الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنّاً، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم مسلماً". (1)
قلت -أي ابن كثير-: وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه. (2)
موقفه من الجهمية:
لقد كتب الكثير من المتقدمين والمتأخرين عن أبي الحسن، ومن أشهرهم أبو القاسم بن عساكر في كتابه تبيين كذب المفتري فيما نسب لأبي الحسن الأشعري.
والذي تبين لي أن أبا الحسن رجع عن مذهب الاعتزال، ورد عليه، وهذا أمر مجمع عليه، واعتنق مذهب أهل السنة، ولكن مع بقايا من علم الكلام والتأثر بمذهب المعتزلة، والرجل لم يكن له علم بالحديث ولا أهله، وإن ذكروا في ترجمته أنه تلقى بعض علم الحديث، عن زكريا بن يحيى الساجي، فلعل ذلك كان قليلاً.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أن أبا الحسن عنده علم بالسنة إجمالاً وعلم بالكلام علماً تفصيلياً، فإذا ذكر مذهب أهل الكلام ذكره على سبيل التفصيل، وإذا ذكر مذهب أهل الحديث ذكره على سبيل الإجمال.
(1) مسلم (1/ 465/673) وأبو داود (1/ 390/582) والترمذي (1/ 458 - 459/ 235) والنسائي (2/ 410 - 411/ 779) وابن ماجه (1/ 313 - 314/ 980) وعلقه البخاري بصيغة الجزم (2/ 234) من حديث أبي مسعود الأنصاري البدري.
(2)
البداية (5/ 207).
قال الإمام ابن القيم في اجتماع الجيوش: قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: ولما رجع الأشعري من مذهب المعتزلة سلك طريق ابن كلاب ومال في أهل السنة والحديث وانتسب إلى الإمام أحمد كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها كالإبانة والموجز والمقالات وغيرها وكان القدماء من أصحاب أحمد كأبي بكر بن عبد العزيز وأبي الحسين التميمي وأمثالهما يذكرونه في كتبهم على طريق الموافق للسنة في الجملة ويذكرون رده على المعتزلة وأبدى تناقضهم ثم ذكر ما بين الأشعري وقدماء أصحابه وبين الحنابلة من التآلف لاسيما بين القاضي أبي بكر بن الباقلاني وبين أبي الفضل ابن التميمي حتى كان ابن الباقلاني يكتب في أجوبته في المسائل كتبه محمد ابن الطيب الحنبلي ويكتب أيضاً الأشعري قال: وعلى العقيدة التي صنفها أبو الفضل التميمي اعتمد البيهقي في الكتاب الذي صنفه في مناقب أحمد: لما ذكر عقيدة أحمد قال: وأما ابن حامد وابن بطة وغيرهما فإنهم مخالفون لأصل قول ابن كلاب قال: والأشعري وأئمة أصحابه كابن الحسن الطبري وأبي عبد الله بن مجاهد والقاضي أبي بكر متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليدين وإبطال تأويلها
…
(1)
ويقول شيخ الإسلام في معرض الكلام على الأشعري ومحبيه ورافضيه: لكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبرة مجملة، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة، واعتقد أنه يمكن الجمع بين تلك الأصول، وبين الانتصار للسنة كما فعل في مسألة
(1) اجتماع الجيوش (ص.259).
الرؤية والكلام، والصفات الخبرية وغير ذلك.
والمخالفون له من أهل السنة والحديث ومن المعتزلة والفلاسفة يقولون: إنه متناقض وأن ما وافق فيه المعتزلة يناقض ما وافق فيه أهل السنة، كما أن المعتزلة يتناقضون فيما نصروا فيه دين الإسلام، فإنهم بنوا كثيراً من الحجج على أصول تناقض كثيراً من دين الإسلام. بل جمهور المخالفين للأشعري من المثبتة والنفاة يقولون: إنما قاله في مسألة الرؤية والكلام: معلوم الفساد بضرورة العقل. (1)
وأما في مسألة الإيمان والقدر فقد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية في غير ما موضع، أن أبا الحسن سلك مسلك المرجئة في مسألة الإيمان، وإن كان حكى عنه قولاً له أنه سلك مسلك السلف لكن الذي أكثر الشيخ من ترديده عن أبي الحسن هو الأول وقد تبناه أشهر أتباعه كالجويني وغيره.
