الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقفه من القدرية:
- قال ابن بطة: الباب الثاني في ذكر ما أعلمنا الله تعالى في كتابه أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأنه لا يهتدي بالمرسلين والكتب والآيات والبراهين إلا من سبق في علم الله أنه يهديه. -ثم ساق رحمه الله مجموعة من الآيات في بيان ذلك- ثم قال: ففي كل هذه الآيات يعلم الله عز وجل عباده المؤمنين أنه هو الهادي المضل، وأن الرسل لا يهتدي بها إلا من هداه الله، ولا يأبى الهداية إلا من أضله الله، ولو كان من اهتدى بالرسل والأنبياء مهتدياً بغير هدايته؛ لكان كل من جاءهم المرسلون مهتدين لأن الرسل بعثوا رحمة للعالمين، ونصيحة لمن أطاعهم من الخليقة أجمعين، فلو كانت الهداية إليهم؛ لما ضل أحد جاءوه. أما سمعت ما أخبرنا مولانا الكريم من نصيحة نبينا صلى الله عليه وسلم وحرصه على إيماننا حين يقول:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} (1)، وبالذي أخبرنا به عن خطاب نوح عليه السلام لقومه:{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)} (2). هذا من أحكام الله وعدله الذي لا يجوز لأحد أن يتفكر فيه ولا يظن فيه بربه غير العدل، وأن يحمل ما جهله من ذلك على
(1) التوبة الآية (128).
(2)
هود الآية (34).
نفسه ولا يقول كيف بعث الله عز وجل نوحاً إلى قومه وأمره بنصيحتهم ودلالتهم على عبادته والإيمان به وبطاعته، والله يغويهم ويحول بينهم وبين قبول ما جاء به نوح إليهم عن ربه؛ حتى كذبوه وردوا ما جاء به، ولقد حرص نوح في هداية الضال من ولده، ودعا الله أن ينجيه من أهله؛ فما أجيب، وعاتبه الله في ذلك بأغلظ العتاب، حين قال نوح:{فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (1)،
فقال الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)} (2). وذلك أن ابن نوح كان ممن سبقت له من الله الشقوة، وكتب في ديوان الضلال الأشقياء، فما أغنت عنه نبوة أبيه ولا شفاعته فيه؛ فنحمد ربنا أن خصنا بعنايته، وابتدأنا بهدايته من غير شفاعة شافع ولا دعوة داع، وإياه نسأل أن يتم ما به ابتدأنا، وأن يمسكنا بعرى الدين الذي إليه هدانا، ولا ينزع منا صالحاً أعطانا. (3)
- وقال رحمه الله: وفرض على المسلمين أن يؤمنوا ويصدقوا بأن علم الله عز وجل قد سبق ونفذ في خلقه قبل أن يخلقهم؛ كيف يخلقهم، وماذا هم عاملون، وإلى ماذا هم صائرون؛ فكتب ذلك في اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب، ويصدق ذلك قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
(1) هود الآية (45) ..
(2)
هود الآية (46).
(3)
الإبانة) 1/ 8/264 - 265).
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} (1). يقول: أحصى ما هو كائن قبل أن يكون؛ فخلقهم على ذلك العلم السابق فيهم، ثم أرسل بعد العلم بهم والكتاب الرسل إلى بني آدم يدعونهم إلى توحيد الله وطاعته، وينهونهم عن الشرك بالله ومعصيته، يدلك على تصديق ذلك قوله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} (2) فالرسل في الظاهر تدعوهم إلى الله وتأمرهم بعبادته وطاعته، ثم أرسل الشياطين على الكافرين يدعونهم إلى الشرك والمقام على الكفر والمعاصي، كل ذلك ليتم ما علم، ولا يكون إلا ما أمر؛ فسبحان من جعل هذا هكذا وحجب قلوب الخلق ومنعهم على مراده في ذلك وجعله سره المخزون وعلمه المكتوم. ويصدق ذلك قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} (3).
وقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ
(1) الحج الآية (70).
(2)
الأنبياء الآية (25).
(3)
مريم الآية (83).
