الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3)
وارجع أيضًا إلى المصنفات التي تتناول تاريخ الصوفية، كنفحات الأنس لجامى، وتذكرة الأولياء لفريد الدين العطار.
محمد مصطفى حلمى. [كارا دى فو B. Carra de Voux]
تعليق ذو النون المصري سيرته وحياته الروحية ومذهبه الصوفي
عرض كثير من المؤرخين وكُتاب التراجم والطبقات لحياة ذى النون المصري من الناحيتين العامة والخاصة، وذكروا له طائفة من الأقوال التي تصور حياته الروحية وما عرض له فيها من أحوال، وما روى عنه من كرامات، وتعبر عما كان ينزع إليه من مذهب في الحب وفى المعرفة، وعما ينطوى عليه هذا المذهب من عناصر نظرية لها قيمتها الفلسفية، وعناصر عملية لها خطرها من الناحية الأخلاقية على أن هذا كله إنما يذكر متفرقا هنا وهناك في كتب التراجم والطبقات، ويكاد يوجد في أكثرها مكررًا بحرفيته دون أن يكون له رابط أو ضابط. ولكن دراسة هذه المعلومات دراسة علمية محققة، وإخضاعها للمنهج المقارن،
ومقابلة بعضها ببعض، واستخلاص الحقائق من بعضها على ضوء ما يشتمل عليه بعضها الآخر، كل أولئك من شأنه أن يعيننا على تأليف صورة - إن لم تكن تامة من كل الوجوه، فلا أقل من أن تكون مقاربة من أكثرها - لحياة ذلك الصوفى المصري المسلم ومذهبه، ولما عسى أن يكون له من آثار باقية ونفحات صادقة سواء في الحياة الروحية الإسلامية بصفة عامة، أو في
الحياة الروحية المصرية بصفة خاصة.
- 1 -
سيرة ذى النون
أجمع الذين ترجموا لذى النون على أن أسمه هو أبو الفيض ثوبان (بفتح الثاء المثلثة، وسكون الواو، وفتح الباء الموحدة، وبعد الألف نون) ابن إبراهيم، وقيل الفيض بن إبراهيم، المعروف بذى النون المصري، وأكبر الظن أن تكون تسميته بذى النون راجعة إلى كرامة من كراماته التي تروى عنه، وذلك أنَّه
قال إن امرأة جاءته وقالت إن أبنها أخذه التمساح؛ فلما رأى حرقتها على ولدها أتى النيل وقال: اللهم أظهر التمساح، فخرج إليه التمساح، فشق عن جوفه وأخرج ابنها حيا صحيحًا (1).
وإذا كان النون هو الحوت العظيم، وكان يونس النبي عليه السلام قد سمى بذى النون لقصته المعروفة مع الحوت، كما يدل على ذلك قوله تعالى:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) " وكان لثوبان بن إبراهيم الصوفى المصري قصة مع التمساح كقصة يونس مع الحوت، إذا كان ذلك
كذلك فقد تبين إذن لم سمى الصوفى المصري بذى النون. ولعل كل ما هناك من فرق بين ثوبان بن إبراهيم المصري وبين يونس النبي في هذه التسمية، هو أن يونس النبي عليه السلام قد سمى بذى النون لأن النون الَّذي هو الحوت كان قد التقمهً على حين أن ثوبان بن إبراهيم المصري قد سمى بذى النون لأن له كرامة مع التمساح الَّذي أشرنا إليه في القصة المروية آنفا.
أما متى وأين ولد ذو النون المصري، فلا يكاد يذكر أحد من المؤرخين والمترجمين الذين وقفنا على كتبهم شيئًا عن التاريخ الَّذي كان فيه مولد ذلك الصوفى العظيم، وإنهم ليختلفون أيضًا حول الموطن الَّذي كان فيه مولده، وترد إليه نشأته الأولى: فسواد
أصحاب التراجم والطبقات متفقون على أن والدى ذى النون المصري كان أحدهما أو كلاهما من أصل نوبى، ولكن بعضهم يرى أن مولد ذى النون كان بإخميم من صعيد مصر (3)، وبعضهم الآخر يذهب إلى أنَّه من أصل نوبى ثم نزل إخميم فأقام بها (4). وسواء كان مولده بإخميم أم ببلاد النوبة، فإنه كان على كل حال مصرى المولد والنشأة، والعناصر التي تتألف منها حياته
وثقافته وولايته، والأحداث التي، وقعت
(1) الشعرانى: الطبقات الكبرى، بولاق 1286 هـ ج 1، ص 78.
(2)
سورة الأنبياء، آية 87.
(3)
السيوطي: حسن المحاضرة، القاهرة 1337 هـ ج 1، ص 218.
(4)
المناوى: الكواكب الدرية، القاهرة 1357 هـ - 1938 م، ص 223.
له، والأقوال التي أثرت عنه، كل أولئك وغيره مما سنفصله بعد سيظهرنا من غير شك على أن الطابع الَّذي غلب عليه كان مصريًا، وعلى أنَّه قد استمد تلك العناصر من صميم الحياة المصرية، وأنه وإن كان واحدا من أئمة صوفية المسلمين، الذين ظهروا في تاريخ التصوف الإسلامى، فإنه كان أولا وقبل كل شيء إمامًا لمن ظهر من الصوفية المسلمين في تاريخ التصوف المصري.
