الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترغيب والحث على الرحمة في القرآن والسنة
الترغيب والحث على الرحمة من القرآن الكريم:
ذكر الله هذه الصفة العظيمة في غير آية من كتابه الكريم، إما في معرض تسميه واتصافه بها، أو في معرض الامتنان على العباد بما يسبغه عليهم من آثارها، أو تذكيرهم بسعتها، أو من باب المدح والثناء للمتصفين بها المتحلين بمعانيها، أو غير ذلك من السياقات.
وسنذكر بعض هذه السياقات القرآنية والتي يتضح من خلالها مقدار هذا الخلق العظيم الذي أثنى الله على أصحابه، وحث على التخلق به واكتسابه.
تسميه جل وعلا باسم الرحمن والرحيم واتصافه بصفة الرحمة:
وهذا كثير جداً في القرآن نذكر منه على سبيل المثال لا الحصر:
- قال الله تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 2 - 3] فقد سمى الله نفسه بهذين الاسمين المشتملين على صفة الرحمة، قال ابن عباس:(هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة)(1).
- ومن ذلك بيان أن من كمال رحمته قبول توبة التائبين، والتجاوز عن المسيئين، قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 37]. وقوله تعالى وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 102].
- ومن ذلك أيضاً بيان أن من رحمته عدم مؤاخذة الناس بذنوبهم، أو عقابهم بأخطائهم ومعاصيهم، وأنه لو فعل لعاجلهم بالعذاب، قال تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: 58].
- ومن ذلك امتنانه على الخلق بأن رحمته وسعت كل شيء، وأنها رغم سعتها لا يستحقها إلا الذين اتقوه واستجابوا لأمره، قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 156].
- ومن ذلك امتنانه على خلقه بما شرع لهم من أحكام وأن ذلك من كمال رحمته ورأفته بهم. قال تعالى: وكذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة: 143].
- ومن ذلك أن الله جعل هذه الصفة خلق لصفوة خلقه وخيرة عباده وهم الأنبياء والمرسلين، ومن سار على نهجهم من المصلحين، فقد قال الله تعالى ممتناً على رسوله صلى الله عليه وسلم على ما ألقاه في قلبه من فيوض الرحمة جعلته يلين للمؤمنين ويرحمهم ويعفو عنهم، ويتجاوز عن أخطائهم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159].
أي فبسبب رحمة من الله أودعها الله في قلبك يا محمد، كنت هينا لين الجانب مع أصحابك، مع أنهم خالفوا أمرك وعصوك (2).
(1)((تفسير البغوي)) (1/ 51).
(2)
((صفوة التفاسير)) للصابونى (1/ 154).
- ومن ذلك ثناء الله على المتصفين بالرحمة والمتخلقين بها، فقد قال تعالى واصفاً رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين معه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] فهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، بحسب ما يقتضيه منهم إيمانهم، فالإيمان بالله واليوم الآخر متى تغلغل في القلب حقاً غرس فيه الرحمة بمقدار قوته وتغلغله ولكن جعل لها طريقاً لا تتعداه (1).
وقال تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد: 11 – 18].
قال محمد الطاهر عاشور: خَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ تَوَاصِيَهِمْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصِيَهِمْ بِالْمَرْحَمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشْرَفُ صِفَاتِهِمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ مِلَاكُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كُلِّهَا لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ كَبْحِ الشَّهْوَةِ النَّفْسَانِيَّةِ وَذَلِكَ مِنَ الصَّبْرِ. وَالْمَرْحَمَةُ مِلَاكُ صَلَاحِ الْجَماعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْح: 29].وَالتَّوَاصِي بِالرَّحْمَةِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنِ اتِّصَافِهِمْ بِالْمَرْحَمَةِ لِأَنَّ مَنْ يُوصِي بِالْمَرْحَمَةِ هُوَ الَّذِي عَرَفَ قَدْرَهَا وَفَضْلَهَا، فَهُوَ يَفْعَلُهَا قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ بِهَا. (2)
الترغيب والحث على الرحمة من السنة النبوية:
أما السنة فقد استفاضت نصوصها الداعية إلى الرحمة، الحاثة عليها، المرغبة فيها إما نصاً أو مفهوماً، كيف لا .. وصاحبها صلى الله عليه وسلم هو نبي الرحمة كما وصف نفسه فقال:((أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة)) (3)، وهو الرحمة المهداة إلى جميع العالمين حيث قال:((إنما أنا رحمة مهداة)) (4).
- فعن النّعمان بن بشير- رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسّهر والحمّى)) (5).
يقول الإمام النووي – رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: (هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه)(6).
(1)((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) (2/ 17).
(2)
((التحرير والتنوير)) (30/ 361).
(3)
رواه مسلم (2355) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(4)
رواه الحاكم (1/ 91)(100)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 223)(2981)، والبزار (16/ 122) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال البزار: هذا الحديث لا نعلم أحدا وصله عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه إلا مالك بن سعير وغيره يرسله فلا يقول: عن أبي هريرة رضي الله عنه، إنما يقول عن أبي صالح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (8/ 300): رجال البزار رجال الصحيح. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2583).
(5)
رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586).
(6)
((شرح النووي على مسلم)) (16/ 139).
