الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: إفتاء المتمذهب بمذهب إمامه
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المتمذهبين على مرِّ عصورٍ متتاليةٍ كانوا يَتَوَلَّون مهمةَ إفتاءِ الناسِ، وبيان الحكمِ لما يسألون عنه.
وقبلَ الحديثِ عن حكمِ إفتاءِ المتمذهبِ بمذهبِه أرى مِن اللازمِ الإشارةُ والتنبيهُ إلى الأمور الآتية:
الأمر الأول: الأصلُ أنْ يكونَ المفتي بالغًا رتبة الاجتهادِ في الشريعةِ
(1)
.
الأمر الثاني: إنْ كانَ المتمذهبُ بالغًا درجةَ الاجتهاد في الشريعةِ (متمذهبًا بالاسم فحسب)
(2)
، أو تحققَ له وصفُ الاجتهاد الجزئي فيما سُئلَ عنه
(3)
، فإنَّه يُفتي بالقولِ الذي ترجّحَ عنده، إنْ كانَ سؤالُ المستفتي عن الحكمِ الشرعي.
أمَّا إنْ سأل المستفتي عن قولِ إمامِ المذهبِ، فإنَّ المتمذهبَ في هذه الحالةِ يُفتي السائلَ بالقولِ الراجحِ عنده، ويبيِّنُ له قولَ إمامِه الذي سُئِلَ عنه
(4)
.
(1)
انظر: العدة (3/ 877)، والفقيه والمتفقه للبغدادي (2/ 330)، والغياثي للجويني (ص/ 399)، وفتاوى ابن رشد (3/ 1275)، وأدب المفتي والمستفتي (ص/ 86)، وصفة الفتوى (ص/ 5)، والمسودة (2/ 924 - 925)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2943)، والبحر المحيط (6/ 306)، والتحبير (8/ 4071)، وشرح غاية السول لابن المبرد (ص/ 441)، والرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/ 63)، وشرح الكوكب المنير (4/ 557)، وتيسير التحرير (4/ 251)، ومنار أصول الفتوى للقاني (ص/ 339).
(2)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 94)، والمجموع شرح المهذب للنووي (1/ 43)، وصفة الفتوى (ص/ 18).
(3)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 94)، وصفة الفتوى (ص/ 24).
(4)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 122)، وشرح عقود رسم المفتي لابن عابدين (ص/ 161)، والفوائد المكية للسقاف (ص/ 63)، ومختصرها (ص/ 44).
وليس هذا محل حديثي؛ إذ كلامي في هذا المطلب مقتصرٌ على المتمذهمبِ الذي لم يتحققْ له الاجتهادُ المطلق، هل له أنْ يفتي بمذهبِ إمامِه؟
الأمر الثالث: نصَّ بعضُ العلماءِ المانعين مِن التمذهمبِ على منعِ المتمذهبِ مِن الإفتاءِ بمذهبِه، إنْ لم يكن عالمًا بحكمِ المسألةِ على وجهِ الخصوصِ بأدلتِها، ويَحْرُمُ على الناسِ سؤالُه، وطلبُ الفتيا منه.
وممَّنْ صرَّحَ بهذا: ابنُ حزمٍ
(1)
.
ولا يدخلُ في حديثي في هذا المطلب القائلونَ بهذا القولِ.
وقريبٌ منه قولُ مَنْ مَنَعَ إفتاءَ غيرِ المجتهدِ بمذهمبِ المجتهد إلا إذا كانت هناك حاجةٌ إلى إفتائِه، كما لو لم يُوجدْ مجتهدٌ في عصرِ مِن العصورِ.
وقد ذَهَبَ إلى هذا القول بعضُ العلماءِ
(2)
، واختاره: الفخرُ بنُ تيميةَ
(3)
، وابنُ القيَّمِ
(4)
.
(1)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام (5/ 128).
(2)
انظر: مختصر منتهى السول لابن الحاجب (2/ 1261)، والفائق في أصول الفقه (5/ 86)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3884)، وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 308)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2944)، والبحر المحيط (6/ 307)، وشرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 398) بحاشية البناني، وتيسير التحرير (4/ 249).
(3)
انظر: التحبير (8/ 4072)، والإنصاف (11/ 178)، وشرح الكوكب المنير (4/ 558).
والفخر بن تيمية هو: محمد بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن تيمية الباجدَّاي، فخر الدين أبو عبد الله الحرَّاني الحنبلي، ولد في حرَّان سنة 542 هـ كان عالم حرَّان، وشيخها وخطيبها، إمامًا في التفسير وفي الفقه وفي اللغة، وكان له القبول من أهل بلده، والوجاهة عند ملوكها، وكان حسن الأخلاق، متوددًا، صدوقًا متدينًا، وكانت بينه وبين موفق الدين بن قدامة مراسلات ومكاتبات، من مصنفاته: التفسير الكبير، وبلغة الساغب وبغية الراغب، وديوان الخطب الجمعية، والموضح في الفرائض، توفي بحرَّان سنة 622 هـ وقيل سنة 621 هـ. انظر ترجمته في: وفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 386)، وسير أعلام النبلاء (22/ 288)، والعبر في تاريخ من غبر للذهبي (5/ 92)، والذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب (3/ 321)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (2/ 406)، والمنهج الأحمد للعليمي (4/ 167)، وطبقات المفسرين للداودي (2/ 144)، وشذرات الذهب لابن العماد (7/ 179).
(4)
انظر: إعلام الموقعين (2/ 86)، و (3/ 462)، و (6/ 102).
الأمر الرابع: تحسنُ الإشارةُ إلى اختلافِ درجاتِ المتمذهبين مِنْ جهةِ معرفتِهم بالأدلةِ، ويمكنُ جعلهم ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: اعتقدتْ صحةَ مذهب إمامِها بغيرِ دليلٍ، فحفظتْ أقوالَه وأقوالَ أصحابِه في مسائل الفقهِ، دونَ أنْ تتفقه في معانيها، فتميّز الصحيحَ مِن السقيمِ
(1)
.
الطائفة الثانية: اعتقدتْ صحةَ مذهبِ إمامِها بما بأنَّ لها مِنْ صحةِ أصولِه، فحفظتْ أقوالَه وأقوالَ أصحابِه في مسائلِ الفقه، وتفقهت في معانيه، فعَلِمَت الصحيحَ الجاري على أصولِه مِن السقيمِ الخارجِ عنها
(2)
.
الطائفة الثالثة: اعتقدتْ صحةَ مذهبِ إمامِها بما بانَ لها مِنْ صحةِ أصولِه، فحفظتْ أقوالَ إمامِها وأقوالَ أصحابِه في مسائل الفقهِ، وتفقهت في معانيه، فعلمت الصحيحَ الجاري على أصولِه مِن السقيمِ الخارجِ عنها، وبلغت درجةَ التحقيقِ باجتماعِ شروطِ الاجتهادِ فيها
(3)
.
ولا يدخلُ أربابُ الطائفةِ الثالثةِ في حديثي هنا؛ لتملكهم آلة الفتيا
(4)
، وكلامي مقصورٌ على الطائفتين: الأولى، والثانيةِ.
يقولُ أبو إسحاقَ الشاطبي: "وقد قَبِلَ الناسُ أنظارَهم - أيْ: أصحاب الأئمة المجتهدين المنتسبين - وفتاويهم، وعَمِلُوا على مقتضاها، خالفتْ مذهبَ إمامِهم أو وافقته، وإنَّما كان كذلك؛ لأنَّهم فهموا مقاصدَ الشرع في وضعِ الأحكامِ، ولولا ذلك لم يَحِل لهم الإقدامُ على الاجتهادِ والفتوى، ولا حَلَّ لِمَنْ في زمانِهم - أو مَنْ بعدهم مِنْ العلماءِ - أنْ يُقِرَّهم على ذلك، ولا يسكت عن الإنكارِ عليهم على الخصوصِ"
(5)
.
(1)
انظر: فتاوى ابن رشد (3/ 1500 - 1501)، وفتاوى البرزلي (1/ 71)، والمعيار المعرب للونشريسي (10/ 32)، ومحاضرات في تاريخ المذهب المالكي للدكتور عمر الجيدي (ص/ 98)، والمدرسة المالكية الأندلسية لمصطفى الهروس (ص/ 236 - 237).
