الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليرموك الحاسمة في رجب عام 15 هـ الموافق ديسمبر سنة 636 م. وقد عقد اللواء فيها لأبى عبيدة. ومن ثم يسلك كيتانى الحوادث التي قيل إنها وقعت عند باب الجابية في هذه المرحلة الثَّانية. ومهما يكن من شئ فقد استسلمت المدينة للمرة الثَّانية في ذي القعدة من عام 15 هـ الموافق ديسمبر عام 636 م في ظروف ربما كانت أشد وأقسى من المرة الأولى، ولعل الكنائس التي تركت للنصارى بهذه المناسبة كانت خمس عشرة كنيسة.
وكان لسقوط دمشق، جنة الأرض، أهمية لا توصف. وسكن المسلمون الديار التي أخلاها الروم. وكانت الأحوال في هذه البقعة مواتية أكثر منها في أي بقعة أخرى لأن يهضم العرب الثقافة اليونانية في هذه القصبة الحضارية العظيمة التي كان قد استقر في أرباضها عدد كبير من العرب. وكان من حسن الطالع للإسلام والمدينة على السواء أن يستعمل عليها رجل من بيوتات مكة التي أثبتت أنها قادرة قبل كل شئ على أن تنقل الحضارة إلى أمة محمَّد، ونعنى بهذا الرَّجل يزيد بن أبي سفيان الأموى.
دمشق في عهد الأمويين
ومات يزيد عام 18 هـ في طاعون عمواس، وخلفه أخوه معاوية فوحد الشَّام بأسرها تحت حكمه عام 31 هـ. ومكن لنفسه تمكينًا في ولايته حتَّى استطاع بعد مقتل عثمان أن يحارب الخليفة عليًا ليثأر لعثمان، وهي الحرب التي انتصر فيها آخر الأمر عام 41 هـ الموافق 661 م بعد مقتل على وتنازل ولده الحسن عن حقه في الخلافة. وأصبحت دمشق قصبة الدولة الجديدة، وبلغت شأوا عظيما في تاريخ العالم لم تبلغه من قبل ولا من بعد. ومن العسير أن نقدر مدى ما أفادته المدينة من هذه المكانة بعد ذلك. ويظهر أن معاوية لم يبذل جهدا كبيرًا في عمارة المدينة على نطاق واسع. وظلت المنطقة المحيطة بكنيسة القديس يوحنا التي أصبحت فيما بعد المسجد الأموى الكبير سرة المدينة كما هو شأنها اليوم.
ويقوم في هذه المنطقة جنبًا إلى جنب المسجد القديم وكنيسة القديس يوحنا وقصر معاوية الجديد "الخضراء". وليس لدينا وصف معاصر للمدينة في هذا العهد إلا ما كتبه الأسقف الغالى أركلف Arculf.
ونخلص منها إلى أن المسجد كان منفصلا تمام الانفصال عن الكنيسة. وواضح من الروايات العربية التي تصف الحوادث التي وقعت بعد ذلك أن المسجد والكنيسة كانا متجاورين وأن قصر الخضراء كان ملاصقا لهما، ومن ثم كان معاوية ينفذ منه إلى المسجد مباشرة، كما أن الكنيسة كانت قريبة منه إلى حد أن ناقوسها كان يقلق منامه وهو في شيخوخته (ابن قتيبة: عيون الأخبار، ص 238). ويروى ابن جبير (طبعة دى غوى، ص 269) أن القصر كان إلى يسار الخارج من المسجد الأموى من باب الزيادة (انظر الخطة الواردة في Baedeker) في الموقع الذي قام عليه سوق النحاسين من بعد، وهو سوق الصاغة في العصر الحديث (انظر أَيضًا كتاب الأغاني، جـ 6، ص 139، س 3 وما بعده).
ولم يوجه يزيد بن معاوية وخليفته عناية خاصة بالمدينة، ومع هذا فقد أسدى إلى النواحى المجاورة لدمشق جميلا وذلك بشقه قناة يزيد أو مدها (انظر المجلة الأسيوية، السلسلة التاسعة، ج، ص 400 وما بعدها).
