المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مذهب ذى النون التصوفى - موجز دائرة المعارف الإسلامية - جـ ١٦

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌دجلة

- ‌دحلان

- ‌دحية

- ‌الدردنيل

- ‌الدرعية

- ‌درقاوى

- ‌درويش

- ‌درويش باشا

- ‌درويش محمَّد باشا

- ‌درهم

- ‌دريد

- ‌الدسوقى

- ‌‌‌الدسوقي

- ‌الدسوقي

- ‌الدعاء

- ‌دعبل

- ‌دف

- ‌دلدل

- ‌دمشق

- ‌فتح المسلمين لدمشق

- ‌دمشق في عهد الأمويين

- ‌دمشق من سنة 750 م - 1150 م

- ‌دمشق في عهدى نور الدين وصلاح الدين

- ‌عهد المماليك

- ‌العهد التركي

- ‌صورة المدينة الحديثة

- ‌الدمشقي

- ‌الدميرى

- ‌دنيا

- ‌تعليق

- ‌دواسر

- ‌الدواني

- ‌الدوسة

- ‌الدهر

- ‌دهلك

- ‌الدهلوى

- ‌الدهناء

- ‌ديار بكر

- ‌الديار بكري

- ‌ديار ربيعة

- ‌ديار مضر

- ‌الديباج

- ‌ديك الجن

- ‌دينار

- ‌دينار ملك

- ‌الدينوري

- ‌ديو (دويبه)

- ‌ديوان

- ‌الدية

- ‌ذ

- ‌ذاتى

- ‌ذاتى سليمان

- ‌ذبيان

- ‌ذراع

- ‌الذرة

- ‌الذكر

- ‌المصادر:

- ‌ذمار

- ‌المصادر:

- ‌ذو الرمة

- ‌ المصادر

- ‌ذو الفقار

- ‌المصادر:

- ‌ذو قار

- ‌المصادر:

- ‌ذو القرنين

- ‌المصادر:

- ‌ذو الكفل

- ‌المصادر:

- ‌ذو النون

- ‌تعليق ذو النون المصري سيرته وحياته الروحية ومذهبه الصوفي

- ‌سيرة ذى النون

- ‌حياة ذى النون الروحية

- ‌مذهب ذى النون التصوفى

- ‌الذهبي

- ‌المصادر:

- ‌ر

- ‌رابعة العدوية

- ‌المصادر:

- ‌راحيل

- ‌المصادر:

- ‌الرازى

- ‌المصادر:

- ‌المصادر:

- ‌الرازي "مؤرخ

- ‌ المصادر)

- ‌‌‌المصادر:

- ‌المصادر:

- ‌راسم أحمد

- ‌المصادر:

- ‌الراشد بالله

- ‌المصادر:

- ‌راشد الدين سنان

- ‌المصادر:

- ‌راشد محمد

- ‌المصادر:

- ‌الراضى بالله

- ‌المصادر:

- ‌الراغب الإصفهانى

- ‌المصادر:

- ‌الرامى

- ‌المصادر:

- ‌راهب

- ‌الرباط

- ‌المصادر:

- ‌رباعى

- ‌المصادر:

- ‌ربيب الدولة

- ‌المصادر:

- ‌الربيع بن يونس

- ‌المصادر:

- ‌ربيعة ومضر

- ‌المصادر:

- ‌الرجز

- ‌المصادر:

- ‌الرجم

- ‌المصادر:

- ‌رجوع

- ‌المصادر:

- ‌الرحمانية

- ‌حياة صاحب الطريقة:

- ‌تاريخ الطريقة وانتشارها:

- ‌شعائر الطريقة:

- ‌كتب الطريقة:

- ‌المصادر:

- ‌رزيك بن طلائع

- ‌المصادر:

- ‌رس، بنو

- ‌المصادر:

- ‌رستم باشا

- ‌المصادر:

- ‌رستم، بنو

- ‌المصادر:

- ‌رسول

- ‌المصادر:

- ‌رسول، بنو

- ‌المصادر:

- ‌الرشيد

- ‌المصادر:

- ‌رشيد الدين الطبيب

- ‌المصادر:

- ‌الرضاع

- ‌المصادر:

- ‌تعليق

- ‌رضية

- ‌المصادر:

- ‌رطل

- ‌المصادر:

- ‌الرفاعى

- ‌المصادر:

- ‌رفاعة بك

- ‌المصادر:

- ‌رفيع الدين

- ‌المصادر:

الفصل: ‌مذهب ذى النون التصوفى

الدؤوب على طاعة الله عز وجل بالحركات، وظعنت أنفسهم عن المطامع والشهوات، فتوالهوا بالفكرة، واعتقدوا بالصبر، وأخذوا بالرضا، ولهوا عن الدنيا، وأقروا بالعبودية للملك الديان،

إذا عوملوا فإخوان حياء، وإذا كلموا فحكماء، وإذا سئلوا فعلماء، وإذا جهل عليهم فحلماء، فلو قد رأيتهم لقلت عذارى في الخدور، وقد تحركت لهم المحبة في الصدور، بحسن تلك الصور التي قد علاها النور

إخوان صدق وأصحاب حياء ووفاء وتقى وورع وإيمان ومعرفة ودين

" (1)

