الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صور التواضع
1 -
تواضع الإنسان في نفسه:
ويكون ذلك بألا يظن أنه أعلم من غيره، أو أتقى من غيره أو أكثر ورعاً من غيره، أو أكثر خشية لله من غيره، أو يظن أن هناك من هو شر منه، ولا يظن أنه قد أخذ صكاً بالغفران!! وآخر بدخول الجنة!!؛ لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، يقول الله تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24].
وقال أبو زيد: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر، فقيل له: فمتى يكون متواضعاً؟ قال: إذا لم ير لنفسه مقاماً ولا حالا.
ومن التواضع ألا يعظم في عينك عملك، إن عملت خيراً، أو تقربت إلى الله تعالى بطاعة، فإن العمل قد لا يقبل، وإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]. ولهذا قال بعض السلف: لو أعلم أن الله قبل مني تسبيحة لتمنيت أن أموت الآن!
ومن ذلك التواضع عندما تسمع نصيحة، فإن الشيطان يدعوك إلى ردها، وسوء الظن بالناصح، لأن معنى النصيحة أن أخاك يقول لك: إن فيك من العيوب كيت وكيت:
وكم مرة أتعبتكم بنصيحتي
…
وقد يستفيد البغضة المتنصح!
أما من عصمه الله تعالى فإنه إذا وجد من ينصحه ويدله على عيوبه قهر نفسه، وقبل منه، ودعا له وشكره.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم، في تعريف الكبر:((الكبر بطر الحق وغمط الناس)) (1).
يعني: رد الحق، وبخس الناس أشياءهم.
فالمستكبر صاحب نفسية متعاظمة لا يكاد يمدح أحداً أو يذكره بخير، وإن احتاج على ذلك شفعه بذكر بعض عيوبه.
أما إن سمع من يذكره ببعض عيوبه فهيهات أن ينصاع أو يلين، وما ذاك إلا لمركب النقص في نفسه، ولهذا كان من كمال الإنسان أن يقبل النقد والملاحظة بدون حساسية أو انزعاج أو شعور بالخجل والضعف وها هو أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحمل الراية، ويرفع الشعار: رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا (2).
2 -
التواضع في التعلّم:
قال الشافعي: لا يطلب هذا العلم أحد بالملك وعزة النفس فيفلح، لكن من طلبه بذلة النفس، وضيق العيش، وخدمة العلم، وتواضع النفس أفلح.
وعن الأصمعي قال: من لم يحمل ذل التعلم ساعة، بقي في ذل الجهل أبداً.
قال عبد الله بن المعتز: المتواضع في طلب العلم أكثرهم علماً، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء.
وقد نظم أبو عامر النسوي فقال:
العلم يأتي كل ذي
…
خفض، ويأبى كل آبي
كالماء ينزل في الوها
…
د، وليس يصعد في الروابي
وكذلك ينبغي أن يتحمل الطالب ما يكون من الشيخ أو من بقية الطلبة لئلا يفوته العلم، فتفوته الدنيا والآخرة، مع حصول العدو وطلبه، وشماتة الأعداء من الأربعة الأمور بالاستعاذة منهن في الصحيحين في قوله عليه السلام:((تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)) (3).
وقد قيل:
لمحبرة تجالسني نهاري
…
أحب إلي من أنس الصديق
ورزمة كاغد في البيت عندي
…
أعز إلي من عدل الرقيق
ولطمة عالم في الخد مني
…
ألذ إلي من شرب الرحيق
وقال الشافعي: غضب الأعمش يوماً على رجل من الطلبة فقال آخر: لو غضب علي مثلك لم أعد إليه.
فقال له الأعمش: إذا هو أحمق مثلك، يترك ما ينفعه لسوء خلقي. ذكره البيهقي (4).
وأن لا ينظر الشاب المبتدئ إلى نفسه على أنه ند لهذا العالم أو ذاك، ويقول: هم رجال .. ونحن رجال!!
(1) رواه مسلم (91) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
رواه الدارمي (1/ 506)، وذكره ابن المبرد في ((محض الصواب)).
(3)
رواه البخاري (6616)، ومسلم (2707) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 111 - 115).
والحال أن الرجولة تختلف .. فإن صفة الرجولة في القرآن الكريم سيقت مساق المدح في مواضع عدة:
فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ [التوبة: 108].
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لَاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور: 36 - 37].
وقد يعبر بالرجولة عن الفحولة والذكورية فحسب كما في مواضع أخرى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ [الجن: 6].
فالرجال ليسوا سواء، وأين الثرى من الثريا؟!
ولربما رأيت طويلب علم لا يحفظ من القرآن إلا اليسير، ولا يكاد يحفظ حديثاً من البخاري أو مسلم بحروفه، فضلاً عن سنده ومعناه. ومع هذا قد يقف أمام جهابذة العلماء وكأنه أبو حنيفة أو الشافعي! وهجيراه أن يقول: أرى، وأنا، وقلت، وعندي!
يقولون: هذا عندنا غير جائز!!
…
ومن أنتم حتى يكون لكم (عندُ)!!