وأما مسألة القدر فسلك مسلك الجبرية وهذا لم يحك الشيخ فيه خلافاً. وهذا هو الموجود في كتب الأشاعرة ومسألة الكسب من أشهر ما روي عن الأشعري. قال شيخ الإسلام: وأبو الحسن سلك في مسألة الأسماء، والأحكام والقدر مسلك الجهم بن صفوان مسلك المجبرة ومسلك غلاة المرجئة. (2)
وقال في معرض الحديث على توبته من الاعتزال: ومال في مسائل
(1) مجموع الفتاوى (ج 12/ ص.204 - 205).
(2)
مجموع الفتاوى (16/ 96).
العدل والأسماء والأحكام إلى مذهب جهم ونحوه. (1)
وقال في معرض الكلام على الإيمان: وقال أبو عبد الله الصالحي، إن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته، لكن له لوازم فإذا ذهبت دل ذلك على عدم تصديق القلب. وإن كل قول أو عمل ظاهر دل الشرع على أنه كفر كان ذلك لأنه دليل على عدم تصديق القلب ومعرفته، وليس الكفر إلا تلك الخصلة الواحدة وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة، وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري، وعليه أصحابه، كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأمثالهما، ولهذا عدهم أهل المقالات من المرجئة، والقول الآخر عنه كقول السلف وأهل الحديث: إن الإيمان قول وعمل وهو اختيار طائفة من أصحابه ومع هذا فهو وجمهور أصحابه على قول أهل الحديث في الاستثناء في الإيمان. (2)
وأما كتاب الإبانة: فهو في الجملة يعتبر من الكتب التي وافقت العقيدة السلفية وبينتها لكن فيه بعض الإجمال وفيه طرق في الإثبات لم تنقل عن السلف فليتنبه عند قراءته، وهذا الكتاب هو عمدة من جعل أبا الحسن، من الذين تراجعوا تراجعاً كاملاً إلى مذهب السلف، وإن كان البعض لا يرى أن أبا الحسن كتب ذلك عن اقتناع كما فعل البربهاري لما دخل عليه أبو الحسن فذكر له أنه ألف الإبانة ورد على المعتزلة فقال له: لا نعرف إلا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل.
(1) مجموع الفتاوى (13/ 99).
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 509).
وأما غلاة الأشعرية فينكرون الكتاب، ويقولون إنما وضع على أبي الحسن وليس له، لكن أثبته من له خبرة بالتراجم والتواريخ ومذهب الأشعري، كابن عساكر والذهبي وشيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم ممن لا يحصى كثرة، ويقول بعضهم إنما ألفه خوفاً من الحنابلة وهذا القول يردده الشيخ النجدي في كثير من كتبه ومقالاته: محمد زاهد الكوثري. وبقية كتب الأشعري، وإن كان فيها بعض الدفاع عن العقيدة عموماً، كالموجز والمقالات واللمع في الرد على أهل البدع، وغير ذلك، فليست خاصة بالعقيدة السلفية، فيستفاد منها ما يوافق الدفاع عن العقيدة السلفية ويترك ما لا يوافق ذلك، وهذا القدر فيه كفاية وإلا فالبحث عن الأشعري والأشعرية يحتاج إلى بسط أكثر.
جاء في مجموع الفتاوى: وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام في كتابه الذي صنفه في 'اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين' وذكر فرق الروافض والخوارج، والمرجئة والمعتزلة وغيرهم. ثم قال 'مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث' جملة. قول أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته، وكتبه ورسله، وبما جاء عن الله تعالى، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون شيئاً من ذلك وأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما
قال: {الرحمن على العرش استوى} (1) وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بيدي} (2) وكما قال: {بَلْ يداه مَبْسُوطَتَانِ} (3) وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تجري بأعيننا} (4) وأن له وجهاً كما قال: {ويبقى وجه ربك ذو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (27)(5). وأن أسماء الله تعالى لا يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج. وأقروا أن لله علماً كما قال: {أنزله بِعِلْمِهِ} (6) وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إِلًّا بِعِلْمِهِ} (7) وأثبتوا له السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة كما قال:{أَوَلَمْ يروا أن اللَّهَ الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أشد مِنْهُمْ قُوَّةً} (8) وذكر مذهبهم في القدر.
