الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الوقعة الكائنة بين الخليفة المسترشد بالله
وبين عماد الدين زنكى
لما مات السلطان محمود خطب بهمذان وأصفهان والجبال وأذربيجان لولده السلطان داوود، وسار من همذان إلى رمكان (1)، وكان عمه السلطان مسعود ابن محمد قد سار من جرجان ووصل إلى تبريز (2)، فاستولى عليها، فسار إليه داوود في ذى [27] القعدة من هذه السنة - أعنى سنة خمس وعشرين وخمسمائة -، وحصره بها، وجرى بينهما قتال إلى سلخ المحرم سنة ست وعشرين وخمسمائة، ثم اصطلحوا وتأخر داوود مرحلة، وخرج السلطان مسعود من تبريز (2) واجتمعت إليه العساكر، وسار إلى همذان.
وكانت رسل داوود تقدمت في طلب الخطبة، فأجاب الخليفة:«إن [الحكم في (3)] الخطبة للسلطان سنجر، من أراد خطب له» وأرسل السلطان سنجر: أن لا يأذن لأحد في الخطبة، وأن الخطبة ينبغى أن تكون له وحده؛ وأرسل السلطان مسعود إلى عماد الدين زنكى يطلب مساعدته، فوعده النصرة.
وسار السلطان سلجوق شاه - ومعه أتابكه قراجا الساقى صاحب بلاد فارس وخوزستان - في عسكر كثيف إلى بغداد، ونزل بدار السلطنة، فأكرمه الخليفة،
(1) ضبطت هكذا بعد مراجعة ياقوت، ولم يعرفها بأكثر من قوله إنها موضع، وفى (ابن الأثير، ج 10، ص 287) أنه سار إلى زنجان لارمكان.
(2)
في الأصل: «تورين» ، والتصحيح عن (ابن الأثير: ج 10، ص 287).
(3)
أضيف ما بين الحاصرتين عن (ابن الأثير) للايضاح، ويلاحظ أن النص هنا يعود فيتفق كثيرا ونص ابن الأثير.
واستحلفه لنفسه؛ ثم وصل السلطان مسعود يطلب الخطبة، ويتهدده إن منعها، فلم يجب إلى ما طلب، فنزل عباسيّة (1) الخالص.
وبرز الخليفة وسلجوق شاه وقراجا الساقى عازمين على قتال مسعود، وتوجه عماد الدين زنكى إلى بغداد - ومعه دبيس بن صدقة -، وكانت رسل السلطان سنجر قد وردت إلى عماد الدين بتوليته شحنكيّة بغداد، وإقطاع الحلّة لدبيس، وبلغ الخليفة وقراجا الساقى وصول عماد الدين إلى المعشوق (2)، فعبر قراجا إلى الجانب الغربى، وتقدم إلى الملك سلجوق شاه بمرافقة أخيه السلطان مسعود إلى أن يفرغا من حرب عماد الدين، وسار الخليفة في يوم وليلة إلى المعشوق، فواقع عماد الدين زنكى فهزمه، وأسر كثيرا من أصحابه.
وسار عماد الدين إلى تكريت، وعبر منها دجلة، وكان الدزدار بتكريت يومئذ نجم الدين أيوب بن شادى - والد صلاح الدين يوسف - فأقام لعماد الدين المعابر (3)، فلما عبر أمن الطلب، وسار لإصلاح بلاده، فكان هذا الفعل من نجم الدين سببا
(1) في الأصل: «عباسة» والتصحيح عن ابن الأثير، وقد ذكر ياقوت جملة مواضع تحمل اسم العباسية إحداها كانت محلة ببغداد بين الصراتين قرب المحلة المعروفة بباب البصرة وتنسب إلى العباس بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس، وقد كنت أحسبها هذه، لولا أن الأستاذ المحقق الدكتور مصطفى جواد تفضل فكتب إلى: أن «عباسية الخالص» قرية على نهر الخالص في الجانب الشرقى من دجلة، وقد ذهب اسم القرية مع كثير من قرى الخالص، أما النهر فلا يزال من أنهار المقاطعات في شرقى بغداد، وإنى أنتهز هذه الفرصة لأشكر الدكتور مصطفى جواد لتفضله بتعريفى ببعض المواقع العراقية التي استفسرت منه عنها.