(2)
انظر: المصار السابقة.
(3)
انظر: المصادر السابقة.
(4)
انظر: فتاوى ابن رشد (3/ 1502).
(5)
الموافقات (5/ 126 - 127).
الأمر الخامس: لا بُدَّ مِنْ صلاحيةِ المتمذهبِ للإفتاءِ ابتداءً، بأنْ يعرفَ أحوالِ الناسِ، ولغاتهم وألفاظهم
(1)
، أمَّا إنْ كان غيرَ عالمٍ بهذه الأمور ونحوِها ممَّا يتوقفُ عليه فهمُ سؤالِ السائلِ، لتطبيقِ الحكمِ عليه على الوجهِ الصحيحِ، فليس له الإفتاءُ.
يقولُ تقيُّ الدينِ السبكي: "نجدُ كثيرًا مِن الفقهاءِ لا يعرفون أن يفتوا، وإنَّ خاصيةَ المفتي تنزيلُ الفقهِ الكلي على الموضعِ الجزئي، وذلك يحتاجُ إلى تبصّرٍ زائدٍ على حفظِ الفقهِ وأدلتِه
…
"
(2)
.
وهذا يجرُّ إلى ضرورةِ معرفةِ الأحكامِ التي تُبْنَى على العُرْف؛ فإنَّها تتغيَّر تبعًا لتغيّرِه، وقد سبقت الإشارةُ إلى هذا الأمرِ
(3)
.
الأمر السادس: إنْ كان المتمذهبُ فاسقًا فلا تصحّ الفتيا منه؛ لفسقِه
(4)
، وإذا لم يجز قبول فتوى المجتهدِ الفاسقِ، فالمتمذهبُ الفاسقُ مِن بابٍ أولى.
الأمر السابع: حديثي هنا عن إفتاءِ المتمذهب بمذهبه، وليس عن حكم سؤال العامي للمتمذهبِ
(5)
.
الأمر الثامن: أريدُ بالمذهبِ في قولي: (إفتاء المتمذهب بمذهبه): القول الذي تصحُّ نسبتُه إلى المذهبِ مِن الأقوالِ الراجحةِ فيه أو المعتمدةِ، أو التي نصَّ أربابُ المذهبِ على جوازِ الفتوى بها
(6)
.
(1)
انظر: عمدة التحقيق للباني (ص/68 - 69).
(2)
فتاوى تقي الدين السبكي (2/ 123). وانظر: شرح عماد الرضا ببيان أدب القضا للمناوي (1/ 59)، والفتوى في الشريعة الإسلامية لعبد الله آل خنين (2/ 10 - 11).
(3)
انظر: (ص/ 433)، والفروق للقرافي (3/ 37 - 38).
(4)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 107)، والمجموع شرح المهذب للنووي (1/ 41)، وصفة الفتوى (ص/ 13، 29)، والسراج الوهاج للجاربردي (2/ 1085)، والبحر المحيط (6/ 309)، وكشاف القناع للبهوتي (15/ 41).
(5)
انظر: إعلام الموقعين (6/ 102).
(6)
انظر: روضة الطالبين للنووي (11/ 111).
الأمر التاسع: على المتمذهب الانتباهُ إلى تحقيقِ مذهبِه
(1)
، ومعرفةِ القولِ الراجحِ فيه، وإن احتاجَ الأَمرُ إلى مزيدِ نَظَرٍ وبحثٍ، فَعَلَ، ولا يكتفي في ذلك - إنْ لم يكن أهلًا للترجيحِ - بمجردِ مطالعةِ كتابٍ أو كتابين في مذهبِه، يقولُ محيي الدين النووي: "لا يجوزُ لمفتٍ على مذهبِ الشافعي إذا اعتمدَ النقلَ أنْ يكتفي بمصنَّفٍ ومصنَّفين ونحوِهما مِنْ كتبِ المتقدمين وأكثرِ المتأخرين؛ لكثرةِ الاختلافِ بينهم في الجزمِ والترجيحِ؛ لأنَّ هذا المفتي المذكور إنَّما ينقلُ مذهبَ الشافعي، ولا يحصلُ له وثوقٌ بأنَّ ما في المصنَّفينِ المذكورينِ ونحوِهما هو مذهب الشافعي أو الراجح منه؛ لما فيها مِن الاختلافِ
…
بلْ قد يجزم نحوُ عشرةٍ مِن المصنفين بشيءٍ، وهو شاذٌّ بالنسبةِ إلى الراجح في المذهبِ، ومخالفٌ لما عليه الجمهورُ، ورُبَّما خالفَ نصَّ الشافعي أَو نصوصًا له! "
(2)
.
وبعدَ هذا أقولُ: إذا سألَ العاميُّ متمذهبًا عن حكم مسألةٍ ما؟ وأراد المتمذهبُ إفتاءَه بمذهبِ إمامِه - إمَّا بما علمه مِنْ أقوالِه، أو بما نُسِبَ إليه بطريقٍ صحيحٍ
(3)
، أو كان ما سُئِلَ عنه مندرجًا تحتَ ضابطٍ أو قاعدةٍ مِنْ قواعدِه
(4)
، أو بالقولِ المفتى به في مذهبِه
(5)
- فهل له الإفتاءُ في هذه الحالةِ؟
• تحرير محل النزاع:
نفَى ابنُ الهمامِ الحنفي الخلافَ عن حالةِ ما إذا كانَ المتمذهبُ ناقلًا لقولِ إمامِه بنصِّه، فيجوزُ إفتاؤه به، إذا استكملَ المتمذهبُ شروطَ الروايةِ
(1)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 236)، وتقريب الوصول لابن جزي (ص/ 455)، ونهاية السول (4/ 580)، والفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي (4/ 296).
(2)
المجموع شرح المهذب (1/ 47). وانظر: صفة الفتوى (ص/ 36)، وإعلام الموقعين (6/ 100 - 101).
(3)
انظر: الغياثي للجويني (ص/ 421، 425).
(4)
انظر: المصدر السابق (ص/ 423).
(5)
انظر: محاضرات في تاريخ المذهب المالكي للدكتور عمر الجيدي (ص/ 101).
مِن العدالةِ وغيرِها، وجَعَلَ ابنُ الهمام محل الخلافِ فيما يخرِّجه المتمذهبُ على نصوصِ إمامِه، وقواعدِه
(1)
.
وتَبعَ ابنَ الهمامِ عددٌ مِن أصولي الحنفية، منهم: أمير باد شاه
(2)
، وابنُ أمير الحاج
(3)
، ومحبُّ الله بن عبد الشكور
(4)
، ومحمد بخيت المطيعي
(5)
.
ومَعَ وجاهةِ ما قاله ابنُ الهمام، إلا أن في أدلة المسألةِ ما يشيرُ إلى جريانِ الخلافِ فيما ينقلُه المتمذهبُ عن إمامِه بنصِّه.
• الأقوال في المسألة:
اختلفَ العلماءُ في جوازِ إفتاءِ المتمذهبِ بمذهبِه على أقوال، أشهرُها:
القول الأول: لا يجوزُ للمتمذهبِ أنْ يفتي بمذهبِه.
وهذا القول وجهٌ عند الشافعيةِ
(6)
، ووجهٌ عند الحنابلةِ
(7)
. ونسبَه ابنُ القيّمِ إلى أكثرِ أصحابِه، وإلى جمهورِ الشافعيةِ
(8)
. وذَهَبَ إليه بعضُ الزيديةِ
(9)
. ونسبه الآمديُّ
(10)
، وتاجُ الدين السبكي
(11)
إلى جماعةٍ مِن الأصوليين. ونسبه صفيُّ الدين الهندي إلى جماهيرِ الأصوليين
(12)
.
(1)
انظر: التحرير (3/ 347) مع شرحه التقرير والتحبير.
(2)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 346 - 347).
(3)
انظر: تيسير التحرير (4/ 249).
(4)
انظر: مسلم الثبوت (2/ 404) مع شرحه فواتح الرحموت.
(5)
انظر: سلم الوصول (4/ 579).
(6)
انظر: سلاسل الذهب (ص / 456).
(7)
انظر: إعلام الموقعين (6/ 128)، وأصول الفقه لابن مفلح (4/ 1557).