وأما كيف انتهى أمر ذى النون مع الخليفة المتوكل إلى التبرئة بعد الاتهام، وإلى رده إلى مصر مكرما بعد ما لقى من أذى واضطهاد، فذلك ما يفصله الشعرانى في قصة طويلة يكفى أن نقف منها عند ما يرويه الشعرانى على لسان ذى النون نفسه مبينا ما دار بينه وبين الخليفة من حوار كتبت له السلامة في خاتمته: فقد قال ذو النون "

فلما دخلت على المتوكل سلمت عليه

بالخلافة، فقال لى؛ ما تقول فيما قيل فيك من الكفر والزندقة؟ فسكت. فقال وزيره: هو حقيق عندى بما قيل فيه، ثم قال لى: لم لا تتكلم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إن قلت لا كذبت المسلمين، بيان قلت نعم، كذبت على نفسى بشيء لا يعلمه الله تعالى عنى، فافعل أنت ما ترى، فإنى غير منتصر لنفسى، فقال المتوكل: هو رجل برئ مما قيل فيه

" (2)

-3 -

‌مذهب ذى النون التصوفى

ليس بين أيدينا كتب أو رسائل لذى النون أودعها وصف أحواله، وجعل منها سجلًا لأقواله التي يمكن أن يتبين منها مذهبه التصوفى، وما كان ينزع إليه في هذا المذهب من منازع روحية، ومعارف ذوقية، ولكن الأستاذ لويس ماسنيون يذكر لذى النون. كتابا يعرف باسم كتاب العجايب، كما يذكر أنَّه وقف على اسم هذا الكتاب من الثبت الَّذي أورده بروكلمان (3) ولعل كل ما

(1) حلية الأولياء، ج 9، ص 338.

(2)

الطبقات الكبرى، ج 1، ص 79.

(3)

L. Massignon: Le Lexique Technique de la Mystique Musulmane، P 185 .

ص: 5019

يمكن أن يقال عنه أنَّه من آثار ذى النون المكتوبة هو طائفة من الأقوال المأثورة والحكم والمواعظ المنظومة والمنثورة وما جرى على لسانه من أمثال، وما جرى بينه وبين غيره من حوار حول التعاليم الصوفية وما إليها من معرفة ذوقية ومحبة إلهية: فقد وقف المحاسبى وعلي بن الموفق ويوسف بن الحسين الرازي بصفة خاصة على طائفة مما تركه ذو النون من تلك الآثار، وكلهم كان معاصرًا له، كما أن يوسف بن الحسين الرازي المتوفى سنة 301 هـ كان تلميذا لذى النون، اتصل به، واستمع إليه، وأخذ عنه.

على أن كتب التراجم والطبقات التي عرضت لحياة ذى النون، قد حفلت بكثير من أقواله وأدعيته التي تصور لنا كثيرا من آرائه في مختلف المسائل الصوفية: فالرسالة للقشيرى، والطبقات للشعرانى، والكواكب الدرية للمناوى، وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهانى، وغيرها من كتب التصوف الأخرى التي تجمع بين التراجم من ناحية وبين مسائل التصوف وموضوعاته ومصطلحاته من ناحية أخرى، كـ "التعرف لمذهب أهل التصوف" للكلاباذى، و"اللمع" للسرّاج الطوسى، و"كشف المحجوب" للهجويرى، كل أولئك قد عرض لذى النون وعرض علينا بعضًا من أقواله التي تختلف من حيث الكم والتنوع بأختلاف المؤلفين.

ولعل أبا نعيم الإصبهانى فيما أورد في حلية الأولياء من آثار ذى النون، كان أغزر هؤلاء المؤلفين جميعًا مادة، وأوفرهم تنويعًا، وأكثرهم إيرادًا لأسماء الأشخاص الذين يتألف منهم السند الَّذي يرد في نهايته هذا القول أو ذاك إلى ذى النون. وليس من شك في أن ما أثبته أبو نعيم في هذا الباب يعد ثروة علمية لها خطرها من الناحيتين التاريخية والمذهبية لحياة ذى النون الصوفى المصري، ولما يتألف منه مذهبه من عناصر روحية لها قيمتها التصوفية والفلسفية: فالنفس الإنسانية وتحليل خطراتها وشهواتها وأخلاقها، ووصف أحوالها ومقاماتها، وتصنيف هذه الأحوال والمقامات وترتيبها، وبيان ما يستلزمه كل منها، وتحليل الأخلاق

ص: 5020

والكشف عما يتصل بها من بعض الأحوال والمقامات من ناحية، وعن صلتها بالجبر والاختيار من ناحية أخرى، والسماع وعلاقته بالوجد، والحج ومناسكه وتأويل هذه المناسك تأويلا يبين ما تنطوى عليه من المعانى الروحية والفلسفية، والطاعة المغرضة والطاعة المنزهة عن الغرض، والأخوة في الله وعلامتها وعناصرها، وعلم الباطن وحقيقته؛ والمعرفة وسبيل الوصول إليها، ومعرفة الله ووحدانيته وعلاقته بالمخلوقات، وأن أخص خصائص المعرفة اليقينية لله أنها معرفة له به، أو أنها معرفة يلقيها الله في قلب العبد لا معرفة يكتسبها العبد، والجنّة والنار والمحبة وتعريفها وتقسيمها ودرجاتها والمحبة الألهية المتبادلة بين

