المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر مقتل المسترشد وخلافة الراشد بالله - مفرج الكروب في أخبار بني أيوب - جـ ١

[ابن واصل]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمه المؤلف]

- ‌ذكر نسب بنى أيوب

- ‌ذكر ابتداء أمر نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه

- ‌ذكر ابتداء الدولة الأتابكية

- ‌ذكر استيلاء الأمير قسيم الدولة آق سنقر الحاجب على مدينة حلب

- ‌منازلة قسيم الدولة حمص واستيلاؤه عليها

- ‌ذكر مقتل الأمير قسيم الدولة آق سنقر

- ‌ذكر أخبار عماد الدين زنكى ابن قسيم الدولة آق سنقر رحمه الله

- ‌ذكر استيلاء عماد الدين زنكى على الموصل

- ‌ذكر استيلاء عماد الدين على جزيرة ابن عمر

- ‌استيلاء عماد الدين زنكى على نصيبين

- ‌استيلاء عماد الدين زنكى على سنجار والخابور

- ‌استيلاؤه على حرّان

- ‌ذكر استيلاء الشهيد عماد الدين زنكىعلى مدينة حلب

- ‌ذكر استيلاء الأمير عماد الدينعلى مدينة حماة

- ‌ذكر الوقعة الكائنة بين الخليفة المسترشد باللهوبين عماد الدين زنكى

- ‌ذكر منازلة الخليفة المسترشد بالله مدينة الموصل

- ‌استيلاء شمس الملوك صاحب دمشق على حماة وأخذها من عماد الدين

- ‌ استيلاء عماد الدين على قلعة الصور

- ‌استيلاء عماد الدين على قلاع الهكّاريّة

- ‌منازلة عماد الدين دمشق

- ‌ذكر مقتل المسترشد وخلافة الراشد بالله

- ‌ذكر قدوم السلطان محمود بن مسعود بن محمد إلى بغدادوهروب الراشد بالله وعماد الدين زنكى إلى الموصل

- ‌ذكر البيعة بالخلافةللمقتفى لأمر الله بن المستظهر بالله

- ‌منازلة عماد الدين مدينة حمص

- ‌ذكر فتح المعرّة وكفر طاب

- ‌ذكر خروج ملك الروم إلى بلاد الإسلام

- ‌ذكر استيلاء عماد الدين على حمص

- ‌ذكر منازلة الروم حلب ثم شيزر

- ‌ذكر استيلاء عماد الدين زنكى على حرّان ثانيا

- ‌ذكر استيلاء عماد الدين زنكى على شهرزور وأعمالها

- ‌ذكر استيلاء عماد الدين زنكى على بعلبك

- ‌ذكر منازلة عماد الدين زنكى دمشق

- ‌ذكر فتح الرّها

- ‌ ذكر مقتل نصير الدين جقر النائب بالموصل

- ‌ذكر رحيل عماد الدين عن البيرةوتملك المسلمين لها

- ‌ذكر استيلاء زين الدين على كوجك على إربل

- ‌ذكر منازلة عماد الدين قلعة جعبر

- ‌ذكر مقتل الشهيد عماد الدين أتابك زنكى ابن آق سنقر رحمه الله

- ‌ذكر أخبار الأيام النورية

- ‌ذكر استيلاء نور الدين محمود بن زنكى رحمه الله على حصن العزيمة

- ‌كسرة الفرنج بيغرى

- ‌ذكر وفاة سيف الدين غازى بن زنكى ابن آق سنقر رحمه الله

- ‌ذكر سيرة سيف الدين رحمه الله

- ‌ذكر استيلاء قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى على الموصل

