الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأموال، ليقوى بذلك ضعفه، قال: فسيّرنى يوما إليه أطلب منه فرسا، ولم يبق عنده إلا فرس واحد، فأتيت [111] إليه وهو راكب في بستانه المعروف بالكافورى (1)، الذى يلى القصر الغربى (2)، فقلت: صلاح الدين يسلم عليك، ويطلب منك فرسا، فقال: ما عندى إلا الفرس الذى أنا راكبه؛ ونزل عنه، وشقّ خفّيه، ورمى بهما، وسلم إلىّ الفرس، فأتيت به صلاح الدين؛ ولزم العاضد بيته، ولم يعد لركوب حتى كان منه ما كان».
ذكر منازلة الفرنج دمياط وعودتهم عنها خائبين
ولما ملك صلاح الدين رحمه الله الديار المصرية، واستقرت قدمه بها، واستقرت بها العساكر النورية، أيقن الفرنج بالهلاك، وأيقنوا أن بلاد الساحل من المسلمين على شفا جرف هار، وأنهم إن لم يتداركوا الأمر وإلا ذهبت البلاد
(1) ذكر هذا البستان (المقريزى: الخطط، ج 3، ص 39) عند كلامه عن «خط الكافورى» ، قال: «هذا الخط كان بستانا من قبل بناء القاهرة وتملك الدولة الفاطمية لديار مصر، انشأه الأمير أبو بكر محمد بن طغج الاخشيد، وكان بجانبه ميدان فيه الخيول وله أبواب من حديد، فلما قدم جوهر القائد إلى مصر جعل هذا البستان من داخل القاهرة وعرف ببستان كافور، وقيل له في الدولة الفاطمية البستان الكافورى، ثم اختط مساكن بعد ذلك. وقد حقق المرحوم محمد رمزى بك مكان هذا البستان في القاهرة الحالية في تعليقاته على كتاب النجوم الزاهرة (ج 4، ص 48، هامش 2) فقال إنه كان بستانا كبيرا واقعا قبل إنشاء القاهرة في المنطقة التي تحد اليوم من الشمال بشارع أمير الجيوش الجوانى، ومن الغرب بشارع الخليج المصرى، ومن الجنوب بشارع السكة الجديدة، ومن الشرق بشارع الخردجية وبين القصرين والنحاسين. ولما خرب هذا البستان وبنى في مكانه الدور والمساكن وغيرها أصبح خط الكافورى قاصرا فيما بعد على المنطقة التي تحد اليوم من الشمال بشارع أمير الجيوش الجوانى، ومن الغرب بشارع الشعرانى البرانى، ومن الجنوب بشارع الخرنفش، ومن الشرق بحارة برجوان.
(2)
كان موضعه حيث البيمارستان المنصورى (ومستشفى قلاوون للرمد يشغل جزءا منه الآن) وكل المساكن التي تجاوره إلى الخليج. انظر: (النجوم الزاهرة، ج 4، ص 66، هامش 1).
من أيديهم، فكاتبوا افرنج صقلية [والأندلس](1) وغيرهم، واستمدوهم واستنصروهم لدين النصرانية، وأمدوهم بالأموال والرجال والسلاح، واعتدوا للنزول على دمياط، فوصل إلى دمياط الفرنج والروم من داخل البحر، واستصحبوا معهم المنجنيقات (2) والدّبابات (3) وآلات الحصار وغير ذلك، واشتد أمر الفرنج بالشام لما قدم فرنج
(1) ما بين الحاصرتين عن الكامل لابن الأثير، والروضتين. والمعروف أن أمورى عندما أدرك خطورة استيلاء نور الدين على مصر أرسل يستنجد بمسيحى أوربا جميعا. ولكنهم تقاعسوا عن نجدته لأسباب مختلفة. فلجأ إلى مانويل امبراطور الدولة البيزنطية، فلبى دعوته، ولهذا كانت الحملة على دمياط تتكون من جيش أمورى الصليبى وأسطول ببزنطى ضخم. لمعرفة أخبار هذه الاتصالات وموقف البيزنطيين في الحملة انظر:(حسن حبشى: نور الدين والصليبيون، ص 134 - 140).