الرب والعبد، وعلاقة المحبة بالمعرفة، كل أولئك وكثير غيره رؤوس لمسائل عرضت لها وعبرت عنها صراحة أو ضمنا أقوال ذى النون التي أثبتها أبو نعيم الأصبهانى في حلية الأولياء، وكلها يظهرنا من غير شك على أنَّه وإن لم يكن لذى النون كتاب جامع لأشتات آرائه في مختلف المسائل على الوجه الَّذي يجعل منها مذهبا مؤتلف العناصر متسق الأجزاء، فإن أبا نعيم قد كفانا

مؤونة هذا الكتاب بما قدم بين أيدينا من نصوص ذى النون، وأننا بدراستنا لهذه النصوص وتحقيقها والفحص عما تشتمل عليه من المعانى وما تنزع إليه من المنازع وما تقوم عليه من الأسس النفسية والأخلاقية إلى جانب دعائمها الدينية، يتهيأ لنا أن نقف منه على مبلغ ما تركه ذو النون في الحياة الروحية الإسلامية من آثار باقية، وما كان له في هذه الحياة الروحية من مذهب، وما

كان يتسم به هذا المذهب من سمات تيوزوفية ظهرت على يدى هذا الصوفى المصري لأول مرة في تاريخ الحياة الروحية الإسلامية، ثم أخذت تدق وتتضح على أيدى من جاء بعده من الصوفية الذين أخذوا عنه وتأثروا به وزادوا عليه، فكان من تراثهم جميعا ما يعرف باسم التصوف التيوزوفى.

ولكى يتبين لنا هذا كله، ويتبين معه أهم العناصر التي يمكن أن يتألف منها لذى النون مذهب، وأبرز الخصائص التيوزوفية التي يمكن أن يمتاز بها هذا

ص: 5021

المذهب، فإنه يجمل بنا أن نقف عند مسائل ثلاث هي في رأينا جماع مذهبه وملتقى خصائصه، ونعنى بهذه المسائل الثلاث: الطريق إلى الله وتحليله إلى عناصره العملية والروحية، والمعرفة، والمحبة، ولن نقف في عرضنا لهذه المسائل الثلاث عند حد ما يذكره أبو نعيم من نصوص ذى النون التي تشتمل عليها، وإنما سنضيف إليه أطرافا مما يورده غيره من المؤلفين الذين كتبوا عن ذى النون. وسنحاول بقدر المستطاع أن نؤلف بين هذا وذاك تأليفا تتضح معه الأفكار. وتتبين من خلاله المذاهب.

1 -

وأول ما يلاحظه المتأمل في مذهب ذى النون الصوفى الَّذي يكشف فيه عن معالم الطريق إلى الله هو أن مدار الكلام عنده في هذه الناحية إنما يقوم على أربعة أشياء: حب الجليل، وبغض القليل، واتباع التنزيل، وخوف التحويل: فهو قد جعل من حب الله والإعراض عن الدنيا والسير على نهج الكتاب والسنة والخوف من أن ينكص الإنسان على عقبيه متابعة لنفسه ومسايرة لنزواتها وشهواتها، أسسا يقوم عليها مذهبه الصوفى، ومثلا عليا ينبغي أن يتحقق بها من سلك طريق الله سبحانه وتعالى. وليس من شك في أن أهم هذه الأسس الأربعة وأشملها لغيرها من الأسس الثلاثة الأخرى هو ما عبر عنه ذو النون بحب الجليل، لا

لأنه قدمه على غيره من هذه الأسس فحسب، بل لأنه كان يرى أن من علامات المحب لله عز وجل متابعة حبيب الله [صلى الله عليه وسلم] في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسننه (1).

وهذا يعنى بعبارة أخرى أن الوقوف مع النفس الأمارة والخضوع لنزواتها هو عند ذى النون أكثف أنواع الحجب: لأن طاعة النفس إنما هي عصيان لله، وهذا العصيان أصل جميع الحجب (2)، وهنا نجد لذى النون حديثًا عن الذنب وقد سئل عن سببه، فإذا هو يجيب إجابة هي أدنى ما تكون إلى تحليل النفس الإنسانية وما يوجهها من دوافع، وما تنزع إليه من نوازع تحملها

(1) الرسالة القشيرية، ص 8.

(2)

كشف المحجوب، ص 200.

ص: 5022

على ارتكاب الشر واقتراف الذنب: فهو يرى أن سبب الذنب النظرة، وأن من النظرة الخطرة، وأن في تدارك الخطرة بالرجوع إلى الله ذهابها، وإلا فإنها تمتزج بالوساوس فتتولد منها الشهوة، وهذا كله باطن لم يظهر بعد على الجوارح؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن في تدارك الإنسان للشهوة ما يجعله بمأمن من غوائلها، وإلا تولد من الطلب العقل (1). فواضح هنا أن ذا

النون قد رتب ما يقع في باطن النفس الإنسانية بعضه على بعض، ورد ما يظهر من أفعالها بعضه إلى بعض، وذلك لكى يظهرنا آخر الأمر على العلة الأولى البعيدة التي تنشأ منها وترجع اليها الشهوات النفسية التي تفسد على الإنسان حياته الروحية الباطنة وحياته العملية الظاهرة كما تفسد عليه صلته بربه إذ يخضع لنفسه ويقع في ذنبه.

