الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(12)
اليافعى: المرآة، جـ 2، ص 218.
(13)
الكندى: ولاة مصر، فى مواضع مختلفة، والمقدمة ص 18.
(14)
Classen der hanefitischen Rechtsgelehrten: Flugel، ص 296 وما بعدها.
(15)
Gesch. der Arab. Lit.: Brockelmann جـ 1، ص 173.
(16)
حاجى خليفة: كشف الظنون، فى مواضع مختلفة، وانظر رقم 4131.
(17)
وقد استشهدت جل كتب الفقه الحنفى بالطحاوى.
خورشيد [كرنكو F.Krenkow]
طرابليس
مدينة على الساحل الشمالى لإفريقية، على خط 13 ْ 20 َ شرقا، وخط عرض 32 ْ 50 َ شمالا، وهى الآن مقر حكومة بلاد طرابلس، وإحدى الولايتين اللتين تتألف منهما ليبيا الإيطالية (1)، وقد بلغ عدد سكانها المسلمين، وفقا للتعداد الذى قامت به بلدية طرابلس سنة 1914:19.907 نسمات بما فى ذلك المنشية Menscia، وكان عدد سكانها اليهود 10.471 نسمة؛ وبلغ عدد الأوربيين فى مدينة طرابلس وحدها 14.180 نسمة، ولعل عددهم بلغ 25.000 فى سنة 1928 فيكون المجموع نحو 60.000 نسمة.
والاسم تريبولس Tripolis الذى أطلق على الأقليم الذى كان يتكون من المدن الثلاث سبرته Sabrata وأويا Oea ولبتيس (ليكى) (Leptis (Lepqi وأصله فينيقى قرطاجنى، لم يظهر إلا على يد الكتاب الرومان الذين عاشوا فى القرن الرابع الميلادى؛ على أن الاسم تريبوليتانيا Tripolitania كان قد أطلق منذ القرن الرابع الميلادى؛ على أن الاسم تريبوليتانيا Tripolitania كان قد أطلق منذ القرن الثالث الميلادى على الإقليم الذى كان يسمى أيضا سرتيكا Sirtica كان يدار من المركز الإدارى تكابه Tacape أى قابس. ونجد فى العهد
(1) أصبحت بعد ذلك مملكة مستقلة وبلغ عدد سكان مدينة طرابلس وفقا لتعداد 1950: 1.8240 نسمة وبعد قيام ثورة الفاتح من سبتمبر 169 صارت جمهورية وأصبح اسمها الجماهيرية العربية الليبية. . "المحرر"
البوزنطى أن الاسم تربيولس قد أطلق على مدينة أويا، وتأيد هذا الاستعمال فى عهد الفاتحين العرب ممثلا فى صيغة طرابلس وأطرابلس وأضيف إلى هذه الصيغة "الغرب"، تمييزًا لها عن طرابلس الشام.
وكانت مدينة أويا القديمة، إحدى مراكز سرتيكا التجارية، مستعمرة فينيقية فى أول الأمر، ثم أصبحت مستعمرة قرطاجنية؛ وبدأ النفوذ الرومانى يسود فى القرن الثانى الميلادى أثناء الحروب البونية. ونستطيع أن نرد تاريخ الحكم اليونانى المباشر إلى أواخر العهد القرطاجنى (149 ق. م).
وكان جل المدينة القديمة يقع فى الجزء الغربى من المدينة الحالية حول قوس مرقس أوريليوس Marcus Ayrelius الذى لا يزال باقيا، وقد أقامه سنة 163 ميلادية كليورنيوس C.Calpurhius Celsus (cutaator muneris et publicus munerarius) فى عهد الوالى الرومانى كورنيليوس أورفيتوس Cornelius Oritus، وأهداه إلى الإمبراطورين أوريليوس أنطونينوس M. Aurelius Antontus ولوشيوس فيروس Lucius Verus؛ على أنه لم يكن لأويا شأن سياسى أو عسكرى أو اقتصادى، بالرغم من ثغرها الذى كان يحميه حاجز من الصخور؛ وكان لمركزى سبرته ولبتيس التجاريين وقتذاك شان عسكرى واقتصادى أكبر مما كان لأويا.
