الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر دخول الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين توران شاه
ابن أيوب اليمن وتملكه لها
(1)
وفى سنة تسع وستين وخمسمائة سيّر الملك الناصر صلاح الدين أخاه الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين توران شاه بن أيوب إلى بلاد اليمن ليتملكها؛ وكان السبب في ذلك أنه كان صلاح الدين هو وأهله من حين ملكوا مصر خائفين من نور الدين أن يدخل مصر فيأخذها منهم، فشرعوا في تحصيل مملكة يقصدونها ويملكونها، وتكون لهم عدة، فإن أخرجهم نور الدين [142] من مصر ساروا إليها وأقاموا بها، فاقتضى رأى صلاح الدين أن يسيّر أخاه إلى النوبة ليملكها، فسار إليها ولم تعجبه كما ذكرنا، فلما عاد إلى مصر اقتضى رأيه أن يسيّره إلى اليمن (2)،
(1) هذا العنوان ساقط من س.
(2)
هذا الرأى القائل بأن السبب في فتح النوبة ثم اليمن إنما هو تخوف صلاح وأسرته من نور الدين أن يهاجمهم في مصر ويخرجهم منها. أقول إن هذا الرأى مصدره الأول ابن الأثير، وابن الأثير - فيما يبدو - متهم في كثير مما يكتبه عن العلاقات بين صلاح الدين ونور الدين أنظر ما فات: ص 223، هامش 4 وأنظر أيضا (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 145) فهو يقول عند حديثه عن مسير شمس الدولة تورانشاه إلى النوبة:«وكان سبب ذلك أن صلاح الدين وأهله كانوا يعلمون أن نور الدين كان على عزم الدخول إلى مصر، فاستقر الرأى بينهم أنهم يتملكون إما بلاد النوبة أو بلاد اليمن، حتى إذا وصل إليهم نور الدين لقوه وصدوه عن البلاد، فان قووا على منعه أقاموا بمصر، وإن عجزوا عن منعه ركبوا البحر ولحقوا بالبلاد التي افتتحوها» . وفى رأيى أن هذا لا يتفق مع ما ذكره ابن الأثير نفسه في موضع آخر (ص 148) من أن تورانشاه «استأذن نور الدين في أن يسير إلى اليمن لقصد عبد النبى صاحب زبيد لأجل قطع الخطبة العباسية فأذن في ذلك» وقد أكد هذه الحقيقة ابن واصل هنا في المتن بعد سطرين اثنين وإنما ذكر أن الذى استأذن نور الدين هو صلاح الدين. أما الأسباب الحقيقية لفتح اليمن فتجدها في النصوص الكثيرة التي نقلها (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 216 - 217 و 220) عن العماد الأصفهانى وابن شداد، وابن أبى طى. وفى:(بدر الدين محمد بن حاتم: السمط الغالى الثمن في أخبار الملوك من الغز باليمن) والكتاب الأخير لا زال مخطوطا، وتوجد منه نسخة في دار الكتب المصرية رقم 2411. =
وكان بها خارجى يقال له عبد النبى، واسمه فيما ذكر أبو الحسن عمارة:«على بن مهدى (1)» ، [و] قد ملك زبيد، وقطع الخطبة العباسية، وخطب لنفسه، فاستأذن صلاح الدين نور الدين في أن يسيّر عسكرا إلى اليمن ويفتتحها، فأذن له في ذلك.
