المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌موقفه من المرجئة: - موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية - جـ ٥

[المغراوي]

فهرس الكتاب

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الرافضة والجهمية والخوارج والمرجئة والقدرية:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقف السلف من ابن أبي العزاقر (319 ه

- ‌موقف السلف من ابن مسرة (319 ه

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقف السلف من الحكيم الترمذي الصوفي (320 ه

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقف السلف من المهدي الرافضي عبيد الله أبي محمد (322 ه

- ‌أبو علي الروذباري الصوفي (322 ه

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌المرتعش الصوفي (328 ه

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقف السلف من القرمطي عدوّ الله أبي طاهر سليمان الزنديق (332 ه

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقف السلف من القائم بأمر الله (الزنديق) (334 ه

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقف السلف من الفارابي الزنديق (339 ه

- ‌القاهر بالله (339 ه

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌أبو محمد بن عبد البصري المالكي (347 ه

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقف السلف من ابن سالم الصوفي (350 ه

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقف السلف من ابن أبي دارم الرافضي (352 ه

- ‌موقف السلف من ابن الداعي الشيعي (353 ه

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقف السلف من المتنبي (354 ه

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقف السلف من ابن الجعابي (355 ه

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقف السلف من النعمان الباطني العبيدي (363 ه

- ‌موقف السلف من المعز العبيدي المهدوي (365 ه

- ‌موقف السلف من النصرآبادي (367 ه

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقف السلف من أبي بكر الرازي المعتزلي (370 ه

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي الصوفي (371 ه

- ‌موقفه من المبتدعة والرافضة والجهمية والخوارج والمرجئة والقدرية:

- ‌موقف السلف من عضد الدولة الشيعي (372 ه

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌أبو عثمان المغربي الصوفي (373 ه

- ‌موقفه من الصوفية:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الخوارج:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الفلاسفة:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من علم الكلام:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقف السلف من أبي طالب المكي (386 ه

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من القدرية:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المبتدعة والجهمية:

- ‌موقفه من المشركين:

- ‌موقفه من المؤولة وغيرهم:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من المرجئة:

- ‌موقفه من الجهمية:

- ‌موقفه من الأشعرية وغيرهم:

- ‌موقفه من الرافضة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المبتدعة:

- ‌موقفه من المشركين:

الفصل: ‌موقفه من المرجئة:

وقال: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} (1) وقال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} (2)

فهذه كلها لو سمي الأمر فيها باسم الخلق، لم يجز، ألا ترى أنه لا يمكن أن يقول: ألا له الخلق والخلق، لأنه قوله: الخلق يدخل فيه الخلق كله بقوله الخلق، والخلق باطل، لا يجوز أن يقال: فيها يفرق كل أمر حكيم خلقاً من عندنا، ولا يقال: ومن يزغ منهم عن خلقنا، ولا يجوز أن يقال: قل خلق ربي بالقسط، ولا يجوز أن يقال: إن الحكم إلا لله خلق أن لا تعبدوا إلا إياه، ولا يجوز أن يقال: حتى إذا جاء خلقنا. ولو كان معنى الأمر معنى الخلق، جاز في الكلام أن يتكلم بالمعنى، ففي هذا بيان كفر الجهمية فيما ادعوه أن القرآن مخلوق، وسنوضح ما قالوه باباً باباً، حتى لا يخفى على مسترشد أراد طريق الحق وأحب أن يسلكها ويزيد العالم بذلك بصيرة، والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل. (3)

‌موقفه من المرجئة:

- قال رحمه الله تعالى: أما بعد وفقكم الله فإني مبين لكم شرائع الإيمان التي أكمل الله بها الدين، وسماكم بها المؤمنين وجعلكم إخوة عليها متعاونين، وميز المؤمنين بها من المبتدعين المرجئة الضالين، الذي زعموا أن الإيمان قول بلا عمل، ومعرفة من غير حركة. فإن الله عز وجل قد كذبهم في كتابه وسنة نبيه وإجماع العقلاء والعلماء من عباده، فتدبروا ذلك وتفهموا ما فيه وتبينوا

(1) الأعراف الآية (29).

(2)

مريم الآية (64) ..

(3)

الإبانة (2/ 13/150 - 220).

ص: 474

علله ومعانيه.