(2)
المنجنيق - بفتح الميم وكسرها - أو المنجنوق، او المنجميق، والجمع: مجاثيق ومناجيق ومنجنيقات، لفظ أعجمى معرب فهو في اللاتينية، (Mangonellus) وفى الفرنسية (Mangonneou) وفى الانجليزية (Mangonel) ، وهو آلة من آلات الحصار في العصور الوسطى، يقوم مقام المدفع الحالى، وإن كانت قذائفه من الحجارة، وقد وصفه صاحب صبح الأعشى (ج 2، ص 144) بأنه «آلة من خشب له دفتان قائمتان بينهما سهم طويل رأسه ثقيل وذنبه خفيف، تجعل كفة المنجنيق التي يجعل فيها الحجر يجذب حتى ترفع أسافله الأعلى أعاليه، ثم يرسل فيرتفع ذنبه الذى فيه الكفة فيخرج الحجر منه، فما أصاب شيئا إلا أهلكه. وقد ذكر (مرضى بن على بن مرضى الطرطوسى) في مخطوطته «تبصرة أرباب الألباب في كيفية النجاة في الحروب من الأسواء. . . الخ» التي آلفها خصيصا للسلطان صلاح الدين الأيوبى أن المنجنيقات على عهده كانت ثلاثة أنواع: «فمنها العربى وهو أيقن مصنوعاتها، وأوثق معمولاتها، ومنها التركى وهو أقلها كلفة وأحصرها مؤونة، ومنها الفرنجى» ثم وصف هذه الأنواع جميعا وصفا دقيقا مشفوعا بالرسوم. وقد نشر مقتطفات من هذه المخطوطة مع ترجمة فرنسية وتعليقات قيمه الأستاذ كلود كاهن.
أنظر: (Claude Cahen : Un Traite D'Armurerie Compose pour Saladin .Extrait du Bulletin d'Etudes Orientales،Damas،Tome XII .1947 - 1948)
هذا ويوجد ايضا في: (الحسن بن عبد الله: آثار الأول، ص 191 - 193) وصف ممتع للمنجنيق وطرق استعماله. انظر كذلك: (الجواليقى: المعرب، ص 305 - 307) و (نعمان ثابت: الجندية في الدولة العباسية، ص 190 - 193) و (المقريزى: اتعاظ الحنفا، نشر الشيال، ص 119، هامش 3).
(3)
جاء في (اللسان) أن «الدبابة آلة تتخذ من جلود وخشب، يدخل فيها الرجال ويقربونها من الحصن المحاصر لينقبوه وتقيهم ما يرمون به من فوقهم، سميت بذلك لأنها تدفع فتدبّ، وقد قرن (مرضى بن على) بينها وبين الأبراج والستائر، ووصفها جميعا وطرق صنعها في كتابه =
الغرب إلى دمياط، فسرقوا حصن عكار من المسلمين، وأسروا صاحبها، وكان مملوكا لنور الدين يقال له خطلخ (1) الجمدار؛ وكان وصول الفرنج إلى دمياط في صفر سنة خمس وستين وخمسمائة.
وكان سبق إلى دمياط الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ابن أخى السلطان، وكذا شهاب الدين خاله، فدخلا دمياط، وتابع إليهما صلاح الدين الأمداد والنجد في البحر، وأمدهما بالسلاح والمال والذخائر، واتصل على دمياط حصار الفرنج وضايقوها، وتابع صلاح الدين رسله إلى الملك العادل نور الدين رحمه الله يشكو إليه ما هو فيه من المخاوف، وأنه إن تخلف عن دمياط ملكها الفرنج، وإن سار إليها خلفه المصريون في مخلفيه ومخلفى عسكره بالسوء، وخرجوا عن طاعته، وصار الفرنج أمامه والمصريون خلفه، فجهز إليه نور الدين العساكر أرسالا، كلما تجهزت طائفة أرسلها، فسارت إليه يتلو بعضها بعضا.