- ‌ذكر استيلاء نور الدين محمود بن زنكى على سنجار

- ‌ذكر الصلح بين قطب الدين وأخيه نور الدينورد سنجار إلى قطب الدين

- ‌ذكر قتل البرنس صاحب أنطاكية وكسرة الفرنج

- ‌ذكر فتح أفامية

- ‌ذكر انهزام نور الدين من الفرنج

- ‌ذكر وقوع جوسلين في أسر نور الدين رحمه الله

- ‌ذكر فتح تل باشر

- ‌ذكر استيلاء محمود بن زنكى على مدينة دمشقوخروج الملك عن بيت طغتكين

- ‌ذكر منازلة نور الدين رحمه الله حارم

- ‌ذكر استيلاء نور الدين على بعلبك

- ‌ ذكر استيلاء نور الدين على مدينتى بصرى وصرخد

- ‌ذكر بيعة المستنجد بالله

- ‌ذكر حصر نور الدين مدينة حارم

- ‌ذكر هزيمة نور الدين من الفرنج

- ‌ذكر مسير أسد الدين شيركوه الأوّل إلى مصر

- ‌ذكر وصول الفرنج إلى الديار المصريةومحاصرتهم أسد الدين ببلبيس

- ‌ذكر وقوع الصلح بين أسد الدين والمصريين والفرنج

- ‌ذكر فتح حارم وكسر الفرنج

- ‌ ذكر فتح بانياس

- ‌ ذكر فتح حصن المنيطرة

- ‌ذكر مسير أسد الدين شيركوه بن شاذى المسير الثانى إلى مصر

- ‌ذكر واقعة البابين

- ‌ذكر استيلاء أسد الدين شيركوه على الاسكندرية

- ‌ذكر محاصرة الفرنج لصلاح الدين يوسف بالاسكندرية

- ‌ذكر وقوع الصلح بين أسد الدين والفرنج والمصريين

- ‌ذكر فتح صافيثا والعزيمة

- ‌ذكر فراق الأمير زين الدين على كوجك قطب الدين مودودابن زنكى صاحب الموصل

- ‌ذكر استيلاء الملك العادل نور الدين على قلعة جعبر

- ‌ذكر مسير أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية[96]المسير الثالث

- ‌ذكر منازلة الفرنج بلبيس وملكهم لها

- ‌ذكر منازلة الفرنج القاهرة

- ‌ذكر إحراق مصر

- ‌ذكر وقوع الصلح بين شاور والفرنج

- ‌ذكر قدوم أسد الدين شيركوه مصرورحيل الفرنج عنها

- ‌ذكر مقتل شاور

- ‌ذكر استيلاء أسد الدين شيركوه على الديار المصريةوتقلده وزارة العاضد

- ‌ذكر وفاة أسد الدين شيركوه بن شاذى رحمه الله

- ‌ذكر استيلاء صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله على الديار المصرية، وتقلده وزارة العاضد

- ‌ذكر وقعة السودان بالقاهرة

- ‌ذكر منازلة الفرنج دمياط وعودتهم عنها خائبين

- ‌ذكر وصول الملك الأفضل نجم الدين أيوب بن شاذىوالد السلطان إلى مصر

- ‌ذكر وفاة قطب الدين مودود بن زنكىصاحب الموصل

- ‌ذكر سيرته رحمه الله

- ‌ذكر استيلاء سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى على الموصل

- ‌ذكر استيلاء الملك العادل نور الدين رحمه الله على الموصل، وإقرار ابن أخيه سيف الدين عليها

- ‌ذكر البيعة بالخلافة للمستضىء بنور اللهابن المستنجد بالله

- ‌ذكر الأحداث الكائنة بمصر في هذه السنة- أعنى سنة ست وستين وخمسمائة

- ‌خروج الملك الناصر صلاح الدين إلى الغزاة

- ‌ذكر فتح قلعة أيلة

- ‌ذكر إقامة الدعوة العباسية بمصر وانقراض الدولة العلوية بها

- ‌ذكر وفاة العاضد

- ‌ذكر ابتداء الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين- رحمهما الله تعالى