فاعلموا رحمكم الله أن الإيمان إنما هو نظام اعتقادات صحيحة بأقوال صادقة وأعمال صالحة بنيات خالصة بسنن عادلة وأخلاق فاضلة جمع الله فيها لعباده مصالح دنياهم وآخرتهم ومراشد عاجلهم وآجلهم. (1)

- وقال: اعلموا رحمكم الله أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه فرض على القلب المعرفة به والتصديق له ولرسله ولكتبه وبكل ما جاءت به السنة، وعلى الألسن النطق بذلك والإقرار به قولاً وعلى الأبدان والجوارح العمل بكل ما أمر به وفرضه من الأعمال، لا تجزئ واحدة من هذه إلا بصاحبتها، ولا يكون العبد مؤمناً إلا بأن يجمعها كلها حتى يكون مؤمناً بقلبه مقراً بلسانه عاملاً مجتهداً بجوارحه، ثم لا يكون أيضاً مع ذلك مؤمناً حتى يكون موافقاً للسنة في كل ما يقوله ويعمله، متبعاً للكتاب والعلم في جميع أقواله وأعماله، وبكل ما شرحته لكم نزل به القرآن، ومضت به السنة، وأجمع عليه علماء الأمة؛ فأما فرض المعرفة على القلب فما قاله الله عز وجل في سورة المائدة: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ

(1) الإبانة (2/ 5/626).

ص: 475

وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} (1) وقال في سورة النحل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صدراً

} الآية (2). وقال عز وجل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} (3)

فهذا بيان ما لزم القلوب من فرض الإيمان لا يرده ولا يخالفه ويجحده إلا ضال مضل. وأما بيان ما فرض على اللسان من الإيمان فهو ما قال الله عز وجل في سورة البقرة: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (4) وقال في سورة آل عمران: {قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ

(1) المائدة الآية (41).

(2)

النحل الآية (106).

(3)

الإسراء الآية (36) ..

(4)

البقرة الآيتان (136و137).

ص: 476

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} إلى آخر الآية (1). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني رسول الله» (2). حدثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن البختري الواسطي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (3).

وأما الإيمان بما فرضه الله عز وجل من العمل بالجوارح تصديقاً لما أيقن به القلب ونطق به اللسان فذلك في كتاب الله تعالى يكثر على الإحصاء وأظهر من أن يخفى. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} (4) وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (5) في مواضع كثيرة من القرآن أمر الله فيها بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان والجهاد في سبيله وإنفاق الأموال وبذل الأنفس في ذلك، والحج بحركة الأبدان ونفقة الأموال، فهذا

(1) آل عمران الآية (84).

(2)

البخاري (1/ 102/25) ومسلم (1/ 53/22) من طريق واقد بن محمد عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

رواه: أحمد (3/ 300) ومسلم (1/ 52 - 53/ 21 (35)) والترمذي (5/ 409/3341) والنسائي في الكبرى (6/ 514/11670) من طريق أبي الزبير عن جابر مرفوعاً. وأخرجه: مسلم (1/ 52 - 53/ 21 (35)) والنسائي (7/ 91/3987) وابن ماجه (2/ 1295/3928) من طريق أبي سفيان عن جابر مرفوعاً.

(4)

الحج الآية (77).

(5)

البقرة الآية (43).

ص: 477

كله من الإيمان، والعمل به فرض لا يكون المؤمن إلا بتأديته، وكل من تكلم بالإيمان وأظهر الإقرار بالتوحيد وأقر أنه مؤمن بجميع الفرائض غير أنه لا يضره تركها ولا يكون خارجاً من إيمانه إذا هو ترك العمل بها في وقتها مثل الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت مع الاستطاعة وغسل الجنابة، ويرى أن صلاة النهار إن صلاها بالليل أجزاه وصلاة الليل إن صلاها بالنهار أجزته، وإنه إن صام في شوال أجزأه، وإن حج في المحرم أو صفر أجزأه، وأنه متى اغتسل من الجنابة لم يضره تأخيره، ويزعم أنه مع هذا مؤمن مستكمل الإيمان عند الله على مثل إيمان جبريل وميكائيل والملائكة المقربين. فهذا مكذب بالقرآن مخالف لله ولكتابه ولرسله ولشريعة الإسلام، ليس بينه وبين المنافقين الذين وصفهم الله تعالى في كتابه فرق، قد نزع الإيمان من قلوبهم بل لم يدخل الإيمان في قلوبهم كما قال الله عز وجل فيهم:{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (1)

فكل من ترك شيئا من الفرائض التي فرضها الله عز وجل في كتابه أو أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته -على سبيل الجحود لها والتكذيب بها- فهو كافر بين الكفر لا يشك في ذلك عاقل يؤمن بالله واليوم الآخر. ومن أقر بذلك وقاله بلسانه ثم تركه تهاونا ومجوناً أو معتقداً لرأي المرجئة ومتبعا لمذاهبهم فهو تارك الإيمان ليس في قلبه منه قليل ولا كثير وهو في جملة المنافقين الذين نافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآن بوصفهم وما أعد لهم وإنهم في الدرك

(1) الحجرات الآية (14) ..