ويمكن أن نرجع أول سور للمدينة إلى القرن الرابع الميلادى وقتما أخذت غارات البدو التى كانوا يشنونها من الداخل تهدد المدينة. ويقول بروكويبوس Procopius إن الوندال الهمج دمروا أسوار المدن الإفريقية، ولكن من المحقق أن البوزنطيين بادروا إلى إعادة بنائها؛ ونحن نجد فى طرابلس أيضًا أن الأقسام التى ثبتت من الأسوار لعوادى الزمان، وتهدمت بعض أجزائها منذ الاحتلال الإيطالى، لا تزال تحتفظ بآثار من الفن البوزنطى؛ ولم تكن الأسوار تحيط بالمدينة فى ذلك الجانب المشرف على البحر، ومن ثم استطاع الفاتحون العرب أن يدخلوها من الغرب مسايرين الساحل.
وقد احتل الوندال طرابلس حوالى سنة 439 م، وظلوا يحكمونها حتى سنة 535 م فيما عدا الفترة التى استغرقتها حملة هرقل Heraclius، والتى أنفذت من بوزنطة سنة 468؛ وقد غزا بليزاريوس Belisarius ولاية إفريقية القديمة سنة 533 م، ثم سير أيضًا جيشًا إلى طرابلس، وبذلك يمكن أن نقول إن طرابلس كانت خاضعة للدولة الرومانية الشرقية منذ سنة 535 م؛ والظاهر أن المذهب الكاثوليكى الذى اضطرب حبله بسبب غزو الوندال الآريين وفتن القبائل فى الداخل عاد فازدهر فى طرابلس نحو قرن من الزمان.
والمؤرخون غير متفقين على تاريخ الاحتلال الإسلامى، فيذهب بعضهم إلى أنه حدث سنة 22 هـ (642 - 634 م) ويذهب البعض الآخر إلى أنه حدث بعد ذلك بسنة ولعل طلائع غزاة مصر من العرب قد اندفعوا حتى بلغوا طرابلس سنة 22 هـ، ثم أنفذت حملة أخرى إليها سنة 23 هـ.
ومن المعروف أن الحملات الإسلامية الأولى كانت أقرب إلى الغارات منها إلى الفتح، ذلك أن المغيرين لم يوطدوا أقدامهم فى ذلك الحين لا فى داخل ولاية طرابلس ولا فى طرابلس نفسها، وإنما حدث فى تاريخ متأخر أن اجتازها عبد اللَّه بن سعيد ومعه عقبة بن نافع، وكان ذلك سنة 26 هـ (647 - 648 م)؛ وتغلغل عقبة بن نافع سنة 45 - 46 هـ فى غزو إفريقية، وزودت طرابلس فى نحو ذلك الوقت بحامية (جند) دائمة؛ ونحن لا نعرف أسماء ولاة المدينة.
وفى سنة (131) هـ (748 - 749 م) سار عبد الرحمن بن حبيب، والى إفريقية بعد سنة 126 هـ إلى طرابلس وقتل رجلين من أهل طرابلس هما عبد الجبار والحرث وهما من بربر الإباضية؛ وفى سنة 132 هـ أعاد بناء أسوار المدينة. ويقول ابن خلدون إن بكر بن عيسى القيسى كان يحكم المدينة آنئذ، وإنه قتل خلال الفتنة؛ وساد الاضطراب برابلس وأرباضها خلال القرنين الثانى والثالث بسبب الفتنة السياسية الدينية التى قام بها الإباضيون، وقد وجدت هذه الفرقة
أتباعا كثيرين بين بربر هوارة وزناتة، وكانوا العنصر الغالب على السكان. وحوالى سنة 140 هـ (757 - 758 م)، خرج الإمام أبو الخطاب المعافرى الإباضى من طرابلس فى الفتنة المعروفة باسم فتنة ورفجومة التى هددت ملك العرب فى إفريقية الشمالية تهديدًا خطيرًا، إلا أنها أخمدت على يد محمد بن الأشعث الذى أنفذه الخليفة المنصور فى وقعة توارغة (143 هـ = 760 - 761 م)، وقامت فتن أخرى فى السنوات التالية بسبب الإباضية المتمردين، وتكرر حصار طرابلس والهجوم عليها. ونحن نعلم أن هرثمة، والى إفريقية، أمر ببناء السور على الجانب المحازى للبحر سنة 179 - 180 هـ (795 - 797 م)، جاسم العباسيين (البكرى، ترجمة، de Slane ص 25؛ ابن الأثير، جـ 6، ص 49؛ ابن عذارى، ترجمة Fagnan، جـ 1، ص 107).