ثم سار نور الدين فيمن عنده من العساكر ودخل بلاد الفرنج، [112] فنهبها وأغار عليها واستباحها، لتتحرك الفرنج إلى حفظ البلاد الشامية ويشتغلوا عن دمياط؛ وذكر أنه بلغ من اهتمام نور الدين بأمر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط أنه قرئ
= السالف الذكر، انظر:(C .Cahen : Op .Cit . P. 18 - 19) كذلك وصفها (الحسن عبد الله: آثار الأول، ص 192) بقوله: «هى آله سائرة تتخذ من الخشب الثخين المتلزز، وتغلف باللبود والجلود المنقعة في الخل لدفع النار، وتركب على عجل مستديرة، وتحرك فتنجر، وربما جعلت برجا من الخشب، ودبر فيها هذا التديير، وقد يدفعها الرجال فتندفع على البكر» وقد وصف (العماد الأصفهانى: الفتح القسى) باحدى دبابات الفرنج بأنها «كانت دبابة عظيمة هائلة ولها أربع طباق، وهى خشب ورصاص وحديد ونحاس» . انظر المراجع المذكورة في الحاشية السابقة؛ (المقريزى في السلوك، ج 1، ص 96، حاشية 8) و (Dozy : Supp .Dict .Arab)
هذا وقد كتب قارىء في هامش الأصل معنى هذا اللفظ باللاتينية وهو (mufculos machinas bellicas) .
(1)
في الاصل: «خلطلخ» وقد صحح الاسم بعد مراجعة (الروضتين، ج 1 ص 180) وهو يسميه هناك «العلمدار» لا «الجمدار» .
بين يديه جزء من حديث كان له به رواية، فجاءه في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم، فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يتبسم ليتم السلسلة على ما عرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك، وقال:«إنى لأستحى من الله تعالى أن يرانى مبتسما والمسلمون محاصرون بالفرنج» .
وذكر أن إماما لنور الدين رأى ليلة رحل الفرنج عن دمياط في منامه النبى صلى الله عليه وسلم وقال له: «أعلم نور الدين أن الفرنج رحلوا عن دمياط في هذه الليلة» ، قال: فقلت: «يا رسول الله لا يصدقنى، فاذكر لى علامة يعرفها» ، [قال]: فقل له «بعلامة ما سجدت على تل حارم، وقلت: يا رب انصر دينك (1)، ولا تنصر محمودا؛ من محمود الكلب حتى ينصر؟!» قال: «فانتبهت، ونزلت إلى المسجد، وكان من عادة نور الدين أن ينزل إليه بغلس، ولا يزال يركع فيه حتى يصلى الصبح» ، قال:«فتعرضت له، فسألنى عن أمرى، فأخبرته بالمنام، وذكرت له العلامة كلها، إلا أننى لم أذكر لفظ الكلب» ؛ فقال نور الدين: «اذكر العلامة كلها» وألحّ علىّ، فقلتها، فبكى، وصدّق الرؤيا. وأرخت تلك الليلة، فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك في تلك الليلة».
ولما رأى الافرنج تتابع الأمداد إلى دمياط من القاهرة والشام، ودخول نور الدين إلى بلادهم ونهبها وإخرابها (2) رجعوا خائبين؛ وكان مدة مقامهم
(1) في الأصل: «دبنك» وهو خطأ واضح، لم يكن تصحيحه يحتاج إلى الاشارة إليه في الهامش، لولا أن القارىء الفرنجى الذى اعتاد أن يسجل بعض شروحه باللاتينية على هوامش المخطوطة لم يفطن للقراءة الصحيحة للفظ، وفهمه على أنه «دبن» ، وشرحه باللاتينية هكذا:(Caula gregis،mandre) ؛ وفى (اللسان): الدبن حظيرة من قصب تعمل للغنم، فان كانت من خشب فهى زرب. فتأمل!!
(2)
في الأصل: «وخربها» والتصحيح عن الروضتين.
