الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعين أي بلد من بلدان مصر كانت فيها الوفاة، وذلك على نحو ما فعل ابن خلكان (1)، على حين يذكر البعض الآخر أن تلك الوفاة كانت بالجيزة على نحو ما فعل الشعرانى إذ يقول:"لما توفى ذو النون بالجيزة حمل في قارب مخافة أن ينقطع الجسر من كثرة الناس مع جنازته .. "(2) ويروى الهجويرى أنَّه في ليلة وفاة ذى النون رأى سبعون رجلًا الرسول في النوم وهو يقول: "جئت لألقى ذا النون خليل الله"، وأنه بعد أن فاضت روحه وجد مكتوبًا على جبينه: "هذا حبيب الله الَّذي مات في حب
الله" (3). ومن الكرامات التي يرددها كتاب الطبقات لذى النون والكثير غيره من الصوفية ما يذكرونه من أنَّه لما مات ذو النون أظلت الطير الخضر جنازته ترفرف عليه إلى أن وصل إلى قبره، ولما دفن غابت، وعندما رأى أهل مصر ذلك ندموا على ما فرط منهم في حق ذلك الولى، واستغفروا مما أنكروه عليه من ولايته، وما ألحقوه به من الأذى في حياته، وأجلوه بعد ذلك واحترموا قبره.
أما أين دفن ذو النون المصري، فقد ذكر ابن خلكان أنَّه دفن بالقرافة الصغرى، وأن على قبره مشهدًا مبنيًا، وأن في المشهد أيضًا قبور جماعة من الصالحين (4). وذكر المناوى أن ذا النون قد دفن بالقرافة، وأن قبره بها ظاهر مقصود بالزيارة وعليه أنس ومهابة، وأن هذا القبر بالقرب من قبر عقبة بن عامر الجهنى الصحابى، وأنه يقال إن ذا النون وعقبة وعمرو بن العاص في
قبر واحد (5).
-2 -
حياة ذى النون الروحية
على أن ذا النون المصري كان صوفيًا من أصحاب الرياضات والمجاهدات، ووليًّا من أرباب الأذواق والمشاهدات؛ وقد كان له بحكم هذا كله حياة روحية تأتلف فيها العناصر العلمية والعملية التي يتألف منها مذهبه
(1) وفيات الأعيان، ج 1، ص 382.
(2)
الطبقات الكبرى، ج 1، ص. 77
(3)
كشف المحجوب (الترجمة الانكليزية لنيكلسون)، ص 100.
(4)
وفيات الأعيان، ج 1، ص 280 - 281.
(5)
الكواكب الدرية ج 1، ص 32.
الصوفى. ولهذا كان لابد لنا من أن نعرض لتلك العناصر العلمية والعملية حتَّى نتبين من خلالها آية حياة روحية كان يحياها الرجل فيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين أشباهه من بنى جنسه، وبحيث نقف على صورة واضحة لما تلقاه ذلك الصوفى من علم وما أخذ به نفسه من عمل وما لقيه في حياته وفى مذهبه وعقيدته من نعى الناعين وإرجاف المرجفين، وما انتهى إليه أمره من انجلاء غمرة الشك عنه فإذا هو يتجلى على حقيقته في حياته وبعد مماته وليًّا من أولياء الله، ومحبًا أفنى حياته في حب الله، وعارفًا سلك سبيل الحق المؤدية إلى معرفة الله، حتَّى أن الذين سعوا به وشنعوا عليه لدى الخليفة المتوكل أولًا، عادوا فعرفوا له قدره، وأكبروا شأنه، وأقروا بولايته، واحترموا قبره بعد وفاته.