(2)
عرفه (ياقوت: معجم البلدان) بأنه قصر عظيم بالجانب الغربى من دجلة قبالة سامراء في وسط البرية، بينه وبين تكريت مرحلة، عمره المعتمد على الله، ولا تزال بقاياه قائمة حتى العصر الحاضر.
(3)
المعبر والمعبرة - والجمع معابر - من أسماء السفن العربية، وقد عرفه صاحب اللسان بأنه ما عبر به النهر من فلك أو سفينة أو قنطرة أو غيره. راجع كذلك:(ابن سيده: المخصص، ج 10، ص 26) ومخطوطتنا التي لم تطبع بعد (معجم السفن العربية)
و (Kindermann، Schiff im Arabischen .pp .62،102) .
للسعادة التي آلت به إلى أن صار ولده ملوك الأرض، فلينظر العاقل إلى ثمرة الجميل وفعل الخير.
وسار السلطان مسعود من العباسية إلى الملكية (1)، ووقعت الطلائع بعضها على بعض، وآل الأمر [28] إلى أن اصطلح الأخوان مسعود وسلجوق على أن تكون السلطنة لمسعود، وسلجوق ولى عهده، وأن العراق يكون للخليفة (2)، وتحالفوا على ذلك واتفقوا.
وعاد السلطان مسعود إلى بغداد، ونزل بدار السلطنة، ونزل سلجوق بدار الشحنكية، وكان ذلك في جمادى الأولى سنة ست وعشرين وخمسمائة.
وأما السلطان سنجر فإنه سار من خراسان إلى همذان - وصحبته ابن أخيه السلطان طغرل بن محمد - مريدا تملكه، لأنه كان قد لازمه، فوصلا إلى الرىّ ثم إلى همذان، فلما بلغ ذلك الخليفة والسلطان مسعود، تجهزا وسارا إلى لقائه، ومعهما قراجا الساقى وسلجوق شاه، ثم تأخر عنهما الخليفة خوفا من عماد الدين زنكى، لما بلغهم أنه على قصد بغداد، فاستعد للمدافعة، وجنّد الأجناد، ومضى الباقون، فكانت الوقعة بينهم وبين السلطان سنجر بغولان (3) بقرب الدّينوز، فانكسر السلطان مسعود وأخوه سلجوق شاه، وأخذ قراجا الساقى أسيرا، فقتله السلطان سنجر صبرا، وأحضر ابن أخيه السلطان مسعود، فأكرمه، وعاتبه على مخالفته،
(1) لم أجد لها تعريفا في المراجع الجغرافية، وإنما ذكر لى الدكتور مصطفى جواد في خطاب منه أن «الملكية» ضيعة من ضياع الخالص بشرقى دجلة قرب بغداد، وقد ذكرها ابن الأثير أيضا في حوادث سنة 614 مع مواضع الجانب الشرقى التي أغرقتها دجلة.
(2)
في (ابن الأثير، ج 10، ص 288): «وأن يكون العراق لوكيل الخليفة» .
(3)
في الأصل «بنولان» وفى (ابن الأثير): «بعولان» ، ولم يشر ياقوت إلى أيهما، وإنما ورد فيه «غولان» وعرفها بانها موضع ولم يزد.
وأعاده إلى كنجة (1)، وأجلس ابن أخيه السلطان طغرل بن محمد في السلطنة، وأمر بالخطبة له في جميع البلاد، وكانت هذه الوقعة في ثامن رجب سنة ست وعشرين وخمسمائة.