(8)
انظر: إعلام الموقعين (2/ 86).
(9)
انظر: إجابة السائل للصنعاني (ص/ 414).
(10)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام (4/ 236).
(11)
انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2944).
(12)
انظر: نهاية الوصول (8/ 3884).
وهو ظاهرُ قولِ ابنِ بطّة
(1)
، وذهب إليه: أبو الحسين البصري
(2)
، وهو ظاهر قولِ الفخرِ الرازي
(3)
، وهو قول تاجِ الدينِ الأرموي
(4)
.
القول الثاني: يجوزُ للمتمذهبِ أنْ يفتي بمذهبِه.
ذَكَرَ الآمديُّ
(5)
، وابنُ الحاجب
(6)
هذا القولَ دونَ نسبةٍ إلى أحدٍ. وهو وجهٌ عند الشافعيةِ
(7)
، ووجهٌ عند الحنابلةِ
(8)
. ونَقَلَ ابنُ أمير الحاج عن بعض الحنفية نسبتَهم هذا القول إلى كثيرٍ مِن العلماءِ
(9)
.
واختاره بعضُ الحنفيةِ
(10)
، وذَهَبَ إليه: أبو إسحاقَ بن شاقلا
(11)
، وابنُ القصارِ
(12)
،
(1)
انظر: العدة (5/ 1597)، وصفة الفتوى (ص/ 26)، والمسودة (2/ 927)، وإعلام الموقعين (2/ 86)، وأصول الفقه لابن مفلح (4/ 1557)، والتحبير (8/ 4076).
(2)
انظر: المعتمد (2/ 932).
(3)
انظر: المحصول في أصول الفقه (6/ 71)، وقارن بنهاية السول (4/ 581).
(4)
انظر: التحصيل من المحصول (2/ 301).
(5)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام (4/ 236).
(6)
انظر: مختصر منتهى السول (2/ 1261).
(7)
انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2945).
(8)
انظر: أصول الفقه لابن مفلح (4/ 1557).
(9)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 346 - 347)، وتيسير التحرير (4/ 249).
(10)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 346).
(11)
انظر: العدة (5/ 1597)، والمسودة (2/ 926 - 927)، وإعلام الموقعين (2/ 85)، و (6/ 104)، والتحبير (8/ 4076)، والإنصاف (11/ 178).
وأبو إسحاق بن شاقلا هو: إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان البغدادي البزاز، أبو إسحاق، ويعرف بابن شاقلا، ولد سنة 315 هـ كان شيخ الحنابلة في وقته، جليل القدر، كثير الرواية، حسن الكلام في الأصول والفروع، رأسًا فيهما، اشتغل بالتدريس والإفتاء والتأليف، كانت له حلقتان: إحداهما بجامع المنصور، والثانية بجامع القصر، من مؤلفاته: شرح مختصر الخرقي، توفي سنة 369 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (6/ 507)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (3/ 227)، وسير أعلام النبلاء (16/ 292)، والوافي بالوفيات للصفدي (5/ 310)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (1/ 216)، والمنهج الأحمد للعليمي (2/ 283).
(12)
انظر: مقدمة في أصول الفقه (ص/ 170 - 171).
والقفالُ المروزي
(1)
، وهو ظاهرُ قولِ إمامِ الحرمين الجويني
(2)
، وظاهرُ قولِ ابنِ الصلاحِ
(3)
- إلا أنَّه قيَّد قولَه، بمَنْ كان حافظًا لمذهبِ إمامِه فله النقلُ، دونَ التخريجِ على قولِه
(4)
- ووافق محيي الدين النوويُّ ابنَ الصلاحِ فيما قرره
(5)
، وقال شهابُ الدينِ القرافيُّ
(6)
، وابنُ حمدان
(7)
بمثلِ تفصيلِ ابنِ الصلاحِ.
واختارَ القولَ الثاني: القاضي البيضاويُّ
(8)
، وأحمدُ الساعاتيُّ
(9)
، وابنُ جزي المالكي
(10)
، وبدرُ الدّينِ الزركشيُّ
(11)
، وهو ظاهرُ قولِ ابنِ بدرانِ
(12)
.
وقيَّد تاجُ الدين السبكي
(13)
، وبدرُ الدين الزركشيُّ
(14)
قولَ القائلين بجوازِ الإفتاءِ بما إذا عَرَفَ المتمذهبُ حكمَ المسألةِ بدليلِها.
ويظهرُ لي أنَّ القيدَ الذي ذكراه محلُّ نظرٍ؛ لأنَّ مَنْ ذَكَرَ القول الثاني
(1)
انظر: البرهان (2/ 885)، وأدب المفتي والمستفتي (ص/ 102)، وسلاسل الذهب (ص/ 456)، والبحر المحيط (6/ 307)، وأصول الفقه لابن مفلح (4/ 1559).
(2)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 102)، وأصول الفقه لابن مفلح (4/ 1559).
(3)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 94 - 99).
(4)
انظر: المصدر السابق (ص/ 99).
(5)
انظر: المجموع شرح المهذب (1/ 43 - 44).
(6)
انظر: الفروق (2/ 198 - 200). واستثنى القرافي في: المصدر السابق (2/ 205) ما إذا كانت فتوى إمام المذهب مخالفةً للإجماع، أو للقواعد، أو النص، أو للقياس الجلي السالم عن المعارض الراجح: فلا يجوز للمتمذهب الإفتاء بها. وما قاله وجيه. وانظر: المعيار المعرب للونشريسي (10/ 39). وقارن بالبيان والتحصيل لابن رشد (17/ 331)، وشرح المنهج المنتخب للمنجور (ص/ 623).
(7)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 18 - 23).
(8)
انظر: منهاج الوصول (2/ 1085) مع شرحه السراج الوهاج، وقارن بالإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2945).
(9)
انظر: نهاية الوصول (2/ 694).
(10)
انظر: تقريب الوصول (ص/ 454).
(11)
انظر: تشنيف المسامع (4/ 614).
(12)
انظر: العقود الياقوتية (ص/ 167).
(13)
انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2944).
(14)
انظر: البحر المحيط (6/ 306).
- ممَّن اطلعتُ على كلامِهم - لم يقئدوه بقيدِ معرفةِ دليلِ حكمِ المسألةِ
(1)
.
القول الثالث: إنْ كانَ المتمذهبُ مجتهدًا في مذهبِ إمامِه، بحيثُ يكون مطّلعًا على مأخذِه، قادرًا على التفريعِ على قواعدِه وأقوالِه، متمكنًا مِن الجمعِ والفرقِ والمناظرةِ: جازَ له الإفتاءُ بمذهبِه، وإنْ لم يكن مجتهدًا في مذهبِ إمامِه، لم يجزْ له الإفتاءُ.
وهذا القولُ هو أصحّ الأوجه عند الشافعيةِ
(2)
.
ونسبه تاجُ الدين السبكي
(3)
، وبدرُ الدين الزركشيّ
(4)
إلى الأكثرين. ونسبه المرداويُّ إلى أكثرِ العلماءِ
(5)
. ونسبه ابنُ أمير الحاج
(6)
، وأميرُ باد شاه
(7)
إلى كثيرٍ مِن المحققين مِن الحنفيةِ وغيرِهم.
وذَهَبَ إليه جمعٌ من العلماءِ، منهم: أبو محمد الجويني
(8)
، والآمديُّ
(9)
، وابنُ الحاجبِ
(10)
، وعبدُ الله الستاري
(11)
، وصفيُّ الدين
(1)
انظر: سلم الوصول (4/ 580).
(2)
انظر: سلاسل الذهب (ص/ 456).
(3)
انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2944).
(4)
انظر: البحر المحيط (6/ 306).
(5)
انظر: التحبير (8/ 4072).
(6)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 346).
(7)
انظر: تيسير التحرير (4/ 249).
(8)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 102)، والبحر المحيط (6/ 307).
(9)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام (4/ 236).
(10)
انظر: منتهى السول (ص/ 221)، ومختصره (2/ 1260).
(11)
انظر: جامع مسائل الأحكام للبرزلي (1/ 96 - 97)، والرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/64).
