الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نماذج من كرم العرب وجودهم في العصر الجاهلي:
لقد كان الكرم من أبرز الصفات في العصر الجاهلي، بل كانوا يتباهون بالكرم والجود والسخاء، ورفعوا من مكانة الكرم وكانوا يصفون بالكرم عظماء القوم، واشتهر بعض العرب بهذه الصفة الحميدة حتى صار مضرباً للمثل، ونذكر بعض النماذج من هؤلاء الذين اشتهروا بفيض كرمهم وسخاء نفوسهم، ومن أولئك:
حاتم الطائي:
كان حاتم الطائي من أشهر من عرف عند العرب بالجود والكرم حتى صار مضرب المثل في ذلك.
(قالت النوار امرأته: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض، واغبر أفق السماء، وراحت الإبل حدبا حدابير (1)، وضنت المراضع عن أولادها فما تبض بقطرة، وجلفت السنة المال (2)، وأيقنا أنه الهلاك. فو الله إني لفي ليلة صنبر بعيدة ما بين الطرفين (3)، إذ تضاغى أصيبيتنا (4) من الجوع، عبد الله وعدي وسفانة، فقام حاتم إلى الصبيين، وقمت إلى الصبية، فو الله ما سكنوا إلا بعد هدأة من الليل، ثم ناموا ونمت أنا معه، وأقبل يعللني بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت، فلما تهورت النجوم (5) إذا شيء قد رفع كسر البيت (6)، فقال: من هذا؟ فولى ثم عاد، فقال: من هذا؟ فولى ثم عاد في آخر الليل، فقال: من هذا؟ فقالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند أصيبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع، فما وجدت معولا إلا عليك أبا عدي، فقال: والله لأشبعنهم، فقلت: من أين؟ قال: لا عليك، فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم، فأقبلت المرأة تحمل ابنين ويمشي جانبيها أربعة، كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمديته، فخر، ثم كشطه، ودفع المدية إلى المرأة فقال: شأنك (الآن)، فاجتمعنا على اللحم، فقال: سوأة! أتأكلون دون الصرم؟! (7) ثم جعل يأتيهم بيتا بيتا ويقول؛ هبوا أيها القوم، عليكم بالنار، فاجتمعوا، والتفع بثوبه ناحية ينظر إلينا، لا والله ما ذاق منه مزعة (8)، وإنه لأحوج إليه منا، فأصبحنا وما على الأرض من الفرس، إلا عظم أو حافر، (فعذلته على ذلك)، فأنشأ حاتم يقول:
مهلا نوار أقلى اللوم والعذلا
…
ولا تقولي لشيء فات: ما فعلا
ولا تقولي لمال كنت مهلكه
…
مهلا، وإن كنت أعطي الجن والخبلا (9)
يرى البخيل سبيل المال واحدة
…
إن الجواد يرى في ماله سبلا
لا تعذليني في مال وصلت به
…
رحماً، وخير سبيل المال ما وصلا (10)(11)
(1) الحدب: جمع حدباء، وهى التى بدت حراقفها وعظم ظهرها. الحدابير: جمع حدبار وحدبير، بكسر الحاء فيهما، وهى العجفاء الضامرة التى قد يبس لحمها من الهزال.
(2)
جلفت: أصل الجلف: القشر، فكأن السنة قشرت المال، والجالفة: السنة التى تذهب بأموال الناس.
(3)
الصنبر: الباردة، وليل الشتاء طويل، ويزيده الجوع طولا.
(4)
نص في اللسان على أنه «قد جاء في الشعر أصيبية، كأنه تصغير أصيبة» .
(5)
تهورت النجوم: ذهب أكثرها.
(6)
كسر البيت: أسفل الشقة التى تلي الأرض من الخباء من حيث يكسر جانباه من عن يمين ويسار.
(7)
الصرم، بالكسر: الأبيات المجتمعة المنقطعة من الناس.
(8)
المزعة: القطعة من اللحم ونحوه. وفي س ف «مضغة» .
(9)
الخبل، بفتحتين: الجن، أو ضرب من الجن يقال لهم الخابل.
(10)
الرحم، بكسر الراء وسكون الحاء، والرحم، بفتح فكسر: القرابة.
(11)
((الشعر والشعراء)) للدينوري (1/ 238).
و (قيل سأل رجل حاتماً الطائي فقال: يا حاتم هل غلبك أحد في الكرم؟ قال: نعم غلام يتيم من طيء نزلت بفنائه وكان له عشرة أرؤس من الغنم، فعمد إلى رأس منها فذبحه. وأصلح من لحمه، وقدم إلي، وكان فيما قدم إلي الدماغ، فتناولت منه فاستطبته، فقلت: طيب والله. فخرج من بين يدي، وجعل يذبح رأساً رأساً، ويقدم إلي الدماغ وأنا لا أعلم. فلما خرجت لأرحل نظرت حول بيته دماً عظيماً وإذا هو قد ذبح الغنم بأسره. فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: يا سبحان الله تستطيب شيئاً أملكه فأبخل عليك به، إن ذلك لسبة على العرب قبيحة. قيل يا حاتم: فما الذي عوضته؟ قال: ثلاثمائة ناقة حمراء وخمسمائة رأس من الغنم، فقيل أنت إذاً أكرم منه فقال: بل هو أكرم، لأنه جاد بكل ما يملكه وإنما جدت بقليل من كثير)(1).