وقال بن أبي جمرة: (الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف وإن كانت متقاربة في المعنى لكن بينها فرق لطيف فأما التراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضاً بأخوة الإيمان لا بسبب شيء آخر وأما التوادد فالمراد به التواصل الجالب للمحبة كالتزاور والتهادي وأما التعاطف فالمراد به إعانة بعضهم بعضاً كما يعطف الثوب عليه ليقويه)(1) اهـ ملخصاً.
- وعن عائشة- رضي الله عنها قالت: ((جاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: تقبّلون الصّبيان فما نقبّلهم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرّحمة)) (2).
قال ابن بطال: (رحمة الولد الصغير ومعانقته وتقبيله والرفق به من الأعمال التي يرضاها الله ويجازي عليها، ألا ترى قوله عليه السلام للأقرع بن حابس حين ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم أن له عشرة من الولد ماقبل منهم أحدًا: ((من لا يرحم لا يرحم)) (3).
- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرّاحمون يرحمهم الرّحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السّماء)) (4).
قال شمس الدين السفيري: (فندب صلى الله عليه وسلم إلى الرحمة والعطف على جميع الخلق من جميع الحيوانات، على اختلاف أنواعها في غير حديث، وأشرفها الآدمي، وإذا كان كافر فكن رحيماً لنفسك ولغيرك، ولا تستبد بخيرك، فارحم الجاهل بعلمك، والذليل بجاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشفقتك ورأفتك، والعصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك، فأقرب الناس من رحمة الله أرحمهم بخلقه، فمن كثرت منه الشفقة على خلقه والرحمة على عباده رحمه الله برحمته، وأدخله دار كرامته، ووقاه عذاب قبره، وهول موقفه، وأظله بظله إذ كل ذلك من رحمته)(5).
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تنزع الرّحمة إلّا من شقيّ)) (6).
قال ابن العربي: (حقيقة الرحمة إرادة المنفعة وإذا ذهبت إرادتها من قلب شقي بإرادة المكروه لغيره ذهب عنه الإيمان والإسلام). (7)
ويقول المناوي: (لأن الرحمة في الخلق رقة القلب ورقته علامة الإيمان ومن لا رأفة له لا إيمان له ومن لا إيمان له شقي فمن لا رحمة عنده شقي)(8).
- وعن جرير بن عبد الله- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرحم الله من لا يرحم النّاس)) (9).
يقول العلامة السعدي رحمه الله: (رحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عين، وكل ما هو فيه من النعم واندفاع النقم، من رحمة الله.
(1)((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 439).
(2)
رواه البخاري (5998).
(3)
رواه البخاري (5997)، ومسلم (2318) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وأحمد (2/ 160) (6494). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3522).
(5)
((شرح صحيح البخاري)) لشمس الدين السفيري (2/ 50 - 51).
(6)
رواه أبو داود (4942)، والترمذي (1923)، وأحمد (2/ 301)(7988). وحسنه الترمذي، والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (9870)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7467).
(7)
((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) (6/ 547).
(8)
((التيسير بشرح الجامع الصغير)) للمناوي (2/ 962).
(9)
رواه البخاري (7376).
فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله. والإحسان إلى الخلق أثر من آثار رحمة العبد بهم) (1).
أما من كان بعيداً عن الإحسان بالخلق ظلوماً غشوماً، شقياً، فهذا لا ينبغي له أن يطمع في رحمة الله وهو متلبس بظلم عباده.
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه قال: ((قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن عليّ وعنده الأقرع بن حابس التّميميّ جالسا، فقال الأقرع: إنّ لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال: من لا يرحم لا يرحم)) (2).
قال ابن بطال بعد أن ذكر عدداً من الأحاديث وذكر هذا الحديث من جملتها: (في هذه الأحاديث الحض على استعمال الرحمة للخلق كلهم كافرهم ومؤمنهم ولجميع البهائم والرفق بها. وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفر به الخطايا، فينبغي لكل مؤمن عاقل أن يرغب في الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعملها في أبناء جنسه وفى كل حيوان)(3).
وقد دل الواقع والمشاهدة أن من لا يرحم الناس ولا يعطف عليهم إذا صادف موقفاً يحتاج فيه إلى رحمتهم فإنهم لا يرحمونه ولا يعطفون عليه، وقد ذكر صاحب الأغاني أن محمد بن عبد الملك كان يقول: الرحمة خور في الطبيعة وضعف في المنة، ما رحمت شيئاً قط. فكانوا يطعنون عليه في دينه بهذا القول، فلما وضع في الثقل والحديد قال: ارحموني فقالوا له: وهل رحمت شيئاً قط فترحم. هذه شهادتك على نفسك وحكمك عليها. (4)
واستفاضت الأحاديث الدالة على الرحمة بمفهومها وهي لا تكاد تحصى، وذلك لأنه ما من معاملة من المعاملات أو رابطة من الروابط الاجتماعية أو الإنسانية إلا وأساسها وقوام أمرها الرحمة.
فمن علاقة الإنسان بنفسه التي بين جنبيه، وعلاقته بذويه وأهله، إلى علاقته بمجتمعه المحيط به، إلى معاملته لجميع خلق الله من إنسان أو حيوان كل ذلك مبني على هذا الخلق الرفيع والسجية العظيمة.
(1)((بهجة قلوب الأبرار)) لعبدالرحمن السعدي (ص 269).
(2)
رواه البخاري (5997) ومسلم (2318).
(3)
((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 219).
(4)
((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 219).