ولا يقف ذو النون في تحليله للنفس الإنسانية عند هذا الحد الَّذي يكشف معه عن باطنها ويعلل شهواتها تعليلًا نفسيًا خالصًا وإنما هو يتجاوزه إلى شيء آخر: ذلك بأنه يتحدث عن أخلاق النفس وما ينبغي أن تتحلى به وما ينبغي أن تتخلى عنه، حديثا نتبين من خلاله أن النفس التي هي موضوع لذلك التحليل وشهواتها التي هي مجال لما قدم من تعليل، هي أيضًا موضوع لعلم

الأخلاق، ومنبع للمحمود والمرذول من هذه الأخلاق. وإنه ليتحدث عن أخلاق النفس تارة بالذات، وتارة أخرى بالعرض؛ وهو حين يتحدث عنها بالعرض إنما يذكرها على أنها مقومات أو ثمرات أو علامات لهذه الحال أو تلك، ولهذا المقام أو ذاك من المقامات التي تمر بها نفس السالك في طريق الله، والأحوال التي تختلف عليها وقد جعلت غايتها ابتغاء وجه الله.

فمن أمثلة ما يعرض له بالذات من أخلاق النفس ما تحدث به عن العاقل وعن الكريم: فعنده أن العاقل يعترف بذنبه، ويحس بذنب غيره، ويجود بما لديه، ويزهد فيما عند غيره، ويكف أذاه، ويحتمل الأذى عن غيره. وعنده أيضًا أن الكريم يعطى قبل السؤال، فلا يعقل أن يبخل بعد السؤال، ويعذر قبل

(1) حلية الأولياء، ج 9، ص 345.

ص: 5023

الاعتذار، فلا يعقل أن يحقد بعد الاعتذار، ويعف قبل الامتناع، فلا يعقل أن يطمع في الازدياد (1).

على أن أهمية ذى النون في تاريخ الحياة الروحية الإسلامية لا ترجع إلى هذا الضرب من تحليل أخلاق النفس وبيان آدابها وآفاتها من الناحيتين النفسية والأخلاقية فحسب، وإنما هي ترجع أولا وقبل كل شيء إلى هذا التحليل الرائع الَّذي يقدمه لهذه الآفات وتلك الآداب، ونتبينه من خلال ما يعرضه من تعريفات الأحوال والمقامات وتصنيفاتها: فقد كان ذو النون - كما لاحظ السلمي وغيره ممن ترجم لذى النون - أول من عرف وصنف وعلم الأحوال ومقامات أهل الولاية. وقد رسم أبو سليمان الدارانى الخطوط الأولى للطريق إلى الله، ولكن هذا الطريق إلى الله قد انتهى على يد ذى النون إلى غايته، واستكمل صورته

النهائية التي أخذتها عنه، واعتمدتها من بعده كتب التصوف القديمة، صحيح أن عدة الأحوال والمقامات تختلف من مؤلف إلى مؤلف، وصحيح أيضًا أن ترتيب هذه المقامات وتلك الأحوال يتباين في كتاب من كتب الصوفية عما هو عليه في كتاب آخر، وصحيح بعد هذا كله أن ما يعده بعض الصوفية والمؤلفين حالًا قد يعده البعض الآخر مقامًا، وما يعده هذا الصوفى أو ذاك

من المقامات قد يعده غيره من الأحوال، ولكن ليس من شك مع هذا كله في أن فكرة التدرج من مقام إلى مقام، وانتقال

النفس من حال إلى حال، وتعريف كل حال وكل مقام وتحليله إلى عناصره النفسية والأخلاقية والإبانة عن حقيقته بالاشارة إلى علاماته أو أعلامه أو أعماله، كل أولئك قد حفلت به أقوال ذى النون الَّذي أفاض فيها إفاضة لم يكن لغيره من الصوفية المعاصرين له أو الزهاد المتقدمين عليه سابق عهد بها.

وليس من شك أيضا في أن الذين جاءوا بعد ذى النون من الصوفية المتحققين، ومن المؤلفين المحققين، قد استرشدوا بما خلفه الصوفى المصري في هذا الباب، وبما اتبعه فيه من تعريفات وتصنيفات. وفى هذا يقول الأستاذ ماسينيون إنه منذ نهاية القرن الثالث

(1) حلية الأولياء، ج 9، ص 341.

ص: 5024

الهجرة قد اعتمدت هذه الطريقة في التصنيف الصورى لدى التسترى، ولدى صوفية بغداد، ثم استكملها وعدلها كل من الواسطي والسراج والقشيرى والغزالى (1).

ولكى يتضح مبلغ ما أفادته الحياة الروحية الاسلامية من ترتيب ذى النون للأحوال والمقامات، ومدى ما تنطوى عليه هذه المقامات وذلك الأحوال من المعانى النفسية والأخلاقية التي اتشحت كلها بوشاح صوفى، يحسن أن نعدد بعض ما أورده ذو النون في هذه الناحية الهامة من نواحى الحياة الروحية، بل التي تعد أساسًا يقوم عليه صرح كل حياة روحية: فالمحبة واليقين

والثقة بالله والشكر والرضى والأنس وحسن الظن بالله والشوق والخوف والإخلاص والكمال والتوكل والصبر والحكمة والزهد والعبادة والتواضع والسخاء وحسن الخلق والرحمة للخلق والاستغناء بالله والحياء والمعرفة والتسليم والإسلام والإيمان والحلم

والتقوى والرجاء والحب في الله والصدق والانقطاع إلى الله والمروءة والتودد والرشد والسعادة (2) كل أولئك وكثير غيره أحوال تختلف على النفس الإنسانية ومقامات تنتقل بينها هذه النفس في طريقها إلى الله، وإن ذا النون ليعرض لكل منها معرفًا به ومحللًا لعناصره ومبينًا لحقائقه ودقائقه ومشيرًا إلى ماله من أثر في تصفية النفس وتنقية القلب، فيتحدث عن هذا المقام أو ذاك، وعن هذا الحال أو ذاك، اعتمادا على علاماته أو دلالاته تارة، أو استنادا إلى أعلامه أو أعماله تارة أخرى، وكل ذلك على وجه يجعل من الأحوال والمقامات موضوعا لكن من علمي النفس والأخلاق بقدر ما هي موضوع رئيسى للتصوف ودعامة

قوية لما ينبغي أن يحياه المتصوف من حياة روحية قوامها الإقبال على الله وغايتها الظفر بالقرب من الله.