وعبد الله الستاري هو: عبد الله بن علي بن محمد بن إبراهيم الأنصاري الأندلسي، أبو محمد، ويعرف بابن الستاري - وفي بعض المصادر: ابن الأستاري - ولد سنة 565 هـ كان فقهيًا عالمًا محققًا بارعًا أصوليًا مدققًا، عارفًا بالتفسير والقراءات، أخذ عن أبي الحسن الأبياري الأصول والفقه، وتفقه بأبي الحسين بن الفضل المقدسي، وقرأ على ابن الربيع المستصفى للغزالي، ودرَّس الأصول وفقه المالكية بسبتة، وتوفي بها آخر سنة 646 هـ وقيل: سنة 647 هـ. انظر ترجمته في: تكملة الصلة لابن الأبار (2/ 299)، وتاريخ الإسلام للذهبي (14/ 548)، والمستملح من كتاب الصلة له (ص/227)، ونيل الابتهاج للتنبكتي (ص/ 214)، وشجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 183).
الهندي
(1)
، وعضدُ الدين الإيجي
(2)
، وابنُ الهمام الحنفي - واستثنى ما إذا كانَ المنقولُ نصَّ قولِ الإمامِ، فالمعتبرُ استكمالُ شروطِ الراوي في الناقلِ
(3)
- وأميرُ باد شاه
(4)
، وأبو العباسِ الونشريسي
(5)
، ومحبُّ الله بن عبد الشكور
(6)
.
• أدلة الأقوال:
أدلة أصحاب القول الأول: استدلَّ أصحابُ القولِ الأولِ بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول: عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أُفْتِي بفتيا غير ثبت
(7)
فإنَّما إثمه على مَنْ أفتاه)
(8)
.
(1)
انظر: نهاية الوصول (8/ 3885).
(2)
انظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 308).
(3)
انظر: التحرير (3/ 346) مع شرحه التحبير.
(4)
انظر: تيسير التحرير (4/ 249).
(5)
انظر: المعيار المعرب (12/ 19).
(6)
انظر: مسلم الثبوت (2/ 404) مع شرحه فواتح الرحموت.
(7)
يقول أبو الحسن السندي في: حاشيته على مسند الإمام أحمد (5/ 484) معلِّقًا على قوله صلى الله عليه وسلم: (ثبت): "بفتحٍ وسكون، وهذا صفة للفتيا، أي: بفتيا غير ثابتة، يقال: رجلٌ ثبْتٌ، أي: ثابت القلب؛ أو بفَتحتين، بمعنى: الصواب، أي: من وقع في خطأ بفتوى عالمٍ، فالإثم على ذلك العالم
…
".
والثَبَت: الحجة. انظر: المصباح المنير للفيومي، مادة:(ثبت)، (ص/ 76). والرواية الثانية للحديث - كما سيأتي في تخريج الحديث - مفسِّرة للثبت.
(8)
أخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري في: الأدب المفرد، باب: إثم من أشار على أخيه بغير رشد (ص/ 100)، برقم (259)؛ وأبو داود في: سننه، كتاب: العلم، باب: التوقي في الفتيا (ص/ 553 - 554)، برقم (3657)، ولفظه: (من أفتي بغير علم
…
) الحديث. وابن ماجه في: سننه، في: المقدمة، باب: اجتناب الرأي والقياس (ص/ 23)، برقم (53)؛ وأحمد في: المسند (14/ 17)، برقم (8266)؛ والدارمي في: السنن، في: المقدمة، باب: الفتيا وما فيه من الشدة (1/ 259)، برقم (161)؛ والطحاوي في: شرح مشكل الآثار (1/ 365)، برقم (410 - 411)؛ والحاكم في: المستدرك، كتاب: العلم (1/ 134)، برقم (350)، و (1/ 165)، برقم (463)، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ولا أعرف له علةً"، ووافقه الذهبي، وتعقب ابنُ الملقن في: البدر المنير (9/ 554) قولَ الحاكم: إنَّه لا يعرف للحديث علة. والخطيب البغدادي في: الفقيه والمتفقه (2/ 327)، =
وجه الدلالة: دلَّ الحديثُ على تحريمِ الإفتاءِ بغير ثبتٍ، وإفتاءُ المتمذهبِ بمذهبِه تقليدًا داخلٌ تحتَ ما حذَّر منه النبيُّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ويمكن أنْ يناقش الدليل الأول: بأنَّ الممنوعَ الإفتاءُ بغيرِ علمٍ وبيّنةٍ، وإذا أفتى المتمذهبُ بقولِ إمامِه، فإنَّه أفتى بقولِ عالمٍ توصَّلَ إلى قولِه عن اجتهادٍ وبيّنةٍ.
الدليل الثاني: حديثُ جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خرجنا في سفرٍ، فأصابَ رجلًا منا حجرٌ، فشجه في رأسِه، ثمَّ احتلم، فسألَ أصحابَه: هل تجدونَ لي رخصةً في التيممِ؟ فقالوا: ما نجد لك رخصةً وأنتَ تقدرُ على الماءِ، فاغتسلَ، فماتَ.
فلمَّا قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبِر بذلك، فقالَ:(قتلوه قَتَلَهم اللهُ، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنَّما شفاءُ العيّ السؤال) (
(2)
.
وجه الدلالة: أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا على مَنْ أفتى بغيرِ علمٍ، وهذا يدلُّ على تحريمِ إفتاءِ المتمذهبِ بقولِ إمامِه تقليدًا له
(3)
.
= برقم (1044)؛ وابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (2/ 860)، برقم (1625)، و (2/ 991)، برقم (1889)؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: آداب القاضي، باب: إثم من أفتى أو قضى بالجهل (10/ 116).
وضعَّف الحديثَ ابنُ القطان في: بيان الوهم والإيهام (4/ 68 - 69)، وذَكَرَ عِلَلَ إسناد رواية أبي داود.
وقال ابن مفلح في: الآداب الشرعية (2/ 157) عن الحديث: "حديثٌ جيِّدٌ له طرقٌ".
وحسن الألبانيُّ الحديثَ في تعليقه على السنن لأبي داود في الموضع السابق. وانظر: تعليق محققي مؤسسة الرسالة على المسند للإمام أحمد، فقد حسنوا الحديث (14/ 17 - 19)، وحسنه أيضًا محقق السنن للدارمي (1/ 259 - 261).
وأخرج أحمد في: المسند (14/ 384)، برقم (8776) الحديثَ عن مسلم بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا.
(1)
انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 991 - 992)، وإعلام الموقعين (3/ 462).
(2)
تقدم تخريج الحديث في: (ص/ 799).
(3)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 529).
ويمكن أن يناقش الدليل الثاني بمثل مناقشةِ الدليلِ الأولِ.
الدليل الثالث: لو جازت الفتيا عن طريقِ حكايةِ المذهبِ، لجازَ للعامي الإفتاءُ بطريقِ الحكايةِ، بجامعِ: عدمِ بلوغِ رتبةِ الاجتهادِ في كلٍّ منهما، والعاميُّ لا يجوزُ له الإفتاءُ بقولِ أحدٍ مِن الأَئمةِ، فكذا مَنْ عداه
(1)
.
مناقشة الدليل الثالث، نوقش الدليل من وجهين:
الوجه الأول: أنَّ الإجماعَ - الآتي في دليلِ أصحاب القولِ الثالثِ - هو الذي نَهَضَ بالمتمذهب المتبحّرِ في مذهبِه المطَّلعِ على مآخذِه، فجوَّز له الإفتاءَ، والعاميُّ لا دليلَ عَلى جوازِ إفتائِه
(2)
.
الوجه الثاني: هناك فرقٌ واضحٌ بين المتمذهبِ المطَّلعِ على مذهبِ إمامِه ذي الأهليةِ، والعامي، فلا تصحُّ التسوية بينهما، ولذا صحَّ لنا منعُ العامي مِن الإفتاءِ بقولِ أحدٍ مِن الأئمةِ، وتجويزُه للمتمذهبِ البصيرِ بمذهبِ إمامِه؛ إذ يبعدُ عنه الخطأُ
(3)
.
