المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

عالم متغير: وهذا هو الشئ الجوهرى، أما كون العالم فى - موجز دائرة المعارف الإسلامية - جـ ١٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌رقية

- ‌ المصادر

- ‌ركن الدولة

- ‌المصادر:

- ‌الرمادى

- ‌المصادر:

- ‌رمضان

- ‌المصادر:

- ‌الرمل

- ‌المصادر:

- ‌الرملة

- ‌المصادر:

- ‌رؤبة بن العجاج

- ‌المصادر:

- ‌روح بن حاتم

- ‌المصادر:

- ‌رودس

- ‌المصادر:

- ‌الآثار التركية والإسلامية

- ‌المصادر:

- ‌رهبانية

- ‌المصادر:

- ‌رهن

- ‌المصادر:

- ‌تعليق

- ‌رياح

- ‌المصادر:

- ‌الرياض

- ‌المصادر:

- ‌ز

- ‌الزار

- ‌المصادر:

- ‌الزاوية

- ‌المصادر:

- ‌زبور

- ‌المصادر:

- ‌زبيد

- ‌المصادر:

- ‌زبيدة

- ‌المصادر:

- ‌الزبير بن العوام

- ‌المصادر:

- ‌الزرنوجى

- ‌المصادر:

- ‌زرياب

- ‌المصادر:

- ‌زكاة

- ‌المصادر:

- ‌تعليق

- ‌زكريا

- ‌المصادر

- ‌زلزل

- ‌المصادر:

- ‌زمان

- ‌المصادر:

- ‌المصادر:

- ‌تعليق

- ‌الزمخشرى

- ‌المصادر:

- ‌زمزم

- ‌المصادر:

- ‌زناتة

- ‌المصادر:

- ‌الزنج

- ‌المصادر:

- ‌الزنجانى

- ‌المصادر

- ‌الزنجبار

- ‌المصادر:

- ‌المصادر:

- ‌زنكى

- ‌المصادر:

- ‌الزهاوى

- ‌المصادر:

- ‌زهد

- ‌المصادر:

- ‌الزهرى

- ‌ المصادر

- ‌تعليق على مادة الزهرى

- ‌زهير بن أبى سلمى

- ‌المصادر:

- ‌زياد بن أبيه

- ‌المصادر:

- ‌زيادى

- ‌المصادر:

- ‌زيار، بنو

- ‌المصادر:

- ‌زيان، بنو

- ‌المصادر:

- ‌الزيانى

- ‌المصادر:

- ‌الزيانية

- ‌المصادر:

- ‌زيدان

- ‌المصادر:

- ‌زيد بن ثابت

- ‌المصادر:

- ‌زيد بن حارثة

- ‌المصادر:

- ‌زيد بن على

- ‌المصادر:

- ‌زيد بن عمرو

- ‌المصادر:

- ‌الزيدية

- ‌المصادر:

- ‌زيرى، بنو

- ‌المصادر:

- ‌المصادر:

- ‌زينب بنت جحش

- ‌المصادر:

- ‌تعليق على مادة زينب بنت جحش

- ‌زينب بنت خزيمة

- ‌المصادر:

- ‌زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المصادر:

- ‌الزينبى

- ‌المصادر:

- ‌زين الدين

- ‌ المصادر

- ‌س

- ‌ساج، بنو

- ‌المصادر:

- ‌الساسانية

- ‌المصادر:

- ‌سالم بن محمد

- ‌المصادر:

- ‌السالمية

- ‌المصادر:

- ‌سام

- ‌المصادر:

- ‌السامانية

- ‌المصادر:

- ‌سامراء

- ‌خطتها وتطورها التاريخى:

- ‌المصادر:

- ‌عمارتها:

- ‌وأهم الآثار التى لا تزال باقية:

- ‌المصادر:

- ‌السامرى

- ‌المصادر:

- ‌سبأ

الفصل: عالم متغير: وهذا هو الشئ الجوهرى، أما كون العالم فى

عالم متغير: وهذا هو الشئ الجوهرى، أما كون العالم فى جملته حادثا أو قديما أو كونه على الدوام حادثا زائلا فهو أمر ثانوى.

أما الصوفى الذى يعيش فانيا فى الذات الخالدة فهو وحده الذى لا وجود عنده للزمان بكل صوره، وهو فى "حال" من أحوال يثبت عنده "الوقت" فيصير حياة فى حضرة اللَّه الأزلية (راجع كشف المحجوب، ترجمة نيكلسون، ليدن 1911، ص 367 - 370).

‌المصادر:

لا يوجد بحث مخصوص للموضوع، ولنذكر المراجع الآتية بالإضافة إلى ما ذكر أثناء الكلام:

(1)

Le Systeme du Monde: P.Duhem جـ 1، ص 271 ما بعدها، جـ 2، ص 465 وما بعدها

(2)

Uber iranische Quellen der hellenistischen Aionvorsell: H. Junker) Vortr d، Bibl، Warhrug جـ 1) هامبورغ (Vortr d، Bibl، Warhrug جـ 1) هامبورغ 1923.

أبو ريدة [ت. دي بور Tj. De. Boer]

‌تعليق

لابد من إكمال ما قاله كاتب القسم الثانى من هذا المقال، وهو المتعلق بمعنى كلمة "زمان"، من حيث هى اصطلاح فلسفى، ويتعين بطبيعة الحال أيضا أن نشير إلى ما أشار إليه الكاتب من نواح سواء فيما يتعلق بالكلمات التى صار بعضها مصطلحات فلسفية، أو بالمعانى الاصطلاحية التى أصبحت لبعض هذه الكلمات، وخصوصا أن من هذه الكلمات ما لم يوف حقه فى الأصول الأوربية لدائرة المعارف هذه، وأن المراجع التى كانت لدى كاتب المقال لم تكن فى حينها بالكافية. هذا إلى أنها تكاد تكون من نوع واحد يمثل تراثا فلسفيًا واحدًا، هو التراث الأفلاطونى أو التراث الأفلاطونى المحدث.

والكلمات العربية التى لها صلة بكلمة زمان، من حيث الدلالة العامة، هى: دهر، أزل، أبد، خلد، سرمد، مدة، حين، وقت، آن.

ومما تجب ملاحظته من أول الكلام فى الموضوع أن هذه الكلمات كانت

ص: 5300

جارية على ألسنة العرب، مستقرة فى لغتهم، قبل ظهور الإسلام، وقبل بدء التفكير الفلسفى الإسلامى، وكانت لها مدلولاتها التى تحددت فيما بعد على أيدى المفكرين الإسلاميين من متكلمين وفلاسفة. بعد هذا تحسن الإشارة إلى أن معظم هذه الكلمات كانت تستعمل أسماء وأفعالا (أبّد، دهَر، مد، وامتد، حان، وقّت. . . إلخ، )، وأن بعضها له دلالة الفعل الإيجابى المتلف أو المهلك (فيقال مثلا: دهر فلانا أمر، بمعنى أصابه مكروه أو نزلت به نازلة؛ أو يقال: دهره الجزع، بمعنى غلبه أو أتلفه، ويقال: دهور الشئ جمعه وقذفه فى مهواة، ويقال: زَمِن الشخص زمنا، وزُمنة أو أصابته الزمانة (العاهة أو الضعف) فهو زَمِن وزمين؛ ويقال: حان حينه، أى قرب وقت هلاكه، والحين الهلاك والنهاية والموت، والحائنة النازلة. . . إلخ.) وفى كتب اللغة مادة غزيرة تتعلق بهذه الكلمات، وفيها تحديد لمعنى كل كلمة، لا من الناحية الاصطلاحية الفلسفية بطبيعة الحال، بل من ناحية الاستعمال اللغوى الدال على المفهومات التى توصل لها العرب. ولو نظرنا فى هذه المادة فى جملتها لوجدنا، بوجه عام، أن كلمة "الدهر" تطلق على الزمان المتطاول الذى لا تكاد تكون له نهاية: لا من أوله ولا من آخره؛ ومن ذلك عبارة "الدهر الداهر". أما كلمة "الأزل" فهى تطلق على الامتداد الزمانى الذى لا أول له فى الماضى، "والأبد" هو الدهر من حيث الامتداد خصوصًا فى المستقبل، ومن ذلك عبارة "أبد الآبدين" و"الأبد الأبيد"، والسرمد دوام الزمان خصوصًا فى المستقبل، وكل من "الزمان" و"المدة" و"الحين" و"الوقت" يطلق على المقدار المحدود من الدهر، قليلا كان هذا المقدار أو كثيرًا، مع أنواع من التمييز فى الاستعمال الدقيق، وهذه الكلمات الأخيرة كلها تستعمل مع الإشارة إلى شئ واقع معين، وكلمة "الآن" تطلق على الزمان أو الوقت الحاضر.