ص: 478

الأسفل من النار، نستجير بالله من مذاهب المرجئة الضالة. (1)

- وقال رحمه الله: وفرض الله الإيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به صاحبتها، فمنها قلبه الذي يعقل به ويتقي به ويفهم به وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره، ومنها لسانه الذي ينطق به ومنها عيناه اللتان ينظر بهما، وسمعه الذي يسمع به، ويداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يخطو بهما

فليس من هذه جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به صاحبتها بفرض من الله تعالى ينطق به الكتاب ويشهد به علينا. ففرض على القلب غير ما فرض على اللسان، وفرض على اللسان غير ما فرض على العينين، وفرض على العينين غير ما فرض على السمع، وفرض على السمع غير ما فرض على اليدين، وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين، وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه. وأما ما فرض على القلب فالإقرار والإيمان والمعرفة والتصديق والعقل والرضا والتسليم وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى من رسول أو كتاب. فأما ما فرض على القلب من الإقرار والمعرفة فقد ذكرناه في أول هذا الكتاب، ونعيده هاهنا فمن ذلك قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ

(1) الإبانة (2/ 6/760 - 764).

ص: 479

مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} (1) وقال: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} (2) وقال: {الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} (3) فذلك ما فرضه على القلب من الإقرار والمعرفة والتصديق، وهو رأس الإيمان وهو عمله.

وفرض على اللسان القول والتعبير عن القلب وما عقد عليه وأقر به. قال الله عز وجل: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (4) وقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (5) فهذا ما فرض على اللسان من القول بما عقد عليه وذلك من الإيمان وهو عمل اللسان.

وأما ما فرض على السمع أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله تعالى، فمما فرض على السمع قوله تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (6) وقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ

(1) النحل الآية (106).

(2)

الرعد الآية (28).

(3)

المائدة الآية (41).

(4)

البقرة الآية (136).

(5)

البقرة الآية (83).

(6)

النساء الآية (140).

ص: 480

الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (1) وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)} (2) وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (3) وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)} (4) فهذا ما فرض على السمع التنزه عن الاستماع إلى ما لا يحل له وهو عمل السمع وذلك من الإيمان.

وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله وأن يغض بصره عما لا يحل له مما نهى الله عنه، فقال تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (5) وفرض على الرجال والنساء أن لا ينظروا إلى ما لا يحل لهم، وكل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية فإنه من النظر.

ثم أخبر تعالى ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية واحدة، فقال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} (6) فهذا ما فرض على

(1) الزمر الآيتان (17و18).

(2)

المؤمنون الآيات (1 - 3).

(3)

القصص الآية (55).

(4)

الفرقان الآية (72).

(5)

النور الآية (30).

(6)

الإسراء الآية (36).

ص: 481

العينين والسمع والبصر والفؤاد وهو عملهن وهو من الإيمان وفرض على الفرج أن لا يهتك عما حرم الله عليه، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} (1) وقال تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} (2) ثم أخبر بمعصية السمع والبصر والفؤاد والأيدي والأرجل والجلود في آية واحدة، فقال:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} (3) فعنى بالجلود الفروج، فهذا ما فرض على الفروج من الإيمان وهو عمله.

وفرض على اليدين أن لا يبطش بهما فيما حرم الله عليهما وأن يبطش بهما فيما أمره الله تعالى به من الصدقة وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله والوضوء للصلوات، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (4) فهذا ما فرض على اليدين لأن الطهور نصف الإيمان وهو من عمل اليدين. وقال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ

(1) المؤمنون الآية (5).

(2)

الأحزاب الآية (35).

(3)

فصلت الآية (22).

(4)

المائدة الآية (6).

ص: 482

الرِّقَابِ} (1) فهذا ما فرض على اليدين، وصلة الرحم والضرب في سبيل الله وهو من الإيمان.

وفرض على الرجلين أن لا يمشي بهما في شيء من معاصي الله وأن يستعملا فيما أمر الله تعالى من المشي إلى ما يرضيه، فقال:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} (2) وقال: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} (3)، وقال فما شهدت به الأيدي والأرجل على أنفسهما يوم القيامة من تضييعها وتركها فرض الله عليها وتعديها ما حرمه عليها:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} (4) فهذا ما فرض الله على اليدين والرجلين من العمل وهو من الإيمان.

وفرض على الوجه السجود آناء الليل والنهار في مواقيت الصلوات، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} الآية (5) فهذه فريضة من الله تعالى جامعة على الوجه واليدين والرجلين. وقال في موضع آخر: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} (6) يعني بالمساجد ما

(1) محمد الآية (4).

(2)

لقمان الآية (18).