وظلت طرابلس تحت حكم الأغالبة من سنة 184 هـ حتى سنة 296 م (800 - 909 م)، على أن هذا القرن لم يكن من القرون التى سادها الهدوء، فقد ذكر ابن خلدون من بين الفتن الكثيرة تلك الفتنة التى قامت سنة 196 هـ (811 - 812 م) لمناهضة عبد اللَّه ابن الأمير إبراهيم بن الأغلب وخليفته سفيان بن المضاء، وكان زعماء هذه الفتنة هم أيضًا من البربر الإباضية الذين اتخذوا من جبل نفوسة مركزًا لمقاومتهم؛ ثم غزا العباس بن أحمد بن طولون أمير مصر، ولاية طرابلس فى عهد الأمير زيادة اللَّه الأغلبى، وأوقع العباس الهزيمة بمحمد بن فرهب والى طرابلس سنة 265 هـ (868 - 869 م) فى لبدة وحاصره 43 يومًا فى طرابلس.
وخضعت طرابلس للعبيديين أثناء حكمهم لشمالى إفريقية، وكانوا هم الذين يقيمون ولاتها؛ وقد ورد ذكر فتنة أخمدها أبو القاسم سنة 300 هـ (912 م)؛ انتقل العبيديون إلى مصر، حكم طرابلس أول الأمر بنوزيرى الذين تركهم العبيديون فى إفريقية يتولون أمرها باسمهم، على أنه لم ينقض وقت طويل حتى استتب الأمر
لبنى خزرون، وهم عشيرة من البربر تنحدر من قبيلة زناتة، فاستلقوا بأمرها (391 - 541 = 1000 - 1145 م)
على أن تاريخ هذه الفترة التى بلغت قرنًا ونصف قرن من الزمان ليس واضحًا تمام الوضوح بالرغم من المعلومات التى زودنا بها ابن عذارى وابن خلدون وابن الأثير، ونعمت طرابلس حينا من الزمن بحكم ذاتى يكاد يكون كاملًا، على أن هذا الحكم كانت تتنازعه الخلافات الداخلية.
وكان من شأن غزوة بنى هلال وبنى سليم، تلك الغزوة التى غيرت النظام السلالى والسياسى فى إفريقية الشمالية تغييرًا بالغ الأثر، أن أطاحت بحكم بنى خزرون فى طرابلس، وظلت المدينة أثنتى عشرة سنة (1146 - 1158) تحت حكم النورمنديين، ثم غزاها الموحدون، وظلت فى قبضة أيديهم قرنًا أو نحو قرن، تتخلله الغزوات والفتن التى تسبب فيها قرقوش المغامر وبنو غانية.
ونحن نعرف عن أحوال طرابلس فى عهد بنى حفص أكثر من ذلك، بفضل ابن خلدون والتيجانى والزركشى، فقد انقضت تبعية طرابلس للموحدين سنة 646 هـ (1247 - 1248 م)، عندما أقيم محمد بن عيسى الهنتانى واليًا على المدينة؛ واجتاز التيجانى طرابلس سنة 1308 م. فوجد واليها الحفصى يقيم فى قصبة (أى قصر)، لعلها فى موضع القصبة الحالية، وكان يحكم المدينة الوالى ومجلس من عشرة من الأعيان يجتمعون فى مسجد يسمى مسجد العشرة، وقد شاهد الرحالة فى طرابلس حمامًا جميلا وشوارع عريضة نظيفة يلتقى معظمها فى زوايا قائمة، وأعجب بقوس مرقس أوريليوس وبالمسجد الأعظم وبكثير من المزارات وبمدرسة كانت تسمى المدرسة المستنصرية وبأسوار قوية عنى القوم بصيانتها وتمتد الخنادق أمام بعض أجزائها، وكانت حياة المدينة العقلية مزدهرة فى ذلك الوقت تحفل بالكثير من المثقفين.