الدليل الرابع: أنَّنا نمنعُ إفتاءَ المتمذهبِ بقولِ إمامِه؛ لأنَّه تقليدٌ
(1)
انظر: المعتمد (2/ 932)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 236)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (2/ 1261)، ونهاية الوصول للساعاتي (2/ 694)، وصفة الفتوى (ص/ 25)، والفائق في أصول الفقه (5/ 87)، وبيان المختصر للأصبهاني (3/ 366)، وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 309)، ورفع الحاجب (4/ 602)، وتحفة المسؤول للرهوني (4/ 300)، والتقرير والتحبير (3/ 347)، وتيسير التحرير (4/ 251).
(2)
انظر: مختصر منتهى السول لابن الحاجب (2/ 1261)، وبيان المختصر للأصبهاني (3/ 366)، وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 309)، ورفع الحاجب (4/ 602)، وتحفة المسؤول للرهوني (4/ 300)، والتقرير والتحبير (3/ 347).
(3)
انظر: مختصر منتهى السول لابن الحاجب (2/ 1261)، والفائق في أصول الفقه (5/ 87 - 88)، وبيان المختصر للأصبهاني (3/ 366)، وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 309)، وأصول الفقه لابن مفلح (4/ 1558)، ورفع الحاجب (4/ 602)، وتحفة المسؤول للرهوني (4/ 300)، والنقود والردود للبابرتي (2/ 729)، والتقرير والتحبير (3/ 347)، والتحبير (8/ 4072)، وتيسير التحرير (4/ 251).
لمجتهدٍ ميتٍ، وتقليدُ الميتِ غيرُ جائزٍ
(1)
.
مناقشة الدليل الرابع: لا نُسلّمُ لكم منعَ تقليدِ المجتهدِ الميتِ، وقد تقدمَ الحديثِ عن هذه المسألةِ فيما سَبَقَ، وظَهَرَ ضعفُ القولِ المانع مِن تقليدِ المجتهدِ الميتِ.
أدلةُ أصحابِ القولِ الثاني: استدلَّ أصحابُ القولِ الثاني بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول: إذا ثَبَتَ عند المتمذهبِ - أيًّا كانتْ درجتُه في مذهبِه - قولُ إمامِه، فما المانع مِنْ إفتائِه به على سبيلِ الحكايةِ؟ ! إذ هو ناقلٌ له، ويكون حالُه كحالِ ناقلِ أحاديثِ النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
مناقشة الدليل الأول: ليس الخلافُ في نقلِ قولِ المجتهدِ حتى يُقال: إنَّه كنقلِ أحاديثِ النبي صلى الله عليه وسلم، وإنَّما حديثُنا عن نقلِ قولِه إفتاءً للواحدِ مِن الناسِ، ليعملَ بمقتضاه
(3)
.
(1)
انظر: المعتمد (2/ 933)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 71)، والحاصل من المحصول (2/ 1021)، والتحصيل من المحصول (2/ 301)، وصفة الفتوى (ص/ 18)، والفائق في أصول الفقه (5/ 87)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3884)، والسراج الوهاج للجاربردي (2/ 1086)، ونهاية السول (4/ 583).
(2)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 236)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (2/ 1261)، ونهاية الوصول للساعاتي (2/ 694)، والفائق في أصول الفقه (5/ 88)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3885)، وبيان المختصر للأصبهاني (3/ 366)، وإعلام الموقعين (6/ 128)، وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 308)، ورفع الحاجب (4/ 601)، ونهاية السول (4/ 581)، وتحفة المسؤول للرهوني (4/ 300)، وتشنيف المسامع (4/ 615)، وشرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 398) بحاشية البناني، والتقرير والتحبير (3/ 347)، وتيسير التحرير (4/ 249).
(3)
انظر: مختصر منتهى السول لابن الحاجب (2/ 1261)، وبيان المختصر للأصبهاني (3/ 366)، وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 308)، ورفع الحاجب (4/ 602)، ونهاية السول (4/ 581 - 582)، وتحفة المسؤول للرهوني (4/ 300)، وحاشية التفتازاني على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 308).
الدليل الثاني: أنَّ الفتيا الصادرةَ مِن المتمذهب: إِمَّا أنْ تكون نقلًا لفتيا إِمامِه، فهو مبلِّغ، وليس له اجتهادٌ فيها، فيعتبرُ نقَله
(1)
، وإِمَّا أنْ تكونَ فتياه تخريجًا على ما نصَّ عليه إِمامُه، فيعتبرُ تخريجُه؛ لأهليتِه
(2)
.
دليل أصحاب القول الثالث: أجمعَ أهلُ كلِّ عصر على قبولِ إِفتاءِ أربابِ المذاهبِ المجتهدين فيها بمذاهبِهم، حكاه الآمدي
(3)
.
وتَبِعَ الآمديَّ في حكايةِ الإِجماعِ جمعٌ مِن الأصوليين منهم: ابنُ الحاجبِ
(4)
، وابنُ دقيق العيد
(5)
، وأبو الثناءِ الأصفهاني
(6)
، وتاجُ الدين السبكي
(7)
، وابنُ الهمام الحنفي
(8)
، وابنُ أمير الحاج
(9)
، وأمير باد شاه
(10)
، وأحمدُ المنجور
(11)
،
(1)
انظر: فتاوى ابن رشد (3/ 1275، 1501 - 1502)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 72)، والمسودة (2/ 927).
(2)
انظر: الغياثي للجويني (ص/ 427).
(3)
انظر: الإِحكام في أصول الأحكام (4/ 236). وراجع: نهاية الوصول للساعاتي (2/ 694)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3884)، وأصول الفقه لابن مفلح (4/ 1558)، والتحبير (8/ 4072)، والمعيار المعرب للونشريسي (12/ 19)، وسلم الوصول لمحمد المطيعي (4/ 579).
(4)
انظر: مختصر منتهى السول (2/ 1261).
(5)
انظر: البحر المحيط (6/ 306 - 307)، والتقرير والتحبير (3/ 348).
(6)
انظر: بيان المختصر (3/ 366).
(7)
انظر: رفع الحاجب (4/ 601).
(8)
انظر: التحرير (3/ 346) مع شرحه التحبير.
(9)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 347).
(10)
انظر: تيسير التحرير (4/ 249).
(11)
انظر: شرح المنهج المنتخب (ص/ 624). وأحمد المنجور هو: أحمد بن عليّ بن عبد الرَّحمن المنجور الفاسي، أبو العبَّاس، ولد سنة 926 هـ وقيل: 929 هـ كان فقيهًا مالكيًا حافظًا، وأصوليًا متمكنًا، عارفًا بالمنقول والمعقول، فرضيًا منطقيًا عروضيًا، قوي الإِدراك، ثاقب الذهن، صافي الفهم، حاد الطبع، من أورع الناس، شديدًا في اتباع السنة، انفرد عن علماء زمانه بمعرفته بتاريخ الملوك والسير والعلماء على طبقاتهم، أخذ عنه العلم طلبة قطره وفقهاؤهم، من مؤلفاته: مراقي المجد في آيات السعد، وشرح المنهج المنتخب إِلى قواعد المذهب، وحاشية على شرح الإِمام السنوسي لكبراه في علم الأصول، توفي بفاس سنة 995 هـ. انظر ترجمته في: درة الحجال لابن القاضي (1/ 163)، ونيل الابتهاج للتنبكتي (ص/ 143)، وفهرس الفهارس والأثبات للكاني (2/ 7)، وشجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 287)، والفكر السامي للحجوي (2/ 270)، والأعلام للزركلي (1/ 174).
ومحبُّ الله بن عبد الشكور
(1)
، ومحمدُ الخضر الشنقيطي
(2)
.
يقولُ عضدُ الدينِ الإِيجي: "وَقَعَ إِفتاءُ العلماءِ، وإِنْ لم يكونوا مجتهدين في جميعِ الأعصارِ، وتكرر، ولم يُنكرْ، فكان إِجماعًا"
(3)
.
وحكى بعضُ الأصوليين إِجماعَ أهلِ العصرِ على إِنكارِ إِفتاءِ غيرِ المتبحّرِ في مذهبِه، منهم: ابنُ الحاجب
(4)
، وتاجُ الدين السبكي
(5)
، وابنُ أمير الحاج
(6)
، وأمير باد شاه
(7)
.
