الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخبازهم، وما يضبط مثل هذا الإقليم العظيم إلا بالمال العظيم، ثم أنت تعرف مصر وعظماءها، وأنهم معتادون النعمة الواسعة، وقد تصرفوا في أماكن لا يمكن انتزاعها منهم، ولا يسمحون بأن ينقص من ارتفاعها»؛ ثم أخذ [صلاح الدين](1) في جمع مال يرفعه [إلى نور الدين](1)، وحصل لخالد من الأموال ما لم يكن في خلده. ثم اتفقت وفاة نور الدين رحمه الله فكان ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة الملك العادل نور الدين
ابن زنكى بن آق سنقر - رحمه الله تعالى
-
كنا ذكرنا أن نور الدين كان قد عزم على التجهز للدخول إلى الديار المصرية لأخذها من صلاح الدين، فإنه رأى منه فتورا في قصد الفرنج من ناحيته، (2) وكان يعلم (2) أنه إنما يمتنع صلاح الدين من الغزو للخوف منه والاجتماع به، وأنه يؤثر
= الموفق بن القيسرانى إلى الديار المصرية، واجتمع بالسلطان الملك الناصر، وأنهى إليه رسالة نور الدين، وطالبه بحساب جميع ما حصله وارتفع إليه من المغل فصعب ذلك على السلطان، وأراد شق العصى، لولا ما ثاب إليه من السكينة والعقل، فأمر بعمل الحساب، وعرضه على ابن القيسرانى، وأراه جرائد الأجناد بمبالغ إقطاعهم، وتعيين جامكياتهم، ورواتب نفقاتهم، فلما حصل عنده جميع ذلك أرسل معه هدية إلى نور الدين مع الفقيه عيسى. إلخ». ثم نقل ابن أبى طى بعد ذلك ثبتا بمفردات هذه الهدية التي أرسلها صلاح الدين إلى نور الدين، ولهذا الثبت أهميته لأن ابن أبى طى نقله كما ذكر من «خط الموفق بن القيسرانى» ، ثم عقب عليه بقوله:«وخرجوا بهذه الهدية فلم تصل إلى نور الدين، لانهم اتصل بهم وفاته، فمنها ما أعيد، ومنها ما استهلك، لأن الفقيه عيسى وابن القيسرانى وضعوا عليهم من نهبهم، واستبدوا بأكثرها، وقيل إنها وصلت جميعها إلى السلطان، لانه اتصل به خبر موت نور الدين، فأنفذ من ردها، قال: وحدثنى من شاهد هذه الهدية أنه كان معها عشرة صناديق مالا لم يعلم مقداره» : انظر (الروضتين، ج 1، ص 219).
(1)
ما بين الحاصرتين عن س.
(2)
مكان هذين اللفظين في س: «وذلك» - والمؤلف ينقل هنا عن (ابن الأثير: الكامل، ج 11، ص 151)، ولاحظ أن المصدر الأول لأخبار النفرة بين نور الدين وصلاح الدين هو ابن الاثير، وهو يكرر الفكرة ويؤكدها كلما سنحت له فرصة.
كون الفرنج (1) في الطريق ليمتنع بهم على نور الدين، فأرسل نور الدين إلى الموصل وبلاد الجزيرة وديار بكر وغيرها يطلب العساكر للغزاة، وكان عزمه أن يترك (2) العساكر مع ابن أخيه سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى - صاحب الموصل والشام (3) -، ويسير هو بعسكره إلى مصر، فعاقه القدر المحتوم عن قصده.
ولما كان يوم عيد الفطر من هذه السنة - أعنى سنة تسع وستين وخمسمائة - أمر نور الدين رحمه الله بتطهير ولده الملك الصالح إسماعيل، فاحتفل لهذا الأمر، وزينت دمشق أياما، وهنّاه كاتبه عماد الدين الأصفهانى بقصيدة أولها:
عيدان: فطر وطهر
…
فتح قريب ونصر
كلاهما لك فيه
…
حقا هنا (4) وأجر
[153]
نجل على الطّهر نام
…
زكاله منك نجر (5)
محمود الملك العاد
…
ل الكريم الأغرّ
وبابنه (6) الملك الصا
…
لح العيون (7) تقرّ
مولى به اشتدّ للديـ
…
ـن والشريعة أزر
نور تجلّى (8) عيانا
…
ما دونه اليوم ستر
(1) صيغة س: «وأنه يؤثر الفرنج كونهم في الطريق» .