وقد ظهرت طرابلس، بعد زيارة التيجانى بوقت قصير، فى تاريخ المنافسات الداخلية بين الأسرة
الحفصية، وذلك فى عهد اللحيانى، وقد حدث من بعد أن قامت فى المدينة أسرة حاكمة أخرى مستقلة برأسها أو تكاد بالرغم من دوام حكم الحفصيين، وهى أسرة بنى ثابت أو بنى عمار، وهم قوم من البربر (1324 - 1400 م)، وفى تلك الفترة غزا فيلييو دوريا Filippo Doria البندقى المدينة بضعة أيام ونهبها سنة 1354، وباعها فى الحال لقاء 50.000 مثقال من الذهب للمرينيين. وقد جعل السلطان أبو فارس الحفصى نفوذه المباشر ملموسًا حتى طرابلس وذلك لعشرات من السنين بعد ذلك التاريخ، وكادت المدينة بعد هذا تصبح مستقلة بأمر نفسها فى ظل ولاتها إلى سنة 1510 م، وهو تاريخ الغزو الأسبانى.
وكان بطرس أمير نافار (نبرة) Petrer of Navarre قد غزا وهران سنة 1509 وبجاية فى يناير سنة 1510، وأصاب المدينة تلف كبير من هجوم الإسبان عليها ونهبهم لها، على أن الإسبان أعادوا بناء القصبة على نحو ما بقيت عليه حتى الآن أو تكاد، كما قاموا بترميم أسوارها؛ ولا نعرف إلا القليل عن الحكم الإسبانى الذى استمر عشرين عاما (1510 - 1530 م).
وقد زارت المدينة سنة 1524 لجنة من تلك الطائفة التى عرفت من بعد باسم فرسان مالطة، وكانت قد تركت رودس ولجأت إلى كيفيتا فششيا Civita Vecchia وفيتربو Vitebro، ثم أقطع الإمبراطور شارل الخامس تلك الطائفة الأرخبيل المالطى سنة 1530 فأصبحت طرابلس من نصيب الحكام الجدد؛ وظل فرسان مالطة فى طرابلس من سنة 1530 حتى سنة 1551 م، وثبتوا للحملات التى كان يشنها العرب المتمردون الذين كانوا يتلقون العون من القراصنة المغاربة المتحالفين مع الباب العالى؛ وكان خير الدين بربروسه قد احتل تونس سنة 1533 وراح يهدد طرابلس؛ وجاء بعده مراد أغا، وهو قرصان وصل من الآستانة، ووجه من تجورة غارات متصلة على طرابلس من البر والبحر، وكان للطائفة فى طرابلس حامية من الفرسان والمرتزقة الإيطاليين
والإسبان، وقد اقتصر سلطانها على المدينة وعلى ما جاورها مباشرة؛ وفى الخامس من أغسطس سنة 1551 م حاصر المدينة سنان باشا هو ودرغوث باشا ومراد أغا، واستولوا عليها فى 13 من أغسطس، واستطاع الحاكم، وهو القائد الراهب جاسبار دى فالييه Fra Gaspar de Valier، أن يرحل إلى مالطة مع فرسان الحامية، وقتل معظم المرتزقة؛ وأصبح مراد أغا الوالى الجديد يتولى الحكم باسم الباب العالى حاملا لقب بكلربك، وقد خلد اسمه بالمسجد الجامع القائم فى تجورة، وخلفه حوالى سنة 1554، درغوث باشا، وهو من الشخصيات ذات الشأن فى تاريخ آل عثمان وتاريخ البربر، وبخاصة فى تاريخ طرابلس؛ وقد قتل هذا الرجل فى حصار مالطة (1565 م) ودفن فى المسجد الذى أقامه فى طرابلس؛ وحاولت إسبانيا، كما حاول فرسان مالطة، انتزاع المدينة من الترك، وانتهت حملة 1559 - 1560 بكارثة حلت بهم فى جزيرة جربة، وباءت المحاولة التى بذلوها سنة 1589 - 1590 بالفشل بالرغم من تفاهمهم مع مرابط من المتمردين يدعى يحيى، وكثيرًا ما كانت تدخل سفن (غلايين) مالطة ميناء طرابلس وتحرق سفنها.
