الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إبراهيم بن أحمد بن شَاقْلَا (1)(369 هـ)
أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عمر، البغدادي البزاز المعروف بابن شاقلا. سمع من دعلج السجزي وأبي بكر الشافعي وابن مالك. وروى عنه أبو حفص العكبري وأحمد بن عثمان الكبشي وعبد العزيز غلام الزجاج وكان رأساً في الأصول والفروع.
قال الخطيب: قال لي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء: كان رجلاً جليل القدر حسن الهيئة كثير الرواية حسن الكلام في الفقه، غير أنه لم يطل له العمر.
توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة، وله أربع وخمسون سنة.
موقفه من الجهمية:
مناظرته القيمة ودفاعه عن العقيدة السلفية:
جاء في طبقات الحنابلة: قرأت بخط الوالد السعيد قال: نقلت من خط أبي بكر بن شاقلا قال: أخبرنا أبو إسحاق بن شاقلا -قراءة عليه- قال: قلت لأبي سليمان الدمشقي: بلغنا أنك حكيت فضيلة الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج، وقوله في الخبر «وضع يده بين كتفي فوجدت بردها» فذكر الحديث (2).
(1) تاريخ بغداد (6/ 17) وشذرات الذهب (3/ 68) والسير (16/ 292) وطبقات الحنابلة (2/ 128) والوافي بالوفيات (5/ 310) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.412 - 413).
(2)
أخرجه: أحمد (5/ 243) والترمذي (5/ 343 - 344/ 3235) والحاكم (1/ 521) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. وفيه: «فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي
…
» وليس فيه ذكر ليلة المعراج. وقال الترمذي: "هذا حسن صحيح". سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال:"هذا حديث حسن صحيح". وقد ورد ذكر «فوضع يده بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي» في حديث ابن عباس وتقدم تخريجه.
فقال لي: هذا إيمان ونية، لأنه أريد مني روايته. وله عندي معنى غير الظاهر قال: وأنا لا أقول مسه.
فقلت له: وكذا تقول في آدم لما خلقه بيده؟
قال: كذا أقول. إن الله عز وجل لا يمس الأشياء.
فقلت له: سويت بين آدم وسواه فأسقطت فضيلته، وقد قال تعالى:{يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1). قلت له: هذا رويته لأنه أريد منك -على رغمك- وله عندك معنى غير ظاهره، وإلا سلمت الأحاديث التي جاءت في الصفات، ويكون لها معاني غير ظاهرها أو ترد جميعها؟
فقال لي: مثل أي شيء؟
فقلت له: مثل الأصابع والساق، والرجل، والسمع والبصر، وجميع الصفات التي جاءت في الأخبار الصحاح حتى إذا سلمتها كلمناك على ما ادعيته من معانيها التي هي غير ظاهرها.
فقال لي منكرا لقولي: من يقول رجل؟
فقلت: أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (2).
فقال: من عن أبي هريرة؟
فقلت: همام. فقال: من عن همام؟
(1) ص الآية (75).
(2)
أخرجه: أحمد (2/ 314) والبخاري (8/ 765/4850) ومسلم (4/ 2186 - 2187/ 2846)[36]) كلهم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة.
فقلت: معمر. فقال: من عن معمر؟
فقلت: عبد الرزاق. فقال لي: من عن عبد الرزاق؟
فقلت له: أحمد بن حنبل. فقال لي؟ عبد الرزاق كان رافضياً.
فقلت له: من ذكر هذا عن عبد الرزاق؟ فقال لي: يحيى بن معين.
فقلت له: هذا تخرص على يحيى، إنما قال يحيى: كان يتشيع، ولم يقل رافضياً. فقال لي: الأعرج عن أبي هريرة بخلاف ما قاله همام.
قلت له: كيف؟ قال: لأن الأعرج قال: «يضع قدمه» .
فقلت له: ليس هذا ضد ما رواه همام. وإنما قال هذا «قدم» (1) وقال هذا «رجل» وكلاهما واحد. ويحتمل أن يكون أبو هريرة سمع من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين. وحدث به أبو هريرة مرتين فسمع الأعرج منه في إحدى المرتين ذكر «القدم» وسمع منه همام ذكر «الرجل» فقال لي: همام غلط.
فقلت له: هذا قول من لا يدري.
ثم قال لي: والأصابع في حديث ابن مسعود تقول به؟
فقلت له: حديث ابن مسعود صحيح من جهة النقل. ورواه الناس ورواه الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله. فقال لي: هذا قاله اليهودي.
فقلت له: لم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله، قد ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقوله. فأنكر أن يكون هذا اللفظ مروياً من أخبار ابن مسعود.
