الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم شرع صلاح الدين في استمالة قلوب الناس إليه، ويبذل من الأموال ما كان أسد الدين جمعه، وطلب من العاضد شيئا يخرجه، فلم يمكنه منعه، فمال الناس إليه وأحبوه، وقويت نفسه على القيام بهذا الأمر والثبات فيه، وضعف أمر العاضد.
ثم بلغ نور الدين أن الفرنج قد اجتمعت لتسير إلى مصر، فأمد نور الدين صلاح (1) الدين بعسكر فيهم الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب - وهو أكبر من صلاح الدين - وقال له نور الدين لما أراد أن يسيره إلى أخيه:«إن كنت تسير إلى مصر [108] وتنظر إلى أخيك أنه يوسف الذى كان يقوم في خدمتك وأنت قاعد، فلا تسر، فإنك تفسد البلاد، وأحضرك حينئذ وأعاقبك بما تستحقه، وإن كنت تنظر إليه أنه صاحب مصر وقائم فيها مقامى، وتخدمه بنفسك كما تخدمنى، فسر إليه، واشدد أزره، وساعده على ما هو بصدده» ؛ فقال: «أفعل معه من الخدمة والطاعة ما يصل إليك إن شاء الله تعالى» ، فكان كما قال.
ذكر وقعة السودان بالقاهرة
وكان بالقاهرة خصىّ يقال له مؤتمن الخلافة (2)، وكان متحكما في القصر، ولما ثقلت وطأة الملك الناصر على أهل القصر، وعلموا أن دولتهم زائلة بسببه، أحبوا الراحة منه، فأجمعوا على مكاتبة الفرنج ليصلوا إلى البلاد، فإذا خرج صلاح الدين إلى لقائهم قبضوا على من بقى من أصحابه بالقاهرة، واجتمعواهم والفرنج
(1) في الاصل: «لصلاح» .
(2)
اسمه الكامل: «مؤتمن الخلافة جوهر» وكان أحد الأستاذين المحنكين بالقصر. انظر: (المقريزى، الخطط، ج 3، ص 2).
على حربه وحرب أصحابه واستئصالهم، ويكون بعد ذلك البلاد بينهم وبين الفرنج يقتسمونها، فسيّر مؤتمن الخلافة رجلا وحملّه (1) كتابا إلى الفرنج، فخرز عليه نعله، وظنوا أن ذلك يخفى عن صلاح الدين والمسلمين (2)، {وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} (3)».
فاتفق أن ذلك القاصد لما عبر بالبئر البيضاء (4) رآه رجل تركمانى وعلى القاصد خلقان، وفى يده النعلان اللذان (5) أخفيت فيهما المكاتبة، وليس فيهما أثر شىء، فأنكرهما التركمانى، فأخذهما، وأحضرهما إلى صلاح الدين، ففتقهما فوجد مكاتبة الفرنج فيهما من أهل القصر، فأخذ صلاح الدين الكتاب، وقال:«دلونى على كاتب هذا الخط» ، فدلوه على رجل يهودى، فلما أحضروه ليسألوه ويعاقبوه ويقابلوه، نطق بالشهادتين واعتصم بهما، واعترف أنه كاتب الكتاب عن أهل القصر، فأخفى صلاح الدين الحال، واستشعر مؤتمن الخلافة، وخاف على نفسه، ولازم القصر لا يخرج منه، فإذا خرج لم يبعد، وصلاح الدين معرض عن ذكره البتة، مغض عنه، لا يأمر فيه ببسط ولا قبض، فاسترسل حينئذ وظن أنه لا يقدم عليه؛ وكان له قصر
(1) في الأصل: «وأصحابه» ولا يستقيم المعنى بها، وقد صححت بعد مراجعة:(ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 129) و (أبو شامة: الروضتين، ج 1، ص 178).
(2)
بين كلمة «المسلمين» والآية القرآنية لفظ «دبابا» ولا معنى لها فحذفت.
(3)
السورة 9 (التوبة)، الآية 32 (م).