ولعل فيما كتبه أصحاب التراجم والطبقات عن ذى النون معرفين به ومكبرين من شأنه ما يعطينا صورة عامة لما كانت تشتمل عليه الحياة الروحية لذلك الصوفى المصري العظيم: فقد استهل أبو نعيم الأصبهانى ترجمته له بقوله: "العلم المضى، والحكم
المرضى، الناطق بالحقائق، الفاتق للطرائق، له العبارات الوثيقة، والإشارات الدقيقة، نظر فعبر، وذكر فازدجر، أبو الفيض ذو النون بن إبراهيم المصري رحمه الله تعالى (1)" وذكر المناوى بعض ما ذكره الأصبهانى من الخصائص الروحية لحياة ذى النون، وزاد عليه أشياء لم يذكره الأصبهانى، ولها قيمتها في الإبانة عن بعض الخصائص الروحية الأخرى، فضلًا عما تبينه من منزلة ذى النون في تاريخ التصوف المصري وفلسفته الروحية، وفى هذا يقول المناوى: "
…
ذو العبارات الوثيقة، والإشارات الدقيقة، والصفات الكاملة، والنفس العالمة العاملة، والهمم الجلية، والطريقة المرضية، والمحاسن الجزيلة المتبعة، والأفعال والأقوال التي لا تخشى منها تبعة، زهت به مصر وديارها، وأشرق بنوره ليلها ونهارها" (2)؛ وأبان القشيرى عن مكانة ذى النون العلمية
والتصوفية في عصره فقال عنه: "فائق
(1) حلية الأولياء، ج 9، ص 331 - 332.
(2)
الكواكب الدية، ج 1، ص 223.
هذا الشأن، وأوحد وقته علمًا وورعًا وحالًا وأدبًا (1) ".
فإذا فصلنا ما أجملته، وأشارت إليه أقوال المتقدمين هذه، قلنا إن ذا النون المصري قد كانت له ثقافتان: إحداهما ثقافة علمية دينية، والأخرى ثقافة علمية دنيوية، وإن لهاتين الثقافتين أثرهما في تكوين حياته الروحية الخالصة.
أما ثقافته العلمية الدينية فتتبين إذا عرفنا أنَّه تلقى علوم الشريعة والحقيقة عن بعض الأساتذة حينًا، وعن طريق الرواية حينًا آخر. على أننا لا نعرف من أساتذته إلا اثنين: أحدهما يعرف باسم إسرافيل، والآخر يعرف باسم شقران العابد. وقد ذكر السراج الطوسى إسرافيل هذا بما يبين أنَّه كان أستاذًا لذى النون فقال ما نصه:"سمعت الوجيهى يقول: سمعت الطيالسي الرازي يقول: دخلت على إسرافيل أستاذ ذى النون رحمهما الله وهو جالس ينكت بأصبعه على الأرض، ويترنم مع نفسه بشيء، فلما رآني قال: أتحسن تقول شيئًا، قلت: لا، قال: أنت بلا قلب (2) ". وقد ذكر جامى إسرافيل هذا باسم إسرافيل المغربى أستاذ ذى
النون. أما شقران العابد فقد كان شيخًا لذى النون في الطريقة (3).
وقد عاش ذو النون في عصر حفل بكثرة من ظهر فيه من أئمة الفقه وعلماء الحديث ومشايخ الصوفية: فاتصل بأولئك وهؤلاء، وتأثر بهم، وأخذ عنهم، وكان لهذا كله ثمراته اليانعة ونفحاته الرائعة في حياته الروحية: فهو قد اتصل بالإمام أحمد ابن حنبل واجتمع به، كما اجتمع به غيره من مشايخ الصوفية الذين كان منهم بشر الحافى والسرى السقطى ومعروف الكرخى (4)؛ وهو - كما يقول عنه الذهبي في تاريخه الكبير - قد روى عن مالك والليث وابن لهيعة والفضيل بن عياض وابن عيينة ومسلم
(1) الرسالة القشيرية، ص 8.
(2)
اللمع في التصوف، ليدن 1914، ص 288.
(3)
وفيات الأعيان، ج 1. ص 281.
(4)
كشف المحجوب ص 117.
الخواص وغيرهم. وروى عنه الحسن ابن مصعب النخعي وأحمد بن صبح الفيومى والطائى وغيرهم (1)؛ وهو يعد فوق هذا كله في جملة من روى الموطأ عن الإمام مالك (2) " فكل أولئك كان خليقًا أن يجعل من ذى النون عالمًا عاملا سواء من الناحيتين الشرعية والتصوفية، أو مفتيًا في العلوم على حد قول مسلمة بن قاسم (3). على أن الأحاديث التي رواها ذو النون لم تكن
دائمًا موضع ثقة الذين أشاروا إليه أو تحدثوا عنه: فمن ذلك ما قاله الجوزقانى من أن ذا النون كان زاهدًا عالمًا ضعيف الحديث، وما قاله الدارقطنى من أنَّه روى عن مالك الأحاديث فيها نظر (4).