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} (1). أما ترى كيف أعلمنا أن السحر كفر، وأنه أنزله على هاروت وماروت وجعلهما فتنة ليكفر من كتبه كافراً بفتنتهما، وأن السحر الذي يعلمانه الناس كفر، وأنه لا يضر أحداً؛ إلا من قد أذن الله أن يضره السحر، وذلك عدل منه سبحانه. وقال عز وجل:{مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} (2) وقال تعالى: {* وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} (3). وقال عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} (4).
قال ابن بطة: فقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله أنه يرسل الشياطين فتنة للكافرين الذين حق عليهم القول ومن سبقت عليه الشقوة حتى يؤزوهم أزّاً، ويحرضوهم على الكفر تحريضاً، ويزينوا لهم سوء أعمالهم، وكذلك أخبرنا أنه هو تعالى فتن قوم
(1) البقرة الآية (102).
(2)
الصافات الآيتان (162و163).
(3)
فصلت الآية (25).
(4)
الزخرف الآيتان (36و37).
موسى حتى عبدوا العجل وضلوا عن سواء السبيل. وقال عز وجل: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)} (1). وقال عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (2). وقال عز وجل: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)} (3). وقال: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} (4). قال ابن بطة: فهذا كلام الله عز وجل وإخباره عن فعله في خلقه، يعلمهم أن المفتون من فتنه، والهادي من هداه، والضال من أضله وحال بينه وبين الهدى، وأن الشياطين هو خلقها وسلطها، والسحر هو أنزله على السحرة، وأنه لا يضر أحداً إلا بإذنه؛ فتعس عبد وانتكس سمع هذا الكلام الفصيح الذي جاء به الرسول الصادق عليه السلام من كتاب ربه الناطق فيتصامم عنه ويتغافل، ويتمحل لآرائه وأهوائه المقاييس بالكلام المزخرف والقول المحرف؛ ابتغاء الفتنة وحب الأتباع والأشياع، {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} (5).اهـ (6)
(1) طه الآية (85).
(2)
الأنبياء الآية (35).
(3)
الأعراف الآية (168).
(4)
غافر الآية (37).
(5)
النحل الآية (25).
(6)
الإبانة (1/ 8/267 - 271).
- وقال رحمه الله: فالقدرية المخذولة يسمعون هذا وأضعافه، ويتلونه ويتلى عليهم؛ فتأبى قلوبهم قبوله، ويردونه كله ويجحدونه بغياً وعلواً وأنفة من الحق، وتكبرا على الله عز وجل وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى سنته، وللشقوة المكتوبة عليهم؛ فهم لا يسمعون إلا ما وافق أهواءهم، ولا يصدقون من كتاب الله ولا من سنة نبيه؛ إلا ما استحسنته آراؤهم، فهم كما قال الله عز وجل:{* وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} (1)، هم كما قال عز وجل:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} (2) وهكذا القدري الخبيث الذي قد سلط الله عليه الشياطين، يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، تزجره بكتاب الله تعالى؛ فلا ينزجر، وسنة رسول الله؛ فلا يذكر. وبقول الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ فلا ينحسر، وتضرب له الأمثال؛ فلا يعتبر، مصر على مذهبه الخبيث النجس الذي خالف فيه رب العالمين والملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين وجميع فقهاء المسلمين، وضارع فيه اليهود والنصارى والمجوس والصابئين؛ فلم يجد أنيساً في طريقته ولا مصاحباً على مذهبه غيرهم، أعاذنا الله وإياكم من مذاهب القدرية والأهواء الرديئة والبدع المهلكة المردية، وجعلنا وإياكم للحق مصدقين، وعن الباطل حائدين، وثبتنا
(1) الأنعام الآية (111).
(2)
البقرة الآية (171).
وإياكم على الدين الذي رضيه لنفسه واختص به من أحبه من عباده، الذين علموا أن قلوبهم بيده، وهممهم وحركاتهم في قبضته؛ فلا يهمون ولا يتنفسون إلا بمشيئته، فهم فقراء إليه في سلامة ما خولهم من نعمه، {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (1) كما أمرهم به من مسألته.