وكانت طرابلس مقر الأورجاق الذى يحمل الاسم نفسه، وهو أحد الأوجاقات الثلاثة التى كانت للإنكشارية فى المغرب، وكان كبيرهم الموفد من الآستانة يحمل لقب باشا؛ على أنه سرعان ما قامت حكومة من حكومات الأقلية بين الإنكشارية إستأثرت بالحكم فى طرابلس، كما حدث فى تونس والجزائر، نظرا لبعد المسافة والانحلال الذى دب فى الحكومة المركزية، ونشأت الطبقة العنصرية القلغلى نتيجة للتزاوج بين أفرادها وبين أهل البلاد، وكان النصارى الذين أسلموا كثيرين ولهم سلطان كبير، وكان الباشا يحكم يعاونه ديوان، وكان يرأس الردارة داى، كما كان يرأس الجيش بك، وكان الداى والبك فى كثير من الأحوال هما سيدا المدينة الحقيقيان. وتاريخ طرابلس كله فى القرن السابع عشر ومستهل القرن الثامن عشر يزخر بهذه الفتن التى كان يقوم بها الإنكشارية؛ وكانت الحكومة
المركرية تزداد ضعفا والفوضى تنشب فى الداخل، على حين كان سلطان القناصل يزداد وبخاصة قناصل فرنسا وانجلترا وسردانية من بعد.
وبدأت طرابلس تمر بفترة عظم فيها سلطانها حين تولى أمرها محمد باشا ساقزلى من أهل خيوس، وقد حكم محمد من سنة 1042 هـ إلى سنة 1059 هـ (1632 - 1649 م)، وخلفه زوج ابنته عثمان باشا، وهو أيضًا من خيوس (1649 - 1672 م)، وفى هذه السنوات الستين، التى حدث خلالها حصار خانية المشهور (1645 - 1669)، ازدادت جرأة أسطول القرصان فى طرابلس عما كان عليه فى الماضى، وغنم غنائم كثيرة، وازدانت طرابلس بمساجد كثيرة وحمامات عامة؛ وفى عهد خلفائهما قضت انجلترا سنة 1676 وفرنسا سنة 1685 على صلف هؤلاء القراصنة الذى لا يحتمل بالتهديد وضرب المدينة بالمدافع، واستمر الصراع الداخلى حتى سنة 1711 وهنالك نجح أحمد قره مانلى فى إقامة أسرة حاكمة، بعد أن قتل خصومه، وقد حكمت هذه الأسرة بموافقة الآستانة أكثر من قرن (1711 - 1835). وقد خلفت أسرة قره مانلى آثارًا كثيرة فى طرابلس فى ذلك الجزء الباقى من المدينة الإسلامية المغربية، ومن ثم وجب علينا أن نسهب فى ذكر تاريخ هذه الأسرة.