إلى أن قال: ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في اللفظ والوقف، ومن قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق،
(1) طه الآية (5).
(2)
ص الآية (75).
(3)
المائدة الآية (64).
(4)
القمر الآية (14).
(5)
الرحمن الآية (27).
(6)
النساء الآية (166).
(7)
فاطر الآية (11).
(8)
فصلت الآية (15).
ويقرون أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال عز وجل:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ ربهم يومئذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (15)(1) وذكر قولهم في الإسلام والإيمان والحوض والشفاعة وأشياء إلى أن قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، إلى أن قال: وينكرون الجدال والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، ويسلمون الروايات الصحيحة كما جاءت به الآثار الصحيحة التي جاءت بها الثقات عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقولون كيف ولا لم؟ لأن ذلك بدعة عندهم إلى أن قال: ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: {وَجَاءَ ربك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (2) وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الوريد} (3) إلى أن قال: ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الآثار، والنظر في الفقه، مع الاستكانة والتواضع، وحسن الخلق مع بذل المعروف، وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة والشكاية وتفقد المآكل والمشارب. وقال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستسلمون إليه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من
(1) المطففين الآية (15).
(2)
الفجر الآية (22).
(3)
ق الآية (16).
قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان.
وقال الأشعري أيضاً في 'اختلاف أهل القبلة في العرش' فقال: قال أهل السنة وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه استوى على العرش، كما قال:{الرحمن على العرش استوى} (1) ولا نتقدم بين يدي الله في القول، بل نقول استوى بلا كيف، وأن له وجهاً كما قال:{ويبقى وجه ربك ذو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (2)، وأن له يدين كما قال:{خَلَقْتُ بيدي} (3)، وأن له عينين كما قال:{تجري بأعيننا} (4) وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: {وَجَاءَ ربك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (5)، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث (6)، ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب، أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت المعتزلة: إن الله استوى على العرش بمعنى استولى وذكر مقالات أخرى.
وقال أيضاً أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه 'الإبانة في أصول الديانة' وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه فقال: فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة: فإن قال
(1) طه الآية (5).
(2)
الرحمن الآية (27).
(3)
ص الآية (75).
(4)
القمر الآية (14).
(5)
الفجر الآية (22).
(6)
انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل -نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم. وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئاً، وأن الله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن "محمداً عبده ورسوله" أرسله بالهدى ودين الحق "ليظهره على الدين كله" وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية، وأن الله يبعث من في القبور. وأن الله مستوٍ على عرشه كما قال:{الرحمن على العرش استوى} (1) وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (2) وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بيدي} (3) وكما قال: {بَلْ يداه مَبْسُوطَتَانِ
(1) طه الآية (5).
(2)
الرحمن الآية (27).
(3)
ص الآية (75).
ينفق كيف يشاء} (1) وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تجري بأعيننا} (2) وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالاًّ، وذكر نحواً مما ذكر في الفرق إلى أن قال: ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيماناً، وندين بأن الله يقلب القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل (3)، وأنه عز وجل يضع السموات على أصبع، والأرضين على أصبع (4)، كما جاءت الرواية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلى أن قال:"وأن الإيمان" قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي رواها الثقات عدلا عن عدل، حتى ينتهي إلى رسول الله -إلى أن قال: ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول: "هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ "(5) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قال أهل الزيغ والتضليل: ونعول فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا، وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به، ولا نقول على الله ما لا نعلم. ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال:{وَجَاءَ ربك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (6) وأن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ
(1) المائدة الآية (64) ..
(2)
القمر الآية (14).
(3)
انظر تخريجه في مواقف سفيان بن عيينة سنة (198هـ).