فقلت له: بلى، هذا رواه منصور والأعمش جميعاً عن إبراهيم عن أبي عبيدة «أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، إن الله عز وجل يمسك
(1) أخرجه البخاري (13/ 533/7449) ومسلم (4/ 2186/2846 (35)).
السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والخلائق على إصبع، والشجر على إصبع -وروي: والثرى على إصبع- ثم يقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، تصديقاً لما قال الحبر» (1) هكذا رواه الثوري والفضيل بن عياض. فقال لي: قد نزل القرآن بالتكذيب لا بالتصديق. فقال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (2).
فقلت له: قد نزل القرآن بالتصديق لا بالتكذيب بدلالة قوله تعالى في سياق الآية: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (3) ثم نزه نفسه عز وجل عما يشرك به من كذب بصفاته فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} (4) وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} لا يمنع من إثبات الأصابع صفة له، كما ثبتت صفاته التي لا أختلف أنا وأنت فيها ومع هذا: فما قدروا الله حق قدره كذلك أيضاً نثبت الأصابع صفة لذاته تبارك وتعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} فلما رأى ما لزمه قال: هذا ظن من ابن مسعود أخطأ فيه.
فقلت له: هذا قول من يروم هدم الإسلام والطعن على الشرع، لأن
(1) انظر تخريجه في مواقف وكيع بن الجراح سنة (196هـ).
(2)
الزمر الآية (67).
(3)
الزمر الآية (67).
(4)
الزمر الآية (67).
من زعم أن ابن مسعود ظن ولم يستيقن، فحكى عن النبي صلى الله عليه وسلم على ظنه فقد جعل إلى هدم الإسلام مقالته هذه، بأن يتجاهل أهل الزيغ فيتهجم على كل خبر جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يوافق مذهبهم فيسقطونه، بأن يقولوا: هذا ظن من الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا فرق بين ابن مسعود وسائر الصحابة رضي الله عنهم. وهذا ضد ما أجمع عليه المسلمون، وقد أكذب القرآن مقالة هذا القائل في الآية التي شهد فيها لابن مسعود بالصدق في جملة الصحابة.
ثم قلت له: والأصابع قد رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أصحابه منهم أنس ابن مالك في حديث الأعمش عن أبي سفيان عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قال قلنا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به. فهل تخاف علينا؟ قال: نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها» (1). ثم قال لي: تروي حديث أبي هريرة «خلق آدم على صورته» (2) ويومئ إلى أنه مخلوق على صورة آدم.
فقلت له: قال أحمد بن حنبل: من قال إن آدم خلقه الله عز وجل على صورة آدم فهو جهمي وأي صورة كانت لآدم قبل خلقه؟ فقال لي: قد جاء الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم على صورة آدم» .
فقلت له: هذا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال لي: بلى، قد جاء في الحديث «طوله ستون ذراعاً» على أنه آدم.
(1) انظر تخريجه في مواقف بشر بن الحارث سنة (227هـ).
(2)
انظر تخريجه في مواقف البربهاري سنة (329هـ).
فقلت له: قد رد هذا، وليس هو الذي ادعيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنك قلت عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله خلق آدم على صورة آدم» ثم استدللت بقوله: «ستون ذراعاً» على أنه آدم وهذا خبر جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين:
فأبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق آدم على صورته» . وروى جرير عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقبحوا الوجوه، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن» (1)
قال أبو إسحاق: وهذا الحديث يذكر عن إسحاق بن راهويه: أنه صحيح مرفوع، وأما أحمد بن حنبل فذكر أن الثوري
(1) أخرجه: ابن أبي عاصم (1/ 228 - 229/ 517) وابن خزيمة في التوحيد (1/ 85/47) والطبراني في الكبير (12/ 430/13580) والآجري في الشريعة (2/ 107/770) والحاكم (2/ 319) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، اللالكائي (3/ 470/716) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 64/640) كلهم من طرق عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر به.
وفي الحديث ثلاث علل ذكرها ابن خزيمة رحمه الله تعالى:
- إحداهن: أن الثوري قد خالف الأعمش في إسناده فأرسل الثوري ولم يقل عن ابن عمر.
- والثانية: أن الأعمش مدلس، لم يذكر أنه سمع من حبيب بن أبي ثابت.
- والثالثة: أن حبيب بن أبي ثابت أيضاً مدلس، لم يعلم أنه سمع من عطاء، سمعت إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد يقول: ثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش قال: قال حبيب بن أبي ثابت: لو حدثني رجل عنك بحديث لم أبال أن أرويه عنك، يريد لم أبال أن أدلسه.