كل هذا يتعلق بالمعنى اللغوى كما يوجد فى كتب اللغة، بحسب المأثور من استعمال الكلمات وبحسب الشواهد اللغوية القديمة التى سجلها علماء اللغة؛

ص: 5301

أما ما ورد فى القرآن من هذه الألفاظ، فهى كلمات "دهر" بمعنى الدهر المهلك، وبمعنى الزمان المتطاول الذى ليس له حدود (1)، وكلمة "أبد" فى صيغة ظرف الزمان أو الوصف الدال على الامتداد الزمانى فى المستقبل، وكلمة "حين" بمعنى القسم من الدهر، وبمعنى الوقت والوقت المحدد، وفى صيغة ظرف الزمان (2)، وكلمة "الآن" لفعل المرتبط بها (3)، وكلمة "السرمد" بمعنى الدوام فى المستقبل (4)، وكلمة "الخلد" بالمعنى نفسه (5)، وكلمة "المدة" و"الأجل" بمعنى المدة المحددة أو نهايتها (6)، وكلمة "وقت" فى صيغ كثيرة ومع تمييزات دقيقة فى المعنى. وكلمات أخرى دالة على الزمان مثل اليوم والساعة والأمد، والفعل الدال على المدة أو الامتداد فى الزمان. وهذا كله مما يوجد فى القرآن يحتاج إلى دراسة قائمة بذاتها، وخصوصًا إذا انضم لذلك ما ورد فى الحديث الشريف من هذه الكلمات، فأما الكلمات التى قدر لها أن تغلب فى الاصطلاح الفلسفى من حيث الدلالة على الامتداد الزمانى أو على معنى هذا الامتداد بحسب التصورات المختلفة له، فهى كلمة: الدهر والزمان والمدة (عند البعض)، وهى موجودة في القرآن، عدا كلمة "زمان" فهى لا ترد فيه بأى صيغة من صيغها، أما كلمة الوقت فقد صارت اصطلاحا عند الصوفية.

أما فيما يتعلق بكلمة الدهر فيجب الرجوع إلى معناها عند العرب قبل الإسلام. ولو نظرنا فى جملة النصوص المأثورة عن العرب الجاهليين لوجدنا أن فكرة الدهر كانت قديمة عندهم، وهى عند الشعراء مفهوم شعرى يستعينون به فى الدلالة على مجرى الحوادث

(1) سورة (الجاثية)، آية 24؛ وسورة الانسان آية 1.

(2)

سورة الإنسان، آية 1، سورة (القصص)، آية 15؛ وسورة (البقرة) آية 36 وسورة (إبراهيم)، آية 25، وسورة (المائدة) آية 101؛ وسورة (هود) آية 5، وسورة (الواقعة)، آية 84.

(3)

سورة (البقرة) آية 71 سورة (النساء) آية 18؛ سورة (الحديد) آية 16.

(4)

سورة (القصص) آية 71، 72.

(5)

مثل سورة (يونس) آية 52.

(6)

سورة (التوبة) آية 4، وسورة الأعراف آية 24؛ وسورة (القصص) آية 28، 29.

ص: 5302

الكونية وتصرف الأقدار. ولكن الكلمة لم تكن تدل على قوة شخصية، بل على قوة غير شخصية تتصرف فى الأشياء وفى الناس، وهى ليست قوة مقدسة ولا إلهية، بل تتصرف تصرفا غاشمًا من غير مراعاة قاعدة، وليس فى عملها حكمة، وقد استعمل الشعراء ألفاظًا أخرى للدلالة على المعنى نفسه مثل كلمات: الزمان، الليالى، الأيام، المنون، الحدثان، المنايا؛ ومن ذلك قولهم: قوارع الدهر، بنات الدهر، ريب الحوادث، ريب المنون. . . إلخ. ولا يمكن أن تخلو أذهان الشعراء، مهما كان اصطناعهم لهذا المفهوم الشعرى المساعد لهم فى التعبير، من فكرة كانت تلوح أمام أذهانهم، وهى فكرة القوة التى وراء القوانين التى تحكم الأشياء وتحكم حياة الإنسان، والتى لا يزال لها ظل فى الشعر العربى على قديم الأيام وحديثها. فالجاهليون كانوا ينسبون إلى الدهر ما يصيب الإنسان من نازلة أو مكروه، وكانوا أحيانا يمقتون هذا الدهر ويسبونه، ويظهر أن فكرة الدهر كانت، على نحو ما، تحل فى أذهان الجاهليين محل فكرة التدبير الإلهى عند المؤمنين باللَّه. ولذلك أراد النبى عليه السلام، فيما روى عنه من قوله:"لا تسبوا الدهر. فإن اللَّه هو الدهر" تصحيح تفكير العرب بأن بين لهم أن ما ينسب إلى الدهر يجب أن ينسب إلى اللَّه، لأن اللَّه هو فاعله، لا الدهر. ومهما يكن من شئ فإن الجاهليين كانوا يتصورون الدهر قوة مفنية. وعلى هذا المعنى نستطيع أن نفهم معنى كلمة:"دهر" فى سورة (الجاثية) آية 24: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْر} ، وإذن فعند منكرى وجود اللَّه والحياة الآخرة (وهذا ما يفهم بالاستنباط من الآية) أن الدهر قوة مهلكة. والواقع أن "القول بالدهر" أصبح مع تطور النظر الفلسفى عند المفكرين الإسلاميين مساويًا للمذهب المادى، مع إنكار الخالق المدبر وإنكار الحياة الآخرة والقول بقِدَم العالم وقِدَم الأنواع الحيوانية على هذه الأرض، ولذلك نجد المتكلمين، من أول

ص: 5303

الأمر، يردون على الدهرية، كما نجد أول تحديد لمعنى كلمة "دهرية" عند الجاحظ (1)، فهو يصفهم بأنهم هم الذين ينكرون الخالق ولا يؤمنون بالنبوات أو البعث أو الثواب والعقاب، ويردون الأشياء إلى فعل الأفلاك، ولا يعرفون خيرًا ولا شرًا سوى المنفعة واللذة. ومن ذلك الحين صار علماء الإسلام يذكرون الدهرية بين الفرق الضَّالة ويردون عليهم.