(3)

لقمان الآية (19).

(4)

يس الآية (65).

(5)

الحج الآية (77).

(6)

الجن الآية (18).

ص: 483

سجد عليه ابن آدم في صلاته من الجبهة والأنف واليدين والرجلين والركبتين وصدور القدمين.

وقال فيما فرض الله تعالى على الجوارح كلها من الصلاة والطهور، وذلك أن الله تعالى سمى الصلاة إيماناً في كتابه، وذلك أن الله تعالى لما صرف نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى بيت المقدس وأمره أن يصلي إلى الكعبة قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتك صلاتنا التي كنا نصلي إلى بيت المقدس ما حالها وما حالنا فيها وحال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى في ذلك قرآناً ناطقاً، فقال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1) يعني: صلواتكم إلى بيت المقدس، فسمى الله الصلاة إيماناً (2). فمن لقي الله حافظاً لجوارحه موفياً كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عليه لقي الله مؤمناً مستكمل الإيمان، ومن ضيع شيئاً منها وتعدى ما أمر الله به فيها لقي الله تعالى ناقص الإيمان، وهو في مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ومن جحد شيئاً كان كافراً.

قال الشيخ -أي ابن بطة-: فقد أخبر الله تعالى في كتابه في آي كثيرة منه أن هذا الإيمان لا يكون إلا بالعمل وأداء الفرائض بالقلوب والجوارح، وبَيَّنَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرحه في سنته، وأعلمه أمته، وكان مما قال الله تعالى في كتابه مما أعلمنا أن الإيمان هو العمل وأن العمل من الإيمان ما قاله في

(1) البقرة الآية (143).

(2)

سيأتي تخريجه قريباً.

ص: 484

سورة البقرة: {* لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والسائلين وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} (1) فانتظمت هذه الآية أوصاف الإيمان وشرائطه من القول والعمل والإخلاص. (2)

- وقال رحمه الله: فقد أنبأنا الله عز وجل في كتابه عن معرفة الإيمان بدلالات القرآن أنه قول وعمل وتصديق ويقين، وأن جميع ما فرضه الله في القرآن شفاء لما في الصدور من الشك والشبهة والريب لما فيه من البيان والبرهان والحق المبين، ولكن الله عز وجل جعله شفاء ورحمة للمؤمنين:{وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} (3) فمن لم يشفه القرآن ولم تنفعه السنة وما فيهما من النور والبيان والهدي والضياء، وتنطع وتعمق، وقال برأيه وقاس على الله وعلى رسوله بفعله وهواه، داخل الله في عمله ونازعه في غيبه، ولم يقنع بما كشف له عنه حتى خالف الكتاب والسنة وخرق إجماع

(1) البقرة الآية (177).

(2)

الإبانة (2/ 6/765 - 772).

(3)

الإسراء الآية (82).

ص: 485

الأمة وضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً، واتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً. (1)

- وقال رحمه الله: فأي عبد أتعس جداً ولا أعظم نكداً ولا أطول شقاءً وعناءً، من عبد حرم البصيرة بنور القرآن والهداية بدلالته والزجر بموعظته. قال الله عز وجل بلسان عربي مبين وقوله الحق والصدق، قال:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} (2) فالهدي هدي الإيمان وهو القول، والدين هو العمل وجميع الفرائض والشرائع والأحكام ومجانبة الحرام والآثام. فالدين ليس هو خصلة واحدة ولكنه خصال كثيرة من أقوال وأفعال، من فرائض وأحكام، وشرائع وأمر ونهي، فقوله عز وجل:{بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} يجمع ذلك كله حتى صار ديناً قيماً، فمن كان من أهل الدين عمل بجميع ما فيه، ومن آمن ببعضه وكفر ببعضه لم يكن من أهله. ومن قال: الإيمان قول بلا عمل فليس هو من أهل دين الحق ولا مؤمن ولا مهتد ولا عامل بدين الحق، ولا قابل له، لأن الله عز وجل قد أعلمنا أن كمال الدين بإكمال الفرائض. قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ

(1) الإبانة (2/ 6/773).

(2)

التوبة الآية (33).