على أن ذا النون، وإن كان عالمًا بالحديث وراويًا له، فهو لم يشتغل به إلى الحد الَّذي جعل منه شغله الشاغل؛ بل لم يلبث أن انصرف عنه إلى الاشتغال بنفسه. وليس أدل على ذلك من أنَّه سئل لم لا يشتغل بالحديث، فأجاب بقوله:"للحديث رجال، وشغلى بنفسى استغرق وقتى (5) ".
ولذى النون رأى في الحديث وأهله، وفى الفقه وأربابه: فهو يرى أن الحديث من أركان الدين، وأنه لولا نقص دخل على أهل الحديث والفقه لكانوا أفضل الناس في زمانهم: فهم عنده قد بذلوا علمهم لأهل الدنيا يستجلبون به دنياهم، فحجبوهم واستكبروا عليهم، وافتتنوا بالدنيا لما رأوا حرص أهل العلم والمتفقهين عليها، فخانوا الله ورسوله، وصار إثم من تبعهم في
عنقهم جعلوا العلم فخًا للدنيا، وسلاحًا يكسبونها به، بعد أن كان سراجًا للدين يستضاء به (6). وأعجب ما كان يعجب له ذو النون هو من هؤلاء العلماء إذ يخضعون للمخلوقين دون الخالق، وهم يدعون أنهم أعلى درجة من جميع الخلائق (7). وأكبر الظن أن يكون ما رآه ذو النون في أهل الحديث والفقه وما
(1) الكواكب الدرية ج 1، ص 223.
(2)
وفيات الأعيان، ج 1، ص 280.
(3)
الكواكب الدرية، ج 1، ص 223.
(4)
الكواكب الدرية، ج 1، ص 223.
(5)
الطبقات الكبرى، ج 1، ص 79.
(6)
الطبقات الكبرى، ج 1، ص 79.
(7)
الطبقات الكبرى، ج 1، ص 79.
نسبه إليهم هنا سببا من الأسباب التي أحنقت هذا الفريق من العلماء عليه فجعلوا يشنعون عليه ويسعون به لدى الخليفة من ناحية، ولدى الرأى العام في مصر من ناحية أخرى، فإذا هو يمتحن ويؤذى، ويتهم في عقيدته.
وكما كان العصر الَّذي عاش فيه ذو النون حافلًا بأرباب العلم من الفقهاء والمحدثين الذين أخذ عنهم، فقد كان كذلك عصرًا مزدهرًا من الناحية الروحية مشرقا بكثير من الشخصيات الصوفية التي طبعت روح العصر بطابعها، والتى كان من بين أصحابها
أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامى المتوفى سنة 261 هـ. وأبو محمد سهل بن عبد الله التسترى المتوفى سنة 273 هـ أو 283 هـ وقد لقى ذا النون بمكة سنة خروجه إلى الحج، وأبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز المتوفى سنة 277 هـ وقد صحب ذا النون، وإسحق بن إبراهيم السرخسى، وقد قص عن ذى النون قصة روى فيها أنَّه سمع ذا النون وفى يده الغل وفى رجليه القيد، وهو يساق إلى المطبق، والناس يبكون من حوله، وهو يقول: هذا من مواهب الله تعالى، ومن عطاياه، وكل فعاله عذب حسن طيب، ثم أنشد من الخفيف:
لك من قلبى المكان المصون
…
كل لوم عليَّ فيك يهون
لك عزم بأن أكون قتيلا
…
فيك والصبر عنك ما لا يكون (1)
وأبو يعقوب يوسف بن الحسين الرازي المتوفى سنة 304 هـ، وقد صحب ذا النون المصري وأبا تراب النخشبى، ورافق أبا سعيد الخراز: فكل أولئك وكثير غيرهم كانوا من كبار الصوفية الذين عاصروا ذا النون، واتصلوا به ألوانًا مختلفة من الاتصال،
وكان لهم في حياته وفى مذهبه آثار لها قيمتها العلمية والعملية، كما كان له في أنفسهم منزلة كبرى ومكانة عظمى من الناحية الروحية، وليس أدل على هذه المكانة وتلك المنزلة مما يروى عن سهل بن عبد الله التسترى من أنَّه أقام سنين لا يسند ظهره للمحراب ولا
(1) وفيات الأعيان، ج 1، ص 281.