(4)
ذكر (المقريزى: الخطط، ج 3، ص 2) أنها قريبة من بلبيس، هذا ويستفاد مما ورد في (صبح الأعشى، ج 14، ص 376) عند الكلام عن مراكز البريد وعن الطريق بين القاهرة وغزة أن هذه البئر كانت واقعة بين بلدتى الخانكة وبلبيس، وقد حقق المرحوم محمد رمزى بك موقعها، قال في:(النجوم الزاهرة، ج 8، ص 44، هامش 2): «وبالبحث عن موقعها تبين لى أن مكانها اليوم عزبة أبى حبيب الواقعة في حوض البيضاء بأراضى ناحية الزوامل بمركز بلبيس، ولا يزال اسم البيضاء والمنسوب إليه هذه البئر يطلق على الحوض المذكور» .
(5)
في الأصل: «اللذين» .
بقرية على شاطىء النيل بقرب قليوب تعرف [109] بالخرقانيّة (1)، ذات متنزه وبساتين، فخرج إليها للتنزه، فلما علم صلاح الدين أرسل إليه جماعة من أصحابه فاغتالوه من مأمنه، وقتلوه وأتوا برأسه، وذلك يوم الأربعاء لخمس بقين من ذى القعدة من هذه السنة - أعنى سنة أربع وستين وخمسمائة -.
فلما قتل غار السودان (2) عبيد القصر وثاروا، وكانوا يزيدون على خمسين ألفا، وكانوا إذا قاموا على وزير قتلوه واجتاحوه؛ فلما ثاروا أنهض (3) إليهم الملك الناصر صلاح الدين أبا الهيجاء السمين، ووقعت الحرب بين الفريقين - بين القصرين بالقاهرة - واشتد القتال بين الفريقين، واستمر ذلك يومين، وصاروا كلما لجأوا إلى محلة أحرقت عليهم، وكانت لهم محلة عظيمة على باب زويلة، تعرف بالمنصورة، (4)، فأرسل صلاح الدين إليها من أوقع الحريق فيها على أموالهم وأولادهم وحريمهم، فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا منهزمين، وركبتهم السيوف، وأخذت عليهم
(1) ذكر (على مبارك: الخطط التوفيقية، ج 10، ص 97) أنها قرية صغيرة من مديرية القليوبية من قسم قليوب واقعة على الشط الشرقى للنيل في الشمال الغربى لقرية أبى الغيط بنحو نصف ساعة، ومنها إلى القناطر الخيرية نحو ثلثى ساعة، وأبنيتها ريفية وبها جامع بمنارة؛ وذكر أنها كانت تسمى في العصر الفاطمى «الخاقانية» .
(2)
أشار (المقريزى في الخطط، ج 3، ص 3) إلى بعض الفرق السودانية التي شاركت في هذه الوقعة، وهى:«الطائفة الريحانية، والطائفة الجيوشية، والطائفة الفرحية، وغيرهم من الطوائف السودانية، ومن انضم إليهم بين القصرين» .
(3)
في الأصل «نهض» ولا يستقيم بها المعنى، وقد صححت بعد مراجعة:(الروضتين، ج 1، ص 178)، فالنص هناك نقلا عن العماد:«فثار أصحاب صلاح الدين إلى الهيجا، ومقدمهم الأمير أبو الهيجا» .
(4)
ذكر هذه المحلة (المقريزى في الخطط، ج 3، ص 29) باسم «الحارة المنصورية» ، قال:«هذه الحارة كانت كبير. متسعة جدا، فيها عدة مساكن للسودان، فلما كانت واقعتهم في ذى القعدة سنة 564 مر صلاح الدين يوسف بن أيوب بتخريب المنصورة هذه وتعفية أثرها، فخربها خطلبا بن موسى الملقب صارم الدين، وعملها بستانا» ثم حدد مكانها في (ص 30) قال: «وكان موضع المنصورة على يمنة من لك في الشارع خارج باب زويلة، وهى إلى جانب الباب الحديد الذى يعرف اليوم بالقوس عند رأس المنتجبية فيما بينها وبين الهلالية.»