مناقشة دليل أصحاب القول الثالث: إِنَّ الإِجماعَ المذكورَ في دليلِكم هو اتفاقُ غير المجتهدين، وحقيقةُ الإِجماعِ اتفاقُ المجتهدين، ولا عبرةَ باتفاقِ غيرِهم
(8)
.
الجواب عن المناقشة، أجيب عنها من وجهين:
الوجه الأول: لا نُسَلّم أنَّ الاتفاقَ المحكي اتفاقُ غيرِ المجتهدين، بل المتفقون في الإِجماعِ المذكورِ هم مجتهدون في مسألةِ:(جواز إِفتاءِ مجتهدِ المذهبِ بمذهبِ إِمامِه) بخصوصِها؛ إِذ تحققَ لهم الاجتهادُ فيها، وإِنْ لم يكونوا مجتهدين مطلقين، وهذا جائزٌ؛ لجوازِ تجزؤ الاجتهادِ
(9)
.
الجواب عن الوجه الأول: قولكم: إِنَّ مجتهدي المذاهب تحققَ لهم الاجتهادُ في مسألةِ: (إِفتاء مجتهد المذهب بمذهب إِمامه)، مجرَّدُ دعوى؛ لم
(1)
انظر: مسلم الثبوت (2/ 404) مع شرحه فواتح الرحموت.
(2)
انظر: قمع أهل الزيغ والإِلحاد (ص/ 142).
(3)
شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 308).
(4)
انظر: مختصر منتهى السول (2/ 1261).
(5)
انظر: رفع الحاجب (4/ 651).
(6)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 347).
(7)
انظر: تيسير التحرير (4/ 249، 250).
(8)
انظر: الفائق في أصول الفقه (5/ 88)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3884)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2946)، ونهاية السول (4/ 584)، وتحفة المسؤول للرهوني (4/ 300) والتقرير والتحبير (3/ 347)، وتيسير التحرير (4/ 250).
(9)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 347)، وتيسير التحرير (4/ 250).
تقيموا الدليلَ عليها، فلا نُسلمها لكم
(1)
.
الوجه الثاني: ما ذكرتم مِنْ حقيقةِ الإِجماعِ، وأنَّه اتفاقُ المجتهدين، أمرٌ مسلَّمٌ، ونحنُ لم ندَّعِ اتفاقَ المقلِّدين، وإِنَّما نُثْبِتُ اتفاقَ السابقين مِن المجتهدين على حكمِ أهلِ الزمانِ بجوازِ إِفتاءِ مجتهدي المذاهبِ بمذاهبِهم
(2)
.
يقولُ الشيخُ محمدٌ بخيت المطيعي: "إِنَّ أصحابَ أبي حنيفةَ كانوا يفتونَ في زمانِ الإِمامِ الشَّافعي والإِمامِ أحمدَ، وغيرِهما مِن المجتهدين، وأنَّهم جميعًا أقروا ذلك بلا نكيرٍ مِنْ أحدٍ، فكانَ هذا إِجماعًا"
(3)
.
ويمكنُ أن يُستدلَ لأصحابِ القولِ الثالثِ بالدليلِ الثاني لأصحابِ القولِ الثاني.
• الموازنة والترجيح:
بالنظرِ في المسألةِ بأقوالِها وأدلتها يظهر لي الآتي:
الأول: أنَّ لمجتهدِ المذهب الإِفتاءَ بمذهبِه
(4)
؛ وذلك لجريانِ العملِ بالاعتدادِ بالأقوالِ الَّتي يتوصَّلُ إِليَها، كما في دليلِ أصحابِ القولِ الثالثِ.
وقد مالَ تاجُ الدين السبكي إِلى أنَّ لمجتهدِ المذهبِ الإِفتاءَ؛ لظنِّه قيام الإِجماعِ على جوازِ إِفتائِه
(5)
.
ويقولُ بدرُ الدين الزركشي عن أربابِ طبقةِ مجتهدي المذهبِ: "يجوزُ الإِفتاءُ قطعًا"
(6)
.
(1)
انظر: سلم الوصول لمحمد المطيعي (4/ 582).
(2)
انظر: البحر المحيط (6/ 299)، والآيات البينات للعبادي (4/ 369).
(3)
سلم الوصول (4/ 585). وانظر منه: (4/ 582)، ومسلم الثبوت (2/ 404).
(4)
انظر: الفروق للقرافي (2/ 206).
(5)
انظر: رفع الحاجب (4/ 602)، والتقرير والتحبير (3/ 348).
(6)
تشنيف المسامع (4/ 614).
فكأنَّ تاجَ الدين السبكي، وبدرَ الدين الزركشيَّ يميلانِ إِلى خروجِ مجتهدِ المذهبِ مِن الخلافِ.
الثاني: مَنْ كان مِنْ مجتهدي الترجيحِ في مذهبِه (مجتهدي الفتيا)، ولم يبلغْ درجةَ الاجتهادِ المقيَّدِ فيه، فله الإِفتاءُ بما ترجَّحَ عنده في مذهبِه
(1)
.
وفي تسميةِ المتمذهبِ بمجتهدِ الفتيا إِشارةٌ إِلى صحةِ إِفتائِه
(2)
.
الثالث: مَنْ كانَ حافظًا لمذهب إِمامِه غيرَ متجاوزٍ لطبقةِ: (حافظ المذهب)، فله الإِفتاءُ فيما نصَّ إِمامُه عَلى حكمِه، إِذا لم يُوْجَد غيرُه ممَّنْ هم أعلى طبقة منه، في مسألةٍ يجزمُ أنَّها مثلُ الَّتي نصَّ عليها إِمامُه
(3)
، وليس له الإِفتاءُ فيما لم يقفْ لإِمامِه على نصٍّ.
وقد رجحتُ ما سَبَقَ؛ لترجيحي جواز تقليدِ المجتهدِ الميتِ، والقولُ بالجوازِ يقتضي القولَ بجوازِ إِفتاءِ المتمذهبِ بمذهبِ إِمامِه.
وأيضًا: فإِنْ كان قصدُ السائلِ العملَ بمذهب إِمامٍ معيَّنٍ، فالمتعيّن أنْ تكونَ الفتيا مطابقةً لمذهب الإِمام المسؤولِ عنه
(4)
، والتفصيلُ الَّذي ذكرتُه يحققُ هذا المقصودَ.
أمَّا إِنْ سألَ السائلُ عن الحكمِ الشرعي: فعلى المتمذهب إِفتاءَه بما يعلمُه في الشرعِ إِنْ كان أهلًا لهذا الأمرِ
(5)
، وإِلَّا أمسكَ عن الَإِفتاءِ، وبيَّنَ للسائلِ قولَ إِمامِه.
(1)
انظر: الفروق للقرافي (2/ 199 - 200)، وسلم الوصول لمحمد المطيعي (4/ 583).
(2)
انظر: حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 438).
(3)
انظر: الفروق للقرافي (2/ 198).
(4)
انظر: إِعلام الوقعين (6/ 165)، والفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي (4/ 317)، والقول المفيد للشوكاني (ص/ 186).
(5)
انظر: إِعلام الموقعين (6/ 74 - 75، 128، 165، 167).
وقد علَّق تقيُّ الدين بنُ تيمية على كونِ المستفتي يريدُ قولَ إِمامٍ معيّنٍ، فقالَ:"أكثرُ المستفتين لا يخطرُ بقلبِه مذهبٌ معيّنٌ عند الواقعةِ الَّتي يَسْأَلُ عنها، وإِنَّما سؤالُه عنْ حكمِها، وما يعملُ به فيها"
(1)
.
• نوع الخلاف:
أشارَ ابنُ الصلاحِ إِلى أنَّ الخلافَ بين الأقوالِ خلافٌ لفظي، فَحَمَل مرادَ المانعين مِن إِفتاءِ المتمذهبِ مطلقًا، والمانعين لغيرِ المجتهد في مذهب إِمامِه على أنَّه ليس له أنْ يُفتي بمذهبِه على أنَّه مِنْ عندِ نفسِه، ويوجبون عليَه إِضافةَ الفتيا إِلى مذهبِ إِمامِه
(2)
.