- ‌ذكر منازلة السلطان الملك الناصر صلاح الدينرحمه الله الكرك والشوبك

- ‌ذكر وصول الهدية المصرية إلى نور الدين

- ‌ذكر غزوة النوبة

- ‌ذكر سيرته رحمه الله

- ‌ذكر المراسلة بين نور الدين وصلاح الدين- رحمهما الله تعالى

- ‌ذكر قصد نور الدين رحمه اللهبلاد قليج أرسلان

- ‌ذكر الواقعة الكائنة بين مقدم الأرمن والروم

- ‌ذكر دخول قراقوش التقوى بلاد المغرب

- ‌ذكر دخول الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين توران شاهابن أيوب اليمن وتملكه لها

- ‌ذكر عزم جماعة من المصريين على إقامة الدعوة المصريةوما آل اليه أمرهم

- ‌ذكر شىء من خبر عمارة وشعره

- ‌ذكر ورود الرسالة النورية إلى صلاح الدين

- ‌ذكر وفاة الملك العادل نور الدينابن زنكى بن آق سنقر - رحمه الله تعالى

- ‌صفته وسيرته رحمه الله

الفصل: ‌ذكر مقتل المسترشد وخلافة الراشد بالله

قواعد التسليم، فرأوا الأمر قد فات فسار إلى دمشق فحصرها، وكان نزوله أولا من شماليها، ثم انتقل إلى ميدان الحصى (1)، وزحف وقاتل، فرأى قوة ظاهرة وشجاعة عظيمة، وكان القائم بأعباء هذه الحروب معين الدين أثر (2) مملوك طغتكين، فقام في حفظ البلد قياما مشهودا.

وبينما عماد الدين يحاصر البلد إذ ورد عليه أبو بكر بن بشر الجزرى رسولا من الراشد بالله بن المسترشد، ليتوجه إليه وينجده على السلطان مسعود، ويأمره بصلح صاحب دمشق، والرحيل عنها، فصالحهم، وخطبوا بدمشق للملك ألب أرسلان بن السلطان محمود، وكانت الخطبة له في جميع بلاد عماد الدين.

‌ذكر مقتل المسترشد وخلافة الراشد بالله

حكى الأمير مؤيد الدين سديد الدولة أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم ابن الأنبارى (3) - كاتب الانشاء - قال:

كان وقع بين السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه وبين الخليفة المسترشد بالله خلف، وخرج الخليفة لقتاله مرتين وكسر، فلما مات السلطان محمود وولى السلطنة أخوه السلطان مسعود بن محمد، استطال نوابه بالعراق، وعارض الخليفة في إقطاعه، فوقعت بينهما وحشة، فتجهز المسترشد بالله وعزم على الخروج، وجدّ في ذلك،

(1) في الأصل: «الحصا» .

(2)

في الأصل: «أتز» ، انظر ما فات ص 9، هامش 4

(3)

عاش ابن الأنبارى بين سنتى 469 و 558 (1076 - 1163)، وأقام كاتبا للانشاء نيفا وخمسين سنة، وناب في الوزارة، وبعث رسولا إلى الملك سنجر وغيره، وكان بينه وبين الحريرى صاحب المقامات مكاتبات ومراسلات. أنظر ترجمته في:(ابن الجوزى: المنتظم، ج 10، ص 206؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 247؛ وابن تغرى بردى: النجوم، ج 5، ص 564؛ والزركلى: الأعلام، ج 3، ص 919)، ولا يعرف عن ابن الانبارى أنه ألف في التاريخ أو غيره، وأغلب الظن أن هذا الخبر روى عنه شفاها.