ولكى يتبين لنا هذا كله في وضوح وجلاء، يحسن أن نقف مع ذى النون عند بعض الأحوال والمقامات، وذلك على

(1). 189 P. Lexique Technique de la mystique Musulmane

(2)

حلية الأولياء، ج 9، ص 341 - 342 و 361 - 363 و 393 - 394.

ص: 5025

سبيل المثال لا الحصر وبالقدر الَّذي يكفى لإظهار ما تنطوى عليه هذه المقامات وتلك الأحوال من المعانى النفسية والأخلاقية، وما تنزع إليه أو تتشح به من منازع روحية: فذو النون يحلل المحبة إلى عناصرها تحليلا يتبين من خلال ما يذكره من أعلامها الثلاثة وهي: الرضا في المكروه، وحسن الظن في المجهول، والتحسين في الاختيار في المحذور، ويحلل الشكر بما يذكره من أعمال ثلاثة هي: المقاربة من الإخوان في النعمة، واستغنام قضاء الحوائج قبل العطية، واستقلال الشكر لملاحظة المنة؛ ويحلل الأنس بالله فيذكر ثلاثة من أعماله وهي: استلذاذ الخلوة، والاستيحاش من الصحبة، واستحلاء الوحدة، ويعبر عن مقومات الشوق إلى الله بما يذكره من أعلام ثلاثة هي: حب الموت مع الراحة، وبغض الحياة مع الدعة، ودوام الحزن مع الكفاية، ويصور الخوف بعلامات ثلاث هي: الورع عن الشبهات بملاحظة الوعيد، وحفظ اللسان مراقبة للتعظيم، ودواء

الكمد إشفاقًا من غضب الحليم، وعلى هذا النحو من التحليل والتعبير والتصوير يمضى ذو النون في بيان خصائص الأحوال والمقامات بذكر أعلامها أو أعمالها: فمن أعمال اليقين ثلاثة هي: قلة المخالفة للناس في العشرة، وترك المدح لهم في العطية،

والتنزه عن ذمهم في المنع والرزية، ومن أعلام التوكل ثلاثة هي: نقض العلائق، وترك التملق في السلائق، واستعمال الصدق في الخلائق، ومن أعلام الزهد ثلاثة هي: قصر الأمل، وحب الفقر، واستغناء مع صبر، ومن أعمال السخاء ثلاثة هي: البذل للشئ

مع الحاجة إليه، وخوف المكافأة استقلالا للعطية، والخوف على النفس استغناء لإدخال السرور على الناس، ومن أعلام الاستغناء بالله ثلاثة هي: التواضع للفقراء المتذللين، والتعظم على الأغنياء المتكبرين، وترك المعاشرة لأبناء الدنيا المستكبرين؛ ومن أعلام الحياء ثلاثة هي: وجدان الأنس بفقدان الوحشة، والامتلاء من الخلوة بإدمان التفكر، واستشعار الهيبة بخالص

المراقبة، ومن أعلام الإسلام ثلاثة هي: النظر لأهل الملة، وكف الأذى عنهم،

ص: 5026

والعفو عند المقدرة لمسيئهم، ومن أعلام الحلم ثلاثة هي: قلة الغضب عند مخالفة الرأى، والاحتمال عن الورى إخباتًا للرب، ونسيان إساءة المسئ عفوا عنه واتساعًا عليه، ومن أعلام التقوى ثلاثة هي: ترك الشهوة المذمومة مع الاستمكان منها، والوفاء

بالصالحات مع نفور النفس عنها، ورد الأمانات إلى أهلها مع الحاجة إليها، ومن أعلام الحب في الله ثلاثة هي: بذل الشيء لصفاء الود، وتعطيل الإرادة لإرادة الله، والسخاء بالنفس والمشاركة في محبوبه ومكروهه بصفة العقد، ومن أعمال الرشد ثلاثة هي: حسن المجاورة، والنصح عند المشاورة، والبر في المجاورة، ومن أعلام السعادة ثلاثة هي: الفقه في الدين، والتيسير للعمل، والإخلاص في السعى.

ولا يقف ذو النون عند تصنيف المقامات والأحوال وتحليلها على هذا الوجه الَّذي قدمنا، وإنما هو يتجاوزه إلى شيء آخر لعله أدق من هذا وأعمق.

وذلك بأنه يتحدث عن الحال حديثا هو أدنى ما يكون إلى فلسفته، فيظهرنا على ما بين الحال والجبر من صلة: فعنده أنَّه لا يكون للإنسان من الأحوال إلا ما يريده الله له، وليس الإنسان في حاجة إلى أن يعلم ما هو هذا الَّذي اختاره الله، إذ كان الله قد علم ما هو كائن، وهو المكون للأشياء، وهو الَّذي يختاره للإنسان (1).