وإلى جانب فكرة الدهر بمعنى المفهوم الشعرى وبمعنى النظرية الدهرية كان عند العرب مفهوم الدهر، من حيث هو الامتداد الزمانى الذى لا نهاية له، وهو المفهوم الذى ورد فى القرآن فى سورة (سورة الانسان، أو سورة الدهر) آية 1، وهى:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} ، وإذا كان مفهوم الدهر هنا أنه الامتداد الزمانى غير المحدود، فإن الحين جزء من الدهر، وهذا الاستعمال القرآنى يوافق المعنى الذى كان معروفًا للمتكلمين، وهو فى نفس الوقت يؤيده ويضع الأساس للتطور التالى. وعند الكندى، أول فلاسفة الإسلام المتوفى حوالى سنة 250 هـ = 864 م نجد أول بيان واضح لفكرة الزمان (2)، فهو فى رسائله المعروفة لنا حتى الآن يعتبر أن الزمان "مدة تعدها الحركة، غير ثابتة الأجزاء"، وأن الوقت، كما هو عند المتكلمين أيضًا، "نهاية الزمان المفروض للعمل". على أن الكندى يعرف اختلاف الفلاسفة فى معنى الزمان وقول بعضهم إنه هو الحركة، وقول البعض الآخر إنه ليس هو الحركة، ويختار القول بأنه "عدد عاد للحركة" ويرى أن فكرة الزمان هى التى تساعد على إدراك السرعة والبطء فى الحركة، أما "الآن" فهو ما يصل الزمان الماضى بالزمان الآتى، وهو لما كان لا بقاء له فهو ليس زمانًا، ولكن إذا اعتبر الإنسان بعقله الانتقال من آن إلى آن أدرك معنى

(1) كتاب الحيوان جـ 7، ص 5 - 6، القاهرة، 1324 هـ = 1906 م.

(2)

راجع رسائل الكندى الفلسفية ج 1، ص 113، 117، 119 - 120، 122، 152، 161، 169، 170، 196، 198، 204 - 205؛ طبعة القاهرة 1950 م، جـ 2، ص 32 - 34، طبعة القاهرة.

ص: 5304

الزمان، وهو الاتصال والاستمرار فقط، وهو مرتبط بمعنى القَبْل والبَعْد، ويمكن أن يعد، رغم أنه متصل، لأنه كمّ متصل، ولما كان الآن "متوهما" غير قار الذات فإن الزمان لا وجود له فى ذاته. وإذا عرفنا أن الكِنْدى يقول بحدوث العالم عن علته من غير شئ سابق عليه، وذلك من حيث كونه جسما، ويقول بتناهى هذا الجسم فى الامتداد المكانى، بحيث لا يكون خارج العالم شئ حتى ولا الفراغ (الخلاء المطلق)، ويقول بالتالى بحدوث المكان الذى يعتبره متوقفا على المتمكن فيه وبحدوث الحركة والزمان الذى هو عددها، أدركنا، على نحو أوضح، أن الزمان لا يوجد مستقلا عن العالم وحركته وأنه حادث له بداية، ويقيم الكندى الأدلة النظرية المستندة خصوصا إلى التفكير الرياضى، على هذا كله، وأساس رأى الكندى فى تناهى الجسم والحركة والزمان من حيث أول وجودها هو أن الشئ الذى لا نهاية له بالفعل -وهذا ما ينشأ عن القول بعدم التناهى- هو الوجود المتحقق وأن الجسم والحركة والزمان مرتبطة فى الوجود ودوامه، فلا جسم يوجد إلا ووجوده حركة كون، وهو لا يتحرك بعد ذلك إلا فى زمان، ولا يستمر وجوده أيضا إلا فى زمان هو مدة وجوده، أى المدة التى يكون فيها "إنية". فالزمان عند الكندى هو المدة التى يكون الوجود فيها موجودًا، ولكن لما كان من الموجودات، ما هو ساكن، فإن مدة وجوده تقاس إما بحسب حركة من نوع ما -ولو حركة التغير (السيلان) والتبدل الدائم فى كل ما هو محسوس- أو بحسب مقدار حركة متحرك غيره، ولكن لما كان الكندى يصرح بأن المدة المفصولة، يعنى المنقسمة بتبدل من نوع ما، هى الزمان وبأن المدة هى "مدة الوجود"، فإننا نستطيع أن نميز عنده بين زمان هو مدة الوجود وزمان متصل بالحركة والتغير، وهو خاص بالمتغيرات. ولكن هذه المدة على كل حال ليست ذاتا ولا جوهرًا قائمًا بذاته، بل هى اعتبارية ترجع إلى استمرار وجود ما هو موجود. وعند الكندى أن هذا العالم حادث، وأن له "مدة مقسومة" قد يزول بانتهائها، وقد تمتد حسبما تقتضيه إرادة موجد العالم، ولكن مهما امتد

ص: 5305

وجود العالم فهو سيكون وجودًا متناهيا، لأن له بداية من جهة، ولأن امتداد مدة وجوده لا يمكن أن يبلغ اللانهاية بالفعل من جهة أخرى وكل ما يمكن أن يقال هو أن وجود العالم وحركته يمكن أن يعتبر لا نهاية له بالقوة لا بالفعل. وإذا كان الزمان حادثًا، وكان هو زمان هذا العالم، فإن الخلق، أعنى وجود العالم، لم يكن فى الزمان. ولما كان اللَّه علة العالم فهو متقدم عليه بالذات لا بالزمان، لأنه لم يكن قبل العالم زمان، لأن الزمان للجرم المتحرك المتبدل. ويصرح الكندى بأن اللَّه ليس فى الزمان، فهل يمكن القول بأن وجود اللَّه له زمان أو مدة تليق بكماله؟ هذا ما لا نجده فى كتب الكندى التى وصلت إلينا. ومن هنا ندرك قوله إنه كانت قبل حدوث العالم ذات أزلية، هى الذات الإلهية طبعًا، كما ندرك تعريفه للأزل بأنه "الذى لم يكن ليس"، والذى لم يسبق وجوده شئ، ولا علة له. وإذن فالأزلية صفة الوجود القديم، ومعناها عدم المسبوقية بشئ أيا كان، ولا يمكن، بحسب هذا، وأن يكون اللَّه فى زمان ولا مدة ولا دهر، وإن كان وجوده دائما أزلًا أبدًا.

على أنه يُذكر بين مؤلفات الكندى كتاب له فى "النسب الزمانية" وآخر فى "ماهية الزمان والحين والدهر"، ولكنهما غير معروفين لنا حتى الآن. أما الذى لا شك فيه فهو أن اللَّه عنده ليس فى الزمان، وأن هذا العالم وكل ما يعرض فيه حادث، وأنه لا يوجد مبدأ قديم سوى اللَّه تعالى.

وكان المتكلمون فى عصر الكندى، وهم جميعا من المعتزلة، ويقولون بتناهى وحدوث كل شئ سوى اللَّه، وهم بطبيعة الحال، رفضوا قول أرسطو بقدم الزمان وتناولوا فكرة الامتداد الزمانى من ناحية أخرى، فنجد أبا الهذيل العلاف المتوفى سنة 235 هـ = 849 م يعرف "الوقت" بأنه "الفرق بين الأعمال"، ويقول إنه "يحدث مع كل وقت فعل"، ونجد الجبّائى المتوفى سنة 303 هـ = 915 م يقول "إن الوقت هو ما توقته للشئ فإذا قلت: آتيك قدوم زيد، فقد جعلت قدوم زيد وقتا لمجيئك"؛ ويقول الجبائى أيضًا: "إن الأوقات هى

ص: 5306

حركات الفلك، لأن اللَّه عز وجل وقتها للأشياء"، هذا ما يحكيه الأشعرى من آراء الإسلاميين، وهو يذكر قول من قال: إن الوقت "عرض" وإنه لا تعرف ماهيته ولا يوقف على حقيقته، كما يذكر الأشعرى اختلاف المفكرين، بين مثبت ومنكر، فى: هل يكون وقت لشيئين أم لا؟ وهل يجوز وجود أشياء لا فى أوقات؟ ولا شك فى أن المقصود من الوقت هو الزمان، ومع أن الأشعرى يعرف آراء القدماء من الفلاسفة فإنه لا يحكيها، ولهذا دلالته (1).