ص: 486

عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)

وذلك أنه لما علم الله عز وجل الصدق منهم في إيمانهم والعمل بجميع ما افترضه عليهم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت، وما بذلوه من مهج أنفسهم ونفقات أموالهم والخروج عن ديارهم وهجران آبائهم وقطيعة أهليهم وهجران شهواتهم ولذاتهم مما حرمها عليهم، وعلم حقيقة ذلك من قلوبهم بما زينه الله تعالى في قلوبهم وحببه إليهم من طاعته والعمل بأوامره والانتهاء عن زواجره، سمى هذه الأفعال كلها إيماناً، فقال:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} (2) فاستحقوا اسم الرشاد بإكمال الدين. وذلك أن القوم كانوا في فسحة وسعة ليس يجب عليهم صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا كان حرم عليهم كثيراً مما هو محرم، وكان اسم الإيمان واقعا عليهم بالتصديق ترفقاً بهم لقرب عهدهم بالجاهلية وجفائها، فجعل الإقرار بالألسن والمعرفة بالقلوب الإيمان المفترض يومئذ، حتى إذا حلت مذاقة الإيمان على ألسنتهم، وحسنت زينته في أعينهم، وتمكنت محبته من قلوبهم، وأشرقت أنوار لبسته عليهم، وحسن استبصارهم فيه، وعظمت فيه رغبتهم، تواترت أوامره فيهم، وتوكدت فرائضه عليهم، واشتدت زواجره ونواهيه. فكلما أحدث لهم فريضة عبادة وزاجرة عن معصية ازدادوا إليه

(1) المائدة الآية (3) ..

(2)

الحجرات الآيتان (7و8).

ص: 487

مسارعة وله طاعة، دعاهم باسم الإيمان وزادهم فيه بصيرة، فقال:{فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} (1) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (2)

الآية، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (3) ثم قال في فرض الجهاد: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (4) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} (5) ونظائر لهذا في القرآن كثيرة. وقال في النهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} (6) و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (7) و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ

(1) الحج الآية (78).

(2)

المائدة الآية (6) ..

(3)

الجمعة الآية (9).

(4)

البقرة الآية (216). (في الأصل: ((يا أيها الذين آمنوا كتب

)) وهو خطأ).

(5)

التوبة الآية (38).

(6)

آل عمران الآية (130).

(7)

المائدة الآية (95).

ص: 488

الشَّيْطَانِ} (1)، فعلى هذا كل مخاطبة كانت منه لهم فيما أمر ونهى وأباح وحظر. وكان اسم الإيمان واقعاً بالإقرار الأول إذا لم يكن هناك فرض غيره، فلما نزلت الشرائع بعد هذا وجب عليهم التزام فرضها والمسارعة إليها كوجوب الأول سواء، لا فرق بينهما، لأنهما جميعاً من عند الله وبأمره وإيجابه. ولقد فرضت الصلاة عليهم بمكة فصلوا نحو بيت المقدس، فلما هاجروا إلى المدينة أقاموا بها يصلون نحوه ثمانية عشر شهراً، ثم حولت القبلة نحو الكعبة فلو لم يصلوا نحو الكعبة كما أمروا لما أغنى عنهم الإقرار الأول ولا الإيمان المتقدم.

ولقد بلغ بهم الإشفاق في الطاعة والمسارعة إليها أن خافوا على من مات وهو يصلي نحو بيت المقدس قبل تحويل القبلة حتى قال قائلهم: يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله عز وجل قرآناً أزال عنهم ذلك الإشفاق، وأعلمهم به أيضاً أن الصلاة إيمان. فقال عز وجل:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} (2).

حدثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر الخوارزمي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الواسطي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: «لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا يصلون إلى بيت

(1) المائدة الآية (90).

(2)

البقرة الآية (143).

ص: 489

المقدس؟ فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1)» (2) وبلغني عن يعقوب الدورقي من غير رواية المحاملي، قال: بلغني عن سفيان، أنه قال: ما علمت أن الصلاة من الإيمان حتى قرأت هذه الآية فالله عز وجل قد جعل الصلاة من الإيمان وسمى العاملين بها مؤمنين، فقال:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} (3) ثم نعت وصف الإيمان فيهم ثم ذكر ما وعدهم به عند آخر وصفهم، فقال:{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} (4).

والمرجئة تزعم أن الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان، فقد أكذبهم الله عز وجل وأبان خلافهم. واعلموا، رحمكم الله، أن الله عز وجل لم يثن على المؤمنين ولم يصف ما أعد لهم من النعيم المقيم والنجاة من العذاب الأليم ولم يخبرهم برضاه عنهم إلا بالعمل الصالح والسعي الرابح، وقرن القول بالعمل والنية بالإخلاص، حتى صار اسم الإيمان مشتملاً على المعاني الثلاثة لا ينفصل بعضها من بعض ولا ينفع بعضها دون بعض حتى صار الإيمان: قولاً باللسان وعملاً بالجوارح ومعرفة بالقلب خلافا لقول المرجئة الضالة الذين

(1) البقرة الآية (143).