يقولُ ابنُ الصلاحِ بعدما قرَّر ما ذكرتُه آنفًا: "فعلى هذا مَنْ عددناه في أصنافِ المفتين
(3)
مِن المقلِّدين ليسوا على الحقيقةِ مِن المفتين، ولكنَّهم قاموا مقامَ المفتين، وأَدُّوا عنهم فعُدّوا معهم، وسبيلهم في ذلك أن يقولوا مثلًا: مذهبُ الشَّافعي كذا وكذا، ومقتضى مذهبِه كذا وكذا، وما أشبه ذلك، ومَنْ تَرَكَ منهم إِضافةَ ذلك إِلى إِمامِه، إِن كان ذلك منه، اكتفاءً بالمعلومِ مِن الحالِ عن التصريحِ بالمقالِ: فلا بأسَ"
(4)
.
• سبب الخلاف:
يظهرُ أن الخلافَ في مسألةِ: (إِفتاء المتمذهب بمذهبه) عائدٌ إِلى السببين الآتيين:
السبب الأول: حكمُ تقليدِ الميتِ، وقد سبقت الإِشارةُ إِلى هذا حين تحدثتُ عنْ نوعِ الخلافِ في مسألةِ:(حكم تقليد الميت).
(1)
نقل ابنُ القيم في: إِعلام الموقعين (6/ 167) كلامَ تقي الدين بن تيمية.
(2)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 103).
(3)
انظر الطبقات الَّتي ذكرها ابن الصلاح في: (ص/ 862).
(4)
أدب المفتي والمستفتي (ص/ 153). وانظر: المجموع شرح المهذب للنووي (1/ 45)، وصفة الفتوى (ص/ 25 - 26).
يقولُ جمالُ الدين الإِسنوي: "في الإِفتاءِ بقولِه - أيْ: بقول المجتهد - خلافٌ ينبني على جوازِ تقليدِه"
(1)
.
فمَنْ قال: يجوزُ تقليدُ الميتِ، جوَّز للمتمذهبِ - إِمَّا مطلقًا، وإِمَّا لمجتهدِ المذهبِ - الإِفتاءَ بمذهبِه.
ومَنْ قالَ: لا يجوزُ تقليدُ الميتِ، مَنَعَ المتمذهبَ مِن الإِفتاءِ بمذهبِ إِمامه؛ لأنَّه ميتٌ.
السبب الثاني: أتعدُّ الفتيا الصادرة عن المتمذهبِ قولًا له، أم قولًا لإِمامِه؟
(2)
.
إِنْ قلنا: تعدُّ الفتيا الصادرة عن المتمذهبِ قولًا له، لم نجوِّزْ له الإِفتاءَ؛ لأنَّه غيرُ مجتهدٍ، وهذا ما ذَهَبَ إِليه أصحابُ القولِ الأولِ.
وإنْ قلنا: تعدُّ الفتيا الصادرة عن المتمذهب قولًا لإِمامِه، جوَّزنا له الإِفتاءَ؛ لأنَّه أفتى بقولِ مجتهدٍ، وهذا ما ذَهَبَ إِليه أصحابُ القولِ الثاني، والقولِ الثالث.
وقبلَ الانتقالِ إِلى المطلبِ الثاني، أرى مِن المهمِّ الحديثُ عن مسألةٍ متصلةٍ بمسألةِ:(إفتاء المتمذهب بمذهبه)، وهي: هل للمتمذهبِ أن يفتي بقولٍ ضعيفٍ في مذهبِه؟
وقبل الحديثِ عن الإِفتاءِ بالقولِ الضعيفِ في المذهبِ، أُحِبُّ أنْ أشيرَ إِلى الأمورِ الآتيةِ:
الأمر الأول: مَن مَنَعَ الإِفتاءَ بالمذهبِ وبقولِ إِمامِه الثابتِ عنه، فإِنَّه يمنعُ الإِفتاءَ بالقولِ الضعيفِ في المذهبِ مِنْ بابٍ أولى.
(1)
نهاية السول (4/ 583). وانظر: الإِبهاج في شرح المنهاج (7/ 2945)، وتحفة المسؤول للرهوني (4/ 299)، وشرح المنهج المنتخب للمنجور (ص/ 623).
(2)
انظر: سلاسل الذهب (ص / 457)، والبحر المحيط (6/ 275، 306).
الأمر الثاني: ليس مرادي بالقولِ الضعيفِ هنا القولَ المرجوحَ مِنْ حيثُ الدليلُ، بل المراد القولُ المضعَّفُ في المذهب أيًا كانتْ درجةُ قوتِه مِنْ حيثُ الدليلُ
(1)
.
الأمر الثالث: تتفاوتْ درجةُ ضعفِ القولِ في المذهبِ، فقد يكون القولُ بالغَ الضعفِ في المذهب
(2)
بحيثُ يكون نفيُه عن الذهبِ أقربَ مِنْ نسبتِه إِليه، وقد يكون ضعيفًا ضعفًا يسيرًا، كبعضِ الوجوهِ والطرقِ.
ولذا لا بُدَّ مِنْ ثبوتِ نسبةِ القولِ الضعيفِ إِلى المذهب
(3)
، فلو بيَّنَ محققو المذهب عدمَ صحةِ نسبةِ القولِ الضعيفِ إِلى مذهبِهَم أصلًا، وأن نسبتَه غلطٌ عليه، لما ساغَ الإِفتاءُ به
(4)
.
ولشهابِ الدينِ القرافي كلامٌ جيّدٌ في موضوعِ التَّثَبّت في نسبةِ القولِ إِلى المذهبِ، يقولُ فيه: "ينبغي أنْ يُحْذَرَ ممَّا وَقَعَ في زمانِنا مِنْ تساهلِ بعضِ الفقهاءِ بالفتوى مِن الكتب الغريبةِ التي ليس فيها روايةٌ عن المجتهدِ بالسندِ الصحيحِ، ولا قامَ مقامَ ذلك شهرةٌ عظيمةٌ تمنعُ مِنْ التصحيفِ والتحريفِ بسببِ الشهرةِ.
وبالغَ بعضهم في التساهلِ حتى صارَ إِذا وَجَدَ حاشيةً على كتابٍ أفتى بها! وهذا عدمُ دينٍ، وبُعْدٌ شديدٌ عن القواعدِ"
(5)
.
الأمر الرابع: يُعْرَفُ ضعفُ القولِ في المذهب بأقوالِ محققيه، وأهلِ الترجيحِ فيه، وبمصطلحاتِ نقلِه الدالةِ على درجةِ القَولِ
(6)
.
(1)
انظر: صناعة الفتوى لابن بيه (ص/ 116).
(2)
انظر: الفوائد المكية للسقاف (ص/ 64 - 65).
(3)
انظر: مطالب أولي النهى للرحيباني (6/ 447)، ونثر الورود للشنقيطي (2/ 593)، وأصول الفتوى والقضاء للدكتور محمد رياض (ص/547).
(4)
انظر: الفوائد المكية للسقاف (ص/ 65).
(5)
نفائس الأصول (9/ 4111). وانظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 115 - 116)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 20)، والفوائد المكية للسقاف (ص/ 69).
(6)
انظر: أصول الإِفتاء للعثماني (ص/328) مع شرحه المصباح في رسم المفتي.
الأمر الخامس: إِنْ تحققَ للمتمذهب وصفُ الاجتهادِ المطلقِ، أو الاجتهادِ الجزئي فيما سَألَ عنه السائلُ، وَترجَّح عنده القولُ الضعيفُ في المذهبِ، فله الإِفتاءُ به؛ لرجحانِه مِنْ جهةِ الدليلِ
(1)
، إِنْ لم يكنْ سؤال العامي عن قولِ إِمامِ المذهبِ.
وبعد هذا أقولُ: إِذا سأل العاميُّ عن حكمِ مسألةٍ في مذهبِ إِمامِ بعينِه، فالأصلُ الإِفتاءُ بالأقوالِ الصحيحةِ والمعتمدةِ ممَّا تصحُّ الفتوى به في المذهبِ، وعدمُ الإِفتاءِ بقولٍ ضعيفٍ فيه
(2)
، دونَ مسوِّغٍ
(3)
.
فإِنْ كان في القولِ الضعيفِ في المذهب رخصةٌ، وكان هناك حاجةٌ إِلى الأخذِ بها
(4)
، فالحكمُ هنا يتبعُ مسألةَ:(تتبع الرخص)
(5)
، وقد تقدم الحديثُ عنها
(6)
.