(2)
في الأصل: «ينزل» والتصحيح عن المرجع الذى ينقل عنه هنا حرفيا وهو (الكامل لابن الاثير).
(3)
في الأصل: «بالشام» والتصحيح عن ابن الأثير.
(4)
في الأصل، وفى س:«حق هناك» ، والتصحيح عن:(الروضتين، ج 1، ص 227).
(5)
كذا في الاصل وفى الروضتين؛ وفى س: «فحر» .
(6)
س: «ونايبه» .
(7)
في الأصل: «للعيون» وفى س: «به العيون» والتصحيح عن الروضتين.
(8)
في الأصل وفى س: «تجلا» .
أضحت مساعيك غرا
…
كما أياديك غزر (1)
وكلّ قصدك رشد
…
وكلّ فعلك برّ
وإنّ حبّك دين
…
وإن بغضك كفر
لنا بيمناك يمن
…
كما بيسراك يسر
وللموالين نفع
…
وللمعادين ضرّ
[ومنها يقول](2):
تملّ تطهير (3) ملك
…
له الملوك تخرّ (4)
وكيف يعمل للطا
…
هر المطهّر طهر
يزهى سرير وتاج
…
به ودست وصدر
هذا الطهور ظهور (5)
…
على الزمان وأمر
وذا الختان (6) ختام
…
بمسكه طاب نشر
رزقت عمرا طويلا
…
ما طال للدّهر عمر
وفى يوم العيد - وهو في يوم الأحد - ركب نور الدين على الرسم المعتاد إلى الميدان الأخضر الشمالى بدمشق لطعن (7) الحلق، ورمى القبق (8)، وأمر فضربت
(1) في الاصل، وفى س:«غر» ، وما هنا عن الروضتين.
(2)
ما بين الحاصرتين عن س؛ وانظر القصيدة كاملة في: (الروضتين، ج 1، ص 227)
(3)
س: «بتطهير» .
(4)
س: «تجر» .
(5)
في الأصل: «طهور» وفى س: «ظهورا» والتصحيح عن الروضتين.
(6)
س: «الختام» .
(7)
في الأصل. وفى س (49 ا): «ليطعن» والتصحيح عن الروضتين، وقد نقل صاحب الروضتين (ج 1، ص 227) خبر هذا اليوم عن العماد الكاتب بألفاظه وجمله المسجوعة، وابن واصل نختصر هنا نص العماد.
(8)
القبق: أو القباق - لفظ تركى، معناه لغة نبات القرعة العسلية (une courgette) ومعناه اصطلاحا الهدف الذى كان يستعمل في اللعبة التي عرفت في الشرق في العصور الوسطى =
له خيمة في الميدان القبلى الأخضر، وأمر بوضع المنبر، وخطب القاضى شمس الدين ابن الفراش (1) - قاضى العسكر - بعد أن صلى به؛ ثم مدّ السماط العام، وأنهب على عادة الترك، وعاد [نور الدين] إلى القلعة، ومدّ خوانه الخاص.
وفى غد هذا اليوم - وهو يوم الاثنين [154] ثانى شوال - ركب في خواصه وأصحابه، ودخل الميدان والأمير همام الدين مودود (2) - وهو من أكبر أمرائه - يسايره، فقال لنور الدين:«هل نكون هنا في مثل هذا اليوم في العام القابل؟» . فقال نور الدين: «قل هل نكون هنا بعد شهر؟ فإن السنة بعيدة» فجرى على منطقهما (3) ما جرى به القدر السابق، فإن نور الدين لم يصل إلى آخر الشهر، وهمام الدين لم يصل إلى آخر العام.