(4)
انظر تخريجه في مواقف وكيع بن الجراح سنة (196هـ).
(5)
انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(6)
الفجر الآية (22).
أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الوريد} (1) وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (2). إلى أن قال: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي مما لم نذكره باباً باباً.
ثم تكلم على أن الله يرى واستدل على ذلك ثم تكلم على أن القرآن غير مخلوق واستدل على ذلك ثم تكلم على من وقف في القرآن وقال لا أقول إنه مخلوق، ولا غير مخلوق، ورد عليه، ثم قال:
باب ذكر الاستواء على العرش
فقال: إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إن الله مستوٍ على عرشه كما قال: {الرحمن على العرش استوى} (3) وقال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (4) وقال تعالى: {بَلْ رفعه الله إليه} (5) وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (6) وقال تعالى حكاية من فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ
(1) ق الآية (16).
(2)
النجم الآيتان (8و9).
(3)
طه الآية (5).
(4)
فاطر الآية (10).
(5)
النساء الآية (158).
(6)
السجدة الآية (5).
مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (1) كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (2) فالسموات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السموات قال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} لأنه مستوٍ على العرش الذي هو فوق السموات، وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السموات وليس إذا قال {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} يعني جميع السموات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال تعالى:{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} (3) ولم يرد أن القمر يملؤهن وأنه فيهن جميعاً.
ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله على عرشه الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض. ثم قال: وقد قال القائلون من المعتزلة، والجهمية، والحرورية أن معنى قوله:{الرحمن على العرش استوى} (4) أنه استولى وقهر وملك، وأن الله عز وجل في كل مكان،
(1) غافر الآية (36).
(2)
الملك الآية (16).
(3)
نوح الآية (16).
(4)
طه الآية (5).
وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فلو كان كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء، والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء -وهو عز وجل مستولٍ على الأشياء كلها- لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض، وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار، لأنه قادر على الأشياء مستولٍ عليها، وإذا كان قادراً على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش، دون الأشياء كلها. وذكر دلالات من القرآن والحديث، والإجماع والعقل.
ثم قال: (باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين).
وذكر الآيات في ذلك ورد على المتأولين لها بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته: مثل قوله: فإن سئلنا أتقولون لله يدان؟ قيل نقول ذلك، وقد دل عليه قوله تعالى:{يد الله فوق أيديهم} (1) وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بيدي} (2).
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج
(1) الفتح الآية (10).
(2)
ص الآية (75).
منه ذريته" (1)،
"وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده"(2). وقد جاء في الخبر المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده"(3). وليس يجوز في لسان
(1) أخرجه: أحمد (1/ 44 - 45) وأبو داود (5/ 79 - 80/ 4703) والترمذي (5/ 248 - 249/ 3075)، ابن حبان (14/ 37 - 38/ 6166) والحاكم (1/ 27) و (2/ 544 - 545) من طريق عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم، ثم مسح على ظهره بيمينه، فاستخرج عنه ذرية
…
" الحديث. دون زيادة: "وخلق عدن بيده
…
". وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي في موضع، وقال في موضع آخر: "فيه إرسال". وقال الترمذي: "حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلاً مجهولاً".
قلت: ويؤيد كلام الترمذي إخراج أبي داود للحديث نفسه (4704) من طريق عمر بن جعثم القرشي قال: حدثني زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مسلم بن يسار، عن نعيم بن ربيعة، قال: كنت عند عمر بن الخطاب بهذا الحديث. وأخرجه أيضاً بهذه الزيادة ابن عبد البر في التمهيد (فتح البر 2/ 288) وقال: "زيادة من زاد في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ليست حجة: لأن الذي لم يذكره أحفظ، وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن". وجملة القول في هذا الحديث، أنه حديث ليس إسناده بالقائم، لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعاً غير معروفين بحمل العلم.
(2)
انظر الحديث الذي بعده.