وزاد الشيخ الألباني رحمه الله علة رابعة فقال في الضعيفة (3/ 317): "قلت: والعلة الرابعة: هي جرير بن عبد الحميد فإنه وإن كان ثقة كما تقدم فقد ذكر الذهبي في ترجمته من الميزان أن البيهقي ذكر في سننه في ثلاثين حديثا لجرير ابن عبد الحميد قال: "قد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ" قلت: وإن مما يؤكد ذلك أنه رواه مرة عند ابن أبي عاصم (رقم 518) بلفظ "على صورته" لم يذكر "الرحمن" وهذا الصحيح المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من الطرق الصحيحة عن أبي هريرة، والمشار إليها آنفاً. وإذا عرفت هذا فلا فائدة كبرى من قول الهيثمي في المجمع (8/ 106): "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهو ثقة، وفيه ضعف". وكذلك من قول الحافظ في الفتح (5/ 139):"أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات. اهـ
أوقفه على ابن عمر. فكلاهما الحجة فيه على من خالفه فإن كان رفعه صحيحاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سقط العذر، وإن كان ابن عمر القائل له فقد اندحض بقول ابن عمر تأويل من حمل قوله «على صورته». قال أبو إسحاق: وهذا لم يجر بيني وبينه وإنما بينته لأصحابي ليفهموه.
ثم قلت له: قوله «خلق آدم على صورته» لا يتأول لآدم على صورة آدم لما قاله أحمد: وأي صورة كانت لآدم قبل خلقه؟ فقد فسد تأويلك من هذا الوجه. وفسد أيضاً بقول ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم على صور الرحمن تبارك وتعالى» .
وأما الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: «طوله ستون ذراعاً» فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فكان قوله «خلق آدم على صورته» فتم الكلام. ثم قال: «طوله ستون ذراعاً» إخباراً عن آدم بذلك، على حديث الثوري عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الله عز وجل خلق آدم على صورته» ذكرت بدلالة حديث ابن عمر رضي الله عنهما وما ذكرته عن أحمد، فقال لي جواباً عن حديث أنس:«إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها» إنما هما نعمتان.
فقلت له: هذا الخبر يقول: إن الإصبعين نعمتان؟ واليدين صفة للذات. ولم يتقدمك بهذا أحد إلا عبد الله بن كلاب القطان، الذي انتحلت مذهبه ولا عبرة في التسليم للأصابع والتأويل لها على ما ذكرت أن القلوب بين نعمتين من نعم الله عز وجل. ثم قال لي: وهذا مثل روايتكم عن ابن مسعود في قوله عز وجل يوم يكشف عن ساق أن الله عز وجل يكشف عن ساقه يوم القيامة؟
فقلت له: هذا رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأنكره عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا من كلام ابن مسعود. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: «الشدة» . (1)
فقلت له: إنما نذكر ما جاء عن الصحابة إذا لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: تحفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
قلت: نعم، هذا رواه المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله عن مسروق بن الأجدع حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:«يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، وينزل الله عز وجل في ظلل من الغمام -وذكر الحديث بطوله- وقال فيه: فيأتيهم الله تبارك وتعالى فيقول لهم: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: لنا إله. فيقول: هل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: نعم، بيننا وبينه علامة، إن رأيناها عرفناه قال: فيقول: ما هي؟ فيقولون: يكشف عن ساقه. قال: فعند ذلك يكشف عن ساقه قال: فيخر من كان بظهره طبق ويبقى قوم ظهورهم كأنها صياصي البقر، يريدون السجود فلا يستطيعون. وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون» . في حديث فيه طول (2)،
وقد روي
(1) رواه ابن جرير (29/ 38) والحاكم (2/ 499 - 500) وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 183 - 185) عن ابن عباس.
(2)
أخرجه: عبد الله بن أحمد في السنة (ص.206 - 209) والطبراني في الكبير (9/ 357 - 361/ 9763) والبيهقي في البعث والنشور (314 - 316/ 657) والحاكم (4/ 589 - 592) وقال: "رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات غير أنهما لم يخرجا أبا خالد الدالاني في الصحيحين لما ذكر من انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة، فأما الأئمة المتقدمون فكلهم شهدوا لأبي خالد بالصدق والإتقان، والحديث صحيح ولم يخرجاه، وأبو خالد الدالاني ممن يجمع حديثه في أئمة أهل الكوفة". وتعقبه الذهبي بقوله: "ما أنكره حديثا على جودة إسناده، وأبو خالد شيعي منحرف".