وبعد الكندى، فى النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى = التاسع الميلادى، تجد أبا العباس الإيرانشهرى يقول (2) إن "الزمان" و"الدهر" و"المدة" أسماء لجوهر واحد قديم دائم الجريان لا قرار له، ولكن هذا المفكر يذكر للزمان معنى جديدًا محيرًا، وهو يقول إن الزمان "دليل علم اللَّه"، كما أن المكان دليل قدرته، والحركة دليل فعله، والجسم دليل قوته؛ وكل هذه الأشياء جواهر قديمة ولا نهاية لها، ولا تسمح قلة النصوص كما لا يسمح قصرها بتأويل لكلام الإيرانشهرى يمكن الثقة به، وإن كان من البين أن ثمة علاقة بين هذه الجواهر وبين الصفات الإلهية، من حيث إنها أثر لهذه الصفات والدليل الظاهر عليها (3). ولو نظرنا فى دليل الإيرانشهرى على أن المكان "مظهر قدرة اللَّه"(قدرت ظاهر خداى إست) وهو بما أن قدرة اللَّه تشمل مقدوراته، وأن هذه المقدورات أجسام مصورة لا يمكن أن توجد إلا فى مكان، فالمكان مظهر قدرة اللَّه، لتبين لنا أن الإيرانشهرى يرى فى المكان رأيا شبيهًا برأى نيوتن، هذا وإن كان هذا الرأى غريبا عن الإسلام، ويذكر ناصر

(1) راجع آراء المعتزلة فى الوقت في مقالات الإسلاميين للأشعرى، ط إستانبول، ص 443.

(2)

زاد المسافرين لناصر خسرو، ط. برلين، ص 110، 98.

(3)

يذهب الدكتور ينيس فى كتابه "مذهب الذرة عند المسلمين"، القاهرة 1946، ص 57 - 58 إلى أن رأى الايرانشهرى حل لمشكلات الصفات الإلهية، ويربط بين ذلك وبين مذهب الصدور، ولكن هذا غير مؤكد لأن استعمال الايرانشهرى لكلمة "دليل" وكلمة ظاهر (فى قوله مثلا: أن المكان هو قدرة اللَّه الظاهرة) يشعر بأن المقصود هو الدلالة على الصفة لا الصفة نفسها وأن هذا الدليل ظاهر.

ص: 5307

خسرو (1) المتوفى حوالى سنة 452 هـ = 1060 م رأى الإيرانشهرى مع شئ من التقريظ، ويقول إن محمد بن زكريا الرازى الطبيب المتوفى بين 311، 320 = 923 - 932، أخذ هذا الرأى وعبَّر عنه بعبارات إلحادية موحشة، ومهما يكن من شئ فإن الرازى يعتبر أن الزمان أحد المبادئ الخمسة القديمة، كما ذكر صاحب هذا المقال الذى نعلق عليه، غير أنه يميز بين شيئين: ما يسمى "الزمان المطلق" وما يسمى الزمان المحصور (2) والأول لشئ "متحرك غير لابث" وهو قديم ولا نهاية له، ودائم الجريان، ويسميه الرازى المدة، والدهر، والأبد، والسرمد؛ والثانى وهو يسمى أيضا "الزمان المضاف" أي النسبى المحدود وهو يمكن أن يحسب ويعد. وينقسم بحسب حركات الفلك وطلوع الشمس وغروبها وجريان الكواكب ومر الأيام ووقوع الحوادث، وهو يقابل على نحو ما، معنى الزمان عند أرسطو. ولا يريد الرازى أن يعتمد فى إثبات رأيه هذا فى الزمان، وفى المكان أيضا إلا على العقل السليم عند عامة الناس الذين لم يفسد اللجاج والجدل من بديهة نفوسهم، فهم يقولون: تشهد عقولنا بأن ثم فضاء يحيط بالعالم، وبأنه حتى لو لم يكن هناك فلك يدور لأدركنا أن ثم شيئًا لا يزال يجرى علينا وهو الزمان (3).

وهنا ندرك تمامًا معنى ما يقوله البيرونى (4) عن الرازى من أنه "فرق بين الزمان وبين المدة بوقوع العدد على أحدهما دون الآخر، كما جعل الفلاسفة الزمان مدة لما له أول وآخر، والدهر مدة لما لا أول له ولا آخر" وهذا التمييز يرجع، كما أشار ذلك كاتب المقال الذى نعلق عليه، إلى التراث الأفلاطونى.

وإذن فالمدة أو الدهر، بمعنى الامتداد الزمانى الذى لا نهاية له، هو عند

(1) زاد المسافرين ص 98، 110.

(2)

ويقابل هذا التقسيم للزمان عند الرازى تمييزه فى المكان أيضا بين "مكان مطلق" أو "مكان كلى" هو امتداد صرف لا نهاية له ولا علاقة له بالعالم، وقد يكون خاليًا أو مملوءًا، وهو أيضًا أشبه بحقيقة طبيعية. وبين "مكان مضاف" أو "مكان جزئى" هو الذى يتعلق بالجسم المادى الذى يتمكن فيه، وهو أشبه بتعيين المكان المطلق بحسب ما يكون فيه.

(3)

راجع رسائل الرازى الفلسفية جـ 1، القاهرة 939، ص 304 وما بعدها.

(4)

تحقيق ما للهند، ط. لبيسك ص 163.

ص: 5308

الرازى موجود حقيقة، وهو أشبه بجوهر.

ويميز أبو سليمان السجستانى (نبغ فى النصف الثانى من القرن الرابع الهجرى)، بين الدهر والزمان، فالدهر فوق الزمان، وهو إشارة إلى امتداد وجود ذات من الذوات، ومنه "دهر مطلق"، وهو امتداد وجود الذوات الثابتة الموجودة وجودًا حقيقيًا مطلقًا من غير أن تقترن بمبدأ أو نهاية، و"ودهر بسيط" أو "دهر بالإضافة والشرط" وهو امتداد وجود الذوات الحادثة المتناهية التى لها ابتداء.

أما الزمان فهو عند أبى سليمان "عدد الحركة" وفيه القبل والبعد، وهو ليس عنده مدة تعدها الحركة، وإلا أصبحت الحركة أشبه بمكيال للمعنى المفهوم من الدهر، ويرى أبو سليمان أن الزمان ألطف من المكان "كأن المكان من قبيل الحس والزمان من قبيل النفس" وأن الزمان الواحد يشمل أكثر من شئ واحد، بل يشمل أشياء لا نهاية لها، أما المكان الواحد فهو إن شغله شئ لم يتسع لغيره (1).

ومن المعروف أن افلاطون يميز بين شيئين: الدهر أو السرمد (. . .) وهو شئ أزلى باق ثابت؛ والزمان الذى وجد على مثال السرمد مع وجود السماء. وإذن فله بداية، وهو متحرك، ويمكن أن تكون له نهاية (2)؛ كما نعرف أن أرسطو قال إن الزمان هو "مقدار الحركة بحسب المتقدم والمتأخر". ثم جاء أفلوطين (3) فبنى مذهبه على مذهب أفلاطين وميز بين زمان هو مدة بقاء العالم المادى المتغير وبين دهر هو مدة بقاء العالم العقلى الأبدى الأزلى الذى لا يعرض له تغير، ومعنى هذا أن الدهر كما عند برقلس مبدأ أعلى، فوق الزمان بل فوق النفس. ومن جهة أخرى يذكر البيرونى (4) عن الهنود أنهم يميزون بين "الزمان الكلى" و"الأزمنة الجزئية" والأول هو "المدة" أو "الدهر" وهو الامتداد الزمانى للَّه أو للنفس أو

(1) راجع كتاب المقابسات للتوحيدى، طبعة القاهرة 1347 هـ = 1929 م، ص 154، 173، 278.

