الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إياه ثوابه على طاعته، لأن ذلك محو بالسيئة الحسنة لا بالحسنة السيئة، وذلك خلاف الوعد الذي وعد عباده، وغير الذي هو به موصوف من العدل والفضل والعفو عن الجرم.
والعدل: العقاب على الجرم، والثواب على الطاعة.
فأما المؤاخذة على الذنب وترك الثواب والجزاء على الطاعة، فلا عدل ولا فضل، وليس من صفته أن يكون خارجاً من إحدى هاتين الصفتين.
وبعد: فإن الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متظاهرة بنقل من يمتنع في نقله الخطأ والسهو والكذب، ويوجب نقله العلم، أنه ذكر أن الله جل ثناؤه يخرج من النار قوما بعد ما امتحشوا وصاروا حمماً، بذنوب كانوا أصابوها في الدنيا ثم يدخلهم الجنة (1). وأنه صلى الله عليه وسلم قال:"شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"(2). وأنه عليه السلام يشفع لأمته إلى ربه عز وجل ذكره- فيقال: أخرج منها منهم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان (3). في نظائر لما ذكرنا من الأخبار التي إن لم تثبت صحتها لم يصح عنه خبر صلى الله عليه وسلم. (4)
موقفه من المرجئة:
- جاء في كتابه التبصير في معالم الدين قال: والصواب من القول في ذلك
(1) أحمد (3/ 56) والبخاري (1/ 98 - 99/ 22) ومسلم (1/ 172/184) من حديث يحيى بن عمارة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
تقدم في مواقف جابر بن عبد الله سنة (78هـ).
(3)
أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/ 116) والبخاري (13/ 519 - 520/ 7440) ومسلم (1/ 180 - 181/ 193) وابن ماجه (2/ 1442 - 1443/ 4312).
(4)
التبصير في معالم الدين (183 - 186).
عندنا أن الإيمان اسم للتصديق كما قالته العرب، وجاء به كتاب الله -تعالى ذكره- خبراً عن إخوة يوسف من قيلهم لأبيهم يعقوب:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صادقين} (1). بمعنى: ما أنت بمصدق لنا على قيلنا.
غير أن المعنى الذي يستحق به اسم مؤمن بالإطلاق، هو الجامع لمعاني الإيمان، وذلك أداء جميع فرائض الله -تعالى ذكره- من معرفة وإقرار وعمل.
وذلك أن العارف المعتقد صحة ما عرف من توحيد الله -تعالى ذكره- وأسمائه وصفاته، مصدق لله في خبره عن وحدانيته وأسمائه وصفاته، فكذلك العارف بنبوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، المعتقد صحة ذلك، وصحة ما جاء به من فرائض الله.
وذلك أن معارف القلوب عندنا اكتساب العباد وأفعالهم، وكذلك الإقرار باللسان بعد ثبوته، وكذلك العمل بفرائض الله التي فرضها على عباده، تصديق من العامل بعمله ذلك لله -جل ثناؤه-، ورسوله صلى الله عليه وسلم.
كما إقراره بوجوب فرض ذلك عليه، تصديق منه لله ورسوله بإقراره أن ذلك له لازم فإذ كل هذه المعاني يستحق على كل واحد منهما على انفراده اسم إيمان.
وكان العبد مأموراً بالقيام بجميعها كما هو مأمور ببعضها، وإن كانت العقوبة على تضييع بعضها أغلظ، وفي تضييع بعضها أخف، كان بينا أنه غير جائز تسمية أحد مؤمنا ووصفه به مطلقا من غير وصل إلا لمن استكمل
(1) يوسف الآية (17).
معاني التصديق الذي هو جماع أداء جميع فرائض الله.
كما أن العلم الذي يأتي مطلقاً هو العلم بما ينوب أمر الدين.
فلو أن قائلاً قال لرجل عرف منه نوعاً، وذلك كرجل كان عالماً بأحكام المواريث دون سائر علوم الدين، فذكره ذاكر عند من يعتقد أن اسم عالم لا يلزمه بالإطلاق في أمر الدين إلا من قلنا: إنه يلزمه، فقال: فلان عالم بالإطلاق ولم يصله، فيقال: فلان عالم بالفرائض أو بأحكام المواريث، كان قد أخطأ في العبارة وأساء في المقالة، لأنه وضع اسم العموم على خاص عند من لا يعلم مراده، وإن كان قائل ذلك أراد الخصوص.
وإن كان أراد العموم وهو يعلم أن هذا الاسم لا يستحق إلا من كان جامعا علم جميع ما ينوب أمر الدين فقد كذب.
وكذلك القائل لمن لم يكن جامعاً أداء جميع فرائض الله -عز ذكره- من معرفة وإقرار وعمل: هو مؤمن، إما كاذب، وإما مخطئ في العبارة، مسيء في المقالة، إذا لم يصل قيله: هو مؤمن بما هو به مؤمن، لأن وصفنا من وصفنا بهذه الصفة، وتسميتنا له هذه التسمية بالإطلاق إنما هو للمعاني الثلاثة التي قد ذكرناها.
فمن لم يكن جامعاً ذلك فإنما له ذلك الاسم بالخصوص، فغير جائز وصف من كان له من صفات الإيمان خاص، ومن أسمائه بعض بصيغة العموم، وتسميته باسم الكل، ولكن الواجب أن يصل الواصف إذا وصف بذلك أن يقول له -إذا عرف وأقر وفرط في العمل- هو مؤمن بالله ورسوله، فإذا أقر بعد المعرفة بلسانه وصدق وعمل ولم تظهر منه موبقة ولم تعرف منه
إلا المحافظة على أداء الفرائض. قيل: هو مؤمن إن شاء الله.
وإنما وصلنا تسميتنا إياه بذلك بقولنا إن شاء الله، لأنا لا ندري هل هو مؤمن ضيع شيئاً من فرائض الله عز ذكره أم لا، بل سكون قلوبنا إلى أنه لا يخلو من تضييع ذلك أقرب منها إلى اليقين، فإنه غير مضيع شيئاً منها ولا مفرط، فلذلك من وصفناه بالإيمان بالمشيئة إذ كان الاسم المطلق من أسماء الإيمان إنما هو الكمال، فمن لم يكن مكملاً جميع معانيه -والأغلب عندنا أنه لا يكملها أحد- لم يكن مستحقاً اسم ذلك بالإطلاق والعموم الذي هو اسم الكمال، لأن الناقص غير جائز تسميته بالكمال، ولا البعض باسم التام، ولا الجزء باسم الكل. (1)
- وقال أيضاً: والحق في ذلك عندنا أن يقال: الإيمان يزيد وينتقص، لما وصفنا قبل من أنه معرفة وقول وعمل. وأن جميع فرائض الله تعالى ذكره التي فرضها على عباده من المعاني التي لا يكون العبد مستحقاً اسم مؤمن بالإطلاق إلا بأدائها.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان لا شك أن الناس متفاضلون في الأعمال، مقصر وآخر مقتصد مجتهد ومن هو أشد منه اجتهاداً، كان معلوماً أن المقصر أنقص إيماناً من المقتصد، وأن المقتصد أزيد منه إيماناً، وأن المجتهد أزيد إيماناً من المقتصد والمقصر، وأنهما أنقص منه إيماناً، إذ كان جميع فرائض الله كما قلنا قبل.
فكل عامل فمقصر عن الكمال، فلا أحد إلا وهو ناقص الإيمان غير
(1) التبصرة (ص.190 - 193).