الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه الحياة الزاهرة التى عاشتها سامراء لها شأن خاص بالنسبة لمن يريد أن يدرس أصول الفن الإسلامى. على أن الناس لسوء الحظ أخذوا منذ بضعة قرون يستخدمون أطلالها محجرًا يستمدون منه مواد البناء فعجلوا بفعل الزمن فيها، ولم يبق آخر الأمر حجر على حجر. بيد أن الحفائر الحديثة كشفت من المعلومات عن معالم البناء والزخرفة ما يكفى لإعطاء فكرة واضحة كل الوضوح عن جمال الحضارة الإِسلامية التى كانت تفئ على العالم من بهائها آنئذ، والتى تمثلت فى تلك المدينة العباسية التى ترجع إلى القرن التاسع الميلادى.
وأهم الآثار التى لا تزال باقية:
فى جنوب المدينة القديمة على ضفاف دجلة يقوم المسجد الجامع الذى شيده المتوكل هو وقصر الخليفة البديع
(بلكوارى) القريب منه فى الشمال، ويقابله على الضفة اليمنى لدجلة قلعة منيعة (قصر العاشق) ما زالت أطلالها الرائعة تشاهد إلى اليوم، وقد شيدت بعد بلكوارى بقليل. وثمة أثر باق من ضريح (قبة السُكبكِية) يقع على مسيرة نصف ميل تقريبًا جنوبى هذه القلعة.
وما زالت تقوم بقرب أطلال مدينة الخلفاء مدينة سامرّاء ذات القبة الذهبية التى تشرف على الصحراء، وفيها بعض مشاهد الشيعة المقدسة.
وقد شيد مسجد المتوكل الجامع بين عامى 846 و 852 م، وهو بناء مربع عظيم له جدران عالية من الآجرّ تحميها أبراج مستديرة، وفى داخله إلى الجنوب الحرم، وفيه خمسة وعشرون صحنا تتجه إلى القبلة، ثم ثلاث غرف صغيرة فى الجوانب الأخرى. وكانت العمد الرخامية تحمل كل هذه الصحون التى يزيد ارتفاعها على ثلاثين قدمًا؛ وكذلك كان المحراب يقوم على جوانبه زوجان من العمد الرخامية، ولعل قبلة الصلاة كانت مغطاة بالخشب المنقوش الثمين؛ وكانت الأحرام الأربعة تفتح على باحة كبيرة فى وسطها نافورة جميلة؛ وكانت المنارة (ملوية) تقوم فى الخارج لصق الجدار الشمالى للمسجد،
وهى أشبه ببرج بابلى ضخم على قاعدة مساحتها 100 قدم مربعة وقد التف حولها من الخارج درج حلزونى؛ وكان هذا البرج يشاهد على مسيرة يوم أو أكثر.
وتقوم خرائب بلكوارى، وهو قصر الخليفة، على مربع من الأرض مترامى الأطراف طول كل من أضلاعه أكثر من ألف يردة؛ وما زالت تقوم فى الواجهة الغربية ثلاثة أقواس بنيت من الآجر (الجَمَل) وهى الآثار الوحيدة التى بقيت إلى اليوم، وكان المتوكل قد بنى هذا القصر للأمير المهتدى باللَّه.
وهذه الأقواس الثلاثة التى تواجه النهر هى والمجلس والإيوان تنفتح على الوادى فى رحابة وسعة، وتهبط الشرفات والنافورات منها على درجات كأنها الشلالات؛ وتقع خلفها ثلاثة صحون داخلية تتلوها غرف على هيئة الصليب: غرف العرش، وغرف صغيرة كثيرة، ومخادع خاصة ذات حمامات توافرت لها أسباب الترّف. وكان فى الشرق حديقة مربعة كبيرة فيها مساقط للمياه تكتنفها جدران ذات عمد مربعة تفتح عليها جواسق صغيرة زينت أبدع زينة. وكان فى الشمال جدول يصلون إليه بدرج، وفيه كهوف وأرصفة نحتت فيه؛ ثم كان خلف هذا كله مجموعة بيوت تضم "الحريم"، وبيوت لرجال البلاط، ومسجد صغير، وثكنات كبيرة إلخ لحرس الخليفة وفرسانه.
وقد رتبت شتى العناصر المتباينة التى كان يتألف منها هذا القصر العظيم ترتيبًا متناسقًا فبدت جميلة التركيب روعى فى تخطيطها أن تكون واسعة النطاق على هيئة " L" بحيث ينتهى محورها الطويل العمودى على النهر بالغرف الثلاث المعقودة التى فى الواجهة، وقد زينت زينة بديعة بآيات النحت والفسيفساء. على أن الخطة العامة لهذا القصر كانت من طراز مشهور مأثور فى العمارة الإيرانية. وكان حول قصر الخليفة بيوت فخمة بديعة الزينة، ذلك أن جميع منازل المدينة تقريبًا بنيت على هذا النمط، يستوى فى ذلك منازل أغنى أغنيائها وأفقر فقرائها وكانت المنازل يقتصر
فيها على دور أرضى يتألف من مجموعة من باحات داخلية ذات نافورات يفتح عليها الإيوان والغرف التى يقضى فيها المرء نهاره؛ وظل هذا الطراز منتشرا فى بعض بلاد الشرق إلى يومنا هذا؛ وتزيين البيت من الداخل سمة لها شأنها، فقد كانت الأفاريز العالية المنقوشة والإفريز المزخرف، وهو موجود فى معظم البيوت، تزين على الدوام الغرف العامة وأحيانًا غرف المنزل كله؛ وكانت الباحات تزخرف أيضًا فى بعض الأحيان، بيد أن الجدران الخارجية لم تكن تزين أبدًا. وكانت النقوش الزخرفية فى قصر سامراء ومنازلها تستوى فى براعة الصنع، وهى تدلنا على عظم تقدم الفن فى هذا العهد، وتمتد الأفاريز المحكمة بحيث تدور بالغرف من جميع جهاتها على ارتفاع ثلاث أقدام، وتعلوها المضاجع المزخرفة (وتسمى بالفارسية "تكجه")؛ أما إطارات الأبواب والنوافذ فمزخرفة أيضا، وقد زينت السقوف بالطنف والأفاريز؛ وجل هذه الزخارف بالجص، وقد تفنن صانعوها فى رسمها وصنعها وزينوها أحيانًا بالصور.
وتتفاوت الرسوم تفاوتًا كبيرًا، فبعضها بسيط له عروق كبيرة وصناعته خشنة إلى حد ما، والبعض أدق صقلا حفر فى السطح من غير بروز، والبعض يظهر النقش البارز فيجعل موضوع الرسم الرئيسى عقدًا مستديرة.
وقد نقش بعض هذه الزخارف فى الكتلة نفسها وهى فى موضعها، وصب غيرها فى قالب على فرش من الحصير (وخاصة إذا تكررت موضوعات النقش باستمرار) ثم ثبتت فى الجدار؛ وتتفاوت أشكال الرسوم تفاوتًا كبيرًا، فبعضها غاية فى البساطة والغلظة مستقيم الخطوط ليس فيه زخارف عربية.
وهذا هو الغالب فى سامراء، وهو الطراز الأولى بمعنى الكلمة؛ وبعضها على النقيض من ذلك استوحى فيه الصانع فى كثير من الأحيان حيوان البلاد ونباتها، فخرج من يده أحكم زخرفا وأبرع زينة. وتتوسط الزهور التى سايرت التقاليد الأشكال الهندسية، وتتكرر هذه الأشكال وتتكرر، وتربط