(2)

راجع محاورة طيماوس لأفلاطون، ص 37 و 38.

(3)

راجع كتاب مذهب الذرة عند المسلمين، تأليف الدكتور بينيس، ص 52 - 53.

(4)

تحقيق ما للهند ص 164، 177.

ص: 5309

للجواهر البسيطة؛ وهو، خصوصًا بالنسبة للَّه، مقدار لا يقع عليه العد، لأن المعدود متناه، واللَّه فوق التناهى. أما الزمان السنين والأيام فهو الكائنات المحدودة المتناهية، وهو يقدر بالحركة والتغير.

ولعل فى هذا ما يشير إلى أصول مذهب الإيرانشهرى والرازى فى الزمان من أحد معانيه، وخصوصا أن البيرونى يحكى لنا أن الإيرانشهرى كتب فى آراء الهنود.

أما عند ابن سينا (1) فالزمان مدة هى كم متصل، لكنه شئ متجدد متقضّ غير قار، وهو يطابق الحركة، أعنى الحركة المستديرة الدائمة، وهى هيئة فى الجسم لا هى مقدار الجسم نفسه ولا المسافة التى يقطعها، وعليها يتوقف الزمان فى وجوده وفى إحساسنا به وتصورنا له، بحيث يكون عبارة عن مقدارها. والزمان والحركة عند ابن سينا حادثان حدوث إبداع بالذات لا بالزمان، وإلا كان قبل الزمان زمان، وأدى ذلك إلى التناقض. أما الآنات التى هى أطراف أقسام الزمان (الماضى والمستقبل) فهى أجزاء الزمان الوهمية، وأساس هذا كله تمييز ابن سينا بين القدم بالذات، وهو انتفاء البداية للقديم، والقدم بالزمان، وهو انتفاء البداية الزمانية، وبين الحدوث الإبداعى الذى هو عبارة عن حدوث شئ غير مسبوق بزمان، بفعل مبدأ يوجده، والحدوث الزمانى الذى هو عبارة عن حدوث الشئ مسبوقا بزمان لم يكن فيه موجودا. ويتحصل من هذا أن الزمان عند ابن سينا، شأنه شأن الحركة والمتحرك، قديم وإن كان مبدعا. ويميز ابن سينا بين ما يكون فى الزمان مثل أقسام الزمان وأطرافه والحركات والمتحركات الزمانية، وما يكون مع الزمان من غير أن يكون فى الزمان. ويظهر أن ابن سينا يقصد هنا الذات الإلهية وعالم العقول بحسب مذهب الصدور، وهو يقول إن الأشياء التى مع الزمان وخارجة عنه، إذا قوبلت مع الزمان واعتبرت به فكان لها ثبات مطابق لثبات الزمان وما فيه، سميت

(1) راجع مثلا كتاب النجاة ص 186 - 192، 355 - 356 طبعة القاهرة 1331 هـ وتسع رسائل فى الحكمة والطبيعات طبعة استانبول، 1289 هـ، ص 11 - 12، 63.

ص: 5310

هذه الإضافة دهرا، "فيكون الدهر هو المحيط بالزمان". ورأى ابن سينا لا يخرج عن رأى أرسطو مع شئ من التراث الأفلاطونى، وهو على كل حال رأى لا يخلو من تناقض، والمهم أنه يعرف الزمان بالتعريف الأرسططاليسى، وهو أنه "مقدرًا الحركة من جهة المتقدم والمتأخر" ويقول: إن الزمان علته الحركة المستديرة، وهذه حركة نفسانية إرادية، علتها النفس، يعنى النفس المحركة للفلك. أما الدهر فيعرفه بأنه "المعنى المعقول من إضافة الثبات إلى النفس فى الزمان كله"، والآن "طرف موهوم يشترك فيه الماضى والمستقبل من الزمان". وبمناسبة الكلام فى ذوات الأشياء الثابتة وغير الثابتة يقول ابن سينا إن الذوات الثابتة، إذا أخذت من جهة ثباتها، لم تكن فى الزمان بل مع الزمان، ثم يقول إن "نسبة ما مع الزمان وليس فى الزمان إلى الزمان هو الدهر، ونسبة ما ليس فى الزمان من جهة ما ليس فى الزمان، الأولى به أن يسمى السرمد". وينتهى ابن سينا إلى أن "الدهر" فى ذاته، من "السرمد" والدهر دهر بالقياس إلى الزمان.

حتى إذا جاء ناصر خسرو الشاعر والعالم الفارسى، وهو الذى روى آراء الإيرانشهرى والرازى ونقض بعض آراء الرازى، وجدناه يذهب إلى أن الزمان ليس سوى "تغير أحوال الجسم"، هذا مع موافقة ناصر لأرسطو فى القول بأن الزمان عدد الحركة وأن علته النفس، ولا شك أن هذا بمعنى يوجد أساسه عند أرسطو فى قوله إن إدراك الزمان يتوقف على إدراك الحركة فى القبل والبعد، وعلى عدد هذه الحركة، ولكن ناصر خسرو يميز بين الزمان بهذا المعنى الأرسطى من أحد الوجوه، وبين "الدهر" الذى هو عنده عبارة عن مدة بقاء المعقولات المجردة التى لا تتغير والذى علّته العقل (1).

ومن الطريف أن نذكر رأى شاعر حكيم ذى ثقافة فلسفية: هو أبو العلاء المعرى المتوفى سنة 449 هـ = 1057 م (2)، والدهر عنده كما عند

(1) مذهب الذرة ص 54 - 50.

(2)

راجع رسالة الغفران، طبعة القاهرة، 1321 هـ، ص 137 - 138؛ واللزوميات جزء 1، ص 374 و 411 و 422 و 433 وجـ 2، ص 86 و 241 و 262 و 272، 377.

ص: 5311

شعراء العرب، مفهوم شعرى بالمعنى الذى تقدم ذكره، وهو يهلك ويغتال ويتصرف من غير حكمة، بل هو لا يعقل ولا يشعر حتى لا يكون هناك معنى لذمه. غير أن أبا العلاء يستعمل الدهر مرادفا للزمان والمدة والوقت، والزمان والمكان عنده طرفان أو وعاءان مجردان لا لون لهما ولا حجم، وهما يشملان كل الأشياء المدركة. والزمان أوقات متتالية أو "أكوان" متشابهة، وهو يمر سريعا كالخيل التى لا تضبطها اللجم. أو كالطير، وهو يفنى، وتفنى بفنائه الأشياء والناس. لكن هذه الأوقات تؤلف الزمان المديد أو الدهر الطويل الذى لو طار جبريل بقية عمره ليخرج منه لما خرج. على أن أبا العلاء يعرف رأى من قال إن الزمان عبارة عن حركة الفلك، ويجد أن ذلك لا معنى له، ثم يذكر رأى سيبويه العالم اللغوى الذى نبغ فى النصف الثانى من القرن الثانى للهجرة، فى أن الزمان عبارة عن "مضى الليل والنهار"، ثم يعرف الزمان تعريفا يعتبره جديرا بأن تكون قد تنبهت إليه العقول، وإن كان يقول إنه لم يسمعه من أحد، وهو أن "الزمان شئ، أقل جزء منه يشتمل على جميع المدركات"، وهو فى ذلك ضد المكان، لأن أقل جزء من المكان لا يمكن أن يشتمل على شئ، والكون والزمان بهذا المعنى واحد، ويدل على ذلك قول أبى العلاء:

وأيسر كونٍ تحته كل عالم

ولا تدرك الأكوان جرد صلادم

وإذا كان تعريف أبى العلاء للزمان تعريفا له من حيث الإضافة لغيره فيظهر أنه يعتبر أن حقيقة الزمان -أو المكان- فى ذاته شئ لا يدرك وسر من أسرار اللَّه. وقد يلاحظ الإنسان على كل حال فى رأى أبى العلاء فى الزمان شيئًا من رأى أبى سليمان السجستانى.