ص: 58

فدخل إليه الوزير شرف الدين على بن طراد الزينبى (1) وكمال الدين (2) صاحب المخزن (3)، وأنا معهما، وكان المسترشد قد طرد نواب السلطان عن البلاد، ورتّب صاحب المخزن للنظر في المظالم (4)، فقال له الوزير شرف الدين:«يا مولانا، في نفس المملوك [34] شئ، فهل يؤذن له في المقال؟» فقال: «قل» ، فقال:«إلى أين نمضى وبمن نعتضد وإلى من نلتجئ ومقامنا ببغداد أمكن لنا، ولا يقصدنا أحد، والعراق ففيه لنا الكفاية، فإن الحسين بن على عليهما السلام لما خرج إلى العراق جرى عليه ما جرى، ولو أقام بمكة ما اختلف عليه أحد من الناس؟» .

فقال لى الخليفة: «ما تقول يا كاتب؟» فقلت: «يا مولانا، الصواب المقام، وما رآه الوزير فهو الرأى، ولا يقدم علينا أحد، وليت العراق يبقى لنا» .

فقال لصاحب المخزن: «يا وكيل، ما تقول؟» فقال: «في نفسى ما في نفس مولانا» . فأنشد الخليفة قول المتنبى:

وإذا لم يكن من الموت بد

فمن العجز أن تموت جبانا

ثم إنه تجهّز وجمع وحصل في خدمته جماعة من أمراء الأتراك، فأعطاهم مالا عظيما، ثم خرج، وخرجنا معه، فلما قاربنا همذان، وقع المصاف بين الخليفة

(1) هو وزير المسترشد والمقتفى، انظر ترجمته في:(ابن طباطبا: الفخرى، ص 271، 275).

(2)

في الفارقى (بهامش ابن القلانسى، ص 250): «جمال الدين طلحة» .

(3)

لم أعثر على تعريف لهذه الوظيفة، وإنما سمى متوليها في (ابن الساعى: الجامع المختصر) بصدر المخزن المعمور وذكر هناك في أكثر من موضع أنه عند توليها كان يخلع عليه قميص أطلس نفطى وبقيار بمغربى، ويحمل وراءه ثلاثة أسياف على أيدى مماليك ترك رجالة ويركب في جمع كثير من حجاب الديوان العزيز وحاشية المخزن المعمور (المرجع المذكور ص 143، 144، 220). ويبدو من النص هنا أنها كانت وظيفة كبيرة تلى في الأهمية وظيفتى الوزارة وكتابة الانشاء.

(4)

للتعريف بهذه الوظيفة انظر: (الماوردى: الأحكام السلطانية، ص 64، والقلقشندى: صبح الأعشى، ج 3، ص 277).

ص: 59

المسترشد بالله والسلطان مسعود بن محمد بمكان يسمى وادى مرك (1) - وهو قريب من جبل بهستون (2) بالقرب من همذان -، فلما اصطفت العساكر فرّ من معسكرنا جميع الأتراك، ومالوا إلى ناحية السلطان، ثم وقع القتال، فانهزم الخليفة ومن بقى معه، ونهب عسكره، وقبض على الخليفة وأرباب المناصب، وحمل الوزير وصاحب المخزن وأنا ونقيب العلويين إلى قلعة سرجهان (3) - بالقرب من قزوين والرى - وبقى الخليفة مع السلطان وسار معه في بلاد أذربيجان إلى أن وصلوا إلى مراغة؛ وهجم على الخليفة ثلاثة نفر من الملاحدة الباطنية، وهو في خيمته، فقتلوه، وقتلوا معه [أبا عبد الله (4)] ابن سكينه - وكان يصلى به -، وذلك يوم الخميس لأربع بقين من ذى القعدة (5) سنة تسع وعشرين وخمسمائة (6).

(1) كذا في الأصل، وفى (ابن الأثير: ج 11، ص 10):«دايمرج» ولم يرد لها ذكر في ياقوت.

(2)

هكذا ضبطها ياقوت وقال إنها قرية وجبل، أما القرية فبين همذان وحلوان، تبعد عن همذان أربع مراحل، أما الجبل فمرتفع ممتنع لا يرتقى إلى ذروته لأنه أملس كأنه منحوت.