- وقال رحمه الله: فلو كان الأمر كما تزعم القدرية؛ كانت الحجة قد ظهرت على نوح من قومه، ولقالوا له: إن كان الله هو الذي يريد أن يغوينا؛ فلم أرسلك إلينا، ولم تدعونا إلى خلاف مراد الله لنا؟ ولو كان الأمر كما تزعم هذه الطائفة بقدر الله ومشيئته في خلقه وتزعم أنه يكون ما يريده العبد الضعيف الذليل لنفسه، ولا يكون ما يريده الرب القوي الجليل لعباده؛ فلم حكى الله عز وجل ما قاله نوح لقومه مثنياً عليه وراضياً بذلك من قوله؟ وقال شعيب عليه السلام:{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (4). ثم قال شعيب في موضع
(1) الأنعام الآية (63).
(2)
آل عمران الآية (8).
(3)
الإبانة (1/ 8/282 - 283).
(4)
الأعراف الآية (89).
آخر: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} (1). وقال إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)} (2).
وقال أيضاً فيما حكاه عن إبراهيم وشدة خوفه وإشفاقه على نفسه وولده أن يبلى بعبادة الأصنام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} (3). وقال فيما أخبر عن يوسف عليه السلام، ولجئه إلى ربه، وخوفه الفتنة على نفسه إن لم يكن هو المتولي لعصمته:{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} (4)، قال الله عز وجل:{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} (5).
ثم أخبرنا تعالى أن العصمة في البداية وإلهامه إياه الدعوة، كانت بالعناية
(1) هود الآية (88).
(2)
الأنعام الآية (80).
(3)
إبراهيم الآية (35).
(4)
يوسف الآية (33).
(5)
يوسف الآية (34).
من مولاه الكريم به؛ فقال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} (1)، وقال عز وجل فيما أخبر عن موسى حين دعا على فرعون وقومه بأن لا يؤمنوا وعن استجابته له وإعطائه ما سأل:{رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)} (2)، قال الله تعالى:{قد أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} (3). وقال فيما أعلمه لنوح بكفر قومه وتكذيبهم له: {وأوحى إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} (4). وقال تعالى فيما أخبر عن أهل النار واعترافهم بأن الهداية من الله عز وجل؛ فقال: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ
(1) يوسف الآية (24).
(2)
يونس الآية (88).
(3)
يونس الآية (89).
(4)
هود الآية (36).
عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} (1).
فاعترف أهل النار بأن الله عز وجل منعهم الهداية، وأنه لو هداهم اهتدوا؛ فاسمعوا رحمكم الله إلى كتاب ربكم، وانظروا هل تجدون فيه مطمعاً لما تدعيه القدرية عليه من نفي القدرة والمشيئة والإرادة عنه وإضافة القدرة والمشيئة إلى أنفسهم، وتفهموا قول الأنبياء لقومهم وكلام أهل النار واعتذار بعضهم إلى بعض بمنع الله الهداية لهم، والله عز وجل يحكي ذلك كله عنهم غير مكذب لهم ولا راد ذلك عليهم. واعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل أرسل رسله مبشرين ومنذرين وحجة على العالمين، فمن شاء الله تعالى له الإيمان؛ آمن، ومن شاء الله أن يكفر؛ كفر، فلم يجب الرسل إلى دعوتهم ولم يصدقهم برسالتهم إلا من كان في سابق علم الله أنه مرحوم مؤمن، ولم يكذبهم ويرد ما جاءوا به إلا من قد سبق في علم الله أنه شقي كافر، وعلى ذلك جميع أحوال العباد صغيرها وكبيرها، كلها مثبتة في اللوح المحفوظ والرق المنشور قبل خلق الخلق؛ فالأنبياء ليس يهتدي بدعوتهم ولا يؤمن برسالتهم إلا من كان في سابق علم الله أنه مؤمن بهم، ولقد حرص الأنبياء وأحبوا الهداية والإيمان لقوم من أهاليهم وآبائهم وأبنائهم وذوي أرحامهم؛ فما اهتدى منهم إلا من كتب الله له الهداية والإيمان، ولقد عوتبوا في ذلك بأشد العتب، وحسبك بقول نوح عليه السلام:{رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (2)، وبجواب الله
(1) إبراهيم الآية (21).