(3)
أخرجه مرسلاً: أبو الشيخ في العظمة (5/ 1555/1017)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 125/692) عن عبد الله بن الحارث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل خلق ثلاثة أشياء بيده، خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده،
…
" الحديث. وأخرجه موصولاً: الحاكم (2/ 392) ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 124/691) من طريق علي بن عاصم أنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون". قال الحاكم: "صحيح الإسناد" ورد عليه الذهبي فقال: "بل ضعيف".
قلت: في إسناده علي بن عاصم قال عنه الحافظ في التقريب: "صدوق يخطئ ويصر ورمي بالتشيع".
وأخرجه أيضاً موقوفاً عن ابن عمر: الدارمي في الرد على المريسي (1/ 261) وأبو الشيخ في العظمة (5/ 1555/1018) والحاكم (2/ 319) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 126/693) واللالكائي (3/ 477/730) لكن بلفظ: "خلق الله تبارك وتعالى أربعة أشياء بيده: العرش، وجنات عدن، وآدم، والقلم". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي. وجود إسناده الشيخ الألباني (انظر مختصر العلو (105)).
العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل عملت كذا بيدي ويريد بها النعمة، وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها، وما يجري مفهوماً في كلامها، ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل البيان أن يقول القائل: فعلت كذا بيدي ويعني بها النعمة: بطل أن يكون معنى قوله تعالى {بيدي} النعمة. (1)
- وجاء في السير: بلغنا أن أبا الحسن تاب وصعد منبر البصرة، وقال: إني كنت أقول: بخلق القرآن، وأن الله لا يرى بالأبصار، وأن الشر فعلي ليس بقدر، وإني تائب معتقد الرد على المعتزلة. (2)
- وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة:
باب الرد على الجهمية في نفيهم علم الله وقدرته
قال الله عز وجل: {أنزله بِعِلْمِهِ} (3) وقال سبحانه: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إِلًّا بِعِلْمِهِ} (4) وذكر العلم في خمسة مواضع من كتابه، وقال سبحانه:{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} (5) وقال سبحانه: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (6) وذكر
(1) مجموع الفتاوى (5/ 90 - 98).
(2)
السير (15/ 89).
(3)
النساء الآية (166).
(4)
فاطر الآية (11).
(5)
هود الآية (14).
(6)
البقرة الآية (255).
القوة فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (1) وقال تعالى: {ذو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (2) وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بنيناها بأييد} (3) وزعمت الجهمية: أن الله عز وجل لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر، وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير، فمنعهم ذلك خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك، فأتوا بمعناه لأنهم إذا قالوا: لا علم لله ولا قدرة له، فقد قالوا: إنه ليس بعالم ولا قادر، ووجب ذلك عليهم. وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل، لأن الزنادقة قد قال كثير منهم: إن الله تعالى ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت: إن الله عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية، من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم والقدرة والسمع والبصر.
فصل
وقد قال رئيس من رؤسائهم -وهو أبو الهذيل العلاف- إن علم الله هو الله، فجعل الله عز وجل علماً.
وألزم، فقيل له: إذا قلت: إن علم الله هو الله فقل: يا علم الله اغفر لي وارحمني، فأبى ذلك، فلزمه المناقضة.
(1) فصلت الآية (15).
(2)
الذاريات الآية (58).
(3)
الذاريات الآية (47).
واعلموا رحمكم الله أن من قال: عالم ولا علم كان مناقضاً، كما أن من قال علم ولا عالم كان مناقضاً، وكذلك القول في القدرة، والقادر، والحياة، والحي، والسمع، والبصر، والسميع، والبصير.
جواب:
ويقال لهم: خبرونا عمن زعم أن الله متكلم قائل آمر ناهٍ لا قول له ولا كلام، ولا أمر له ولا نهي، أليس هو مناقضاً خارجاً عن جملة المسلمين؟
فلا بد من نعم، فيقال لهم: فكذلك من قال: إن الله عالم ولا علم له كان ذلك مناقضاً خارجاً عن جملة المسلمين.
وقد أجمع المسلمون قبل حدوث الجهمية والمعتزلة والحرورية على أن لله علما لم يزل، وقد قالوا: علم الله لم يزل، وعلم الله سابق في الأشياء ولا يمنعون أن يقولوا في كل حادثة تحدث، ونازلة تنزل: كل هذا سابق في علم الله، فمن جحد أن لله علماً، فقد خالف المسلمين، وخرج عن اتفاقهم.