وكان بمصر عمارة بن على اليمنى - المقدم ذكره - فحسّن للملك المعظم قصد اليمن، ووصف بلادها له، وعظّمها في عينه، فزاده ذلك رغبة فيها، فشرع يتجهز ويعدّ (2) الروايا والسلاح، وغير ذلك من الآلات، وجنّد الأجناد، وجمع وحشد، وكان لعمارة مدائح في الملك المعظم، فمما امتدحه به، وحرّضه فيه على ملك اليمن قصيدته التي أولها:
العلم مذ كان محتاج (3) إلى العلم
…
وشفرة السيف تستغنى عن القلم
= هذا وقد انفرد مؤرخ يمنى آخر (بامخرمة: تاريخ ثغر عدن، ج 1، ص 127 - 128) بذكر سبب هام من أسباب الفتح الأيوبى لليمن، وخلاصته أن بعض أمراء اليمن استغاثوا بالخليفة العباسى من اعتداءات عبد النبى بن مهدى؛ قال:«خرج (عبد النبى بن على بن مهدى صاحب زبيد) في أصحابه إلى جهة أبين، فحرق أبين، وقتل أهلها، وذلك في سنة 559، ثم رجع إلى زبيد؛ ثم خرج في سنة 561 في عسكر جرار نحو المخلاف السليمانى، فقاتلهم قتالا شديدا، وقتل منهم طائفة غالبهم من الأشراف، وفى جملة من قتله وهّاس بن غانم بن يحيى ابن حمزة بن وهاس السليمانى - أحد أمراء الأشراف وسادتهم -،. . . ويقال إنه لما قتل الشريف وهاس خرج أحد أخوته إلى بغداد مستنصرا بالخليفة على عبد النبى بن مهدى، فيقال إن الخليفة كتب له إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بأن يجرد في نصرته عسكرا لقتال ابن مهدى، فجرد الملك الناصر أخاه شمس الدولة توران شاه بن أيوب، وأن ذلك كان سبب دخول الغز اليمن. . إلخ» .
(1)
المهديون أسرة حكمت زبيد بين سنتى (554 - 569 = 1159 - 1173)، وحكم من هذه الأسرة ثلاثة فقط: على بن مهدى، ومهدى بن على، وعبد النبى بن على - وهذا هو اسمه الصحيح - انظر:(St .Lane - Poole : Mohammadan Dynasties P. 96).
(2)
س: «يعدل» .
(3)
في الاصل: «محتاجا» والتصحيح عن س و (الروضتين، ج 1، ص 216) و (النكت العصرية، ص 352).
ومنها:
ترى مسامع فخر الدين تسمع ما
…
أملاه خاطر أفكارى على قلمى؟
فإن أصبت فلى حظّ المصيب، وإن
…
أخطأت قصدك فاعذرنى ولا تلم
كم (1) تترك البيض في الأجفان ظامئة
…
إلى الموارد في الأعناق والقمم (2)
(2)
ومقلة الجدّ نحو العزم شاخصة
…
فاترك قعودك عن إدراكها وقم
فعمّك الملك المنصور سوّمها
…
من العراق إلى مصر بلا سأم
أمامك الفتح من شام ومن يمن
…
فلا تردّ رؤس الخيل بالّلجم
فاخلق لنفسك ملكا لا تضاف به
…
إلى سواك، وأور (3) النار في العلم
وانه المشيرين إن لجّت نصيحتهم
…
أو لا فانعم على العميان بالصمم
واعزم (4) وصمّم فقد طالت وقد شمخت (5)
…
قضيّة لفظتها ألسن الأمم
طال التردّد في إبرام منتقض
…
في (6) هذه الحال أو في نقض منبرم
ومنها:
فربّ أمر يخاف الناس غايته
…
والأمر أهون فيه من يد لفم
(1) في الأصل: «لا» وفى س: «لم» والتصحيح عن الروضتين.
(2)
خلط صاحب النسخة الأصلية فوضع الشطر الثانى من البيت الثانى أمام الشطر الأول من البيت الأول وبذلك جعل البيتين بيتا واحدا بعد أن أسقط الشطرين المرقمين، وقد صححنا الوضع فيهما بعد مراجعة س (42 ب).
(3)
في الأصل: «واورى» وفى س: «واروى» وقد صححت بعد مراجعة: (الروضتين ج 1، ص 217) و (ديوان عمارة، ص 619).
(4)
في الأصل: «وانعم» ، وما هنا عن س (42 ب) و (عمارة: النكت العصرية، ص 620).
(5)
في الأصل: «سمجت» وما هنا عن س، والنكت العصرية.
(6)
في الأصل: «من» وما هنا عن (س) والنكت العصرية.