ولما مات معاوية بن يزيد (عام 64 هـ الموافق 683 م) لم يكن هناك من الفرع السفيانى الأموى من له حق واضح في الخلافة، فتنازعتها الأحزاب، ونشبت في دمشق فتنة أثناء الصلاة وبعدها كان للضحاك بن قيس فيها شأن مزدوج، فقد تعارك أنصاره مع أنصار الأمويين وعلى رأسهم حسان ابن مالك بن بحدل، وقد عرفت هذه الفتنة بيوم جيرون. ويروى ياقوت (جـ 2، ص 175) أن جيرون سقيفة مستطيلة ذات عمد من أيام الجاهلية نسب إليها الباب الشرقى للمسجد الكبير فقيل باب جيرون، وهذا البناء المشهور إلى الشرق من المسجد الحديث
قد بقى إلى عام 559 هـ الموافق 1164 م حتَّى أتت النَّار عليه. ويقول المسعودي (مروج الذهب، جـ 3، ص 271) إن قطعًا منه استعملت في بناء المسجد.
وبعيد عن الشك أن الأبهاء ذوات العمد كانت جزءًا من عمارة المعبد القديم، ولم تكن كنيسة القديس يوحنا تشغل إلَّا جانبا منه، وقد أخذت من هذه الأبهاء الأعمدة المنفصلة أو المجتمعة التي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا في بنايات أخرى (انظر عن جيرون أَيضًا De Sacy في ترجمته لعبد اللطيف، ص 442 وما بعدها) وإذا ذكرنا أن اليوم الذي اشتهر بجيرون وقع في المسجد نفسه (الطبرى، جـ 2، ص 470 وما بعدها) رجح عندنا أن جيرون هو المسجد القديم ذاته. ومن ثم وجب أن نبحث عن موقع هذا المسجد إلى الشرق من المسجد الأموى الحالى كما تقول الروايات. ولا نستطيع أن نتثبت على وجه اليقين من موضع المسجد من كنيسة القديس يوحنا.
ولعل تعيين موقع الكنيسة أشق من تعيين موقع المسجد القديم (انظر الرأى الجديد الذي قال به تيرش Thiersch: Pharos، ص 104) وهذه المسألة على الرغم من بساطتها البادية في كتاب كايتانى: Caetani Annali dell' Islam جـ 3، ص 390 وما بعدها (وإن كان ينبغي ألا يفوتك أن تنظر المؤلف نفسه ص 349 و Becker في Islam، جـ 2، ص 297) ليست بحال سهلة إلى هذا الحد.
وانتهت الحروب التي بدأت بيوم جيرون بوقعة مرج راهط الدامية التي حفظت الخلافة للفرع المروانى من بيت بني أمية. وزاد الشعور رويدًا رويدًا بالحاجة إلى التظاهر بمجد الدولة وعظمتها لما ضعفت مكانة الخلفاء الشخصية وقل سلطانهم في الفترة التالية، ومن ثم كانت هذه الفترة أزهي الفترات في تاريخ الخلافة وفي تاريخ دمشق، ولو أن عوامل الانحلال كانت قد بدأت تعمل فيهما خفية. ويرجع الفضل الأكبر في شهرة المدينة إلى المسجد الأموى الذي شيده الخليفة
الوليد بن عبد الملك. وهو أعظم من اهتم بالعمارة في العصر الأموى.
