلا يعلمه إلا الله، ولا يقدر عليه سواه، وليس افتراء عليه.
{وَأَنْ} مخففة أي أنه. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ثابتون على الإسلام راسخون فيه مخلصون إن كان الخطاب للمؤمنين؟ وهل أسلموا بعد هذه الحجة القاطعة إن كان الخطاب مع الكفار؟
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى افتراء المشركين على القرآن بأنه سحر مبين، وإعراضهم عنه كيلا يسمعوه، ذكر تكذيبهم للرّسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن، وظنّهم أنه مثل الملوك مدعوم بالمال للإغراء وكسب الأتباع، ومطالبتهم دعمه بالكنز أو بالملك، وتحدّيهم بالإتيان بعشر سور مثل القرآن الكريم.
سبب النّزول:
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رؤساء مكة قالوا: يا محمد، اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا. وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوّتك، فقال: لا أقدر على ذلك، فنزلت هذه الآية.
التفسير والبيان:
لعلك أيها الرّسول تارك بعض ما يوحى إليك أحيانا أن تلقيه إليهم، وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به، مثل تسفيه أحلامهم والتّنديد بعبادتهم الأوثان، وضائق به صدرك بأن تتلوه عليهم، أو لأجل أن يقولوا:{لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ}
والمراد بهذا الاستفهام الإنكاري النّفي أو النّهي، أي لا تترك شيئا مما أوحينا إليك من تبليغه المشركين وغيرهم، ولا تتضايق من تلاوته عليهم. ويقصد من ذلك المبالغة في التّحذير، والإغراء بأداء الرّسالة، وعدم المبالاة بكلماتهم الفاسدة، تأكيدا على تبليغ كامل الوحي، سواء رضي الناس أو غضبوا، لأن مجاملتهم غير مفيدة. ولا يعني هذا وقوع المنهي عنه، لعصمة الرّسول من التّقصير أو الخيانة في الوحي، فقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرّسول عليه الصلاة والسلام أن يخون في الوحي، والتّنزيل، وأن يترك بعض ما يوحى إليه؛ لأن تجويزه يؤدي إلى الشّك في كلّ الشّرائع والتّكاليف، وذلك يقدح في النبوة.
{أَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ.} . أي لا تتضايق لأجل أن يقولوا، أو كراهة أن يقولوا
(1)
: لولا أي هلا أنزل عليه كنز من عند ربّه يغنيه عن التّجارة والكسب، ويدلّ على صدقه، والقائل عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، أو ينزل معه ملك من السماء يؤيد دعوته، كقوله تعالى:
{وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها، وَقالَ الظّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان 7/ 25 - 8]. وإنما قال:
{ضائِقٌ} ولم يقل «ضيق» ليشاكل {تارِكٌ} الذي قبله، ولأن الضائق عارض طارئ غير لازم، والضيق ألزم منه.
فهذا إرشاد من الله تعالى لنبيّه ألا يضيق صدره بتبليغ الوحي والرّسالة، وألا يثنيه شيء عن دعوتهم إلى الله آناء الليل وأطراف النهار، كما قال تعالى:
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ} [الحجر 97/ 15].
(1)
وذلك مثل: يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء 176/ 4] أي لئلا تضلّوا.
ثم أكّد الله تعالى مهمّة نبيّه فقال: {إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ..} . أي ليس عليك إلا إنذارهم بما أوحي إليك، غير مبال بما يقولون، ولا آت بما يقترحون، ولك أسوة بإخوانك من الرّسل قبلك، فإنهم كذّبوا وأوذوا، فصبروا حتى أتاهم نصر الله عز وجل، والله هو الرّقيب على عباده، الحفيظ للأمور، فتوكّل عليه، ولا تبال بهم، فإنه عالم بحالهم، ومجازيهم على أعمالهم. وهذا كقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [البقرة 272/ 2]، وقوله تعالى:{فَذَكِّرْ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية 21/ 88 - 22]، وقوله تعالى:
ثم أبان الله تعالى إعجاز القرآن الكريم بدليل تحدّي العرب به، فقال:{أَمْ يَقُولُونَ: اِفْتَراهُ.} . أي بل يقول مشركو مكة: افترى محمد القرآن أي اختلقه من عند نفسه، فإن كان ما يزعمون صحيحا، فليأتوا بعشر سور مثله مفتريات، تضارعه في الفصاحة والبلاغة، وإتقان الأحكام والتّشريعات في شؤون الحياة المختلفة من سياسة واجتماع واقتصاد ونظام تعامل، والإخبار بقصص الأنبياء والغيبيات، وهم أهل السّبق في البيان والتّفوق في ملكة اللسان. والمختار عند أكثر المفسّرين أن القرآن معجز بسبب الفصاحة، وقيل: بسبب الأسلوب، وقيل: بسبب عدم التناقض، وقيل: بسبب اشتماله على العلوم الكثيرة، وقيل:
بسبب إخباره عن المغيبات.
ولكنهم عجزوا؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ولا بعشر سور مثله، بل ولا بأقصر سورة من مثله؛ لأن كلام الرّب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين، كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات، وذاته لا يشبهها شيء.
وهذه الآية اشتملت على خطابين: خطاب الرّسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
{قُلْ: فَأْتُوا.} .، وخطاب الكفار بقوله:{وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ.} ..