ويتصل السماع بالنفس الإنسانية وله فيها عند ذى النون أثر بما تثيره العظة الحسنة والنغمة الطيبة من المعانى التي تؤدى بمن يستشعرونها إلى النعيم الدائم في مقعد صدق عند مليك مقتدر (2). وهذا يعنى بعبارة أخرى من عبارات ذى النون نفسه أن

السماع هو وارد الحق الَّذي يهيج القلب حتَّى يجد الله، وأن الذين ينصتون إليه بالحق يتحققون، والذين ينصتون إليه بالنفس يتزندقون (3). وعلى ما يذهب إليه ذو النون في السماع قد عقب الهجويرى بالإبانة عما يعنيه هذا

(1) حلية الأولياء، ج 9، ص 382.

(2)

حلية الأولياء، ج 9، ص 354.

(3)

كشف المحجوب ص 404.

ص: 5027

الصوفى من أن من يتبع الحق في هذا السماع يحصل له الكشف، على حين أن من يتبع نفسه الأمارة يقع له الحجاب ويعمد إلى التأويل (1).

ولما كانت العبادات عنصرًا هاما من العناصر التي يتألف منها سلوك العبد في طريقه إلى الله وكان الحج فريضة من فرائض الإسلام التي ينبغي أن يأخذ بها الانسان نفسه، وكان لهذه الفريضة ولغيرها من الفرائض الأخرى أثرها في رياضة النفس ومجاهدة

الحس وتصفية القلب، فقد تأول ذو النون مناسك الحج تأويلا يكشف عن معانيها الخفية وآثارها الروحية في حياة الذين يؤدون هذه المناسك سواء في علاقتهم بربهم أو بأنفسهم أو بأشباههم: فذو النون يتأول ويعلل الوقوف بالجبل لا بالكعبة بأن ذلك إنما كان لأن الكعبة بيت الله والجبل باب الله، وإن الله ليوقف القاصدين إليه والوافدين عليها بالباب يتضرعون.

ويتأول ويعلل الوقوف بالمشعر الحرام وكيف صار بالحرم، وذلك بأن الله لما أذن للوافدين عليه بالدخول إليه أوقفهم بالحجاب الثانى وهو المزدلفة، ولما طال تضرعهم أمرهم بتقديم قربانهم، وكان هذا القربان تطهيرا لهم من ذنوبهم التي كانت لهم حجابا من دون الله، وأذن الله لهم بالزيارة على طهارة. وأما أن الصوم مكروه أيام التشريق فذلك ما يؤوله ويعلله ذو النون بأنه راجع إلى

أن القوم إنما زاروا الله، وأنهم في ضيافته، ولا ينبغي للضيف أن يصوم عند من أضافه. ويتأول ذو النون التعلق بأستار الكعبة فيكشف عن المعنى الَّذي ينطوى عليه هذا التعلق فيرى أن مثل الرجل وقد تعلق بأستار الكعبة كمثل الرجل وقد كانت بينه وبين

أخيه جناية فتعلق بثوبه واستجدى له، وتضرع إليه ليهب له جرمه وجنايته (2): فكل أولئك تأويلات وتعليلات يقدمها ذو النون بين يدى مناسك الحج فيظهرنا من خلالها على تلك المعانى النفسية والأخلاقية السامية التي ينطوى عليها الحج، وعلى ما ينبغي أن يقر في نفوس المؤدين لمناسكه من تلك

(1) كشف المحجوب ص 404.

(2)

حلية الأولياء، ج 9، ص 270.

ص: 5028

المعانى، وإن ذا النون ليذكرنا هنا بما يصطنعه الإسماعيلية الباطنية من تأويل وتخريج للمعانى الخفية من الألفاظ الظاهرة، ومن يدرى فلعله كان متأثرا بهم، وإن كانت تلك مسألة لا تزال في حاجة إلى دراسة مقارنة على ضوء المعلومات التاريخية والمؤثرات

الداخلية والخارجية في عصر ذى النون وحياته ومذهبه.

ومهما يكن من شيء فإننا واجدون لدى ذى النون كلاما لعله أن يكون أقرب إلى كلام الإسماعيلية الباطنية فيما يذهبون إليه من حديث عن النجباء والدعاة والقائمين بالحجة والأئمة المستورين: فكل أولئك ألفاظ اصطلاحية إسماعيلية نجدها فيما تحدث به ذو النون عن هؤلاء الذين خلصت عبادتهم لله من عباد الله وهذا نصه: "إن لله (صفوة) خالصة من عباده، ونجباء من خلقه، وصفوة من برّيته، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها في الملكوت معلقة، أولئك نجباء الله من عباده، وأمناء الله في بلاده، والدعاة إلى معرفته، والوسيلة إلى دينه، هيهات بعدوا وفاتوا، ووارتهم بطون الأرض وفجاجها؛ على أنه لا تخلو الأرض من قائم فيها بحجته على خلقه لئلا تبطل حجج الله

أولئك قوم حجبهم الله عن عيون خلقه، وأخفاهم عن آفات الدنيا وفتنها

" (1).