يتكلم، فلما كان ذات يوم بكى واستند وتكلم، وبالغ في إبراز المعانى العجيبة والاشارات الغريبة، فلما سئل في ذلك، أجاب بقوله: كان ذو النون بمصر حيا، فما تكلمت ولا استندت إجلالًا له، والآن قد مات، فقيل لى: تكلم فقد أذنت (1).
فإذا تركنا العناصر العلمية الشرعية والعلمية التصوفية التي يمكن أن يكون قد أفادها ذو النون ممن عاصرهم من أصحاب الشريعة وأرباب الحقيقة، ووقفنا عند العناصر العملية التي كان يأخذ هو بها نفسه. وكانت تعمل هي عملها في نفسه، وكان لها أثر في تصفية قلبه من شوائب حسه، ألفينا حياته الروحية الخاصة حافلة بما يظهرنا على أنَّه لم يكن عالمًا فحسب، ولا آخذًا للعلم عن غيره فحسب، وإنما كان فوق ذلك عاملًا على أن يحيا حياة روحية قوامها التوبة إلى الله والزهد في الدنيا والصبر على المحنة والرضا بكل ما تقضى به مشيئة الله والتوكل على الله والتسليم له والإقبال عليه، وما إلى ذلك من مقومات الحياة الروحية الحقة التي ينبغي أن يحياها الصوفى المتحقق، والتى سنتبينها معه في موضعها من الحديث عن تصنيفه للمقامات والأحوال، وكشفه عن حقيقة المثل الأعلى الَّذي يجب أن يحققه الصوفى المتحقق في القول والفعل سواء فيما بينه وبين ربه أو فيما بينه وبين نفسه أو فيما بينه وبين أشباهه. وحسبنا هنا أن نتبين كيف اتجه ذو النون في حياته إلى هذه الوجهة الروحية، وما هي بعض مظاهر تلك الحياة عنده: فقد روى المترجمون وأصحاب الطبقات على لسان ذى النون نفسه قصة لعلها تظهرنا من خلالها على أنَّه كان يحيا أول الأمر حياة إنسانية كتلك التي يحياها الناس جميعًا، يخضعون فيها لسلطان نفوسهم، وتفق فيها الشهوات والملذات والمنافع المادية العاجلة نفوسهم، ولكنه ما لبث أن عرض له عارض وبدا له باد، فإذا هو يتوب، وقصارى هذه القصة أن ذا النون سئل عن سبب توبته، فأجاب بقوله: خرجت من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق في بعض الصحارى، ففتحت عينى، فإذا أنا بقنبرة عمياء سقطت من
(1) اللمع: ص 18؛ الكواكب الدرية، ج 1، ص 224.
وكرهًا على الأرض، فانشقت الأرض، فخرجت منها سكرجتان: إحداهما ذهب، والأخرى فضة، وفى إحداهما سمسم وفى الأخرى ماء، فجعلت تأكل من هذا وتشرب من هذا فقلت: حسبى، قد تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلنى (1).
والمتأمل في قوله: "حسبى، قد تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلنى"، يلاحظ أنَّه قد تاب وأخذ نفسه بالرياضة والمجاهدة والوقوف على باب المحبوب الحقيقى مجتازًا كل العقبات ومتنقلًا بين جميع المقامات حتَّى ظفر برضا المحبوب الحقيقى عنه وقبوله له. والذي يعنينا هو أن نلاحظ أن ذا النون ما فتئ على هذه الحال من رياضة نفسه ومجاهدتها حينا، ومن اتصاله بالناس وإقباله على نفوسهم حينا آخر، يبصرهم بما فيهم من عيوب، ويدعوهم إلى التوبة عما اقترفوا من ذنوب، سواء أكان ذلك في
الحلقات التي كان يقيمها ويتحدث فيها عن علم الباطن وسلوك طريق الله، أم في أي مكان في أي بلد مما حل به من البلدان.