(3)

هكذا ضبطها ياقوت وقال إنها قلعة حصينة على طرف جبال الديلم تشرف على قاع قزوين وزنجان وأبهر، ونص على أنه رآها فوجدها من أحصن القلاع.

(4)

ما بين الحاصرتين عن ابن الأثير وابن الجوزى.

(5)

كذا في الأصل، وفى (ابن الجوزى: المنتظم، ج 10، ص 49)؛ (وابن الأثير، ج 11، ص 10) أنه قتل يوم الخميس سابع عشر ذى القعدة.

(6)

انفرد ابن واصل بنقل هذا الحديث - هنا وفيما يلى - عن ابن الأنبارى كاتب إنشاء المسترشد، ولهذا الحديث أهمية خاصة لأن ابن الأنبارى كان شاهد عيان لهذه الحوادث جميعا كما أنه شارك فيها، ولم يرد لهذا الحديث أي ذكر أو إشارة في كل المراجع الهامة التي كتبت عن هذا العصر والتي أشير إليها دائما في هذه الحواشى، وهى المنتظم لابن الجوزى، والكامل لابن الأثير، والبداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ الخلفاء للسيوطى؛ وإنما استطعت أن أحقق أنه نقله عن تاريخ الفارقى، فقد نقل نصه عنه آمدروز في هوامش كتاب (ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسى، ص 250 - 251) وعليه عارضنا نص ابن واصل لتصحيحه، وقد نص الفارقى على أن هذا الحديث جرى بينه وبين ابن الانبارى، قال:«ولقد سألت السعيد مؤيد الدين أبا عبد الله محمد بن عبد الكريم الأنبارى رحمه الله في سنة 534 ببغداد حين نزلت إليه في هذه السنة عن حال المشترشد والوقعة وما جرى، فقال رضى الله عنه: إلخ» ثم روى الحديث كما جاء هنا.

ص: 60

قلت (1): وصل في اليوم الذى قتل فيه الخليفة رسول إلى السلطان مسعود من عمه السلطان سنجر شاه بن ملكشاه - صاحب خراسان - برسالة ظاهرها التقدم إليه بتعظيم الخليفة ورده إلى سرير ملكه، وباطنها التدمير عليه والراحة منه، ووردت الملاحدة صحبة الرسول، فلما قتل الخليفة أظهر [35] السلطان مسعود الجزع العظيم والحزن الكثير، ودفن الخليفة بمراغة.

ووصل الخبر بذلك إلى العراق، فحزن الناس عليه حزنا عظيما وبويع بالخلافة ولده الراشد بالله ببغداد، واستقرت خلافته بها؛ ثم قدم السلطان وضرب عنق دبيس ابن مزيد صاحب الحلّة.

قال مؤيد الدين سديد الدولة بن الأنبارى: (لما قتل الخليفة المسترشد بالله أحضرنا السلطان مسعود - وكان نقيب العلويين قد مات بقلعة سرجهان، ودفن هناك - فلما حضرنا عنده، قال: «ما الرأى وما التدبير في أمر الخلافة، ومن ترون؟» فقالوا: «يا مولانا، الخلافة لولى العهد - يعنى الراشد بالله -، وقد بايعه الناس ببغداد، وجلس واستقر، وبويع له من قبل قتل أبيه بولاية العهد، وبويع له الآن بالخلافة». فقال السلطان: «ما إلى هذا سبيل، ولا أقره عليها، فإنه يحدث نفسه بالخروج مثل أبيه المسترشد، ومن حين تولى أبيه لم يترك الخروج علينا؛ كان قد خرج على أخى محمود مرتين، وعلىّ مرة، وهذه أخرى، وتم عليه ماتم، وبقيت علينا شناعة عظيمة وسبة إلى آخر الدهر، فإنه يقال: قتلوا الخليفة، وهم كانوا السبب في عود الخلافة إلى هذا البيت، ولا أريد يلى الأمر إلا رجل لا يدخل نفسه في غير أمور الدين (2)، ولا يجند، ولا يجمع ولا يخرج علىّ

(1) هذا تعليق من المؤلف قطع به حديث ابن الانبارى، وسيعود إليه مرة ثانية.