أما أوفى بحث وأعمقه وأطرفه عن الزمان فهو الذى نجده عند أبى البركات البغدادى الفيلسوف الإسرائيلى الذى تحول إلى الإسلام فى كبره، وتوفى سنة 547 هـ = 1152 م (1)، وهذا الرأى نتيجة منطقية لتطور آراء الإسلاميين فى أمر الزمان. يستعرض أبو البركات

(1) راجع كتابه المعتبر فى الحكمة، جـ 2، ص 69 - 80؛ جـ 3، ص 35 - 41. طبعة حيدر آباد، 1358 هـ.

ص: 5312

الآراء فى الزمان، ويرفض منها قول من قال إنه الحركة، لأن كلا من الحركة والسكون يكون فى الزمان، ولأن الفرق بين الشئ ساكنا ومتحركا هو الفرق بين كونه فى مكان واحد زمانا معينا، وعدم كونه فيه، وقول من قال إنه مقدار الحركة بحسب المتقدم والمتأخر، لأن الزمان يتجدد على الساكن كما يتجدد على المتحرك، ولأنه يمكن أن تشترك حركات كثيرة من متحركات كثيرة فى جهات مختلفة مسافات مختلفة مع الاشتراك فى زمان واحد، ولأن معرفته أسبق فى الذهن من معرفة الحركة والسكون ومن الشعور بهما، ولأنه كما يمكن تقدير الحركة بالزمان يمكن تقدير الزمان بالحركة. هذا كله مع اعتراف أبى البركات أن للزمان تعلقا بالحركة فى الذهن والاعتبار. وينكر أبو البركات قول من قال بأن الشعور بالزمان مبنى على الشعور بالحركة، ويرى أن هذا يمكن أن ينعكس، بحيث يقال إن من لم يشعر بزمان لا يشعر بحركة، بل يذهب أبو البركات إلى شئ يشبه ما ذهب إليه برجسون من أن الشعور بالزمان عند الإنسان الواعى ظاهرة نفسية أو حدسية تدركها النفس "بذاتها ومع ذاتها ووجودها قبل كل شئ تشعر به وتلحظه بذهنها"، وهذا الشعور يكون موجودا عند الإنسان، حتى عندما يكون ساكنا وادعا لا يدرك شيئا بالحواس ولا يشعر بحركة متحرك، فهو فى هذه الحالة يشعر بمضى الزمان ويقدر له ما يليق به من الحركات ويحدس الأوقات بتقديره للزمان. ثم يستند أبو البركات إلى شعور النفس الإنسانية بالزمان، وهو الشعور الذى تدركه إدراكا ذهنيا عقليا، كما يستند إلى ارتباط الوجود بمدته بحيث لا يمكن تصور الوجود من غير مدة له، وينتهى إلى أن الزمان يعرف معرفة عقلية وأنه هو "مقدار الوجود". فالوجود هو الذى يقدره وهو الذى يفصله، ولا يرتفع الزمان إلا بارتفاع الوجود، فالزمان بحسب المعرفة البديهية مدة تقارن الوجود وتقابله مقابلة موضوعية -صدقا وكذبا وتساوقه ما دام موجودا- وتتقدر به ساكنا كان أو متحركا، محسوسا كان أو غير محسوس، من غير أن تتوقف على حركة المتحرك أو

ص: 5313

سكون الساكن، لأن المعقول من الزمان، ما دام مرتبطا بالوجود فهو أسبق من كل معقول فى الذهن أو فى الواقع سوى معقول الوجود نفسه. ومن هذا الوجه لا يمكن أن يتصور العقل وجودا ليس له مدة ولا زمان، لا وجود خالق ولا وجود مخلوق وعلى هذا يكون الوجود كله فى الزمان. أما الذين قالوا إن وجود الخالق ليس فى الزمان فذلك فى نظر أبى البركات لأنهم اعتبروا أن الزمان مقدار الحركة. ولما كان الخالق لا يتحرك فهو عندهم ليس فى الزمان. على أنهم، قالوا إن وجود الخالق فى الدهر والسرمد، بمعنى البقاء الدائم الذى ليس معه حركة، فهم قد غيروا لفظ الزمان من غير تغيير فى المعنى، ومن البين أن الزمان فى رأى هذا الفيلسوف شئ واحد ثابت هو الدهر أو الدوام أو السرمد وشئ تتبدل فيه وبالنسبة إليه أحوال المتحركات وهو الزمان، لأن الزمان مدة الوجود، وهو مع ذلك ليس له عند أبى البركات "وجود مجرد وهوية قائمة بنفسها"، وهو أيضا ليس عرضا قارا فى الوجود، بل هو اعتبار ذهنى لما هو الأدوم وجودا إلى ما هو أقل دواما فى الوجود، ولما كان الزمان مدة الوجود بالمعنى المطلق فإنه كان موجودا قبل وجود هذا العالم الحادث، والقول بحدوث الزمان معناه فى رأى أبى البركات القول بحدوث الوجود. أما كيف يتصور أبو البركات هذا الزمان فهو عنده ليس جوهرا محسوسا ولا جوهرا قارا فى الوجود بل هو كم، لكنه ليس كما متصلا فى الوجود، لأن ما مضى منه قد انعدم وما سيأتى لم يوجد بعد، وهو وإن لم يكن متصلا فإن الوجود يفصله فصلا بعد فصل إلى ماض ومستقبل، وهو أيضا ليس كما منفصلا بل يعلو بعضه بعضا على الاتصال الذى لا وقفة فيه، فهو متصل فى ماهيته منفصل فى وجوده؛ وهو ليس كالحركة، لأن الحركة تختلف فى السرعة والبطء والمسافات والجهات، على حين أن الزمان ثابت، بل هو واحد لا اختلاف فيه إلا بالنسب والإضافات إلى ما فيه.

والزمان يلقى الوجود ويدخل فيه من طريق جزء غير متعين، بل مفروض

ص: 5314

اعتبارا، هو الآن السيّال الذى يشبه فى حركته خطا تخطه رأس إبرة دقيقة، فالخط نقطة متحركة، ولكن كل موضع فيه نقطة متوهمة، "واستمرار الزمان على الوجود كاستمرار خيط تجره على حد سيف بالعرض. . فكله يلقى حد السيف لكن لا يلقى منه إلا حدا بعد حد ونقطة بعد نقطة، ولا يقر على نقطة بل يتصل فى اجتيازه" ويمكن القول إن حد السيف لم يلق الخيط فى وقت من أوقات حركته، لأنه لم يلق إلا نقطة لأطول لها وليست خطا، ولكن أجزاء الخيط كله باستمرار سير الخيط تلقى السيف، لا شك فى ذلك؛ والسيف عند ذلك يقسم الخط دائما إلى سابق ولاحق، فالالتقاء بين الزمان والوجود التقاء غير مستقر. وليس الزمان آنات متتالية، بل هو أشبه بآن منجر على الاتصال، نتصور فيه النقط الزمانية افتراضا، ونتصور الزمان المتجدد المنقضى افتراضا أيضا.