وليس من شك في أن حياة ذى النون على هذا الوجه قد جعلت منه إنسانا كملت فيه الإنسانية بحيث لم يكن يؤثر بعلمه وخيره أحدا من دون أحد، وإنما المسلمون كلهم لديه سواء، لا يصدر في سلوكه معهم إلا عن حب عميق لهم، وعطف وثيق عليهم. وهو في هذا إنما كان - على حد قول الهجويرى- متشبها برسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذ على الرغم من إيذاء الكفار له لم يكن يفتر عن دعائه قائلًا:"اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون"(2)
ولذى النون كرامات كثيرة عددتها وأفاضت فيها كتب الطبقات، وكلها يجعل منه وليًّا من أولياء الله الَّذي أجرى على يديه الخوارق العجيبة.
ولسنا هنا بصدد ذكر هذه الكرامات أو تفصيل القول فيها، ويكفى أن نشير إلى أن كلًّا من أبي نعيم الأصبهانى في حلية الأولياء، والهجويرى في كشف المحجوب، والشعرانى في الطبقات الكبرى، والمناوى في الكواكب الدرية، وفريد الدين العطار في تذكرة الأولياء،
(1) وفيات الأعيان، ج 1، ص 280.
(2)
كشف المحجوب، ص 101.
وكثير غيرهم من المؤرخين والمترجمين قد أفاض في بيان تلك الكرامات إفاضة لعلها تجعلها أقرب ما تكون في بعض الأحيان إلى الأساطير الخيالية منها إلى الحقائق الواقعية التي يمكن اخضاعها لقوانين العلم وتفسير العقل.
على أننا نجمل هنا القول في تلك الكرامات التي تنسب إلى ذى النون بذكر ما كان يقال من أن روحه الشريفة كانت من القدرة بحيث تستطيع أن تدبر أجسامًا متعددة. ولعل فيما فسر به ابن عربى، وهو الصوفى المتفلسف أو الفيلسوف المتصوف، تدبير
الروح الواحدة للأجسام المتعددة ما يمكننا من فهم هذا الضرب من الكرامة فهما إن لم يكن علميًا من كل الوجوه فهو على الأقل مقارب له من بعضها، أو مقرب لفهمها فهمًا علميًا: فقد ذهب ابن عربى إلى أن الروح الواحد يدبر أجساما متعددة إذا كان له الاقتدار على ذلك، وأن ذلك إنما يكون في الدنيا للولى بخرق العادة، وأن نشاة الإنسان تعطى ذلك في الآخرة، وقد قال ابن عربى عن ذى النون المصري وقضيب البان إنهما ممن لهما هذه القوة يدبران بها الأجسام المتعددة، كما يدبر الروح
الواحد سائر أعضاء البدن من يد ورجل وسمع وبصر، وكما تؤاخذ النفس بأفعال الجوارح على ما وقع منها فأى شيء وقع من هذه الأجساد التي تدبرها روح واحدة، فإنما يسأل عنه ذلك الروح الواحد، وإن كان عين ما يقع من هذا الجسم غير ما يقع من
الآخر (1)
على أن في حياة ذى النون الروحية جانبا آخر يختلف كل الاختلاف عن جانبها العلمي والعملى بالمعنى المدينى الَّذي وقفنا عليه حتَّى الآن، وأعنى بهذا الجانب الآخر ما يظهرنا عليه بعض الذين ترجموا له وتحدثوا عنه وعن علمه، فإذا هو عندهم من العلماء الواقعيين المشتغلين بصناعة الكيمياء تارة، ومن الحاذقين للغة السريانية، يقرؤها ويترجم عنها، ويقرأ ويترجم غيرها من النقوش التي كانت توجد في بعض برابى مصر في زمانه تارة أخرى: فالمسعودى الَّذي توفى بعد
(1) الكواكب الدرية: ج 1، ص 223 - 224.