والمؤرخون والمترجمون الذين ترجموا لذى النون، وأغفلوا ذكر تاريخ مولده، واختلفوا حول موطنه الَّذي كان فيه مولده، متفقون على التاريخ الَّذي كانت فيه وفاته: فكلهم مجمع على أن وفاة ذى النون كانت في ذى القعدة سنة 245 هـ (1) واتفق معهم في ذلك ابن خلكان، ولكنه زاد على ذلك ما قيل من أن هذه الوفاة كانت سنة 246 هـ أو سنة 248 هـ (2) فإذا أخذنا سنة 245 هـ على إنها هي أضبط تاريخ لوفاة ذى النون، وذلك بحكم اتفاق السواد الأعظم من المؤرخين والمترجمين عليها، وإذا
عرفنا أن السيوطي في ترجمته لحياة ذى النون قد ذكر أن عمره عند وفاته كان قد قارب التسعين (3)، استطعنا أن نستخلص تاريخ مولده بحيث يكون ذلك حوالى سنة 155 هـ. وذو النون الَّذي يرجع أصله إلى بلاد النوبة، ويقع مولده في بلاد النوبة أو في إخميم، لم يقض حياته كلها في هذه أو في تلك؛ وإنما ارتحل من إخميم إلى مصر وقضى شطرا كبيرًا من حياته متنقلًا بين البلدان، سائحًا في الجبال والوديان: فهو قد رحل عن إخميم إلى مصر، وله في ذلك الرحيل قصة تروى على أن ما وقع له فيها كان سببًا حمله على هذا الرحيل، ولكنها تظهرنا إلى جانب ذلك على ناحية من نواحى الحياة الروحية لذى النون الصوفى، وما
ينبغي أن تقوم عليه هذه الحياة الروحية من شكر على السراء وصبر على البأساء: وذلك أن ذا النون سمع
(1) القشيرى: الرسالة، القاهرة 1346، ص 8؛ المناوى: الكواكب الدرية، ج 1، ص 230.
الشعرانى: الطبقات الكبرى، ج 1، ص 77.
(2)
ابن خلكان: وفيات الأعيان، القاهرة 1367 هـ- 1948 م، ج 1، ص 283.
(3)
السيوطي: حسن المحاضرة، ج 1، ص 218.
ذات يوم من أيام إقامته بإخميم صوت لهو ودفاف، فقال: ما هذا؟ قيل: عرس، ثم سمع بجانبه بكاء وصياحًا، فقال: ما هذا؟ قيل: فلان مات؛ قال: أعطى هؤلاء فما شكروا، وابتلى هؤلاء فما صبروا، لله على إن بت بهذا البلد، فخرج فورًا إلى مصر فقطنها (1). وهو قد رحل عن مصر إلى غيرها من البلدان، وله في أماكن عدة منها ومن غيرها من البلدان أسفار وسياحات، وتروى عنه في هذه الأسفار والسياحات طائفة من الخوارق والكرامات سنعرض لها في موضعها من الحديث عن حياته الروحية،
وحسبنا هنا أن نذكر الأماكن التي تنقل بينها في مصر، والتى ارتحل إليها وساح فيها في غير مصر: فجبل المقطم وشاطئ النيل وبرابى الصعيد والفسطاط وبيت المقدس وبغداد ومكة وبوادى الحجاز والشام وتيه بنى إسرائيل وجبل لبنان وجبل أنطاكية وجبل الكام ووادى كنعان وجبال نيسان، كل أولئك أماكن شهدها ذو النون وشهدت هي من أحواله وسجلت من أقواله الشيء الكثير (2).
وقد ظل ذو النون على هذه الحال من الإقامة والرحلة، يتلقى العلم حينا، ويلقى الحكمة حينا آخر، ويعظ الناس ويرشدهم ويبصرهم بالحقائق ويوقفهم على الدقائق على الوجه الَّذي سنبينه بعد، حتَّى كانت وفاته في ذى القعدة سنة 245 هـ = 856 م، وقد قارب وقتئذ التسعين من عمره، وذلك هو التاريخ الَّذي اتفق معظم المؤرخين والمترجمين على أن وفاة الصوفى المصري كانت فيه، إذا استثنينا ابن خلكان فإنه متفق معهم من ناحية، ويزيد من ناحية أخرى ما قيل عليه من أن وفاة ذى النون كانت في سنة 246 هـ، وما قيل أيضًا من أنها كانت في سنة 248 هـ (3).
ويكتفى بعض المترجمين بأن يذكر أن وفاة ذى النون كانت بمصر دون أن
(1) المناوى: الكواكب الدرية، ج 1، ص 223.
(2)
أبو نعيم الأصبهانى: حلية الأولياء، القاهرة 1357 هـ - 1938 م، ج 9، 10 ومواضع متفرقة؛ الكواكب الدرية، ج 1، ص 226 - 230.
(3)
ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 1، ص 383.