جواب:
ويقال لهم: إذا كان الله مريداً أفله إرادة؟
فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإذا أثبتم مريداً لا إرادة له، فأثبتوا قائلاً لا قول له، وإن أثبتوا الإرادة قيل لهم: فإذا كان المريد لا يكون مريداً إلا بإرادة فما أنكرتم أن لا يكون العالم عالماً إلا بعلم؟ وأن يكون لله علم كما أثبتم له إرادة.
مسألة:
وقد فرقوا بين العلم والكلام، فقالوا: إن الله عز وجل علم موسى وفرعون، وكلم موسى ولم يكلم فرعون، فكذلك يقال: علم موسى الحكمة وفصل
الخطاب، وآتاه النبوة، ولم يعلم ذلك فرعون، فإن كان لله كلام لأنه كلم موسى ولم يكلم فرعون، فكذلك لله علم، لأنه علم موسى، ولم يعلم فرعون.
ثم يقال لهم: إذا وجب أن لله كلاماً به كلم موسى دون فرعون إذ كلم موسى دونه، فما أنكرتم إذا علمهما جميعاً؟ أن يكون له علم به علمهما جميعاً.
ثم يقال: قد كلم الله الأشياء بأن قال لها: كوني، وقد أثبتم لله قولاً، فكذلك إن علم الأشياء كلها، فله علم.
جواب:
ثم يقال لهم: إذا أوجبتم أن لله كلاماً وليس له علم، لأن الكلام أخص من العلم والعلم أعم منه، فقولوا: إن لله قدرة، لأن العلم أعم عندكم من القدرة، لأن من مذاهب القدرية أنهم لا يقولون إن الله يقدر أن يخلق الكفر، فقد أثبتوا القدرة أخص من العلم، فينبغي لهم أن يقولوا على اعتلالهم إن لله قدرة.
جواب:
ثم قال: أليس الله عالماً، والوصف له بأنه عالم أعم من الوصف له بأنه متكلم مكلم؟ ثم لم يجب لأن الكلام أخص من أن يكون الله متكلماً غير عالم، فلم لا قلتم إن الكلام -وإن كان أخص من العلم- لا ينفي أن يكون لله علم، كما لم ينف بخصوص الكلام أن يكون الله عالماً.
جواب:
ويقال لهم: من أين علمتم أن الله عالم؟ فإن قالوا: بقوله عز وجل: {إِنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (12)(1)، قيل لهم: ولذلك فقولوا: إن لله علماً بقوله: {أنزله بِعِلْمِهِ} (2) وبقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إِلًّا بِعِلْمِهِ} (3) وكذلك قولوا: إن له قوة لقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (4) وإن قالوا: قلنا: إن الله عالم لأنه صنع العالم على ما فيه من آثار الحكمة واتساق التدبير.
قيل لهم: فلم لا قلتم: إن لله علماً بما ظهر في العالم من حكمه وآثار تدبيره؟ لأن الصنائع الحكمية لا تظهر إلا من ذي علم، كما لا تظهر إلا من عالم، وكذلك لا تظهر إلا من ذي قوة، كما لا تظهر إلا من قادر.
جواب:
ويقال لهم: إذا نفيتم علم الله فلم لا نفيتم أسماءه؟
فإن قالوا: كيف ننفي أسماءه وقد ذكرها في كتابه؟
قيل لهم: فلا تنفوا العلم والقوة، لأنه تبارك وتعالى ذكر ذلك في كتابه العزيز.
جواب آخر:
ويقال لهم: قد علم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم الشرائع والأحكام، والحلال
(1) الشورى الآية (12).
(2)
النساء الآية (166).
(3)
فاطر الآية (11).
(4)
فصلت الآية (15).
والحرام، ولا يجوز أن يعلمه ما لا يعلمه، فكذلك لا يجوز أن يعلم الله نبيه ما لا علم لله به، تعالى الله عن قول الجهمية علوّاً كبيراً.