كان أحمد قره مانلى (1711 - 1745) رأس هذه الأسرة رجلا عالى الهمة جم النشاط، وقد نعمت طرابلس أثناء حكمه الذى دام 34 عامًا بالرخاء الاقتصادى وبالسلام إلى حد ما، وشعر الناس بقوتها أكثر من أى وقت مضى فى داخل طرابلس نفسها حتى فزّان وإقليم برقة، وكشف أحمد النقاب سنة 1721 عن مؤامرة تدبر لاغتياله، فاستولى بمعاونة أسرته وأصدقائه على جهاز الإدارة والحكم فعلا، وكتب مؤرخ اسمه ابن غلبون تاريخ طرابلس حوالى سنة 1731 - 1732. وقد تحدث ابن غلبون فى معظم كتابه عن عهد قره مانلى، وكان ثمة شعراء أيضًا أشادوا بمغامراته وكرمه، على أنه كان قاسيًا وطاغية على أعدائه وعلى كل الذين كانوا يثيرون شبهته، وتوفى وهو كفيف البصر سنة 1745. ويذكر ابن غلبون من مآثره كثيرًا من الأوقاف التى أوقفها على المدينة، كما أنشأ
قنطرة معلقة تأخذ الماء من عين قريبة بدولاب وتزود به الحصن والمساجد، وكذلك أنشأ أحمد نافورة على الشاطئ تزود البحارة بالماء؛ إلا أن أروع ما يخلد ذكراه هو ذلك المسجد الذى أقامه (1737 - 1738) على الجانب المشرف على الحصن وألحق به مدرسة لا يزال الطلاب يختلفون إليها، وأغناها بكثير من الموارد ومن بينها دخل السوق المجاورة. وجمّل الحصن بغرف جديدة أنشأها ثم جدده، وقد لقى الشدائد من الدول الكبرى ومن القناصل بسبب الأضرار التى لحقت بتجارة البحر على يد قراصنته، إلا أنه أظهر من الإنسانية نحو النصارى بل الكرم فى كثير من الأحيان ما جعلهم يأخذون منذ ذلك الحين فى الاستقرار بأعداد غفيرة فى المدينة، وراحوا يمارسون صناعاتهم وحرفهم، وأحسن أحمد أيضًا معاملة بعثة الفرنسيسكان ثم خلفه ابنه محمد باشا قره مانلى (1745 - 1754)، وكانت مدة حكمه أقصر من أن تترك له أثرًا باقيًا، ودافع الانجليز بحرارة سنة 1751 عن حقوق مواطنيهم فى البحار؛ وأخمد محمد سنة 1752 فتنة قام بها الألبانيون، وخلف محمدًا ابنه على باشا (1754 - 1793) ومدة حكمه معروفة جيدا بفضل المصادر التاريخية العديدة، المطبوع منها والمخطوط. وفى سنة 1765 وقع على فى البندقية، جوساطة سفير من السفراء، على معاهدة صلح مع هذه الجمهورية، إلا أنه نكث بعهوده فى السنة التالية فأكرهه أسطول من البندقية عقد لواؤه الكابتن كياكومو نانى Captian Ciacomo Nani، على الوفاء بها؛ وكانت الحكومة فى عهد على باشا مؤلفة على الوجه التالى: الباشا رئيس الدولة الأعلى، ويساويه فى سلطانه الملكى أو يكاد البك قائد الجيش، والأغا رأس الإنكشارية، والكخيا عاهل الدولة المدنى الأول ومستشار الباشا، والرئيس قائد أسطول القراصنة، والخازندار، أمين خزانة الدولة، وشيخ كان يدير دفة الأعمال بالمدينة وكان أشبه بالعمدة، وخوجه يعاونه كتاب آخرون فى ديوان الحكومة، وكانت تتخذ قرارات لها شأنها فى ديوان المجلس المؤلف من رجال كانوا سفراء فى أوروبا أو قوادا من العسكريين، وقيل أن على باشا كان قد بدأ يهمل استشارة الديوان.
واجتاح طرابلس سنة 1784 - 1785 قحط مروع كما اجتاحها الطاعون، ويقال إن ربع السكان الذين كان يبلغ عددهم 14.000 نسمة لقوا حتفهم؛ ولم يكتب لعهد على قره مانلى التوفيق بالنسبة للمشاحنات العائلية التى أثارتها أطماع يوسف بك، أحد أبنائه، فقد بلغت به الحال سنة 1790 أن قتل أخاه حسن بك وهو بين ذراعى أمه لاله حلّومة، وأصبح يوسف بك طريد القانون وراح يشهر الحرب على أبيه؛ وحدث فى سنة 1793 أن دخل رجل يدعى عليا برغل، وكان من قبل ضابطا فى الجزائر، ميناء طرابلس ببعض سفن وشرذمة من المرتزقة اليونانيين، واحتل المدينة فى ليلة الثلاثين من يولية؛ ولجأ على باشا إلى تونس، ثم عاد منها سنة 1795 ومعه أطفاله، بفضل معاونة حمودة باشا أمير تونس، وارتد على برغل إلى البحر فى ليلة الثامن من فبراير.
وتولى أحمد باشا الثانى، ابن على باشا قره مانلى، الحكم بينما كان أبوه، الذى توفى سنة 1795 لا يزال على قيد الحياة، إلا أنه لم يستطع أن يحتفظ بالحكم بسبب غيرة أخيه يوسف الذى حل محله فى يونيه سنة 1795.