(2)

هذا نص واضح يدل على مبلغ ما وصلت إليه مكانة الخليفة العباسى في ذلك العهد السلجوقى أن «لا يدخل نفسه في غير أمر الدين» .

ص: 61

ولا على أهل بيتى، وفى دار الخلافة جماعة، فاعتمدوا على شيخ منهم صاحب عقل ورأى وتدبير، يلزم نفسه ما يجب من طاعتنا، ولا يخرج من داره؛ ولا تعرّجوا عن هارون بن المقتدى بأمر الله، فهو شيخ كبير، ولا يرى الفتنة، وقد أشار به عمى سنجر».

وكان في دار الخلافة في ذلك الوقت سبعة من أولاد المقتدى بأمر الله، وهم أعمام المسترشد بالله بن المستظهر بالله بن المقتدى بأمر الله، وبقى من السبعة من هو حى إلى سنة نيف وخمسين وخمسمائة؛ وكان في الدار من أولاد المستظهر بالله - أخوة المسترشد بالله - سبعة، وهم: الأمير أبو عبد الله محمد، وأبو طالب، وأبو نصر، وأبو القسم، وأبو على، وإسماعيل، ويحيى؛ ولهم أولاد جماعة؛ وكان للمسترشد أولاد جماعة، منهم الراشد بالله؛ وللراشد نيف وعشرون ولدا، أكبرهم [36] حملت أمه به وعمر الراشد تسع سنين، وهذا من أعجب الأشياء؛ فحكى عن من كان يدخل إلى دار الخلافة، ويطلع على أسرارهم أن الخليفة المسترشد أعطى لولده الراشد - وعمره أقل من تسع سنين - عدة جوار، وأمرهن أن يلاعبنه ويمكّنه من أنفسهن، وكان فيهن جارية صفراء حبشية، فحملت من الراشد، فلما ظهر الحمل، وبلغ ذلك المسترشد أنكره، فأحضرها وتهددها، فقالت:«والله ما تقدم إلىّ سواه، وأنه قد بلغ الحلم» ، فسأل عن ذلك بقية الجوارى، فقلن مثل ذلك؛ فأمر أن تحمّل الجارية قطنا، ثم وطئها الراشد، فلما قام عنها أخرج القطن والمنى عليه، وفعل ذلك ببقية الجوارى، فخرج وعليه المنى، ففرح المسترشد بذلك، ووضعت الجارية ابنا، فسماه المسترشد «أمير الجيش» ، وسر به سرورا شديدا.

وهذا لم يسمع بمثله إلا في الحجاز، فإنه قيل إن نساء تهامة يحضن لتسع، وتبلغ صبيانها لتسع، وروى أن عمرو بن العاص كان أكبر من ابنه عبد الله بإثنى عشر.

ص: 62

قال ابن الأنبارى: «وأرسل السلطان مسعود إلى عمه السلطان [سنجر] (1) يستشيره فيمن يولى الخلافة، فأرسل إليه يقول: «لا تولى إلا من يضمنه الوزير وصاحب المخزن وابن الأنبارى» ، فلما وصل السلطان إلى همذان اجتمع بنا، وأشار بهارون بن المقتدى، وعرفنا ما أمر به عمه السلطان سنجر، فقال الوزير:«إذا كان الأمر يلزمنا، فنحن نولى من نريد، وهو الزاهد الدّين الذى ليس في الدار مثله» ، فقال السلطان:«من هو؟» فقال: «الأمير أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله» ، فقال:«وتضمن ما يجرى منه؟» فقال الوزير: «نعم» ، وكان الأمير [أبو](1) عبد الله صهر الوزير على ابنته، فإنها دخلت يوما الدار في خلافة المستظهر بالله، فرآها الأمير أبو عبد الله، فطلب من أبيه تزويجها، فزوجه بها، فدخل بها وبقيت عنده، ثم توفيت، فقال السلطان:«ذلك إليكم» ، وكتموا الحال لئلا يشتهر الأمر، فيقتل الراشد بالله عمه الأمير أبا عبد الله، ثم رحل السلطان والجماعة نحو بغداد (2).