جواب:
ويقال لهم: أليس إذا لعن الله الكافرين فلعنه لهم معنى، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم لهم معنى؟
فإن قالوا: نعم.
فيقال لهم: فما أنكرتم من أن الله تعالى إذا علم نبيه صلى الله عليه وسلم شيئاً فكان للنبي صلى الله عليه وسلم علم ولله سبحانه علم، وإذا كنا متى أثبتناه غاضباً على الكافرين فلا بد من إثبات غضب، وكذلك إذا أثبتناه راضياً عن المؤمنين فلا بد من إثبات رضىً، وكذلك إذا أثبتناه حيّاً سميعاً بصيراً فلا بد من إثبات حياة وسمع وبصر.
جواب:
ويقال لهم: وجدنا اسم عالم اشتق من علم، واسم قادر اشتق من قدرة، وكذلك اسم حي اشتق من حياة، واسم سميع اشتق من سمع، واسم بصير اشتق من بصر، ولا تخلو أسماء الله عز وجل من أن تكون مشتقة، إما لإفادة معنى، أو على طريق التلقيب، فلا يجوز أن يسمى الله عز وجل على طريق التلقيب باسم ليس فيه إفادة معنىً، وليس مشتقاً من صفة.
فإذا قلنا: إن الله عز وجل عالم قادر فليس ذلك تلقيباً، كقولنا: زيد وعمرو، وعلى هذا إجماع المسلمين.
وإذا لم يكن ذلك تلقيباً وكان مشتقاً من علم، فقد وجب إثبات
العلم، وإن كان ذلك لإفادة معنى فلا يختلف ما هو كذا لإفادة معنى وجب. ووجب إذا كان معنى العالم منا أن له علماً أن يكون: كل عالم فهو ذو علم، كما إذا كان قولي: موجود مفيداً معنى الإثبات، كان الباري تعالى واجباً إثباته، لأنه سبحانه وتعالى موجود.
جواب:
ويقال للمعتزلة والجهمية والحرورية: أتقولون إن لله علماً بالأشياء سابقاً فيها، ولوضع كل حامل، وحمل كل أنثى، وبإنزال كل ما أنزل؟
فإن قالوا: نعم، فقد أثبتوا العلم، ووافقوا.
وإن قالوا: لا، قيل لهم: هذا جحد منكم لقول الله عز وجل: {أنزله بعلمه} (1) ولقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إِلًّا بِعِلْمِهِ} (2) ولقوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} (3) وإذا كان قول الله عز وجل: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (29)(4){وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} (5) يوجب أنه عليم يعلم الأشياء كذلك، فما أنكرتم أن تكون هذه الآيات توجب أن لله علماً بالأشياء سبحانه وبحمده.
(1) النساء الآية (166).
(2)
فاطر الآية (11).
(3)
هود الآية (14).
(4)
البقرة الآية (29).
(5)
الأنعام الآية (59).
جواب:
ويقال لهم: أتقولون إن لله عز وجل علماً بالتفرقة بين أوليائه وأعدائه وهل هو مريد لذلك؟ وهل له إرادة للإيمان إذا أراد الإيمان؟
فإن قالوا: نعم، فقد وافقوا.
وإن قالوا: إذا أراد الإيمان فله إرادة.
قيل لهم: وكذلك إذا فرق بين أوليائه وأعدائه فلا بد من أن يكون له علم بذلك، وكيف يجوز أن يكون للخلق علم بذلك، وليس للخالق عز وجل علم بذلك؟ هذا يوجب أن للخلق مزية في العلم وفضيلة على الخالق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
جواب:
ويقال لهم: إذا كان من له علم من الخلق أولى بالمنزلة الرفيعة ممن لا علم له، فإذا زعمتم أن الله عز وجل لا علم له لزمكم أن الخلق أعلى مرتبة من الخالق، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
جواب:
ويقال لهم: إذا كان من لا علم له من الخلق يلحقه الجهل والنقصان، فما أنكرتم من أنه لا بد من إثبات علم الله؟ وإلا ألحقتم به النقصان جل وعز عن قولكم وعلا، ألا ترون أن من لا يعلم من الخلق يلحقه الجهل والنقصان، ومن قال ذلك في الله عز وجل وصف الله سبحانه بما لا يليق به، فكذلك إذا كان من قيل له من الخلق لا علم له لحقه الجهل والنقصان، وجب أن لا ينفي ذلك عن الله عز وجل لأنه لا يلحقه جهل ولا نقصان.