وكان يوسف باشا قره مانلى (1795 - 1832) يتصف إلى جانب شجاعته وبعد نظره بما يتصف به عواهل المغاربة من الغدر والمكر والقسوة؛ وقد عنى بإصلاح الاستحكامات وجدد أسوار المدينة بين الميناء والحصن كما يستفاد من نقش تاريخه سنة 1215 هـ (1800 - 1801 م) فى جوار سوق النجارة، وقد اكتسبت ولاية طرابلس أهمية دولية خلال حروب نابليون، بسبب الحملة المصرية واحتلال مالطة، وكان المفروض أن تتخذ طرابلس قاعدة لتزويد مالطة بالطعام وللاحتفاظ بالعلاقات مع مصر بعد أن سيطر الانجليز على البحر، على أن هذا لم يكن ممكنا، ذلك أن الانجلير كانوا قد سدوا ميناء طرابلس وبسطوا رعايتهم على القنصل الفرنسى وأنزلوه فى جنوة، ثم استأنفت فرنسا علاقاتها الودية مع يوسف باشا سنة 1801؛ وكانت طرابلس على علاقة سيئة بالولايات المتحدة سنة 1803 - 1815 فقد كانت السفينة "فيلادلفيا" قد أنفذت لتأديب القراصنة فجنحت على صحور الميناء واحترقت، فاستنجد الأميريكيون بأحمد
قره مانلى، الأخ المخلوع عن عرشه، وحاولوا إثارة الفتنة فى برقة، إلا أنهم لم يستطيعوا أن ينالوا من الباشا الداهية، واستمرت القرصنة فى هذا الوقت، فقد بقيت حتى عهد يوسف باشا وكان على رأس الأسطول زوج ابنته مصطفى كرجى، الذى جمع ثروة طائلة أنفق بعضها فى تشييد المسجد الذى يحمل اسمه 1249 = 1833 - 1834 م)؛ وعلى إثر القرارات التى اتخذت فى مؤتمر فينا سنة 1815 وفى إكس لاشابيل، بلغ اللورد إكسماوث (Exmouth) طرابلس سنة 1816 على رأس أسطول بريطانى؛ وجددت شروط التسليم لمصلحة انجلترا ووضعت للمرة الأولى لمصلحة سردانية، وقد أنفذت سردانية سنة 1825 أسطولا إلى طرابلس تحت إمرة القائد سيفورى Sivori بقصد حل المشكلات التى أثارها الباشا بشأن الجزية التى جرى الأمر بأدائها كلما تغير القنصل، وأحرقت بعض السفن الطرابلسية ونال قنصل سردانية الترضية التامة؛ وفى ذلك العهد (1815 - 1830) كان سلطان القناصل يفوق سلطان الباشا، وكان القنصل الفرنسى روسو Rousseau والقنصل الانجليزى وارنكتون Warrington يتنافسان، وكان كل منهما جم النشاط بصفة خاصة.
وقام أسطول نابولى سنة 1830 بحملة فاشلة على طرابلس، إلا أن سلطان القراصنة أصيب بالضربة القاضية فى السنة نفسها، فقد احتل الفرنسيون الجزائر واشترط أمير البحر روزامل Rosamel فى التاسع من أغسطس وضع حد للقرصنة وتحرير جميع الأرقاء النصارى، وكان له ما أراد.
وكان يوسف باشا قد انتزع السلطان من أخيه، ثم منى فى السنوات الأخيرة من عمره بفتنة قام بها ابن أخيه محمد (1822) على أن الفوضى التى نشبت فى الولاية ومؤامرات الدول العظمى، وبخاصة الاحتلال الفرنسى للجزائر، حملت الباب العالى سنة 1835 على أن ينفذ حملة إلى طرابلس، ونزل الجيش التركى إلى البر فى 27 من مايو، وأعادت الحملة الحكم التركى المباشر إلى ولاية طرابلس بأسرها بما فى ذلك برقة، وكان على باشا قد نزل عن العرش لابنه على فى أغسطس 1832، ثم مات فى ظل النظام الجديد فى الرابع من أغسطس سنة 1838.