هذا ابن تومرت قد كانت بدايته
…
- كما يقول الورى - لحما على وضم
[143]
والغيث وهو كما قد قيل أوّله
…
قطر، ومنه خراب السّدّ بالعرم
والبدر يبدو هلالا ثم يكشف بال
…
أنوار ما سترته شملة الظّلم
تنمو قوى الشىء بالتدريج إن رزقت
…
لظى (1) ويقوى شرار الزّند (2) بالضّرم
حاسب ضميرك عن رأى (3) أتاك وقل
…
نصيحة وردت من غير متّهم
أقسمت ما أنت ممن جلّ همّته
…
ما راق من نعم أو رقّ من نغم
وإنما أنت مرجوّ لواحدة
…
بنى بها الدهر مجدا غير منهدم
كأنّنى بالليالى وهى هاتفة
…
مذ صمّ سمع رجال دونها وعمى
وبالعلى كلّما لاقتك (4) قائلة
…
أهلا بمنشر آمالى من الرّمم
ثم سار الملك المعظم شمس الدولة من مصر مستهل رجب من هذه السنة فوصل إلى مكة (5) - حرسها الله تعالى - ومنها إلى زبيد، فلما قرب منها قال عبد النبى
(1) في الأصل: «لطفا» ، وما هنا عن:(النكت العصرية، ص 354).
(2)
في الأصل: «النار» وما هنا عن (س) والنكت.
(3)
في الأصل: «أمر» وما هنا عن النكت والروضتين.
(4)
في الأصل: «لاقيك» وما هنا عن س والنكت العصرية. هذا والقصيدة أطول مما ورد هنا بكثير، والأبيات المكملة يوجد بعضها في:(عمارة: النكت العصرية، ص 352 - 355 و 619 - 620) و (الروضتين، ج 1، ص 216 - 217).
(5)
أورد (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، الجزء الثامن، القسم الأول، ص 300 - 301) وصفا شائقا لما فعله توران شاه أثناء مقامه بمكة ولخطوات حملة اليمن بوجه عام، وقد آثرنا نقل هذا الوصف هنا لأهميته، ولأن راويه - سبط ابن الجوزى - يعتبر المؤرخ الثانى - بعد ابن واصل - المعاصر للأيوبيين، قال: وقفت على تاريخ بمصر، فرأيت أن شمس الدولة لما سار إلى اليمن، وكان أعيانها قد كتبوا إلى صلاح الدين يسألونه أن يبعث اليهم بعض أهله، فلما وصل شمس الدولة إلى مكة صعد صاحبها إلى أبى قبيس، فتحصن عليه بقلعة بناها، وأغلق باب الكعبة، وأخذ المفاتيح، فجاء شمس الدولة فطاف بالبيت، وصلى ركعتين، وصعد إلى باب الكعبة وقال: اللهم إن كنت تعلم أنى جئت إلى هذه البلاد لاصلاح العباد وتعهدها، =
لأهل زبيد: «كأنكم بهؤلاء وقد حمى عليهم الحرّ فهلكوا، وما هم إلا أكلة رأس (1)» ؛ فخرج إليهم بعسكره، فقاتلهم الملك المعظم ومن معه، فلم يثبت أهل زبيد وانهزموا، ووصل المصريون إلى سور زبيد فلم يجدوا من يمنعهم، فنصبوا السلالم، وصعدوا السور، فملكوا البلد عنوة، ونهبوه وأكثروا النهب، وأخذوا عبد النبى أسيرا وزوجته المدعوة بالحرة (2)، وكانت امرأة صالحة
= فيسر على فتح الباب، وإن كنت تعلم أنى جئت لنير ذلك، فلا تفتحه، ومد يده فجذب القفل فانفتح، فدخل شمس الدولة إلى البيت، وصلى ودعا، فلما بلغ أمير مكة ذلك نزل إلى خدمته، وحمل المفاتيح واعتذر؛ وقال: خفت منك، والآن فأنا تحت طاعتك، فقال: إذا أخذت منك مفاتيح مكة فلمن أعطيها؟ ثم خلع عليه وعلى أصحابه، وطيب قلوبهم. وسار إلى اليمن، فانهزم عبد النبى بين يديه إلى زبيد، وكان أبوه المسمى بالمهدى قد فتح البلاد وقتل خلقا كثيرا، وشق بطون الحوامل، وذبح الأطفال على صدورهن؛ وكان يرى رأى القرامطة، ويظهر أنه داعية لأهل مصر، ويستتر باليمن، وكان قد مات قبل دخول شمس الدولة اليمن بسنين، وملك بعده ولده عبد النبى، ففعل باليمن ما فعله أبوه، وسبى نساءهم، واستعبدهم. وكان أبوه لما مات بنى عليه قبة عظيمة، وصفح حيطانها بالذهب الأحمر والجواهر، ظاهرا وباطنا بحيث لم يعمل في الدنيا مثلها، وجعل فيها قناديل الذهب وستور الحرير، ومنع أهل البلد من زبيد إلى حضرموت أن يجيئوا إلى الكعبة، وأمرهم بالحج إلى قبر أبيه، وكانوا يحملون إليها من الأموال في كل سنة مالا يحد ولا يحصى، ويطوفون حولها مثلما يطوفون بالكعبة، ومن لم يحمل مالا قتله، وكانوا يقصدونها من الشحر، فاجتمع فيها أموال عظيمة، وأقام عبد النبى على الظلم والفسق والفجور، وذبح الأطفال، وسفك الدماء، وسبى النساء إلى أن دخل شمس الدولة اليمن، وجاء إلى زبيد، فيقال إنه حصر عبد النبى فيها وابنه، وقيده وقتله. . .، ويقال إنه انهزم بين يديه، وجاء إلى قبة أبيه فهدمها، وأخذ ما فيها من المال والجواهر والفضة، وكان على ستمائة جمل، ونبش القبر، وأحرق عظام أبيه وذراها في الريح، ومضى إلى صنعاء، فحلف شمس الدولة: لا ينتهى عنه حتى يقتله ويحرقه كما فعل بأبيه، وسار خلفه، فرجع إلى زبيد، وعاد شمس الدولة اليها، فظفر به، فأخذ ما كان معه، وقتله وصلبه وحرقه، كما فعل بعظام أبيه».
(1)
المؤلف ينقل هنا عن ابن الاثير، والنص في (ابن الاثير: الكامل، ج 11، ص 149):«كأنكم بهؤلاء وقد حمى عليهم الحر فهلكوا إلا أكلة رام» وهو خطأ مطبعى، وما بالمتن هنا هو الصحيح، فقد جاء في (اللسان):«ويقال: ما هم إلا أكلة رأس أي هم قليل، يشبعهم رأس واحد» .
(2)
في الأصل: «حرة» والتصحيح عن ابن الأثير. ويبدو أن لفظ «الحرة» كان لقبا تلقب به الأسرات الحاكمة في اليمن، فقد ظهرت بين نساء الصليحيين باليمن قبل هذا أكثر من سيدة كانت تلقب «بالحرة» أو «بالسيدة الحرة» .
كثيرة الصدقة، وكانت إذا حجت وجد عندها فقراء (1) الحاج صدقة دارة ومعروفا كثيرا
ولما أسر الملك المعظم عبد النبى بن محمد سلّمه إلى الأمير سيف الدولة مبارك ابن كامل بن منقذ (2)، وأمره أن يستخرج منه الأموال، فأعطاه منها شيئا كثيرا؛ ثم إنه دلهم على قبر كان قد صنعه لوالده، وبنى عليه بنية عظيمة، وله هناك دنائن كثيرة، وأعلمهم بها، فاستخرجت الأموال من هناك، وكانت جليلة المقدار؛ وداتهم [زوجته (3)] الحرة على ودائع لها، فأخذ منها مال كثير؛ ولما ملكت زبيد أقيمت بها [144] الخطبة العباسية.
ثم سار العسكر إلى عدن، وهى على البحر ولها مرسى عظيم، وهى فرضة الهند والزنج والحبشة وعمان وكرمان وكيش وفارس وغير ذلك، وهى منيعة جدا من جانب البحر والبر، وكان المتغلب عليها رجل يقال له ياسر، ولو (4) امتنع بها لم يقدروا على أخذها (4)، لكنه لحينه خرج إلى العسكر، فباشر قتالهم، فانهزم، وسبقه بعض عسكر الملك المعظم فدخلوا البلد قبل أهله، وملكوه، وأخذوا صاحبه ياسر أسيرا، وأرادوا نهب البلد فمنعهم الملك المعظم، وقال:«ما جئنا لنخرب البلاد، وإنما جئنا لنملكها ونعمرها وننتفع بدخلها» .
ولما دخلوا عدن كان معهم عبد النبى [صاحب زبيد (5)] مأسورا، فقال:
(1) في الأصل: «لفقرا» وما هنا عن س (43 ا).
(2)
في س: (. . . بن كافل بن مسعد)، وما هنا هو الصحيح.
(3)
ما بين الحاصرتين عن س.
(4)
مقابل هذا في س: «وقد امتنع بها ولم يقدر أحد على أخذها منه» ، وما في الأصل يقتضيه السياق فهو الصحيح.
(5)
ما بين الحاصرتين عن س (43 ب).