(2)

أحمد (1/ 304 - 305) وأبو داود (5/ 59 - 60/ 4680) والترمذي (5/ 192/2964) وقال: "حسن صحيح". وابن حبان (الإحسان 4/ 620 - 621/ 1717) كلهم بذات الإسناد. ورواية سماك بن حرب عن عكرمة مضطربة، لكن له شاهد من رواية البراء بن عازب يتقوى به عند البخاري (1/ 128 - 129/ 40).

(3)

المؤمنون الآيتان (1و2).

(4)

المؤمنون الآيتان (10و11).

ص: 490

زاغت قلوبهم وتلاعبت الشياطين بعقولهم، وذكر الله عز وجل ذلك كله في كتابه والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته. (1)

- وقال رحمه الله -عقب ذكر آيات في ثناء الله عز وجل على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات، وقد تقدمت-: فتفهموا رحمكم الله هذا الخطاب وتدبروا كلام ربكم عز وجل وانظروا هل ميز الإيمان من العمل أو هل أخبر في شيء من هذه الآيات أنه ورث الجنة لأحد بقوله دون فعله؟ ألا ترون إلى قوله عز وجل: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} (2)، ولم يقل بما كنتم تقولون. وقال:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} (3) ولم يقل: بما قالوا. وقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (4) ولم يقل: أحسن قولاً. وقال في قصة الكفار: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (5) ولم يقولوا: غير الذي كنا نقول. وقال عز وجل: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ

(1) الإبانة (2/ 6/774 - 779).

(2)

الزخرف الآية (72).

(3)

النجم الآية (31).

(4)

الملك الآية (2).

(5)

الأعراف الآية (53).

ص: 491

لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (1) فلم يفرد الإيمان حتى قال: كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله يقول أي بما في كتبه من أمره ونهيه وفرائضه وأحكامه، ثم حكى ذلك عنهم حين صدقهم في قولهم وفعلهم، فقال:{وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ، فيصير الإيمان بذلك كله إيماناً واحداً وقولاً واحداً ولم يفرق بعضه من بعض. فمن زعم أن ما في كتاب الله عز وجل من شرائع الإيمان وأحكامه وفرائضه ليست من الإيمان، وأن التارك لها والمتثاقل عنها مؤمن فقد أعظم الفرية وخالف كتاب الله ونبذ الإسلام وراء ظهره ونقض عهد الله وميثاقه.

قال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)} (2)، ثم قال:{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)} (3)، ثم قال:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} (4)، ثم قال:{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)} . فجمع

(1) البقرة الآية (285).

(2)

آل عمران الآية (81).

(3)

آل عمران الآية (82).

(4)

آل عمران الآية (83).

ص: 492

القول والعمل في هذه الآية. [وقال الله عز وجل](1) فمن زعم أنه يقر بالفرائض ولا يؤديها [ويعلمها](2) وبتحريم الفواحش والمنكرات ولا ينزجر عنها ولا يتركها وأنه مع ذلك مؤمن فقد كذب بالكتاب وبما جاء به رسوله، ومثله كمثل المنافقين الذين قالوا:{آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} (3) فأكذبهم الله ورد عليهم قولهم وسماهم منافقين، مأواهم الدرك الأسفل من النار، على أن المنافقين أحسن حالاً من المرجئة، لأن المنافقين جحدوا العمل وعملوه، والمرجئة أقروا بالعمل بقولهم وجحدوه بترك العمل به، فمن جحد شيئاً وأقر به بلسانه وعمله ببدنه أحسن حالاً ممن أقر بلسانه وأبى أن يعمله ببدنه، فالمرجئة جاحدون لما هم به مقرون ومكذبون لما هم به مصدقون، فهم أسوأ حالاً من المنافقين. ويح لمن لم يكن القرآن والسنة دليله فما أضل سبيله وأكسف باله وأسوأ حاله.

حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار، قال: حدثنا أحمد بن الوليد الفحام، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: حدثنا أبو عبيدة الناجي، أنه سمع الحسن يقول: قال قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لنحب ربنا عز وجل فأنزل الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ

(1) هكذا وقع بالأصل، فإما أن هناك سقط، أو أنها زائدة والسياق بدونها مستقيم، والله أعلم.

(2)

كذا بالأصل ولعل الصواب، والله أعلم:"لا يعلمها".

(3)

المائدة الآية (41).