وأما الراشد فإنه لما بويع له ببغداد بالخلافة [37] بعد مقتل أبيه المسترشد بالله. أرسل إلى الأمير عماد الدين زنكى بن آق سنقر يستدعيه لنجدته، وضمن له أن يكون السلطنة والملك للملك ألب أرسلان بن محمود بن محمد بن ملكشاه الذى عند أتابك، وأن تكون أتابكية السلطنة والخلافة بحكم عماد الدين، فوردت الرسالة على عماد الدين زنكى بذلك، وهو بظاهر دمشق محاصرها، وبها شهاب الدين محمود بن بورى، فصالحه عماد الدين زنكى، ورحل عنها، ووصل إلى حماة، وبها شمس الخواص اليتاش (3) - نائب صاحب دمشق - وكان قد نزع يده من طاعة صاحب دمشق،

(1) ما بين الحاصرتين عن الفارقى (ذيل تاريخ دمشق، ص 251، الهامش).

(2)

بهذا اللفظ ينتهى حديث ابن الأنبارى كما رواه الفارقى وعنه ابن واصل.

(3)

كذا في الأصل، وهو في (ابن القلانسى، ص 248): «شمس الخواص» فقط.

ص: 63

فالتجأ إلى عماد الدين، فقبض عليه عماد الدين، وأخذ منه حماة، وسلّمها إلى صاحبه صلاح الدين الياغيسيانى، فاستناب فيها ولده شهاب الدين أحمد.

ثم توجه عماد الدين زنكى إلى بغداد لنصرة الراشد بالله، وورد إلى بغداد جماعة من ملوك الأطراف متفقين على قتال السلطان مسعود، ونصرة الراشد، وهم: السلطان داود بن محمود (1) بن ملكشاه - صاحب أذربيجان -، وبرنقش - صاحب قزوين -، والبقش الكبير - صاحب أصفهان -، وصدقة بن دبيس - صاحب الحلّة - الذى قتل السلطان أباه دبيسا، ومعه عنتر بن أبى العسكر، يدبره - لصباه - وورد أيضا ابن الأحمديلى، وانضاف إلى هؤلاء مقدمو (2) عساكر بغداد، وهم: كج أبه، وطرنطاى، وغيرهما؛ واضطربت بغداد، ونقلوا أموالهم إلى دار الخلافة.

وأمر الخليفة أن يخطب بالسلطنة بعده للسلطان داوود، وتحالف الخليفة والسلطان داوود والأمير عماد الدين زنكى، وأرسل الخليفة الراشد إلى عماد الدين ثلاثين (3) ألف دينار، ووصل بعد ذلك سلجوق شاه بن محمد - أخو السلطان مسعود - إلى واسط، وقبض على الأمير بك أبه، ونهب ماله، فانحدر إليه عماد الدين زنكى، فدفعه عنها، ثم اصطلحا، وعاد عماد الدين إلى بغداد.

(1) في الأصل: «محمد» والصحيح ما ذكرناه.

(2)

في الأصل: «مقدمين» .

(3)

في (ابن الأثير، ج 11، ص 14): «مائتى ألف دينار» . ولاحظ أن نص ابن واصل يعود فيتفق ونص ابن الأثير، وأغلب الظن أن المؤرخين ينقلان عن الفارقى.

ص: 64