= بنفس الاسم - القبق -، وكان طريقة لعب القبق كما وصفها (Dosy : Supp .Dict .Arab) أن ينصب صار طويل من خشب، يكون في رأسه شكل قرعة من ذهب أو فضة بمثابة الهدف، ويكون في القرعة طير حمام، ثم يأتى اللاعبون للمباراة في رمى الهدف بالنشاب أو السهام وهم على ظهور الخيل، فمن أصاب منهم القرعة وأطار الحمام حاز السباق وأخذ القرعة المعدنية لنفسه، غير أن (المقريزى: الخطط، ج 3، ص 180) وصف هذه اللعبة وصفا يختلف عن الوصف السابق بعض الشىء، ويبدو أن وصف المقريزى هو الذى يعنيه المتن هنا، فنص المتن:«لطعن الحلق، ورمى القبق» . والمقريزى يقول: «والقبق عبارة عن خشبة عالية جدا، تنصب في براح من الأرض، ويعمل بأعلاها دائرة من خشب وتقف الرماة بقسيها وترمى بالسهام جوف الدائرة لكى تمر من داخلها إلى غرض هناك، تمرينا لهم على إحكام الرمى، ويعبر عن هذا بالقبق في لغة الترك» . مم تحدث بعد ذلك في نفس الجزء والصفحة عن الميدان الذى كان بالقاهرة في العصر المملوكى لهذه اللعبة، ويسمى «ميدان القبق». انظر أيضا (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 518، حاشية رقم 6 للدكتور زيادة).
(1)
كذا في الأصل، وفى س، وفى الروضتين نقلا عن العماد:«ابن المقدم» .
(2)
عرف به صاحب الروضتين (ج 1، ص 228) نقلا عن العماد، قال:«وكان قديما في أول دولته (أي دولة نور الدين) والى حلب» .
(3)
س: «منطقه» ، وما هنا ينفق ونص (الروضتين، ج 1، ص 228) وهو الصحيح كما يدل عليه المتن فيما يلى.
ثم شرع نور الدين باللعب بالكرة مع خواصه، فاعترضه برتقش - أمير آخر - وقال له:«باش» ، فحصل عنده غيظ على خلاف عاداته في الكرم والحلم، فزجره وزيره، ثم ساق ودخل القلعة، ولم يخرج منها إلا ميتا، وأصابته (1) علة الخوانيق، فبقى أسبوعا في منزله مشغولا بالنازلة التي نزلت به، والناس مشغولون بزينة الختان والفرح، والبلد مزين لطهور الملك الصالح، فما انتهت الأفراح إلا بحلول المصيبة به رحمه الله.
وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيبا فما روجع؛ وحكى الطبيب جمال الدين الرحبى (2) الدمشقى قال:«استدعانى نور الدين في مرضه الذى توفى فيه مع غيرى من الأطباء، فدخلنا عليه وهو في بيت صغير بقلعة دمشق، وقد تمكنت الخوانيق به وقارب الهلاك، فلا يكاد يسمع صوته، فقلت له: كان ينبغى أن لا يؤخر إحضارنا إلى أن يشتد بك المرض إلى هذا الحد؛ فالآن ينبغى أن تنتقل إلى مكان فسيح فله أثر في هذا المرض، وشرعنا في علاجه فلم ينفع فيه الدواء، وعظم الداء، ومات عن قريب» .
قال عماد الدين الكاتب (3): «كان لنور الدين رحمه الله صفّة (4)
(1) س (149): «وكان سببه أنه أصابته. . الخ» .
(2)
هو جمال الدين عثمان بن يوسف بن حيدرة الرحبى، ولد ونشأ في دمشق، وكان كما يذكر (ابن أبى أصيبعة: طبقات الأطباء، ج 2، ص 201): أوحد زمانه، اشتغل بصناعة الطب على والده وعلى غيره، وأتقنها إتقانا لا مزيد عليه، وخدم في البيمارستان الكبير الذى أنشأه نور الدين وبقى به سنين، وكان يحب التجارة ويعانيها ويسافر بها في بعض الأوقات إلى مصر، ويأتى من مصر بتجارة، ولما وصلت التتر إلى الشام في سنة 657 هـ توجه إلى مصر وأقام فيها، ثم مرض وتوفى بالقاهرة في سنة 658 هـ.
(3)
روى هذا الخبر أيضا عن العماد صاحب الروضتين (ج 1، ص 228).
(4)
جاء في (اللسان): صفة البنيان طرته، ومن معانيها في (محيط المحيط): المسطبة المرتفعة تستعمل للجلوس عليها، وهذا هو المعنى المقصود هنا، ومن هذا اللفظ أخذت الكلمة الانجليزية (sofa) فقد ذكرت المعاجم الانجليزية أنها من أصل عربى وأن معناها الأريكة أو المقعد الطويل ذى الظهر واليدين (a long seat with stuffed bottom،back .and arms) .
انظر أيضا: (المقريزى: السلوك، ج 1، ص 487، هامش 2 و Twentieth Century Dictionary) .