على دمياط خمسين يوما، وكان رحيلهم لتسع بقين من ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
وأنفق صلاح الدين في هذه النوبة أموالا عظيمة، وذكر عنه أنه قال:«ما رأيت أكرم من العاضد، أرسل إلىّ مدة مقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها» ؛ وسيّرت الكتب إلى الشام بالبشارة برحيل الفرنج، فكتب نور الدين إلى العاضد صاحب مصر يهنئه برحيل الفرنج عن دمياط، وكان قد ورد عليه كتاب [113] من العاضد يستقيل فيه من الأتراك خوفا منهم، ويطلب الاقتصار على صلاح الدين وخواصه وألزامه؛ فكتب إليه (1) نور الدين بمدح (1) الأتراك، ويعلمه أنه ما أرسلهم واعتمد عليهم إلا لعلمه بأن قنطاريّات (2) الفرنج ليس لها إلا سهام الأتراك، وأن الفرنج لا يخافون إلا منهم، ولولاهم لزاد طمعهم في الديار المصرية، ولعل الله سبحانه وتعالى ييسّر بهم فتح بيت المقدس.
ومما مدح به الملك الناصر صلاح الدين بعد رحيل الفرنج ما كتب إليه به عماد الدين الكاتب رحمه الله من قصيدة (3) مخلصها:
كأنّ قلبى وحبّ مالكه
…
مصر وفيها المليك يوسفها
(1) في الأصل: «إلى» و «مدح» ، والتصحيح عن:(الروضتين ج 1، ص 181).
(2)
القنطارية نوع من الرمح، وهى لفظ من أصل يونانى (Kontarion) وسميت هكذا لأنها تصنع من نوع من الخشب يحمل هذا الاسم باليونانية. وقد وصفها (مرضى بن على) وصفا دقيقا في كتابه السالف الذكر، قال:«وبنو الأصفر ومن جالسهم من الروم يعتدون وماحا من الخشب الزان والشوح وما شاكله ويسمونها القنطاريات، وليست بالطويلة، ويطعنون بها، ومن فرسانهم من تقربص بها، وهو أن يجعل طرفها في قربوص سرجه ويطعن، وأسنتها قصار عراض كهيئة البلطيّة وما جرى مجراها» . أنظر: (C .Cahen : Un Traite D'Armurerie Composepour Saladin P. P 11،155)
و (Dozy .Supp .Dict .Arab) .
(3)
وردت هذه الأبيات في: (الروضتين، ج 1، ص 182)، أما القصيدة كاملة فموجودة في:(العماد الأصفهانى: الخريدة، قسم شعراء مصر، ج 1 ص 9 - 11) وقد استعنا بهذين المرجعين لتصحيح الأبيات وضبطها وشرحها.
هذا بسلب الفؤاد يظلمنى،
…
وهو بقتل الأعداء ينصفها
الملك الناصر الذى أبدا
…
بعزّ سلطانه يشرّفها
قام بأحوالها، فدبّرها
…
حسنا، وأثقالها يخفّفها
بعدله والصّلاح يعمرها،
…
وبالندى والجميل يكنفها
من دنس الغادرين يرحضها،
…
ومن خباث العدى ينظّفها
وإنّه في السّماح حاتمها،
…
وإنّه في الوقار أحنفها
يوسف مصر التي (1) ملاحمها
…
جاءت بأوصافه تعرّفها
كتب التواريخ لا يزيّنها
…
- إلا بأوصافه - مصنّفها
وحطت (2) دمياط إذ أحاط بها
…
من برجوم (3) البلاء يقذفها
لاقت غواة الفرنج خيبتها
…
فزاد - من حسرة - تأسّفها
أوردت قلب (4) القلوب أرشية
…
من القنا للدماء تنزفها (5)
ولّيتها سفكها فعاملها
…
عاملها (6) والسّنان مشرفها (7)
يمضى لك الله في قتالهم
…
عزيمة للجهاد ترهقها
(1) في الأصل: «الذى» .
(2)
في الأصل: «وحط» ، والتصحيح عن المرجعين السابقين.
(3)
في الأصل: «ممن رجوم» والتصحيح عن المرجعين السابقين.
(4)
القلب جمع قليب وهو البئر؛ والأرشية الحبال، وهى جمع رشاء.
(5)
في الأصل: «تصرفها» ، وما هنا عن المرجعين السابقين.
(6)
عامل الرمح صدره؛ والعامل الوالى.
(7)
مشرف الشىء ما يعلوه؛ والمشرف كذلك القائم على الأمر.