ولا شك أن بعض هذا تمثيل وخيال؛ أما الصحيح فهو أن الامتداد عبارة عن بقاء الوجود الباقى عند من يتعقل معنى الوجود وبقاءه، والوجود الباقى يدركه العاقل، أزليا كان هذا العاقل أو فانيا، أما افتراض أمر وجودى منفصل عن الوجود يجتاز على الوجود فهو يؤدى إلى افتراض وجود له يجتاز عليه أمر وجودى آخر. وهذا يؤدى إلى تسلسل لا يمكن التخلص منه إلا إذا أدركنا أن البقاء شأن جوهرى للوجود الحق نميزه فى الاعتبار الذهنى، أما فى الحقيقة فإن بقاء الوجود هو عين الوجود. وإذا كان الأمر كذلك لم يكن الوجود الحق فى زمان هو ظرف له، ولم يكن هناك شئ يجتاز عليه، ومن هذا الوجه لا يكون اللَّه فى الزمان، بل هو الموجود الواجب الباقى.

ويرى الفخر الرازى المتوفى سنة 606 هـ = 1209 م، أن الزمان على معنيين، أحدهما أمر موجود خارج الذهن يطابق الحركة فى كونها بين مبدأ ونهاية، وثانيهما أمر متوهم لا وجود له فى الخارج، والموجود فى الخارج هو "الآن" الذى يفعل بسيلانه وجريانه أمرا ممتدا وهميا هو مقدار الحركة (1).

(1) راجع كشاف اصطلاحات الفنون، مادة زمان، وشرح المواقف ص 213 وما بعدها.

ص: 5315

وبعد هذا التطور تحددت المفهومات على نحو ثابت، ونجد خلاصة آراء المتقدمين وثمرة التطور السابق كله محددة فى كتب التعريفات عند المتأخرين كالجرجانى فى تعريفاته، والتهانوى فى الكشاف: فالدهر هو الآن الدائم الذى هو امتداد الحضرة الإلهية، وهو باطن الزمان وبه يتحدد، الأزل والأبد، والأزل استمرار الوجود فى أزمنة مقدرة غير متناهية فى جانب الماضى، كما أن الأبد استمرار الوجود فى أزمنة مقدرة غير متناهية فى جانب المستقبل؛ والأزلى ما لا يكون مسبوقا بالغير أو بالعدم؛ والسرمد ما لا أول له ولا آخر، ونسبة المتغير إلى المتغير بالمعية أو القبلية أو البعدية تعطينا معنى الزمان وتحتم وجوده من كلا جانبيه؛ ونسبة المتغير إلى الثابت تعطينا معنى الدهر للثابت والزمان للمتغير، وتحتم وجود الزمان من أحد جانبيه، ونسبه الثابت إلى الثابت من حيث وجودهما معا تعطينا معنى السرمد ولا تحتم وجود زمان لهما، وعلى هذا يكون الزمان للمتغير دون الثابت؛ والمتغير الذى يوجد دفعة واحدة إنما يوجد فى آن هو طرف الزمان، فلا يوجد إلا فى زمان؛ أما الأمور الثابتة التى لا تتغير تغيرا تدريجيا ولا دفعيا فهى مع الزمان ولكنها فى حد ذاتها مستغنية عنه. والمتأخرون يرفضون رأى أبى البركات فى الزمان، لا لأنه "مدة الوجود"، بل لأنه رأى أن وجود اللَّه تعالى فى الزمان. ولا خلاف بين الفلاسفة ولا بين المتكلمين فى أن اللَّه لا يجرى عليه زمان وإن كان وجوده قد يكون مع الزمان، لأن الأشياء الموجودة فى الزمان قد تكون موجودة مع وجود اللَّه، ولكن بين وجودها ووجوده تعالى فرق حاسم.

أما غير ذلك مما يتعلق بالزمان من نحو رأى أفلاطون أو الآراء التى ترجع إلى مذهبه، كالقول بأن الزمان جوهر مجرد عن المادة، أو أنه الفلك الأعظم، فكل ذلك لا يذكر عند الإسلاميين إلا كما يذكر الشئ التاريخى.

أما رأى المتكلمين فى معنى الزمان فقد رأينا شيئا منه عند المعتزلة، ومنه يتبين أنه ليس عندهم ذاتا ولا شيئا حقيقيا، بل هو اعتبارى بالنسبة

ص: 5316

للأعمال أو الأشياء. ولما كان المتكلمون جميعا يقولون بحدوث العالم -وهو عندهم كل ما سوى اللَّه- فهم جميعا يقولون بحدوث الزمان وتتاهيه من أوله تبعا لحدوث العالم، وعلى هذا الأساس أقاموا الدليل على وجود الخالق، واختلفوا فى ضرورة تناهى العالم وفنائه، فمنهم، مثل جهم بن صفوان، من قال بوجوب فنائه آخر الأمر ليبقى اللَّه وحده بعد فناء العالم، كما كان وحده قبل خلقه له؛ ومنهم، مثل أبى الهذيل العلاف، من قال بضرورة انتهاء حركة العالم إلى سكون دائم؛ ومنهم، مثل الإسكافى والنظام والكندى الفيلسوف والغزالى من جوز بقاء العالم والحركة والزمان بقاء مستمرا، لكن ما دام ذلك البقاء والاستمرار سيدخل فى دائرة الفعل فهو بالضرورة متناه، وإن كان من حيث القوة والإمكان يمكن أن يعتبر لا نهاية له (1). والمتكلمون بالجملة، تمشيا مع تصورهم الذرى للكون، ينكرون الكم المجرد سواء كان عددا (وهو الكم المنفصل) أو مقدرا أعنى امتدادا مكانيا (هو الكم المتصل غير القارّ الذى يعرض فى الجسم أو يكون فيه)، وهم قد انكروا الزمان أيضا (أى الكم المتصل غير القارّ) ولم يعتبروه موجودا حقيقيا بل أمرا عرضيا اعتباريًا موهوما؛ فالماضى قد انقضى ولا وجود له، والمستقبل لم يات بعد، فلا يبقى إلا الحاضر، فلو قيل بوجود زمان حاضر -هو الآن- لكان جزءًا لا يتجزأ مستقلا بذاته، وهذا ما لا يقول به الفلاسفة فضلا عن المتكلمين، ولو كان الزمان شيئا موجودًا -مع القول بأنه كم متصل غير قار- لتقدم بعض أجزائه على بعض، وهذا التقدم لا يكون إلا بالزمان، وهذا يؤدى إلى التسلسل. والأشاعرة يرون أن الزمان "متجدد معلوم يقدر به متجدد مبهم إزالة لإبهامه، وقد يتعاكس التقدير بين المتجددات، فيقدر تارة هذا بذاك وأخرى ذاك بهذا، وإنما يتعاكس بحسب ما هو متصور ومعلوم للمخاطب، فإذا قيل مثلا: متى جاء زيد؟ يقال: عند طلوع الشمس، إن كان المخاطب الذى هو السائل مستحضرا لطلوع الشمس ولم يكن مستحضرا لمجئ زيد كما دل عليه

(1) راجع كتاب الانتصار للخياط ص 9 - 13، طبعة القاهرة 1344 هـ = 1925 م، وكتاب التهافت للغزالى طبعة بيروت، ص 80.

ص: 5317

سؤاله، ثم إذا قال غيره: متى طلع الشمس؟ يقال: حين جاء زيد، لمن كان مستحضرًا لمجئ زيد دون طلوعها الذى سأل عنه، ولذلك. . اختلف الزمان بالنسبة إلى الأقوام، فيقدر كل واحد منهم المبهم بما هو معلوم عنده" (1).