جلس الشافعي ذات يوم مع تلميذه أحمد بن حنبل، فنظر إليه وقال:
أحب الصالحين ولست منهم
…
لعلي أن أنال بهم شفاعه
وأكره من تجارتهم معاصي
…
وإن كنا سوياً في البضاعة
فنظر إليه تلميذه أحمد ثم قال:
تحب الصالحين وأنت منهم
…
ومنكم سوف يلقون الشفاعة
وتكره من تجارتهم معاصي
…
وقاك الله من شر البضاعة.
3 -
التواضع مع الناس:
فالمسلم يخالط الناس ويدعوهم إلى الخير، وإلى الأخلاق الإسلامية، ومن طبيعة الناس أنهم لا يقبلون قول من يعظم نفسه ويحقرهم، ويرفع نفسه ويضعهم، وإن كان ما يقوله حقا، بل عليه أن يعرف أن جميع ما عنده هو فضل من الله، فالمسلم المتواضع هو الذي لا يعطي لنفسه حظاً في كلامه مع الآخرين، ومن تواضع المسلم مع الناس أن يجالس كل طبقات المجتمع، ويكلم كلا بما يفهمه، ويجالس الفقراء والأغنياء.
يقول تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28].
4 -
التواضع مع الأقران:
ومن التواضع أن يتواضع المرء مع أقرانه، وكثيراً ما تثور بين الأقران والأنداد روح المنافسة والتحاسد، وربما استعلى الإنسان على قرينه، وربما فرح بالنيل منه، والحط من قدره وشأنه، وعيبه بما ليس فيه، أو تضخيم ما فيه، وقد يظهر ذلك بمظهر النصيحة والتقويم وإبداء الملاحظات، ولو سمى الأمور بأسمائها الحقيقة لقال: الغيرة.
5 -
تواضع الإنسان مع من هو دونه:
ومن التواضع: التواضع مع من هو دونك، فإذا وجدت أحداً أصغر منك سناً، أو أقل منك قدراً فلا تحقره، فقد يكون أسلم منك قلباً، أو أقل منك ذنباً، أو أعظم منك إلى الله قرباً.
حتى لو رأيت إنساناً فاسقاً وأنت يظهر عليك الصلاح فلا تستكبر عليه، واحمد الله على أن نجاك مما ابتلاه به، وتذكر أنه ربما يكون في عملك الصالح رياء أو عجب يحبطه، وقد يكون عند هذا المذنب من الندم والانكسار والخوف من خطيئته ما يكون سبباً في غفران ذنبه.
عن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث ((أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وأن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك)) (1).
(1) رواه مسلم (2621) من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
فلا تستكبر على أحد، وحتى حين ترى الفاسق فلا تستعل عليه، أو تعامله بأسلوب المتسلط المستكبر.
6 -
تواضع صاحب المال:
فإن مَن مَنَّ الله عليهم بالمال، والجاه، والقوة، والنفوذ، أحوج الخلق إلى خلق التواضع. لأن هذه النعم مدعاة إلى الكبر والفخر.
وما ابتليت الأمة بمصيبة الكبر إلا من هؤلاء، ولو نظر صاحب المال مثلاً إلى سالف أمره، إذا ما رزق مالاً أن يشكر ربه الذي أغناه بعد فقر، وأعطاه بعد حرمان، وأشبعه بعد جوع، وأمنه بعد خوف، وأن يجعل التواضع فراشه، ودثاره، وزينته، هذا هو الشكر العملي الحقيقي، فكن أخي عثماني المنهج، ولا تكن قاروني!!
أما أن يتكبر وهذا حاله، فلا أدري بما يوصف هذا الإنسان، وقد بدلت لديه المفاهيم والموازين.
وكذلك يقال لصاحب كل نعمة أن عليك بالتواضع، فلربما دارت عليك الأيام، وبدل الحال.
7 -
تواضع القائد مع الأفراد:
القائد الناجح هو الذي يخفض جناحه للأفراد الذين هم تحته؛ لأنه كلما تواضع لهم وخفض لهم جناحه كان أقرب إلى نفوسهم، وكان أمره لهم محبباً إليهم، فهم يطيعونه عن حب وإخلاص، يقول تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215].
ومن مظاهر هذا التواضع، عدم الاستبداد بالرأي والانفراد باتخاذ القرار، وذلك أن استفراغ ما عند الأفراد من آراء وأفكار لاشك أن ذلك يفتح أبواباً كانت مغلقة على القادة، والاستماع إليها والنزول عن الرأي إليها – إذا كانت صحيحة – تقلل من نسبة الخطأ في القرار، وببركة الشورى قد يجبر الله ما بها من قصور، ولله در القائل:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به
…
رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
وألا يجد القادة في نفوسهم شيئاً إذا تحولوا إلى جنود أو أفراد في الصف بعد أن كانوا قادة؛ وذلك لأن الأجر والثواب يكون بالإخلاص والتجرد، والصدق مع الله.
وكما يقول الفضيل بن عياش: (من أحب الرياسة لم يفلح أبدا) ولا شك أن المؤمن كلما ازداد تواضعاً ازداد إيماناً بالله وقرباً منه، وكلما ازداد عتواً وترفعاً على الناس ازداد مقتاً وبعداً منه سبحانه (1).
(1) انظر ((الأخلاق الإسلامية ودورها في بناء المجتمع)) لجمال نصار- بتصرف – (ص 238)((دروس إيمانية في الأخلاق الإسلامية)) لخميس السعيد - بتصرف (ص 39)((من أخلاق الداعية)) لسلمان العودة - بتصرف (ص 29).