ذى النون بمائة سنة، يحدثنا بأنه جمع معلوماته من أهل إخميم عندما زار هذا البلد، وهو يروى عنهم أن أبا الفيض ذا النون المصري الأخميمى الزاهد كان حكيما سلك طريقًا خاصًا، واتخذ في الدين سيرة خاصة، وكان من المعنيين بحل رموز البرابى في إخميم، كثير التطواف بها، وأنه وفق إلى حل كثير من الصور والنقوش المرسومة عليها؛ ثم يذكر المسعودى ترجمة لطائفة من
هذه النقوش التي ادعى ذو النون أنَّه قرأها وحلها (1).
وابن النديم يحدثنا عن ذى النون فيقول إنه كان متصوفًا؛ وله أثر في الصنعة، وكتب مصنفة، ومن كتبه: كتاب الركن الأكبر، وكتاب الثقة في الصنعة (2). ويتحدث القفطى وهو المترجم لحياة العلماء والحكماء والأطباء والفلاسفة عن ذى النون حديثا نتبين منه أن ذا النون كان من طبقة جابر بن حيان في انتحال صناعة الكيمياء، وتقلد علم الباطن، والأشراف على كثير من
علوم الفلسفة، وأنه كان كثير الملازمة لبربا بلدة إخميم، فإنها بيت من بيوت الحكمة القديمة، وفيها التصاوير العجيبة، والمثالات الغريبة، التي تزيد المؤمن إيمانًا والكافر طغيانًا، ويقال إنه فتح عليه علم ما فيها بطريق الولاية، وكانت له كرامات (3). ومن هذا القبيل ما يذكره كل من أبي نعيم الإصبهانى (4) وعبد الرءوف المناوى (5) من أن ذا النون قد روى عن نفسه أنَّه قرأ في بعض برابى مصر بالسريانية كلاما تدبره فإذا فيه:"يقدر المقدرون والقضاء يضحك". وقد حاول الأستاذ نيكلسون (6) أن يعلل ما يقال في هذا الجانب من جوانب حياة ذى النون الروحية من كثرة عكوف هذا الصوفى التيوزوفى على دراسة النقوش المصرية القديمة المكتوبة على المعابد، وحل
(1) مروج الذهب، طبعة باربية دى مينار، ج 2، ص 401.
(2)
الفهرست لابن النديم، الرحمانية، ص 503 - 504.
(3)
إخبار العلماء بأخبار الحكماء، القاهرة 1326 هـ، ص 127.
(4)
حلية الأولياء، ج 9، ص 339.
(5)
الكواكب الدرية، ج 1، ص 325.
(6)
نظرة تاريخية في أصل التصوف وتطوره (الترجمة العربية للدكتور أبو العلا عفيفى: في التصوف الإسلامى وتاريخه، القاهرة 1947. ص 10 - 12).
رموزها، تعليلا له قيمته من الناحيتين التاريخية والعمية، ولاسيما من ناحية إظهار الصلة التي توجد بين التصوف باعتباره علمًا للباطن وبين غيره من العلوم الخفية كالكيمياء والسحر والطلسمات وما إليها مما كان له شأن عظيم في تاريخ الحضارة المصرية منذ أقدم العصور وعلى تعاقبها.
ومهما يكن من أمر اشتغال ذى النون بتلك العلوم الخفية، فإن أخص ما كانت تمتاز به حياته الروحية من خصائص هو أنَّه كان صوفيًا متحققا اشتغل أكثر ما اشتغل بنفسه وبما فتح عليه فيها من أبواب العلوم اللدنية والمعارف الإلهامية، وما أشرقت به
جوانبها من أنوار المحبة الإلهية والمعرفة القدسية، وهذا هو الَّذي جعل له مكانة ممتازة في تاريخ التصوف المصرى فضلًا عن تاريخ التصوف الإسلامى: فقد قال عنه جامى إنه رأس طائفة الصوفية، وإن الكل قد أخذ عنه وانتسب إليه، وأن المشايخ كانوا قبله، ولكنه كان أول من فسر إشارات الصوفية، وتكلم في هذا الطريق (1). وقال عنه أبو المحاسن إنه كان أول من تكلم في مصر في الأحوال ومقامات أهل الولاية (2).