(2)
هود الآية (45).
ثم أخبرنا بجملة دعوة المسلمين، وبماذا كانت الإجابة من قومهم أجمعين، فقال عز وجل في سورة النحل:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} (2). ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم في حرصه على هداية قومه بقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)} (3)، فمن خذله الله بالمعصية؛ فمن ذا الذي نصره بالطاعة؟ ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} (4). وقال له أيضاً: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ
(1) هود الآية (46).
(2)
النحل الآية (36).
(3)
النحل الآية (37).
(4)
القصص الآية (56).
يُؤْمِنُونَ (188)} (1). وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (2).
فكل هذا يدل العقلاء ويؤمن المؤمنين من عباد الله والعلماء أن الأنبياء إنما بعثوا مبشرين ومنذرين حجة على العالمين، وأن من شاء الله له الإيمان؛ آمن ومن لم يشأ له الإيمان؛ لم يؤمن، وأن ذلك كله مفروغ منه، قد علم ربنا عز وجل المؤمن من الكافر والمطيع من العاصي والشقي من السعيد، وكتب لقوم الإيمان بعد الكفر؛ فآمنوا، ولقوم الكفر بعد الإيمان؛ فكفروا، والطاعة بالتوبة بعد المعصية؛ فتابوا، وعلى آخرين الشقوة؛ فكفروا، فماتوا على كفرهم، وكل ذلك في إمام مبين. (3)
- وقال رحمه الله: فجميع ما قد ذكرته لك واجب على المسلمين معرفته والإيمان به، والإذعان لله عز وجل والإقرار له بالعلم والقدرة، وأنه ليس شيء كان ولا هو كائن إلا وقد علمه الله عز وجل قبل كونه ثم كان بمشيئة الله وقدرته، فمن زعم أن الله عز وجل شاء لعباده الذين جحدوه وكفروا به وعصوه الخير والإيمان به والطاعة له، وأن العباد شاؤوا لأنفسهم الشر والكفر والمعصية، فعملوا على مشيئتهم في أنفسهم واختيارهم لها خلافا لمشيئته فيهم فكان ما شاؤوا ولم يكن ما شاء الله؛ فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله وأنهم أقدر على ما يريدون منه على ما يريد؛ فأي افتراء
(1) الأعراف الآية (188).
(2)
إبراهيم الآية (4).
(3)
الإبانة (1/ 8/287 - 292).
على الله يكون أكثر من هذا؟ ومن زعم أن أحداً من الخلق صائر إلى غير ما خلق له وعلمه الله منه؛ فقد نفى قدرة الله عز وجل عن خلقه، وجعل الخلق يقدرون لأنفسهم على ما لا يقدر الله عليه منهم، وهذا إلحاد وتعطيل وإفك على الله عز وجل وكذب وبهتان، ومن زعم أن الزنا ليس بقدر؛ قيل له: أرأيت هذه المرأة التي حملت من الزنا وجاءت بولدها؛ هل شاء الله أن يخلق هذا الولد، وهل مضى هذا في سابق علم الله، وهل كان في الذرية التي أخذها عز وجل من ظهر آدم؟ فإن قال: لا، فقد زعم أن مع الله خالقاً غيره وإلها آخر، وهذا قول يضارع الشرك، بل هو الشرك الصارح، تعالى الله عما تقول الملحدة القدرية علوّاً كبيراً، ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل مال الحرام ليس بقضاء وقدر من الله؛ لقد زعم أن هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وأن ما أخذه وأكله وملكه وتصرف فيه من أحوال الدنيا وأموالها؛ كان إليه وبقدرته؛ يأخذ منها ما يشاء، ويدع ما يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، إن شاء أغنى نفسه؛ أغناها، وإن شاء أن يفقرها؛ أفقرها، وإن أحب أن يكون ملكاً؛ كان، وإن أحب غير ذلك؛ كان، وهذا قول يضارع قول المجوسية، بل ما كانت تقوله الجاهلية، لكنه أكل رزقه، وقضى الله له أن يأكله من الوجه الذي أكله.
ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر؛ فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله، وأن الله عز وجل كتب للمقتول أجلا علمه وأحصاه وشاء وأراده، وأن قاتله شاء أن يفني عمره ويقطع أجله قبل بلوغ مدته وإحصاء عدته؛ فكان ما أراده القاتل، وبطل ما أحصاه الله وكتبه وعلمه؛ فأي كفر يكون أوضح وأقبح وأنجس وأرجس من هذا؟ بل
ذلك كله بقضاء الله وقدره، وكل ذلك بمشيئته في خلقه وتدبيره فيهم، قد وسعه علمه وأحصاه وجرى في سابق علمه ومسطور كتابه، وهو العدل الحق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} (1) ولا يقال لما فعله وقدره وقضاه كيف؟ ولا لم؟ فمن جحد أن الله عز وجل قد علم أفعال العباد وكل ما هم عاملون؛ فقد ألحد وكفر، ومن أقر بالعلم؛ لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة على الصغر منه و (القما)؛ فالله الضار، النافع، المضل، الهادي؛ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا منازع له في أمره، ولا شريك له في ملكه، ولا غالب له في سلطانه خلافا للقدرية الملحدة. (2)
- وقال رحمه الله: اعلموا رحمكم الله أن القدرية أنكروا قضاء الله وقدره، وجحدوا علمه ومشيئته، وليس لهم فيما ابتدعوه ولا في عظيم ما اقترفوه كتاب يؤمونه، ولا نبي يتبعونه، ولا عالم يقتدون به، وإنما يأتون فيما يفترون بأقوال عن أهوائهم مخترعة وفي أنفسهم مبتدعة؛ فحجتهم داحضة وعليهم غضب ولهم عذاب شديد، يشبهون الله بخلقه، ويضربون لله الأمثال، ويقيسون أحكامه بأحكامهم، ومشيئته بمشيئتهم وربما قيل لبعضهم: من إمامك فيما تنتحله من هذا المذهب الرجس النجس؛ فيدعي أن إمامه في ذلك الحسن ابن أبي الحسن البصري رحمه الله، فيضيف إلى قبيح كفره وزندقته أن يرمي إماماً من أئمة المسلمين وسيداً من ساداتهم وعالماً من
(1) الأنبياء الآية (23).
(2)
الإبانة (2/ 9/43 - 45).
علمائهم بالكفر، ويفتري عليه البهتان ويرميه بالإثم والعدوان ليحسن بذلك بدعته عند من قد خصمه وأخزاه. (1)
- وقال رحمه الله: فكل ما قد ذكرته لكم يا إخواني رحمكم الله؛ فاعقلوه، وتفهموه، ودينوا لله به، فهو ما نزل به الكتاب الناطق، وقاله النبي الصادق، وأجمع عليه السلف الصالح والأئمة الراشدون من الصحابة والتابعين، والعقلاء، والحكماء من فقهاء المسلمين، واحذروا مذاهب المشائيم القدرية، الذين أزاغ الله قلوبهم؛ فأصمهم وأعمى أبصارهم، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقرا حتى زعموا أن المشيئة إليهم، وأن الخير والشر بأيديهم، وأنهم إن شاؤوا أصلحوا أنفسهم، وإن شاؤوا أفسدوها، وأن الطاعة والمعصية إليهم، فإن شاؤوا عصوا الله وخالفوه فيما لا يشاؤه ولا يريده، حتى ما شاؤوا هم كان، وما شاء الله لا يكون، وما لا يشاؤونه لا يكون، وما لا يشاؤه الله يكون، فإن القدري الملعون لا يقول اللهم اعصمني، ولا اللهم وفقني، ولا يقول اللهم ألهمني رشدي، ولا يقول ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ويقول: إن الله لا يزيغ القلوب ولا يضل أحداً ويجحد القرآن ويعاند الرسول ويخالف إجماع المسلمين، ولا يقول لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا يقول ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون وينكر ذلك على من قاله، ويزعم أن المشيئة إليه والحول والقوة بيديه، وأنه إن شاء أطاع الله وإن شاء عصى، وإن شاء أخذ وإن شاء أعطى، وإن شاء افتقر وإن شاء استغنى. وينكر أن يكون الله عز وجل خالق الشر، وأن الله
(1) الإبانة (2/ 10/179).