ص: 493

وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} (1) فجعل الله عز وجل اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم علماً لمحبته، وأكذب من خالفه. ثم جعل على كل قول دليلاً من عمل يصدقه ومن عمل يكذبه، يعلم نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من عبادة الإيمان:{قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} (2) فأعلمه في هذه الآية أن الإيمان بالله هو الإيمان بما أنزل عليه وبما أنزل من قبله على رسل الله، وبما في كتبه من الشرائع والأحكام والفرائض، وأن ذلك هو الإيمان والإسلام، ثم قال:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} (3)، ففي هذا دليل على أن الإيمان قول وعمل ليس ينفصل الإسلام من العمل في هذه الآية، وذلك أن الله عز وجل قد أخبرنا أنه ليس يقبل قولاً إلا بعمل. قال الله عز وجل:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (4)

فأخبرنا عز وجل أنه لا يقبل قولاً طيباً إلا بعمل صالح، أو عملاً صالحاً إلا بقول طيب، لأنه قال في آية

(1) آل عمران الآية (31).

(2)

البقرة الآية (136).

(3)

آل عمران الآية (85).

(4)

فاطر الآية (10) ..

ص: 494

أخرى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (1) فلا قول أزكى ولا أطيب من التوحيد، ولا عمل أصلح ولا أفضل من أداء الفرائض واجتناب المحارم. فإذا قال قولاً حسناً أو عمل عملاً حسناً رفع الله قوله بعمله، وإذا قال قولاً حسناً وعمل عملاً سيئاً رد الله قوله على العمل وذلك في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله عز وجل:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2). (3)

- وقال رحمه الله: وحسبك من كتاب الله عز وجل بآية جمعت كل قول طيب وكل عمل صالح قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (4). فإنه جمع في هذه الآية القول والعمل والإخلاص والطاعة لعبادته وطاعته والإيمان به وبكتبه وبرسله وما كانوا عليه من عبادة الله وطاعته، فهل للعبادة التي خلق الله العباد لها عمل غير عمل من الإيمان، فالعبادة من الإيمان هي أو من غير الإيمان؟ فلو كانت العبادة التي خلقهم الله لها قولاً بغير عمل لما أسماها عبادة ولسماها قولاً، ولقال: وما خلقت الجن والإنس إلا ليقولون، وليس يشك العقلاء أن العبادة خدمة، وأن الخدمة عمل، وأن العامل مع الله عز وجل إنما عمله أداء الفرائض واجتناب المحارم

(1) النحل الآية (97).

(2)

فاطر الآية (10).

(3)

الإبانة (2/ 6/787 - 792).

(4)

الذاريات الآية (56).

ص: 495

وطاعة الله فيما أمر به من شرائع الدين وأداء الفرائض. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ((77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (1) الآية، فهل يخفى على ذي لب سمع هذا الخطاب الذي نزل به نص الكتاب أن اسم الإيمان قد انتظم التصديق بالقول والعمل والمعرفة؟ قال الله عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} (2) وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} (3)

وقال: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)} (4) وإقام الصلاة هو العمل، وهو الدين الذي أرسل به المرسلين وأمر به المؤمنين، فما ظنكم رحمكم الله بمن يقول: إن الصلاة ليست

(1) الحج الآيتان (77و78).

(2)

الأنبياء الآية (25).

(3)

الأنعام الآيتان (162و163) ..

(4)

الأنعام الآيتان (71و72).

ص: 496

من الإيمان، والله عز وجل يقول:{* مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)} (1). فجعل الله من ترك الصلاة مشركاً خارجاً من الإيمان، لأن هذا الخطاب للمؤمنين تحذير لهم أن يتركوا الصلاة فيخرجوا من الإيمان ويكونوا كالمشركين. وقال عز وجل:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} (2).

فقال: من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة، فلم يفرق بين الإيمان وبين الصلاة والزكاة، فمن لم يؤمن لم تنفعه الصلاة، ومن لم يصل لم ينفعه، الإيمان، واستبدل بمحل الصلاة من الإيمان ونزولها منه بالذروة العليا وأن الله عز وجل فرضها بالطهارة بالماء، فلا تجزىء الصلاة إلا بالطهارة، فلما علم الله عز وجل أن عباده يكونون بحيث لا ماء فيه وبحال لا يقدرون معها إلى استعمال الماء فرض عليهم التيمم بالتراب عوضاً من الماء، لئلا يجد أحد في ترك الصلاة مندوحة، ولا في تأخيرها عن وقتها رخصة، وكذلك فرض عليهم الصلاة في حال شدة الخوف ومبارزة العدو فأمرهم بإقامتها على الحال التي هم فيها فعلمهم كيف يؤدونها؛ فهل يكون أحد هو أعظم جهلاً وأقل علماً وأضل عن سواء السبيل

(1) الروم الآية (31).

(2)

التوبة الآية (18).

ص: 497

وأشد تكذيباً لكتاب الله وسنة رسوله وسنة الإيمان وشريعة الإسلام ممن علم أن الله عز وجل قد فرض الصلاة وجعل محلها من الإيمان هذا المحل، وموضعها من الدين هذا الموضع، وألزم عباده إقامتها هذا الإلزام في هذه الأحايين، وأمر بالمحافظة والمواظبة عليها على هذه الشدائد والضرورات، فيخالف ذلك إلى اتباع هواه وإيثاره لرأيه المحدث الذي ضل به عن سواء السبيل وأضل به من اتبعه فصار ممن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.