جواب:
ويقال لهم: هل يجوز أن ينسق الصنائع الحكمية من ليس بعالم؟
فإن قالوا: ذلك محال ولا يجوز في وجود الصنائع التي تجري على ترتيب ونظام إلا من عالم قادر حي.
قيل لهم: وكذلك لا يجوز وجود الصنائع الحكمية التي تجري على ترتيب ونظام إلا من ذي علم وقدرة وحياة، فإن جاز ظهورها لا من ذي علم فما أنكرتم من جواز ظهورها لا من عالم قادر حي؟
وكل مسألة سألناهم عنها في العلم فهي داخلة عليهم في القدرة والحياة والسمع والبصر.
مسألة:
وزعمت المعتزلة أن قول الله عز وجل: {سميع بصير} (1) معناه عليم، قيل لهم: فإذا قال عز وجل: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وأرى} (2) وقال: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} (3) فهل معنى ذلك عندكم علم.
فإن قالوا: نعم.
قيل لهم: فقد وجب عليكم أن تقولوا معنى قوله {أسمع وأرى} :
(1) الحج الآية (61).
(2)
طه الآية (46).
(3)
المجادلة الآية (1).
أعلم. وأعلم إذ كان معنى ذلك العلم.
فصل
ونفت المعتزلة صفات رب العالمين، وزعمت أن معنى سميع بصير، أي بمعنى عليم، كما زعمت النصارى أن سمع الله هو بصره وهو رؤيته، وهو كلامه، وهو علمه، وهو ابنه، عز الله وجل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فيقال للمعتزلة: إذا زعمتم أن معنى سميع وبصير معنى عالم، فهلا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم، فإذا زعمتم أن معنى سميع وبصير معنى قادر، فهلا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم، وإذا زعمتم أن معنى حي معنى قادر، فلم لا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم؟
فإن قالوا: هذا يوجب أن يكون كل معلوم مقدوراً.
قيل لهم: ولو كان معنى سميع بصير معنى عالم لكان كل معلوم مسموعاً، وإذا لم يجز ذلك بطل قولكم. (1)
وكذلك قال في كتاب المقالات: الحمد لله الذي بصرنا خطأ المخطئين، وعمى العمين، وحيرة المتحيرين، الذين نفوا صفات رب العالمين، وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، لا صفات له، وأنه لا علم له، ولا قدرة ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له. ولا عزة له ولا جلال له ولا عظمة ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه قال: وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة، الذين يزعمون أن للعالم صانعاً لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ولا
(1) الإبانة لأبي الحسن الأشعري (ص.113 - 121).
قدير، وعبروا عنه بأن قالوا نقول: غير لم يزل ولم يزيدوا على ذلك، غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات، لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره، فأظهروا معناه، فنفوا أن يكون للبارئ علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهر من ذلك ولأفصحوا به، غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك، قال: وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأباري، كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة، وهذا القول الذي هو قول الغالية النفاة للأسماء حقيقة، هو قول القرامطة الباطنية، ومن سبقهم من إخوانهم الصابئية الفلاسفة. (1)
له من الآثار:
1 -
ذكر في كتابه 'العمدة في الرؤية' مجموعة مصنفات ألفها منها:
2 -
'الفصول في الرد على الملحدين' وهو اثنا عشر كتاباً.
3 -
كتاب 'الصفات' قال: وهو كبير، تكلمنا فيه على أصناف المعتزلة والجهمية.
4 -
كتاب 'الرؤية بالأبصار'.
5 -
'الرد على المجسمة'.
6 -
كتاب 'اللمع في الرد على أهل البدع'.
7 -
كتاب 'النقض على الجبائي'.
8 -
كتاب 'النقض على البلخي'.
(1) الفتاوى الكبرى (5/ 49 - 50).