شاء أن يكون في الأرض شيء من الشر وهو يعلم أن الله خلق إبليس وهو رأس كل شر، وأن الله علم ذلك منه قبل أن يخلقه، والله تعالى يقول:{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} (1)، والله يقول:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (2)، ويقول:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (3)؛ فالقدري يجحد هذا كله ويزعم أنه يعصي الله قسراً ويخالفه شاء أم أبى. (4)
- وقال رحمه الله: فجميع ما قد رويناه في هذا الباب يلزم العقلاء الإيمان بالقدر، والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره، وترك البحث والتنقير وإسقاط لم وكيف وليت ولولا، فإن هذه كلها اعتراضات من العبد على ربه ومن الجاهل على العالم معارضة من المخلوق الضعيف الذليل على الخالق القوي العزيز، والرضا والتسليم طريق الهدى وسبيل أهل التقوى، ومذهب من شرح الله صدره للإسلام، فهو على نور من ربه، فهو يؤمن بالقدر كله خيره وشره، وأنه واقع بمقدور الله جرى، ومن يعلم أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وسأزيد من بيان الحجة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وعن التابعين وفقهاء المسلمين في ترك مجالسة القدرية، ومواضعتهم القول ومناظرتهم، والإعراض عنهم، ما إذا أخذ به العاقل المؤمن نفسه وتأدب به عصم إن شاء الله من فتنة القدرية، وانغلق عنه
(1) الفلق الآية (2).
(2)
الصافات الآية (96).
(3)
التغابن الآية (2).
(4)
الإبانة (2/ 11/286 - 287).
باب البلية من جهتهم، فإن المجالسة لهم ومناظرتهم تعد، وتفر، وتضر، وتمرض القلوب، وتدنس الأديان، وتفسد الإيمان، وترضي الشيطان وتسخط الرحمن، إلا على سبيل الضرورة عند الحاجة من الرجل العالم العارف الذي كثر علمه وعلت فيه رتبته وغزرت معرفته ودقت فطنته؛ فذلك الذي لا بأس بكلامه لهم عند الحاجة إلى إقامة الحجة عليهم لتقريعهم وتبكيتهم وتهجينهم، وتعريفهم وحشة ما هم فيه من قبيح الضلال، وسيء المقال، وظلمة المذهب، وفساد الاعتقاد، أو لمسترشد مجد في طلب الحق حريص عليه، قد ألقى المقاليد من نفسه وأعطى أزمة قيادها، وبذل الطاعة منها يلتمس الرشاد وسبل السداد، ويرجو النجاة فذلك لا بأس بإرشاده وتوقيفه والصبر على تبصيره حتى يكشف الأغطية عن قلبه، ويخرج من أكنته، ويلزم طريق الاستقامة إلى ربه، وكل ذلك برحمة الله وتوفيقه. (1)
سبكتكين (2)(387 هـ)
الأمير سبكتكين حاجب معز الدولة بن بويه. كان مقامه ببلخ، وقد ابتنى بها دوراً ومساكن، وكان عادلاً خيّراً، كثير الجهاد. كانت دولته نحواً من عشرين سنة، وهي مدة جازت مدة ملك السامانية والسلجوقية. جرت بينه وبين الهنود حروب كثيرة فاتسعت بها رقعته ورسخت في النفوس هيبته.
(1) الإبانة (2/ 11/316 - 317).
(2)
الكامل (9/ 130) ووفيات الأعيان (5/ 175 - 182) والهداية (11/ 300 - 301) والشذرات (3/ 48) والسيرج (16/ 500 - 501) والوافي بالوفيات (15/ 116) والنجوم الزاهرة (4/ 108).