ثم إن الذهبي رحمه الله قد صححه كما في الأربعين في صفات رب العالمين (ص.121) بقوله: "وهو حديث صحيح".
وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 340 - 343) وقال رواه كله الطبراني من طرق، ورجال أحدها رجال الصحيح، غير أبي خالد الدالاني وهو ثقة". وقال الحافظ في المطالب (4/ 365 - 367):"هذا إسناد صحيح متصل رجاله ثقات".
أيضاً من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري؟ فقلت له: هذا في صحيح البخاري فليس من شرطه أبو هارون العبدي لضعفه عنده، وعند أئمة أهل العلم ولم يحضرني إسناده في وقت كلامي له. وأخرجته من صحيح البخاري كما ذكرته -وساقه بسنده- إلى أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: «يكشف ربنا تبارك وتعالى عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد له في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً» (1) ثم قال لي: وتقول بحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم «رأيت ربي» (2)؟ فقلت له: رواه حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال لي: حماد بن سلمة ضعيف فقلت: من ضعفه؟ فقال لي: يحيى القطان. وقلت له: هذا تخرص على يحيى، لم يقل يحيى هذا، وإلا فمن حدثك؟ فلم يقل من حدثه. وقال لي: أيما أثبت عندك؟ حماد بن سلمة أو سماك؟ قلت: حماد بن سلمة أثبت وسماك مضطرب الحديث. فنازعني في هذا. والذي أجبته به بأن حماد بن سلمة ثقة وسماك مضطرب الحديث هو جواب أحمد فيهما، ولم أدر ما أراد بسماك؟ وخرجنا من ذلك ولم أسأله.
ثم قلت له: هذه الأحاديث تلقاها العلماء بالقبول. فليس لأحد أن يمنعها ولا يتأولها ولا يسقطها. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان لها معنى عنده غير ظاهرها لبينه. ولكان الصحابة -حين سمعوا ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم سألوه عن معنى غير
(1) أخرجه: أحمد (3/ 16 - 17) والبخاري (13/ 517 - 519/ 7439) ومسلم (1/ 167 - 171/ 183).
(2)
انظر تخريجه في مواقف البربهاري سنة (329هـ).
ظاهرها. فلما سكتوا وجب علينا أن نسكت حيث سكتوا ونقبل طوعاً ما قبلوا.
فقال لي: أنتم المشبهة. فقلت: حاشا لله، المشبه الذي يقول: وجه كوجهي ويد كيدي. فأما نحن فنقول: له وجه كما أثبت لنفسه وجهاً. وله يد كما أثبت لنفسه يداً. وليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ومن قال هذا فقد سلم ثم قلت له: أنت مذهبك أن كلام الله عز وجل ليس بأمر ولا نهي ولا متشابه ولا ناسخ ولا منسوخ ولا كلامه مسمع. لأن عندك الله عز وجل لا يتكلم بصوت، وأن موسى لم يسمع كلام الله عز وجل بسمعه. وإنما خلق الله عز وجل في موسى فهماً فهم به. فلما رأى ما عليه في هذا من الشناعة قال: فلعلي أخالف ابن كلاب القطان في هذه المسألة من سائر مذهبه.
ثم قلت له: ومن خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل موصولة بلا قطع في سندها ولا جرح في ناقليها، وتجرأ على ردها، فقد تهجم على رد الإسلام لأن الإسلام وأحكامه منقولة إلينا بمثل ما ذكرت.
فقال لي: الأخبار لا توجب عندي علما. فقلت له: يلزمك على قود مقالتك: أنك لو سمعت أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعداً وسعيداً وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة بن الجراح يقولون: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا أنك لا تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من ذلك شيئاً، لقولهم سمعنا فلم ينكر من ذلك شيئاً غير الشناعة.
ثم قال لي: أخبار الآحاد في الصفات اغسلها، وهي عندي والتراب سواء، ولا أقول منها إلا بما قام في العقل تصديقه. قلت له: فلم أتعبت نفسك في كتبها وسعيت إلى الشيوخ فيها، وأنصبت نفسك وأتعبتها،
وأسهرت ليلك بما لا تدين الله عز وجل به، ولا تزداد به علماً؟ فأجابني بأن قال: كتبته حتى أتمم به الأبواب إذا أردت تخريجها. فقلت له: تخرج للمسلمين ما لا تدين به؟ فقال نعم لأعرفه فقلت له: تُعنِّي المسلمين على قود مقالتك والحق في غير ما ذكرت؟ ثم قلت له خرقت الإجماع لأن الأمة بأسرها، اتفقت على نقلها، ولم يكن نقل ذلك عبثاً ولا لعباً، ولو كان نقلهم لها كترك نقلهم لها لكانوا عابثين وحاشا لله من ذلك. ومن كانت هذه مقالته فقد دخل تحت الوعيد في قوله عز وجل:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (1).