ويلوح مما يذكره بعض المؤرخين أن أهل مصر في زمان ذى النون لم يكن لهم بمثل ما اشتغل به من علوم الصوفية سابق عهد، أو أنهم كانوا على أقل تقدير عند أول عهدهم بمثله، الأمر الَّذي ترتب عليه أن ثأروا به وحنقوا عليه ونسبوه إلى الزندقة.
فمن الشواهد على ذلك ما يرويه صاحب الكواكب الدرية عن ابن يونس من أن هذا الأخير قال عن ذى النون إنه امتحن وأوذى لكونه أتاهم بعلم لم يعهدوه، وإنه كان أول من تكلم بمصر في ترتيب الأحوال، وفى مقامات الأولياء فحول الرجال، فقال جهلة
المتفقهة هو زنديق (3). ومنها ما يذ كره السيوطي من أن أهل مصر قد أنكروا على ذى النون، وقالوا إنه أحدث علمًا لم تتكلم فيه الصحابة، وسعوا به إلى الخليفة المتوكل، ورموه عنده بالزندقة (4) ومنها ما يورده المناوى من
(1) نفحات الأنس، ص 26 وما بعدها.
(2)
النجوم الزاهرة، ج 1، ص 753.
(3)
الكواكب الدرية، ج 1، ص 223.
(4)
حسن المحاضرة، ج 1، ص 218.
أن أحد تلاميذ ذى النون وهو يوسف ابن الحسين الرازي خرج ذات يوم من لدن أستاذه فوجد فقهاء إخميم تعصبوا ونزلوا إلى زورق ذاهبين إلى سلطان مصر ليشهدوا بكفره فانقلب الزورق والناس ينظرون (1): فاشتغال ذى النون بهذا العلم الباطنى الَّذي كان جديدًا وقتئذ على أهل مصر بصفة عامة وفقهائها بصفة خاصة وفقهاء إخميم بصفة أخص، مضافًا إليه ما سبق أن أشرنا إليه آنفا من رأى ذى النون في أهل الحديث والفقه، ونعيه عليهم، وما نسبه إليهم من النقص الَّذي دخل عليهم، ومن الفتنة بالدنيا، واتخاذهم من العلم فخا للدنيا، وسلاحا يكسبونها به، وكل أولئك كان دافعا لهم إلى أن يشنعوا عليه، ويرجفوا به، ويغروا
السلطان باضطهاده وإيذائه، بل بقتله.
وإذا كان ذلك كذلك، فقد استدعى الخليفة المتوكل ذا النون من مصر إلى بغداد، فحمل إليه في جماعة مغلولا مقيدا تمهيدا لقتله، لكنه لم يكد يمثل بين يدى الخليفة حتَّى تكلم واعظًا، ولم يكد يتكلم ويعظ حتَّى أعجب به الخليفة فإذا هو يبكى ويطلقه ورفقته، ويرد مكرمًا إلى مصر، ويقول:"إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم" وذلك على حد رواية المناوى (2) أو يقول: "إذا ذكر أهل الورع فحيهلا بذى النون"، وذلك على حد رواية ابن خلكان (3).
أما كيف وقع ذو النون من نفس المتوكل هذا الموقع الحسن، وأى كلام تكلمه ذو النون فملك به على المتوكل نفسه، فذلك ما يحدثنا عنه أبو نعيم الأصبهانى (4) حديثًا مفصلًا يعطينا صورة لخلق ذى النون في سلوكه ومحافظته على كرامته مع أصحاب
السلطان من ناحية، ويعطينا صورة أخرى لما يراه ذو النون في الزهاد والصوفية من "أن أبدانهم دنيوية، وقلوبهم سماوية، وأنهم هم الذين قد سكنت لهم النفوس، ورضوا بالفقر والبؤس، واطمأنت جوارحهم على
(1) الكواكب الدرية: ج 1، ص 226 - 227.
(2)
الكواكب الدرية. ج 1، ص 223.
(3)
وفيات الأعيان، ج 1، ص 82 - 182.
(4)
حلية الأولياء، ج 9، ص 733 - 833.