قال الشيخ -أي ابن بطة-: فقد تلوت عليكم من كتاب الله عز وجل ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل وأن من صدق بالقول وترك العمل كان مكذباً وخارجاً من الإيمان، وأن الله لا يقبل قولاً إلا بعمل ولا عملاً إلا بقول. (1)

- وفيها أيضاً: فمن صفة أهل العقل والعلم أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله لا على وجه الشك ونعوذ بالله من الشك في الإيمان، لأن الإيمان إقرار لله بالربوبية وخضوع له في العبودية وتصديق له في كل ما قال وأمر ونهى.

فالشاك في شيء من هذا كافر لا محالة، ولكن الاستثناء يصح من وجهين: أحدهما نفي التزكية لئلا يشهد الإنسان على نفسه بحقائق الإيمان وكوامله، فإن من قطع على نفسه بهذه الأوصاف شهد لها بالجنة وبالرضاء وبالرضوان، ومن شهد لنفسه بهذه الشهادة كان خليقاً بضدها، أرأيت لو أن

(1) الإبانة (2/ 6/792 - 795).

ص: 498

رجلاً شهد عند بعض الحكام على شيء تافه نزر، فقال له الحاكم: لست أعرفك ولكني أسأل عنك ثم أسمع شهادتك، فقال له: إنك لن تسأل عني أعلم بي مني، أنا رجل زكي عدل مأمون رضي جائز الشهادة ثابت العدالة. أليس كان قد أخبر عن نفسه بضعف بصيرته وقلة عقله بما دل الحاكم على رد شهادته وأغناه عن المسألة عنه؟ فما ظنك بمن قطع على نفسه بحقائق الإيمان التي هي من أوصاف النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحكم لنفسه بالخلود في جنات النعيم. ويصح الاستثناء أيضاً من وجه آخر يقع على مستقبل الأعمال ومستأنف الأفعال وعلى الخاتمة وبقية الأعمار، ويريد أني مؤمن إن ختم الله لي بأعمال المؤمنين، وإن كنت عند الله مثبتاً في ديوان أهل الإيمان، وإن كان ما أنا عليه من أفعال المؤمنين أمراً يدوم لي ويبقى علي حتى ألقى الله به، ولا أدري هل أصبح وأمسي على الإيمان أم لا؟ وبذلك أدب الله نبيه والمؤمنين من عباده. قال تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (1) فأنت لا يجوز لك إن كنت ممن يؤمن بالله وتعلم أن قلبك بيده يصرفه كيف شاء أن تقول قولاً جزماً حتماً إني أصبح غداً مؤمناً ولا تقول إني أصبح غداً كافراً ولا منافقاً إلا أن تصل كلامك بالاستثناء فتقول إن شاء الله. فهكذا أوصاف العقلاء من المؤمنين.

حدثنا أبو الحسين إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو، قال: حدثنا موسى

(1) الكهف الآيتان (23و24).

ص: 499

-يعني ابن علي- عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ما أحب أن أحلف لا أصبح كافراً ولا أمسي كافراً.

وقال رحمه الله: والاستثناء أيضاً يكون على اليقين. قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} (1). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله» (2). ومر صلى الله عليه وسلم بأهل القبور فقال: «وإنا بكم إن شاء الله لاحقون» (3)، وهو يعلم أنه ميت لا محالة.

ولكن الله تعالى بذلك أدب أنبياءه وأولياءه أن لا يقولوا قولا أملوه وخافوه وأحبوه أو كرهوه إلا شرطوا مشيئة الله فيه. قال إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} (4). وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} (5). فهذا طريق الأنبياء والعلماء والعقلاء وجميع من مضى من السلف والخلف والمؤمنين من الخلف الذين جعل الله عز وجل الاقتداء بهم هداية وسلامة واستقامة وعافية من الندامة. (6)

(1) الفتح الآية (27).

(2)

أحمد (6/ 67) ومسلم (2/ 781/1110) وأبو داود (2/ 782 - 783/ 2389) والنسائي في الكبرى (6/ 462/11500) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

مسلم (2/ 669/974) وأبو داود (3/ 558 - 559/ 3237)، وغيرهما من حديث عائشة. وفي الباب عن أبي هريرة وبريدة الأسلمي رضي الله عنهما.

(4)

الأنعام الآية (80).

(5)

الأعراف الآية (89).

(6)

الإبانة (2/ 7/864 - 867).

ص: 500