ثم عاد السلطان سنجر إلى نيسابور، وكان السلطان سنجر قد كاتب الأمير عماد الدين ودبيس بن صدقة، وأمرهما بقصد العراق، فقصدا بغداد، وبلغ الخليفة المسترشد ذلك، فأسرع العود إليهما، وعبر إلى الجانب الغربى، وسار فنزل بالعباسية ونزل عماد الدين زنكى بالمنارية من دجيل، ثم التقيا في السابع والعشرين من رجب بمكان يقال له عقرقوف (2)، واقتتلوا قتالا كبيرا، فحمل الأمير عماد الدين على ميمنة الخليفة، - وفيها جمال الدين (3) إقبال - فانهزموا، وحمل نظر الخادم - وكان في ميسرة الخليفة - على [ميمنة](4) عماد الدين ودبيس، وحمل [29] الخليفة بنفسه، واشتد القتال، فانهزم دبيس، ورأى الأمير عماد الدين تفرق الناس عنه، فانهزم، وقتل من العسكر جماعة، وأسر جماعة، وبات هناك الخليفة ليلة، وعاد إلى بغداد.
حكى الأمير مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن على بن منقز في كتاب ألفه، وذكر فيه شهامة الخليفة المسترشد بالله وشجاعته، قال: «كان الإمام المسترشد بالله يلحق بالصدر الأول من سلفه في علو الهمة، وحسن السياسة، والإقدام العظيم، فإنه لما التقى هو وعماد الدين زنكى بن آق سنقر في المصاف بعقرقوف وأنا حاضر المصاف، ضرب له خيمة أطلس أسود، ووضع له فيها تخت، وجلس عليه،
(1) عرفها (ياقوت) بأنها مدينة عظيمة وهى قصبة بلاد أرّان، وهى من نواحى لرستان بين خوزستان وأصبهان، وأهل الأدب يسمونها جنزة.
(2)
قرية من قرى دجيل بينها وبين بغداد أربعة فراسخ (ياقوت). والذى ذكره (ابن الأثير، ج 10، ص 289) أنهما التقيا بحصن البرامكة. أنظر خريطة العراق الحديث
(3)
في ابن الأثير: «جمال الدولة» .
(4)
ما بين الحاصرتين عن ابن الأثير.
والخيل تطرد، فكسر عسكر أتابك، وذلك يوم الاثنين السابع والعشرين من رجب سنة ست وعشرين وخمسمائة، فاستولى على كل ما فيه، وانهزم أتابك زنكى إلى الموصل، وذلك الإقدام العظيم كان سبب تلفه».
قلت: إن الخلفاء كان قد ضعف أمرهم من أيام المتقى بالله (1)، واستولت عليهم الملوك، خصوصا في أيام المستكفى بالله (2)، فإن بنى بويه الديلم ملكوا العراق وغيرها من الممالك، وصارت الخلفاء تحت حجرهم، ثم ظهرت السلاطين السلجوقية، فتغلبوا أيضا وتحكموا، وهلم جرا إلى أيام المسترشد، فاتفق وقوع الخلف بين السلاطين السلجوقية، واغتنم ذلك الخليفة المسترشد، فكانت نفسه أبية، وشجاعته عظيمة، فجنّد الجنود، وباشر القتال بنفسه، وأدى ذلك إلى أن أسره السلطان مسعود، وقتل في معسكره - كما سنذكره إن شاء الله تعالى -.
وبويع ببغداد لولده الراشد، ووصل السلطان إلى بغداد، فهرب الراشد، وأقعد السلطان عمه المقتفى، وحكم عليه إلى أن مات السلطان مسعود، ثم بعد ذلك قوى المقتفى، وملك العراق، وقامت حشمة الدولة العباسية، واستمرت قوتها إلى أن زالت بالتتار الملاعين سنة ست وخمسين وستمائة، وللمسترشد بالله شعر يدل [30] على قوة نفسه وبعد همته، وهو:
أنا الأشقر الموعود بى في الملاحم
…
ومن يملك الدّنيا بغير مزاحم
ستبلغ أرض الرّوم خيلى وتنتهى (3)
…
بأقصى (4) بلاد الصّين بيض صوارمى
(1) حكم بين سنتى 329 و 333 (940 - 944).
(2)
ولى بعده من 333 إلى 334 (944 - 946).
(3)
في (السيوطى، تاريخ الخلفاء، ص 287): «وتنتضى» .
(4)
في الأصل: «بأقصا» .