ولما كانت أخبار الآحاد في الصفات لا توجب عملاً دلّ على أنها موجبة للعلم، فسقط بهذا ما ادعاه من لم ينتفع بعلمه، وتهجم على إسقاط كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه، برأيه وظنه.
ثم ذكرت حساب الكفار فقال لي: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الكافر ليحاسب حتى يقول: أرحني ولو إلى النار» (2)
فهلا قلت به؟ فقلت له: ليس
(1) النساء الآية (115).
(2)
أخرجه: أبو يعلى (8/ 398/4982) وعنه ابن حبان (16/ 330/7335) والطبراني (10/ 99 - 100/ 10083) من طريق شريك عن أبي الأحوص عن عبد الله مرفوعاً. وفي إسناده شريك وهو سيئ الحفظ وهو متأخر السماع من أبي إسحاق السبيعي، وهذا الأخير اختلط بآخره. وتابعه إبراهيم بن المهاجر البجلي عن أبي الأحوص به. رواه الطبراني في الكبير (10/ 107/10112) وفي الأوسط (5/ 292/4576). وإبراهيم بن المهاجر قال فيه ابن حجر:"صدوق لين الحفظ".
والحديث ذكره الهيثمي في المجمع (10/ 336) وقال: "رجال الكبير رجال الصحيح وفي رجال الأوسط محمد بن إسحاق وهو ثقة لكنه مدلس".
يحل ما روي صحيحاً أو سقيماً أن نقول به. وإنما تعبدنا بالصحيح دون السقيم. والصحيح معلوم عند أهل النقل بعدالة ناقليه، متصلاً إلى المخبر عنه، والسقيم معلوم بجرح ناقليه وهذا الخبر الذي رويته ورواه إبراهيم بن مهاجر ابن مسمار - يعني: وهو متروك الحديث ضعيف عند أهل العلم، وليس مثل هذا مما تقوم به حجة.
فقال لي: فأي شيء معك في أنهم لا يحاسبون؟ فقلت له: إن شئت من كتاب الله وإن شئت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن شئت من قول صحابته رضي الله عنهم. فقال لي منكراً لقولي في الصحابة من قال هذا؟ فقلت: نعم. قرأت على أبي عيسى إلى أن ذكر الحديث: «من حوسب دخل الجنة» .
يقول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)} (1) ويقول للآخرين يعني الكفار: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)} (2){يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)} (3).
فقال لي: قد سمعت هذا الحديث من أبي علي الصواف، فساق سنده إلى عائشة بمثل معناه يعني «من حوسب دخل الجنة» فقال لي: هو المسلم المجرم. فقلت له: جمعت بين ما فرق الله عز وجل، لأن الله عز وجل يقول:
(1) الانشقاق الآيات (7 - 9).
(2)
الرحمن الآية (39).
(3)
الرحمن الآية (41).
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} (1).
قال أبو إسحاق: وكان عندنا أن أبا سليمان يقول: إن الكافر والمؤمن يحاسبان. فعلى قوله: إن المؤمن لا يحاسب وإن الكافر يحاسب. وهذه عصبية للكافر، خرج بها عن جملة أهل العلم. قلت له: أنت تتكلم على المسلمين فتحشو أسماعهم بكلام الكلبي الكذاب فيما يخبر عن مراد الله تعالى عن الأمم الخالية، التي لم يشاهدها، ولا يكون عندك هذيان. ثم تجيء إلى مثل حديث إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله -حديث الخبر- فتقول هذا هذيان. وهذا قول من تقلده خرج عندي من الدين وسلك غير طريق المسلمين.
وهذا ما جرى بيننا إلا ما أخللت به فلم أتيقن حفظه، والله سبحانه الموفق لإدراك الصواب. (2)
التعليق:
من قرأ هذه المناظرة المباركة علم قوة السلفيين، وحفظهم لميراث الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وعلم خبث المبتدعة وضعفهم العلمي وتلاعبهم بدين الله على حسب أهوائهم. وعلم ما علق به المبتدع المسمى عبد الله بن الصديق على كتاب التمهيد لابن عبد البر الجزء السابع على حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النزول «ينزل ربنا
…
» الحديث (3) الذي نجسه بتعاليقه الباردة الممقوتة، ينقل أقوال المبتدعة في أحاديث الصفات،
(1) القلم الآيتان (35و36).
(2)
طبقات الحنابلة (2/ 128 - 138).
(3)
انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).