ومن البين أن الأشاعرة -والمقصود هم الأشاعرة الأولون- لم يخرجوا عن تصور المعتزلة الأولين. ومن هذا القبيل رأى الطبرى محمد بن جرير المؤرخ المفسر المتكلم المتوفى سنة 311 هـ = 922 م، فهو يقدم لكتابه الكبير فى التاريخ بمقدمة عن الزمان فيقول إنه مخلوق، ويتناول بالبحث ماهيته وكميته، ويبحث مشكلة: هل كان قبل خلق اللَّه للزمان شئ؟ وهل الزمان فان؟ وهل بعد فنائه شئ غير اللَّه؟ وكيف كان ابتداء خلق اللَّه للزمان؟ وكيف يكون فناؤه .. إلخ. ولا يتسع المقام لذكر رأى الطبرى فى هذا كله، فلنكتف بذكر تعريفه له بأنه "ساعات الليل والنهار" وأن هذه مقادير من جرى الشمس والقمر فى الفلك، وأنه يطلق على الطويل من المدة والقصير ويستعمل ظرفًا، كما يقال: جئتك زمان الصرام. أو أزمان الحجاج، وأن الزمان حادث تبعًا لحدوث الشمس والقمر وحركتهما وحدوث الليل والنهار عنهما، وله بداية، أما ما جاء فى القرآن أو غيره من الكتب المقدسة من ذكر "أيام" قبل وجود الشمس والقمر فذلك عند الطبرى مجاز.

وإذا أردنا مفكرًا إسلاميًا من المغرب الإسلامى وجدنا ابن حزم القرطبى المتوفى 456 هـ = 1062 م يتمسك بمعنى الزمان، كما يتمسك بمعنى المكان، المعهود المعروف عند العقلاء، ويعرفه بأنه "مدة وجود الجرم متحركا أو ساكنًا" أو "مدة وجود العرض فى الجسم"، أو بعبارة أعم "مدة وجود الفلك وما فيه من الحوامل والمحمولات". ويستعمل ابن حزم كلمة زمان مرادفة لكلمة "مدة" و"أمد" و"بقاء". أما ما يسمى "بالزمان المطلق"(الدهر) أو "المكان المطلق" (الخلاء، من حيث إن كلا منهما "معنى ثابت قائم

(1) شرح المواقف، للجرجانى، طبعة إستانبول، 1286 هـ، ص 219؛ والمحصل للرازى، طبعة القاهرة 1322 هـ، ص 61 - 63.

ص: 5318

بنفسه موجود" ومستقل عن مدة وجود الأشياء المادية أو عن مكانها -وهذا عند ابن حزم هو مذهب المجوس ومذهب محمد بن زكريا الرازى الطبيب- فذلك عند ابن حزم شئ ليس عليه دليل ولا شبه دليل، وهو من قبيل الوساوس التى يستطيع أن يدعيها كل من لا يبالى ما يقول. ولا يتسع المقام لذكر أدلة ابن حزم على فسادها، ومهما يكن من شئ فالزمان عند ابن حزم حادث تبعا لحدوث ما هو مدة له (1).

وفى حدود هذه الفكرة العامة عن الزمان عند المتكلمين، أعنى إنكارهم حقيقة الزمان وجوهريته وقدمه تنوعت آراؤهم وتحددت وازدادت عمقا. وأول فكرة تستحق التسجيل هى فكرة الغزالى. يرى الغزالى (2) أن الزمان حادث بحدوث العالم، وأن له، تبعًا لذلك، بداية، وأن تقدم اللَّه على العالم وعلى الزمان معناه أنه كان وحده قبل خلقه إياهما، وكلمة: كان، من قولنا:"كان اللَّه، ولم يكن معه عالم" ومن قولنا: بعد وجود العالم: "كان اللَّه ومعه العالم". وكذلك كلمة يكون من قولنا، بعد زوال العالم:"يكون اللَّه، ولا عالم معه"، كل هذه الكلمات لا تدل على وجود فى الزمان، بل على وجود اللَّه وحده، أو وجوده مع غيره، أما ما نتخيله من وجود معنى ثالث، هو الزمان، فهو فى رأى الغزالى من خطأ الوهم، وهو "نسبة لازمة بالإضافة إلينا"، والوهم لا يستطيع أن يتخيل وجودًا مبتدأ إلا ويتخيل شيئا قبله، هو الزمان، ولا يصح الاحتجاج فى إثباته بالاستناد إلى عجز الوهم. وكما أن العالم محدود متناه فى المكان، بحيث لا يوجد خارج العالم شئ، لا خلاء ولا ملاء، فكذلك لا يوجد قبل العالم ولا بعده زمان، وإذا كان قيام الدليل على تناهى العالم فى الامتداد وفى المكان يمنع من تصور امتداد خارج العالم، فكذلك قيام الدليل على تناهى الحركة من أولها ومن آخرها، وهو ما يثبته الغزالى، يمنع من القول بامتداد زمانى قبل خلق العالم، وان كان الوهم لا

(1) راجع كتاب الفصل القاهرة 1347 هـ جـ 1، ص 27 فما بعدها.

(2)

المسألة الأولى من كتاب التهافت.

ص: 5319

يرجع عن خطئه، ودليل الغزالى فى ذاته شيئا حقيقيًا يقوم على فكرة التوازى والتشابه بين المكان والحركة والزمان. وقد أراد بعض الباحثين أن يتخذ من رأى الغزالى فى الزمان دليلا على أنه يرى أن فكرة الزمان شئ ذهنى وذاتى محض، وأنها "نسبة محضة" ويعارضهم باحثون آخرون، والحقيقة أن فى رأى الغزالى قسطًا من المذهب الذاتى فيما يتعلق بالزمان بحيث لا يصح إنكاره (1).

وما دام كاتب المقال الذى نعلق عليه قد أشار إلى الوقت عند الصوفية إشارة موجزة لا يكاد القارئ يفهم منها شيئا، فلنضف إلى كلامه أن الصوفية قد يستعملون كلمة الوقت فى معنى الزمان استعمالا لا يخرج عما نعرفه عند المتكلمين، معتزلة وأشاعرة، فيعرفونه بأنه "حادث متوهم علق حصوله على حادث متحقق، فالحادث لتحقق وقت للحادث المتوهم؛ يقول: آتيك رأس الشهر، فالإتيان متوهم، ورأس الشهر حادث متحقق؛ فرأس الشهر وقت الاتيان". ولكن الصوفية يستعملون كلمة الوقت استعمالا اصطلاحيًا، فيعتبرونه الحال التى يكون الإنسان فيها، ويقصدون من ذلك إقامة اللَّه للعبد فى حال من أحواله. ويرتبط هذا المعنى عندهم بآداب السلوك وترك التدبير للَّه، والوقت بهذا المعنى "حال" فردى، فلكل إنسان وقت، وفى هذا الوقت يحدث اللَّه ما يشاء، ويجب على الإنسان أن يراعى الأدب مع اللَّه، فيوفى كل وقت حقه ولا يترقب وقتًا يكون فيه فارغًا من الوقت الذى هو فيه، لأن ترقبه لذلك يمنعه من القيام بحقوق وقته، بل هو إذا ورد عليه خاطر يشغله عن حكم وقته استوحش منه. ومن هنا ندرك معنى قول ابن عطاء اللَّه فى حكمه:"ما ترك من الجهل شيئًا من أراد أن يحدث فى الوقت غير ما أظهره اللَّه فيه وقوله: "ما من نفس تبديه إلا وله (للَّه) قدر فيك يمضيه"، وقول ابن عباد الرندى فى شرحه على هذه العبارة الأخيرة: "الأنفاس أزمنة دقيقة تتعاقب على العبد ما دام حيا، فكل نفس يبدو منه ظرف لقدر من أقدار الحق تعالى ينفذ فيه". ويقسم أبو العباس المرسى أوقات العبد أربعة أقسام: وقت

(1) راجع كتاب Ridah Al-Ghazali und seine Widerleguug der griechischen Philosiphie: Abou مدريد، 1952، ص 108 وما بعدها.

ص: 5320