أفواه السكك، فطلبوا الأمان بعد أن كثر فيهم القتل، فأجيبوا إلى ذلك؛ وذلك يوم السبت ليلتين بقيتا من ذى القعدة، فمضوا إلى الجيزة، فعبر إليهم الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب - أخو السلطان - في طائفة من العسكر فأبادهم بالسيف، فلم يبق منهم إلا الشريد، وضعف أمر العاضد بالكلية وتلاشى أمره؛ وأمر صلاح الدين بتخريب محلة السودان، وأعفى أثرها، فخرّبها بعض الأمراء واتخذها بستانا؛ وأصبح أمر السودان كأن لم يكن قط (1)؛ ففى ذلك يقول عماد الدين الكاتب يمدح صلاح الدين، وسيّرها إليه من الشام:
بالملك الناصر استنارت
…
- في عصرنا - أوجه الفضائل
علىّ من حقه فروض
…
شكرا لما جاد من نوافل
يوسف مصر الذى إليه
…
تشدّ آمالنا الرواحل
أجريت نيلين في ثراها:
…
نيل نجيع، ونيل نائل
وما نفيت السودان حتى
…
حكّمت البيض في المقاتل
[116]
صيّرت رحب الفضاء ضيقا
…
عليهم كفه بحائل (2)
وكلّ رأى منهم كراء
…
وأرض مصر كلام واصل
وقد خلت منهم المغانى
…
وأقفرت منهم المنازل
(1) أورد المقريزى في كتابه (الخطط، ج 3، ص 29) نصا هاما يشير إلى مكانة السودانيين في الجيش الفاطمى ومبلغ ما كان لهم من نفوذ، وكيف تتبعهم صلاح الدين في الصعيد بعد هذه الوقعة إلى أن قضى على نفوذهم نهائيا، قال:«وكان للسودان بديار مصر شوكة وقوة، فتبعهم صلاح الدين ببلاد الصعيد حتى أفناهم بعد أن كان لهم بديار مصر في كل قرية ومحلة وضيعة مكان مفرد لا يدخله وال ولا غيره، احتراما لهم، وقد كانوا يزيدون على خمسين ألفا، وإذا ثاروا على وزير قتلوه، وكان الضرر بهم عظيما لامتداد أيديهم إلى أموال الناس وأهاليهم، فلما كثر بغيهم وزاد تعديهم أهلكهم الله بذنوبهم. . . الخ» .
(2)
الأصل: «كفة لحابل» ، وما هنا عن:(الروضتين، ج 1، ص 178)، وقد وردت هذه القصيدة أيضا في:(المقريزى: الخطط، ج 3، ص 29 - 30)، وهى هناك أكثر أبياتا فانظرها
وما أصيبوا إلا بطلّ
…
فكيف لو أمطروا بوابل!
والسود بالبيض قد أبيحوا (1)
…
فهى بواديهم نوازل
مؤتمن القوم خان حتى
…
غالته من شرّه غوائل
عاملكم بالخنا فأضحى
…
ورأسه فوق رأس عامل
يا مخجل البحر بالأيادى
…
قد آن أن تفتح السواحل
فقدّس القدس من خباث
…
أرجاس كفر غتم أراذل
وذكر عماد الدين أنه وصل في هذه المدة كتاب من الملك الناصر صلاح الدين إلى بعض أصحابه بدمشق، وضمنه هذا البيت:
وانثر درّ الدمع من قبل أبيضا
…
وقد حال مذغبتم فأصبح ياقوتا
فنظمت في الجواب أبياتا منها:
هنيئا لمصر كون يوسف ملكها
…
بأمر من الرحمن قد كان موقوتا
وما كان فيها قتل يوسف شاورا
…
يماثل إلا قتل داوود جالوتا
وقلت لقلبى أبشر اليوم بالمنى
…
فقد نلت ما أمّلت، بل حزت ما شيتا
ولما وقعت هذه الواقعة تلاشى أمر العاضد خليفة مصر، إلا أن الخطبة باقية له، وبعده لنور الدين، فحكى لى الأمير حسام (2) الدين بن أبى على قال:
«كان جدى في خدمة الملك الناصر صلاح الدين، فحكى أنه لما وقعت هذه الواقعة شرع صلاح الدين كل يوم يطلب من العاضد شيئا من الخيل والرقيق
(1) الأصل: «ألجوا» وما هنا عن الروضتين، وفى الخطط:«تنحوا» .
(2)
كان الأمير حسام الدين بن أبى على قائدا من كبار قواد الدولة في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب ونائب السلطنة في عهده، كما كان صديقا حميما للمؤلف ابن واصل، وسينقل عنه فيما يلى الكثير من أخبار الدولة وأسرارها وخاصة في عهد الصالح نجم الدين، وهذا أول حديث ينقله عنه، وهو من الأخبار التي ينفرد ابن واصل بايرادها، وقد نقله عنه (أبو المحاسن: النجوم الزاهرة، ج 5، ص 339).