عبد الله بن جدعان:
من الكرماء المشهورين في العصر الجاهلي عبد الله بن جدعان فقد اشتهر بكرمه وجوده، وسخائه وعطائه.
و (كان عبد الله بن جدعان: من مطعمي قريش كهاشم بن عبد مناف، وهو أول من عمل الفالوذ للضيف، وقال فيه أمية بن أبي الصلت.
له داع بمكة مشمعل
…
وآخر فوق دارته ينادي
إلى درج من الشيزى ملاء
…
لباب البر يلبك بالهشادة
وكانت له جفان يأكل منها القائم والراكب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يستظل بظل جفنته في الجاهلية) (2).
و (حدث إبراهيم بن أحمد قال: قدم أمية بن أبي الصلت مكة على عبد الله بن جدعان، فلما دخل عليه قال له عبد الله: أمر ما جاء بك فقال أمية: كلاب غرمائي قد نبحتني ونهشتني فقال له عبد الله: قدمت علي وأنا عليل من ديون لزمتني، فأنظرني قليلاً يجم ما في يدي، وقد ضمنت قضاء دينك ولا أسأل عن مبلغه، فأقام أمية أياماً وأتاه فقال:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
…
حياؤك إن شيمتك الحياء؟
وعلمك بالأمور وأنت قرم
…
لك الحسب المهذب والثناء
كريم لا يغيره صباح
…
عن الخلق الجميل ولا ماء
تباري الريح مكرمة وجوداً
…
إذا ما الكلب أجحره الشتاء
إذا أثنى عليك المرء يوماً
…
كفاه من تعرضه الثناء
إذا خلفت عبد الله فاعلم
…
بأن القوم ليس لهم جزاء
فأرضك كل مكرمة بناها
…
بنو تميم وأنت لها سماء
فأبرز فضله حقاً عليهم
…
برزت لناظرها السماء
وهل تخفى السماء على بصير
…
وهل للشمس طالعة خفاء
فلما أنشده أمية هذه الأبيات كانت عنده قينتان فقال لأمية: خذ أيتهما شئت فأخذ إحداهما وانصرف. فمر بمجلس من مجالس قريش فلاموه على أخذها وقالوا لقد أجحفت به في انتزاعها منه فلو رددتها عليه، فإن الشيخ يحتاج إلى خدمتهما، لكان ذلك أقرب لك عنده وأكرم من كل حق ضمته لك فوقع الكلام من أمية موقعاً وندم، فرجع إليه ليردها عليه، فلما أتاه بها قال له ابن جدعان: لعلك إنما رددتها لأن قريشاً لاموك على أخذها، وقالوا لك كذا وكذا ووصف لأمية ما قال له القوم فقال أمية: والله ما أخطأت يا أبا زهير مما قالوا شيئاً. قال عبد الله: فما الذي قلت في ذلك؟ فقال أمية:
عطاؤك زين لامرئ إن حبوته
…
يبذل وما كل العطاء يزين
وليس بشين لامرئ بذل وجهه
…
إليك كما بعض السؤال يشين
فقال له عبد الله خذ الأخرى، فأخذهما جميعاً وخرج، فلما صار إلى القوم بهما أنشأ يقول:
ذكر ابن جدعان بخ؟
…
ير كلما ذكر الكرام
من لا يجور ولا يعق
…
ولا يبخله اللئام
يهب النجيبة والنجيب
…
له الرجال والزمام) (3)
و (كان عبد الله بن جدعان التيمي حين كبر أخذ بنو تيم عليه ومنعوه أن يعطي شيئا من ماله، فكان الرجل إذا أتاه يطلب منه قال: ادن مني، فإذا دنا منه لطمه ثم قال: اذهب فاطلب بلطمتك أو ترضى، فترضيه بنو تيم من ماله.
وفيه يقول ابن قيس:
والذي إن أشار نحوك لطما
…
تبع اللطم نائل وعطاء
وابن جدعان هو القائل:
إني وإن لم ينل مالي مدى خلقي
…
وهاب ما ملكت كفي من المال
لا أحبس المال إلا ريث أتلفه
…
ولا تغيرني حال عن الحال) (4)
…
(1)((المستجاد من فعلات الأجواد)) للتنوخي.
(2)
((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (3/ 239).
(3)
((المستجاد من فعلات الأجواد)) للتنوخي.
(4)
((عيون الأخبار)) للدينوري (1/ 458).