الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى. فَغَشّاها ما غَشّى} [النّجم 53/ 53 - 54]. فمن لم يمت حتى سقط للأرض، أمطر الله عليه، وهو تحت الأرض الحجارة، حجارة من سجيل، أي طين متحجّر قوي شديد.
وفي التّفسير: أمطرنا في العذاب، ومطرنا في الرّحمة.
ثم ذكر الله تعالى العبرة من القصة متوعّدا بها كلّ ظالم فقال: {وَما هِيَ مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} أي وما هذه النّقمة أو تلك القرى التي وقعت فيها ممن تشبه بهم في ظلمهم كأهل مكة ببعيد عنه، والمقصود أنه تعالى يرميهم بها.
قال أنس: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن هذا، فقال: يعني عن ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم، إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة. وفي هذا عبرة للظالمين في كلّ زمان ومكان. وجاء {بِبَعِيدٍ} مذكّرا على معنى بمكان بعيد.
ونظير الآية: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات 137/ 37 - 138]، أي وإنكم لتمرّون على ديارهم في أسفاركم نهارا أو ليلا، أفلا تعقلون وتتدبّرون بما نزل بهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت قصة لوط عليه السلام مع قومه على ما يأتي:
1 -
إنّ المؤمن يغار على حرمات الله، ويستبق وقوع الحوادث استعدادا للبلاء قبل نزوله، لذا استاء لوط عليه السلام من مجيء وقد الملائكة (ملائكة العذاب الذين بشّروا إبراهيم بالولد) وضاق صدره بمجيئهم وكرهه، وقال: هذا يوم شديد في الشّر.
لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ، بصرت بنتا لوط -وهما تستقيان-بالملائكة، ورأتا هيئة حسنة؛
فقالتا: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ قالوا: من موضع كذا نريد هذه القرية، قالتا: فإن أهلها أصحاب الفواحش؛ فقالوا: أبها من يضيفنا؟ قالتا: نعم! هذا الشيخ، وأشارتا إلى لوط؛ فلما رأى لوط هيئتهم خاف قومه عليهم.
2 -
كان مجيء القوم مسرعين بقصد ارتكاب الفاحشة دليلا ماديا محسوسا للملائكة وغيرهم على استحقاقهم العذاب الأليم والعقاب السريع. وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم، خرجت حتى أتت مجالس قومها، فقالت لهم: إنّ لوطا قد أضاف الليلة فتية، ما رئي مثلهم جمالا؛ وكذا وكذا، فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه.
ويذكر أن الرّسل لما وصلوا إلى بلد لوط، وجدوا لوطا في حرث (بستان) له. وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سدوم.. إلخ ما ذكر سابقا.
3 -
كان قوم لوط يعملون السّيئات، أي كانت عادتهم إتيان الرّجال، فلما جاؤوا إلى لوط، وقصدوا أضيافه قام إليهم لوط مدافعا، وقال: هؤلاء بناتي، أي أرشدهم إلى التّزوج بالنّساء، وإيثار البنات على الأضياف وقيل: ندبهم في هذه الحالة إلى النّكاح، وكانت سنّتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة؛ وقد كان هذا في أول الإسلام جائزا ثم نسخ؛ فزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنتا له من عقبة بن أبي لهب، والأخرى من أبي العاص بن الرّبيع قبل البعثة والوحي، وكانا كافرين.
وقال جماعة من المفسّرين كمجاهد وسعيد بن جبير: أشار بقوله:
{بَناتِي} إلى النّساء جملة؛ إذ نبيّ القوم أب لهم، ويؤيّد هذا أن في قراءة ابن مسعود:«النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم» ، والظاهر أن هذا هو أمثل الآراء وأقربها إلى الصحة.
4 -
إن الكريم الشّهم الأبي هو الذي يحافظ على كرامة ضيوفه، لذا قال لوط:{فَاتَّقُوا اللهَ، وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} أي لا تهينوني ولا تذلّوني.
ثم وبّخهم بقوله: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ؟} أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو ذو رشد، أو راشد أو مرشد أي صالح أو مصلح. والرّشد والرّشاد: الهدي والاستقامة.
5 -
من ألف الفساد والفحش بعد عن الصّلاح والطّهر، لذا قال قوم لوط:
{لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ} أي ليس لنا إلى بناتك رغبة ولا هنّ نقصد، ولا لنا عادة نطلب ذلك، فإن نكاح الإناث أمر خارج عن مذهبنا أو طريقنا الذي نحن عليه، ولا حاجة لنا بالبنات، أو لأنك لا ترى مناكحتنا، وما هو إلا عرض لا جدّية فيه، فقوله:{مِنْ حَقٍّ} أي مالنا في بناتك من حاجة ولا شهوة.
