الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زياد بن أبيه
وإلى العراق، وتكنيه المصادر ابن سميّة حينًا، وابن عبيد حينًا، وابن أبى سفيان حينًا، وابن أبيه أحيانًا. وكنيته بابن أبيه حل لهذا اللغز، ولكن هذا الحل إنما ينطوى على شئ من اليأس والقنوط، ومع ذلك فهو أسلم الحلول من حيث الحقيقة التاريخية.
وقد خلط مشايعو بنى أمية ومناهضوهم نسب هذا الشخص ما شاء لهم الخلط، مدفوعين إلى ذلك ببواعث مختلفة، فقال المشايعون إن أم زياد هى سمية وكانت أمه من الطائف. أما المناهضون فيزيدون على ذلك أنها كانت امرأة فاجرة ويروى أن أبا سفيان عرفها، ومن ثم نستطيع تعليل نسبة زياد إلى بنى أمية. ومهما كان رأينا فى ذلك فإن زيادًا الصغير قد اجتمع له ما عرف عن بنى قومه الثقفيين من ذكاء ويقظة ورجاحة عقل، واستقر الأمر بزياد فى البصرة مع أقرب أقربائه بنى بكرة، فأصبح فى سن مبكرة كاتبًا فى خدمة ولاة العراق الأولين، وتولى علىّ الخلافة فقرر الانتفاع بمواهبه، وكان يوفده فى عظائم الأمور، وتوفى على فاسترعى زياد نظر معاوية، وكان هذا السيد الخطير حريصًا على أن يستميل إليه عضدًا فى مقدرة زياد، بيد أن مساعيه الأولى قوبلت من زياد بالصد، فعمد معاوية إلى حيلة تدلك على مبلغ ما كان يستطيعه هذا الخليفة عندما تتعرض مصالح بيته للخطر، ونعنى بهذه الحيلة الاستلحاق، أى الاعتراف رسميا ببنوة زياد لأبى سفيان.
ونصب الخليفة بعد قليل أخاه من أبيه واليًا على البصرة، وكانت معسكر، رئيسيًا ينتظم الجنود المجهزين لإتمام الفتوح فى المشرق، وقوامهم جماعات من أشد قبائل البدو جنوحا إلى الفتنة والشغب، وأكثرهم تهديدًا لأمن الدولة وسلامتها، ومن ثم كان منصب البصرة يتطلب رجلا من الطراز الأول. وكانت نية معاوية قد صحت على توجيه اهتمامه إلى الأقاليم الغربية للخلافة. وظلت خطبة زياد التى ألقاها فى مسجد البصرة عند وصوله من آيات الأدب
العربى، وتسمى الخطبة البتراء (1). ذلك أن الخطيب، فيما يقال، قد بدأها مبتورة. وكشف فيها عن برنامجه وأعلن عن الإجراءات الصارمة التى قد يلجأ إليها إذا دعته الحال، وقد ثبت من الحوادث التى تلت ذلك أن تهديداته لم تكن مجرد أقوال؛ وهكذا استطاع زياد أن ينشر النظام فى إقليم البصرة المترامى الأطراف بأسره، مما عجز عنه كل من تقدموه. وبادر الخليفة فكافأه على ذلك بتوليته الكوفة أيضًا؛ وكانت الكوفة مع العلويين قلبًا وقالبًا، وما كان لها بعد فقد على أن تتعزى عن ضياع لقب الخلافة من يدها أو ترضى بانتقال قصبة الخلافة إلى غيرها من المدائن. على أن زيادًا نجح فى الكوفة نجاحه فى البصرة، وأعاد هيبة الأمويين إلى هذه المدينة المتمردة فى أمد وجيز.
وقد استطاع زياد، بوصفه واليًا على العراق بأسره وعلى الولايات التى كانت تعتمد على العراق فى بلاد العرب وشرقى آسية، أن يبرر، حتى نهاية عمره، تلك الثقة التى لاحد لها والتى أولاه إياها معاوية؛ وهو فى رأى المؤرخين العرب صنو معاوية فى الجدارة بلقب السياسى الأمثل، ذلك أنه تولى زمام الحكم بيد الخبير المحنك لا يبدو فى تصرفاته أثر الجهد والنصب، فكانت أذنه صاحية واعية لا تغفل عن الحوادث التى تقع فى ولايته المترامية الأطراف. وكثيرًا ما يتردد المؤرخون وأصحاب الحكم فى الاختيار بين معاوية وزياد وهم يضربون المثل على السياسة العليا، وقد يؤثرون أن يضربوا بهما المثل جميعًا؛ وكان زياد يعد من الدهاة الأربع الذين عاشوا فى هذا القرن؛ أما الثلاثة الآخرون فهم معاوية والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص. وقد اضطر زياد فى الكوفة إلى أن يرقب بعين ساهرة اجتماعات العلويين، واختلف فى هذه المدينة مع مشعل الفتن حجر بن عدى، وهو أمر مألوف يقع كل يوم، إلا أن الرواية
(1) سميت مبتورة لأن زيادا لم يبدأها باسم اللَّه الرحمن الرحيم، على عادة الخطباء منذ بدء الإسلام فانطبق عليها الحديث الشريف الذى يقول: كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه باسم اللَّه الرحمن الرحيم فهو أجزم أو أقطع أو أبتر" أى ناقص.
[د. مهدى علام]