الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نور الدين دمشق امتنع ضحّاك ببعلبك، ولم يمكن نور الدين محاصرتها لقربها من الفرنج، وخاف إن حاصرها يسلمها ضحّاك إليهم، فتلطف الحال معه إلى أن عوّضه عنها وتسلّمها، وفى ذى الحجة من هذه السنة توفى عز الدين الدبيسى صاحب جزيرة ابن عمر، وهو من أكبر الأمراء العمادية.
[78]
ذكر استيلاء نور الدين على مدينتى بصرى وصرخد
كانت صرخد بيد الأمير أمين الدولة كمشتكين (1) من جهة الأمير ظهير الدين أتابك طغتكين، وكان ببصرى التيتاش (2) غلام أمين الدولة، فتوفى أمين الدولة في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، فصار غلامه التيتاش إلى صرخد فملكها، واجتمعت له بصرى وصرخد، وأظهر المشاقة لصاحب دمشق، وسار إلى الفرنج يستنجد بهم، فسار الأمير معين الدين أنر مقدم الجيوش بدمشق إلى تلك الناحية، فلما خرج الفرنج لنصرة التيتاش، وهو معهم، سار إليهم معين الدين فكسرهم، وعادوا مخذولين إلى بلادهم، ومعهم التيتاش، ونزل الأمير معين الدين على صرخد وبصرى في ذى القعدة سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وأقام محاصرا لها شهرين فملكها، وانفصل التيتاش عن الفرنج، وعاد إلى دمشق بغير أمان، وكان في أيام ولايته قد قبض على أخيه خطلخ فكحله، وأخرجه من عنده، فلما وصل التيتاش إلى دمشق حاكمه أخوه خطلخ وكحله بالشرع قصاصا، ولما ملك الأمير معين الدين قلعتى بصرى وصرخد، سلم صرخد إلى الأمير مجاهد الدين
(1) أمين الدولة كمشتكين نائب قلعتى بصرى وصرخد، ولاه عليهما الأتابك طغتكين؛ أنشأ المدرسة الأمينية في دمشق للفقهاء الشافعية، توفى سنة 541 هـ. أنظر:(النعيمى، الدارس في تاريخ المدارس، ص 178 وما بعدها).
(2)
كذا في الأصل، وهو في (ابن القلانسى: ذيل تاريخ دمشق): «التونتاس» و «اليونياس» ؛ وفى: (الروضتين، ج 1، ص 50): «التونتاش» .
بزان بن يامين (1) الكردى، وسلّم بصرى إلى حاجبه فارس الدولة صرخيك (2)، ثم توفى مجاهد الدين بزان بصرخد ليلة ثانى صفر سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فملكها بعده ولده سيف الدين محمد بن بزان، فأخذها منه نور الدين رحمه الله بعد امتناع، وعوّضه عنها حصن أبى قبيس، وقتل فارس الدولة صرخيك صاحب بصرى في المحرم سنة خمسين وخمسمائة، قتله ابن الحاجب جواه (3) زوج ابنته، فأخذها نور الدين رحمه الله وولّى فيها نوابه.
ذكر خروج أمير أميران (4) بن زنكى على أخيه نور الدين
وفى سنة أربع وخمسين وخمسمائة مرض نور الدين رحمه الله بقلعة حلب، واشتد مرضه، وأرجف الناس بموته، فجمع أخوه الأصغر أمير أميران بن زنكى الناس، وحصر قلعة حلب، وكان الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذى بحمص، وهو مقطعها، فسار إلى [79] دمشق ليتغلب عليها، وبها أخوه (5) نجم الدين أيوب ابن شاذى، فأنكر عليه نجم الدين ذلك وقال: «أهلكتنا، والمصلحة أن تعود
(1) في الأصل هنا وفيما يلى: «بران بن مامين» ، والتصحيح هنا عن:(النعيمى: الدارس، ج 1، ص 451، هامش 2) حيث ذكر الناشر أن الاسم صحح بعد مراجعة الكتابة المنقوشة على عتبة باب المدرسة المجاهدية الجوانية التي أنشأها باسمه في دمشق. وهو مجاهد الدين أبو الفوارس بزان بن على بن محمد من الأكراد الجلالية وهى طائفة منهم، بلادهم في العراق بنواحى دقوقا من أعمال بغداد، وكان أحد مقدمى الجيش بالشام في دولة نور الدين وناب بصرخد، وتوفى سنة 555 هـ. أنظر ترجمته في:(المرجع السابق) و (ابن القلانسى: الذيل، ص 359) و (الروضتين، ج 1، ص 123).
(2)
كذا في الأصل، وفى:(النعيمى: المرجع السابق، ص 452): «صرخك» ولم يستطع الناشر ضبط الاسم.
(3)
كذا في الأصل ولم يستطع الناشر ضبط الاسم.
(4)
هو نصرة الدين محمد بن زنكى، ويقال له أيضا «أمير ميران» .
(5)
في الأصل: «أخيه» .
إلى حلب مجدا، فإن كان نور الدين حيّا خدمته في هذا الوقت، وإن كان قد مات فأنا في دمشق تفعل ما تريد من تملكها»؛ فعاد إلى حلب مجدا وصعد القلعة، وأجلس نور الدين في شباك يراه الناس، وكلّمهم فلما رأوه حيّا تفرقوا عن أخيه أمير أميران، فسار إلى حران فملكها، فلما عوفى نور الدين قصد حران فهرب أخوه أمير أميران وترك أولاده بالقلعة، فملكها نور الدين وسلمها إلى الأمير زين الدين على كوجك بن بكتكين - صاحب إربل ونائب أخيه قطب الدين مودود ابن زنكى بالموصل -.