2 -

وإذا تركنا هذه الناحية الروحية العامة لمذهب ذى النون الصوفى وما تشتمل عليه من عناصر عملية، وانتقلنا معه إلى الناحية التيوزوفية الخاصة لهذا المذهب، ألفينا له نظرية في المعرفة وأخرى في المحبة، وكلتاهما تنطويان على كثير من المعانى الفلسفية التي ظهرت لأول مرة في تاريخ التصوف الإسلامى عند ذى النون، وكان ظهورها عنده في صورة ساذجة بسيطة، ثم

أخذت هذه الصورة تدق وتتضح رويدًا رويدًا على أيدى من تعاقب بعده من الصوفية بصفة عامة، حتَّى تهيأ لها من الدقة والوضوح والتمام أكبر حظ عند الصوفية المتفلسفين، أو الصوفية الذين وقع التزاوج في مذاهبهم بين التصوف والفلسفة الإلهية وعلم الكلام من أمثال محيى الدين بن عربى، وعمر بن الفارض، ويحيى السهروردى المقتول

(1) حلية الأولياء، ج 9، ص 349.

ص: 5029

بصفة خاصة.

والمعرفة على ضروب ثلاثة: معرفة عامة المؤمنين، ومعرفة المتكلمين والحكماء، ومعرفة خواص الأولياء المقربين الذين يعرفون الله بقلوبهم.

وليس من شك في أن هذا الضرب الثالث من المعرفة هو عند ذى النون أرقى وأسمى ضروبها جميعًا، وذلك لأنها تتخذ موضوعها من الذات الألهية وما لهذه الذات من صفات الوحدانية، وهي لا تحصل عن طريق الكسب والتعلم والتصور والاستدلال، وإنما هي إلهام ونفث في الروع ونور يقذفه الله في سر العبد فيعرف العبد الله معرفة مباشرة لا واسطة فيها ويقينية لا شك يعتريها. ويدل على ذلك ما أجاب به ذو النون وقد سئل بم عرف العارفون ربهم؟ فقال ما نصه:"إن كان بشيء فبقطع الطمع والأشراف منهم على اليأس مع التمسك منهم بالأحوال التي أقامهم عليها، وبذل المجهود من أنفسهم، ثم إنهم وصلوا بعد إلى الله بالله"(1). ويدل عليه أيضًا ما أجاب به وقد سئل بم عرفت ربك؟ فقال: "عرفت ربى بربى، ولولا ربى ما عرفت

ربى" (2). هذا فيما يتعلق بمعرفة الله، أما فيما يتعلق بالمعرفة عامة فإن ذا النون يرى أنها تنال بأشياء ثلاثة: بالنظر في الأمور كيف دبرها، وفى المقادير كيف قدرها، وفى الخلائق كيف خلقها (3).

إذا كانت معرفة الانسان للذات الإلهية معرفة إلهامية على هذا الوجه الَّذي لا يدانيها فيه أي ضرب من ضروب المعرفة الأخرى سواء من حيث الموضوع والمنهج، فقد ترتب على ذلك أنَّه بغير هذه المعرفة الإلهامية المباشرة لا يمكن أن تعرف الذات الإلهية إلا من طريق صفات السلوب، إذ إن الذات الإلهية ليس كملثها شيء مما يتصوره وهم الإنسان. وهذا يعنى بعبارة أخرى

أن الذات الإلهية قد تفردت عند ذى النون بالوحدانية، كما يعنى أن نظريته في المعرفة متصلة اتصالًا وثيقًا بنظريته في التوحيد: فعنده أن قدرة الله

(1) حلية الأولياء، ج 9، ص 353.

(2)

الرسالة القشيرية، ص 142.

(3)

حلية الأولياء، ج 9، ص 354.

ص: 5030

في الأشياء بلا مزاج، وأنه ليس في السموات العلى ولا في الأرضين السفلى مدبر غير الله (1). وليس أدل على هذا مما يناجى به ذو النون ربه فيقول: "إلهى، ما أصغى إلى صوت حيوان، ولا حفيف شجر، ولا خرير ماء، ولا ترنم طائر، ولا تنعم ظل، ولا

دوى ريح، ولا قعقعة رعد، إلا وجدتها شاهدة بوحدانيتك، دالة على أنَّه ليس كمثلك شيء

إلهى لاتترك بينى وبين أقصى مرادك حجابًا إلا هتكته، ولا حاجزًا إلا رفعته، ولا وعرًا إلا سهلته، ولا بابًا إلا فتحته، حتَّى تقيم قلبى بين ضياء معرفتك، وتذيقنى طعم محبتك، وتبرد بالرضى منك فؤادى وجميع أحوالى، حتَّى لا أختار غير ما تختاره، وتجعل لى مقامًا بين مقامات أهل ولايتك، ومضطربًا فسيحا في ميدان طاعتك .. " (2)

على أن هذه النزعة التيوزوفية التي تظهر من خلال نظريتى ذى النون في المعرفة والتوحيد، والتى أجملناها هنا، قد عرض لها هذا الصوفى مفصلة، وعرضها في صورة شعرية ضمنها قصيدة طويلة نقف منها عند بعض أبياتها الدالة على منزعه التيوزوفى في

معرفة الذات الإلهية وإثبات الوحدانية لها. قال ذو النون:

رب تعالى فلا شئ يحيط به

وهو المحيط بنا في كل مرتصد

لا الأين والحيث والكيف يدركه

ولا يحد بمقدار ولا أمد

وكيف يدركه حد ولم تره

عين وليس له في المثل من أحد

أم كيف يبلغه وهم بلا شبه

وقد تعالى عن الأشباه والولد

من أنشأ قبل الكون مبتدعا

من غير شيء قديم كان في الأبد

ودهر الدهر والأوقات واختلفت

بما يشاء فلم ينقص ولم يزد

(1) حلية الأولياء، ج 9، ص 226.