أما المسجد القديم فلم يستعمل إلَّا بصفة مؤقتة، وهكذا أصبح للحاضرة بيت للعبادة جدير بمكانتها. وقد سبق أن بينا الموقع الذي اختير لإقامة المسجد عليه. وظلت سرة المدينة كما كانت في العهد الجاهلي والمسيحى فيما جاور المعبد الكبير، وكان هم المسلمين الأول هو بناء مسجد جديد في موضع المسجد القديم بالمواد التي كانت لا تزال باقية في أطلال المبانى القديمة الفخمة، وتم لهم ما أرادوا. وفي عام 86 هـ الموافق 705 م هدم جزء من الكنيسة شيد على أطلاله البناء الجديد، وهو الذي عده النَّاس فيما بعد ثالث عجيبة من عجائب الدنيا. وجرى النَّاس على القول بأن بناء الكنيسة لم يتغير في جوهره، وأن كل ما عمله الوليد هو القيام بزخرفته. على أنَّه قد وجهت إلى هذا الرأى حديثًا اعتراضات لها قيمتها ووزنها (انظر بصفة خاصة Thiersch: Pharos، ص 104، 314). وأثبت الدرس الدقيق للبناء أن الصحن والمحراب بصفة خاصة لا يمكن أن يرجعا إلى ما قبل الإِسلام (Dickie: Quarterly Statement of the Palestine Exploration Fund، 1897 م، ص 268 - 282). وكانت النفقات التي أنفقها الوليد على هذا البناء باهظة. فقد استحضر له من القسطنطينية حشودًا من العمال لصنع الفسيفساء بخاصة. وقد ثبت من أوراق البردي التي عثر عليها حديثا أنَّه استقدم من مصر مهرة العمال وجلب منها مواد البناء. (انظر Islam، جـ 2، ص 274، 374).
ولعله لم يبق إلَّا على أركان الجدران القديمة، وإذا صح رأى تيرش فإن هذه الأركان لم تكن بالضرورة جدران الكنيسة نفسها، كما أبقى على أبراج الكنيسة الغربية والشرقية واتخذها مآذن. والذي يقرأ المصادر العربية يرجح أن المسجد القديم برمته قد دخل في بناء المسجد الجديد، إلَّا أن هذا القول مشكوك فيه إلى حد كبير.
وتفصيلات الأمر جديرة بأن تتجلى بأجلى بيان إذا عاود الخبراء دراسة هذا الموقع عن كثب وتناولوا الروايات
الخاصة بذلك تناولا حكيما يقوم على الإنصاف.
ومهما يكن من شئ فمن الثابت أن الوليد لقد جعل مجموعة المبانى الباقية إلى الآن مسجدًا واحدًا، وشيد المئذنة الشمالية المعروفة بمئذنة العروس التي استخدمت برجا للمراقبة كما يتضح من أقوال الكتاب المتأخرين، وأقام المصلى بفسيفسائها الجميلة في صورة لا تختلف في الجوهر عن الصورة التي تبدو عليها الآن، فهي معبد له ثلاثة صحون ومحراب، وتعلوه القبة المشهورة المعروفة بقبة النصر. (انظر عن هذا الاسم Zeitschrift der Deutschen Morgenl. Ges ، جـ 60، ص 369 ، 702؛ جـ 74، ص 661؛ أما عن القيمة الفنية للمسجد فانظر أَيضا H. Saladin: Manuel d' Art Musulman جـ 1، ص 80 - 87؛ Van Berchem & Strzygowski: Amida، ص 326 وما بعدها).
ولم يفعل الخلفاء المتأخرون شيئًا كثيرًا لدمشق، ونقل بعض المروانيين حاضرة الخلافة إلى مكان آخر، في حين كان ينفق غيرهم شطرا كبيرا من السنة في قصورهم بالبادية، أما قصور دمشق العظيمة التي كانت خليقة بإظهار مجد الأمويين لو كتب لها البقاء فقد ذهبت طعمة للثورة التي انتابت العباسيين في سعيهم إلى محو آثار أسلافهم. وقام بالمدينة في عصر متأخر سجن في موضع الخضراء، وحسبنا أن نذكر قصرًا أمويا واحدا آخر هو قصر الحجاج نسبة إلى الحجاج بن عبد الملك ابن مروان، ذلك أن الطريق الكبير المؤدى إلى الربض الجنوبى الغربى المعروف بربض الميدان لا يزال يحمل اسمه إلى وقتنا هذا، وكان هذا القصر خارج الباب الصغير وباب الجابية (ياقوت، جـ 4، ص 110 ومن ثم يتضح لنا أن قول فون كريمر Von Kremer في كتابه Topigraphie، جـ 1 ص 14 غير مقنع، انظر المجلة الأسيوية، السلسلة التاسعة، جـ 7، ص 379).
وقد رسم فون كريمر (جـ 1، ص 114 Culturgeschichte) صورة شائقة جدا للحياة في حاضرة الخلافة، ومن سوء الحظ أننا لا نعرف إلَّا النزر