ثم أعلنوا عن شهوتهم فقالوا: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ} إشارة إلى الأضياف، والرّغبة في إتيان الذّكور، وما لهم فيه من الشّهوة.
6 -
لم يجد لوط عليه السلام سبيلا للرّدع والإرهاب إلا التّهديد وإظهار الغضب والضّجر من موقف قومه، واستمرارهم في غيّهم، وضعفه عنهم وعجزه عن دفعهم، فتمنى لو وجد عونا على ردّهم، وقال على جهة التّفجع والاستكانة:
{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أي أنصارا وأعوانا، لرددت أهل الفساد، وحلت بينهم وبين ما يريدون، أو لو أجد ملجأ ألجأ وأنضوي إليه من قبيلة أو عشيرة تؤازرني ضدّ البغي والبغاة، والظّلم والظّالمين، والفسق والفاسقين. وهو دليل على أن لوطا كان في غاية القلق والحزن بسبب إقدام أولئك الأوباش على ما يوجب الفضيحة في حقّ أضيافه.
7 -
لما رأت الملائكة حزن لوط عليه السلام واضطرابه ومدافعته، عرّفوه بأنفسهم:{قالُوا: يا لُوطُ إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ} فلما علم أنهم رسل، مكّن قومه من الدّخول، فأمر جبريل عليه السلام يده على أعينهم فعموا، وعلى أيديهم فجفّت.
وطمأنوه بقولهم: {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} بمكروه، وكان كلام الملائكة متضمّنا أنواعا خمسة من البشارات هي: أنهم رسل الله، وأن الكفار لن يصلوا إلى ما همّوا به، وأنه تعالى يهلكهم، وأنه تعالى ينجيه مع أهله من ذلك العذاب، وأن ركنه شديد، وأن ناصره هو الله تعالى.
8 -
اقتضت رحمة الله تعالى وعدله إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين، وتلك معجزة للنّبي وتكريم لمن آمن معه، وردع للظّالمين وإرهاب للكافرين. فأنقذ الله لوطا وأهله وهم بنتاه إلا امرأته، وأهلك قومه.
9 -
كان إهلاك قوم لوط ما بين طلوع الفجر إلى شروق الشمس بقلب جبريل عليه السلام قرى قوم لوط وجعل عاليها سافلها، وهي خمس: سدوم (وهي القرية العظمى) وعامورا، ودادوما، وضعوة، وقتم.
أي أن العذاب له وصفان: الأول: قوله تعالى: {جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها} ، ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض، والثاني قوله تعالى:
{وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} .
وكان هذا العمل معجزة قاهرة من وجهين:
أحدهما-أن قلع الأرض وإصعادها إلى قريب من السماء فعل خارق للعادة.
والثاني-أن ضربها من ذلك البعد البعيد على الأرض، بحيث لم تتحرك
سائر القرى المحيطة بها بتاتا أمر عجيب.
ثم إن عدم وصول الآفة إلى لوط عليه السلام وأهله، مع قرب مكانهم من ذلك الموضع معجزة قاهرة أيضا.
10 -
وصف الله تعالى الحجارة التي رمي بها قوم لوط بصفات ثلاث هي:
الأولى-كونها من سجّيل، أي الشّديد الكثير، أو الطين المتحجّر.
الثانية-قوله تعالى: {مَنْضُودٍ} أي متتابع، أو مصفوف بعضه على بعض، أو مرصوص.
الثالثة- {مُسَوَّمَةً} أي معلّمة، من السّيما وهي العلامة، أي كان عليها أمثال الخواتيم.
وقوله تعالى: {عِنْدَ رَبِّكَ} قال الحسن: دليل على أنها ليست من حجارة الأرض.
وقوله تعالى: {وَما هِيَ مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} يعني قوم لوط؛ أي لم تكن تخطئهم، وهي أيضا عبرة لكلّ ظالم من أهل مكة وغيرهم.
روي عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيكون في آخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرّجال، ونساؤهم بالنّساء، فإذا كان ذلك، فارتقبوا عذاب قوم لوط، أن يرسل الله عليهم حجارة من سجّيل» ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَما هِيَ مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} .
11 -
دلّ قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} على أن من فعل فعل قوم لوط، حكمه الرّجم، كما تقدّم في سورة الأعراف.