(2)

حلية الأولياء، ج 9، ص 242 - 343.

ص: 5031

إلى أن يقول:

وجل في الوصف عن كل الصفات وعن

مقال ذى الشك والإلحاد والعند

من لا يجازى بنعمى من فواضله

ولم ينله بمدح وصف مجتهد (1)

3 -

وكما كان لذى النون نظرية في المعرفة وتوحيد الله فقد كان له أيضًا نظرية في المحبة: فهو يرى أن ثمة حبًا متبادلًا بين العبد المحب وبين الرب المحبوب، وأن هذا هو الحب الإلهى الَّذي ينبغي على من تحقق به ألا يتحدث عنه أو يبوح به لمن لا يعرفون من الحب غير معناه الحسى. ويرى ذو النون أن سبيل العبد إلى إقبال الرب عليه وحبه له هو أن يكون العبد صابرًا شاكرًا ذاكرًا، أما إذا كان العبد ساهيًا لاهيًا معرضًا عن ذكر الله فذلك علامة إعراض الله عنه (2). ويرى أيضًا أن الرب إذا آنس العبد بخلقه أوحشه من نفسه.

وإذا أوحشه من خلفها آنسه بنفسه (3).

والمتأمل فيما أثر عن ذى النون من أقوال منثورة وقصائد منظومة، يلاحظ أنَّه يصطنع لفظتى الحب والمحبة اصطناعًا صريحًا سواء في تعبيره عن إقبال الله على العبد أو إقبال العبد على الله، وأنه باستعماله لفظة الحب بنوع خاص إنما يشارك رابعة العدوية التي عاصرته، والتى تعد أول من استعمل هذه اللفظة استعمالًا صريحًا فيما كانت تناجى به ربها، أو فيما كانت تتحدث به عن علاقتها به وإقبالها عليه وإيثارها له. وعلى الرغم من أن كتب التراجم والطبقات قد تضاربت في إثبات الصلة بين ذى النون ورابعة ونفيها، فإننا لا نستطيع مع ذلك أن ننكر ما بين مذهبيهما في الحب الإلهى واستعمالهما للألفاظ الدالة عليه والمعبرة عنه من أوجه الشبه، ومهما يكن من شيء فإنه يتبين من بعض ما أورده أبو نعيم أن ذا النون قد لقى امرأة وصفهما بأنها صديقة دون أن يذكر اسمها، وأنه استمع إليها ونقل عنها كلامًا في تعريف المحبة ووصفها جرى على لسانها في ثنايا ما دار بينه وبينها من حوار، كما نقل عنها أبياتًا في تقسيم الحب إلى حبين: حب الهوى، وحب خليق بذات الله وحده (4).

(1) حلية الأولياء، ج 9، ص 388 - 389.

(2)

حلية الأولياء، ج 9، ص 343.

(3)

حلية الأولياء، ج 9، ص 343.

(4)

حلية الأولياء، ج 9، 348.

ص: 5032

ونحن إذا وقفنا عند هذه الأبيات التي تقول فيها مخاطبة ربها:

أحبك حبين: حب الهوى

وحبا لأنك أهل لذاكا

فأما الَّذي هو حب الهوى

فذكر شغلت به عمن سواكا

وأما الَّذي أنت أهل له

فكشفك للحجب حتَّى أراكا

فما الحمد في ذا ولا ذاك لى

ولكن لك الحمد في ذا وذاكا.

وإذا عرفنا أن هذه الأبيات تنسب إلى رابعة انتهينا إلى أن ذا النون إنما يتحدث هنا عن هذه الزاهدة العابدة العاشقة وعن حبها لله دون أن يذكر اسمها.

وكما كانت رابعة تذهب في حبها الإلهى مذهبًا قوامه الإقبال على الله، وإيثاره على كل من عداه، والتنزه عن عبادته خوفًا من ناره أو طمعًا في جنته، بحيث كانت غايتها القصوى هي أن ينكشف عن عين قلبها عين الحجاب، فتستمتع بما يبيحه الله لها من مطالعة وجهه الكريم، فكذلك كان ذو النون يذهب في حبه هذا المذهب الَّذي جعله يتخذ من الله غايته ومعقد رغبته: فقد

كانت رابعة تناجى ربها بقولها "إلهى، إذا كنت أعبدك رهبة من النار فاحرقنى بنار جهنم، وإذا كنت أعبدك رغبة في الجنّة فاحرمنيها، وأما إذا كنت أعبدك من أجل محبتك فلا تحرمنى يا إلهى من جمالك الأزلى". وكانت تتحدث عن حبها الإلهى فتقول إنها لم تكن تعبد الله إلا حبًا له وشوقًا إليه. وهذا هو ما يعبر عنه ذو النون تعبير وإن اختلف في بعض تفاصيله عما ذهبت إليه رابعة، فهو يظهرنا من غير شك على أن الفكرة الرئيسية التي انطوى مذهبه في الحب عليها، والغاية القصوى التي كان يرمى في هذا الحب إليها، إنما هي حب الله لذاته، والإقبال عليه ابتغاء لوجهه، دون أن يكون له من وراء ذلك أي مطمع

آخر، كما يدل على هذا كله قوله في هذه الأبيات:

أموت وما ماتت إليك صبابتى

ولا رويت من صدق حبك أوطارى

ص: 5033