ثم سار نور الدين إلى الرقة، وبها أولاد أميرك الجاندار، وهو من أعيان الأمراء العمادية، وكان قد توفى وبقى أولاده، فشفع فيهم جماعة من الأمراء، فغضب، وقال:«هلا شفعتم (1) في أولاد أخى لما أخذت منهم حرّان، وكانت الشفاعة فيهم من أحب الأشياء إلىّ» ، ولم يشفعهم وأخذها منهم.
ذكر وفاة المقتفى (2) لأمر الله وسيرته
قد ذكرنا خلع السلطان مسعود للراشد بالله، وإقامة المقتفى لأمر الله للخلافة، ولما تولى الخلافة أحسن السيرة ولم يتعرض لمحاربة أحد، ولا لتجنيد أجناد، حسب ما اشترطه السلطان مسعود عليه، ثم راسله السلطان ليتصل بأخته فاطمة بنت محمد بن ملكشاه، فأجابه إلى ذلك، وعقد العقد بدار الخلافة على صداق مبلغه مائة ألف دينار، ثم حملت الجهة من همذان إلى بغداد، وصحبتها قاضى القضاة،
(1) في الأصل: «تشفعوا» والتصحيح عن: (ابن الأثير، ج 11، ص 95).
(2)
انظر ترجمته في: (ابن الجوزى: المنتظم، ج 10، ص 197) و (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 96) و (سبط ابن الجوزى: مرآة الزمان، ج 8، ق 1، ص 234 - 235) و (ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة، ج 5، ص 332) و (السيوطى: تاريخ الخلفاء، ص 290 - 293).
واستوزر المقتفى يحيى بن هبيرة، فأقام حشمة الدولة؛ ثم توفى السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بباب همذان يوم الأربعاء تاسع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وخمسمائة، فاضطربت الدولة السلجوقية بموته، وكثر الخلف بين ملوكها، فحينئذ تفرد الخليفة المقتفى لأمر الله بأمر العراق، وطرد عنه نواب السلجوقية، وبنى سور بغداد، وجنّد الجنود، وجمع العساكر، وقام وزيره [80] عون الدين أبو المظفر يحيى بن هبيرة بأعباء مملكته حق القيام، فقصد بغداد السلطان محمد شاه ابن محمود بن ملكشاه طالبا من الخليفة أن يخطب له بالسلطنة، فامتنع الخليفة من ذلك فجمع السلطان الجموع من الأطراف، واستعان بالأمير قطب الدين مودود ابن عماد الدين زنكى - صاحب الموصل -، فسير إليه عسكرا مقدمهم زين الدين على كوجك بن بكتكين صاحب إربل، فنازل السلطان محمد شاه بغداد من يوم السبت ثانى عشر المحرم سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة إلى يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الأول من هذه السنة؛ ونصب على بغداد المنجنيقات والسلالم، فلم ينل غرضا، وظهر من الخليفة المقتفى لأمر الله من الشجاعة والثبات وبذل العطاء مالا مزيد عليه، ولما طال الحصار ولم ينل السلطان محمد شاه غرضا رحل عن بغداد خائبا، واتفقت وفاة السلطان سنجر بن ملكشاه - عم القوم - صاحب خراسان، وكانت الخطبة مستمرة له ببغداد، فقوى أمر الخليفة بالعراق، وقامت حشمة الدولة العباسية، ورجعت إلى أحسن ما كانت عليه؛ وكان المقتفى لأمر الله فاضلا حسن العقيدة، وله شعر حسن من جملته:
قالت أحبك، قلت: كاذبة،
…
غرّى بذا من ليس ينتقد
لو قلت لى: أشناك، قلت: أجل،
…
الشيخ ليس يحبه أحد
وروى أنه وقف يوما على ظاهر مشهد على بن أبى طالب - رضى الله عنه - بالنجف، وكان قد عزم على الدخول إليه لزيارته، فمنعه وزيره عون الدين بن هبيرة (1) من ذلك، وصدفه عنه بأقوال قالها له، فتمثل المقتفى بأبيات منجم بن نويرة، وأشار إلى جهة القبر، وهو واقف خارج سور المشهد:
لقد لامنى عند القبور على البكا
…
رفيقى لتذراف (2) الدموع السوافك
وقال: أتبكى كلّ قبر رأيته
…
لقبر نوى بين اللوى (3) فالدّكادك؟
أمن أجل ميت واحد أنت نائح
…
على كل قبر أو على كل هالك
فقلت له: إن الأسى يبعث الأسى،
…
ذرونى، فهذا كله قبر مالك
ثم قال مشيرا بأصبعه إلى القبر: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، [81] اللهم أنت قلت وقولك الحق: «وأتوا البيوت من أبوابها» ، وهذا باب من أبوابك، اللهم فاغفر لى به كل خطية، واقض لى به كل حاجة، وأكفنى ببركة كل منهم، رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت»، وانصرف. وكانت وفاة المقتفى لأمر الله يوم الأحد ثانى ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وكانت مدة خلافته أربعا وعشرين سنة، وثلاثة أشهر، واثنين (4) وعشرين يوما؛ وعمره ست وستون سنة.
(1) هو عون الدين أبو المظفر يحيى بن هبيرة، توفى سنة 560؛ انظر ترجمته في:(ابن طباطبا: الفخرى، ص 276 - 279)
(2)
في الأصل: «بتذراف» .
(3)
في الأصل: «بين الثرى والدكادك» .
(4)
في (ابن الأثير، ج 11، ص 96) و (ابن الجوزى: المرجع السابق): «وستة عشر يوما» .