وقد جاءَ عن بعضِ العلماءِ - كبعضِ الحنفيةِ
(7)
- المنعُ مِن الإِفتاءِ بالقولِ الضعيفِ.
وصرَّح جمعٌ مِنْ علماءِ المالكيةِ بمنعِ الإِفتاءِ بغيرِ القولِ المشهورِ في
(1)
انظر: الفكر السامي للحجوي (2/ 406)، والاختلاف الفقهي لعبد العزيز الخليفي (ص/ 191).
(2)
انظر: رفع العتاب والملام للفاسي (ص/ 33)، والفوائد المكية للسقاف (ص/ 63 - 64)، ومختصرها (ص/ 44)، والعقود الياقوتية لابن بدران (ص/ 165)، ونشر البنود (2/ 267)، ومراقي السعود إِلى مراقي السعود (ص/ 409)، ونثر الورود للشنقيطى (2/ 590)، وأصول الفتوى والقضاء للدكتور محمد رياض (ص/ 544).
(3)
انظر: الفكر السامي للحجوي (2/ 406)، وأصول الإِفتاء للعثماني (ص/ 328) مع شرحه المصباح في رسم المفتي.
(4)
انظر: الموافقات (5/ 108).
(5)
انظر: المعيار المعرب للونشريسي (12/ 44)، وشرح عقود رسم المفتي لابن عابدين (ص/ 157).
(6)
للاطلاع على مثال للترخص بالقول الشاذ انظر: شرح عقود رسم المفتي لابن عابدين (ص / 158 - 159).
(7)
انظر: رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (1/ 243)، وأصول الإفتاء للعثمانى (ص/ 328 - 329) مع شرحه المصباح في رسم المفتي.
المذهبِ، مِنْ هؤلاءِ: أبو عبد الله المازري
(1)
، وأبو إِسحاقَ الشاطبي
(2)
، وأبو العبَّاسِ الونشريسي
(3)
- وقد نسبه الونشريسيُّ إِلى شيوخِه المتأخرين
(4)
، ونسبه محمد الدسوقي إِلى الأشياخِ
(5)
- ومقتضى قولهم المنعُ مِن الإِفتاءِ بالقولِ الضعيفِ في المذهبِ مطلقًا.
وعللوا لقولِهم بالمفاسدِ الَّتي قد تترتبُ على تركِ الإِفتاءِ بالقولِ المشهورِ في المذهبِ مِنْ تتبع الناسِ للرخص، وللهوى
(6)
، وانحلال عرى المذاهبِ
(7)
.
وفي تعليلهم إِشارةٌ إِلى بناءِ قولِهم على منعِ تتبعِ الرخصِ، ولسدِّ الذريعةِ
(8)
.
وظاهرُ قولِ ابنِ حجر الهيتمي المنعُ مِن الإِفتاءِ بالقولِ الضعيفِ مطلقًا
(9)
.
(1)
انظر: الموافقات (5/ 101)، وعدة البروق للونشريسي (ص/ 541)، والمعيار المعرب له (4/ 293)، و (12/ 24)، ورفع العتاب والملام للفاسي (ص/ 34).
(2)
انظر: الموافقات (5/ 101)، وفتاوى الإِمام الشاطبي (ص/ 127).
(3)
انظر: عدة البروق (ص/ 541).
(4)
انظر: المصدر السابق (ص/ 541)، وسمى عددًا من شيوخه في: المعيار المعرب (6/ 327)، و (5/ 12، 14، 25).
(5)
انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 20)، والنوازل الصغرى للوزاني (1/ 382)، والجواهر الثمينة للمشاط (ص/ 288).
(6)
انظر: شرح عقود رسم المفتي لابن عابدين (ص/ 36)، والنوازل الصغرى للوزاني (1/ 382).
(7)
انظر: الموافقات (5/ 101 - 103)، وعدة البروق للونشريسي (ص/ 542 - 543)، والمعيار المعرب له (11/ 101)، و (12/ 26)، والاجتهاد وضوابطه للدكتور عمار علوان (ص/ 122).
(8)
نقل الونشريسيُّ في: المعيار المعرب (12/ 25) عن أبي إِسحاق الشاطبي قوله عن أبي عبد الله المازري: "انظر كيف لم يستجز هذا الإِمام العالم - وهو المتفق على إِمامته وجلالته - الفتوى بغير المشهور من المذهب، ولا بغير ما عُرِفَ منه؟ ! بناءً على قاعدةٍ مصلحيةٍ ضروريةٍ: أنَّ قلة الورع والديانة من كثيرٍ ممن ينتصب لبثِّ العلم والفتوى، فلو فتح لهم هذا الباب؛ لانحلتْ عرى المذهب، بل جميع المذاهب".
(9)
انظر: الفتاوى الكبرى الفقهية (1/ 81).
ويُلْحَق بهؤلاءِ القائلون بجوازِ العملِ بالقولِ الضعيفِ - بشروط معينةٍ - دونَ الإِفتاءِ به، فلا يجوز.
وممَّنْ ذَهبَ إِلى التفريقِ بين العملِ بالضعيفِ، والإِفتاءِ به: محمد المسناوي المالكي
(1)
، وعبد الله العلوي
(2)
، ومحمد الجكني
(3)
، وأبو عبد الله الفاسي
(4)
، ومحمد الأمين الشنقيطي
(5)
.
ونَسَبَه محمد الدسوقي إِلى المالكيةِ المغاربةِ
(6)
.
ودليلهم: ليس للمتمذهب أنْ يفتي غيرَه بالقولِ الضعيفِ؛ لأنَّ المتمذهبَ لا يمكنه تحقق الضرورة مِنْ غيرِه، لذا لا يفتي بغيرِ المشهورِ مِن المذهبِ؛ سدًّا للذريعةِ
(7)
.
والذي يظهرُ لي أنَّه يسوغُ الإِفتاءُ بالقولِ الضعيفِ في المذهبِ في بعضِ الأحواِل، وذلك بالضوابط الآتيةِ
(8)
:
(1)
انظر: نشر البنود (2/ 276)، ومراقي السعود إِلى مراقي السعود (ص / 410). ومحمد المسناوي هو: محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر البكري الدلائي الفاسي، أبو عبد الله المعروف بالمسناوي، ولد سنة 1072 هـ أحد أعلام المالكية المغربيين المبرزين في المعقول والمنقول، كان آيةً في تحصيل العلوم، دؤوبًا على التحصيل، عالي الهمة، منفردًا برئاسة العلم في وقته ومصره، سارت فتاويه في المغرب كالمثل السائر، من شيوخه: والده، وعم أبيه محمد المرابط، وصفه الشَّيخ محمد الكتاني بأنه: شيخ الإِسلام، وعالم الأعلام، خاتمة المحققين، وقدوة الموفقين"، نُسب إِليه أنَّه ادعى رتبة الاجتهاد، وقد تولى التدريس بالمدرسة العنانية زمانًا، من مؤلفاته: رسالة في نصرة القبض، وصرف الهمة إِلى تحقيق معنى الذمة، والقول الكاشف عن أحكام الاستنابة في الوظائف، توفي بفاس سنة 1136 هـ. انظر ترجمته في: سلوة الأنفاس للكتاني (3/ 59)، وشجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 333)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (4/ 285)، والأعلام للزركلي (6/ 13).
(2)
انظر: در البنود (2/ 276).
(3)
انظر: مراقي السعود إِلى مراقي السعود (ص/ 410).
(4)
انظر: رفع العتاب والملام (ص/ 63).
(5)
انظر: نثر الورود (2/ 592 - 593).
(6)
انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 20).
(7)
انظر: نشر البنود (2/ 276)، ومراقي السعود إِلى مراقي السعود (ص / 410)، ورفع العتاب والملام للفاسي (ص/ 64، 72)، ونثر الورود للشنقيطي (2/ 593).
(8)
أفدت من الشروط الَّتي ذكرها العلوي في: نشر البنود (2/ 276) للعمل بالقول الضعيف، وقد =
الضابط الأول: أنْ يكونَ المفتي بالقولِ الضعيفِ عارفًا بالمذهبِ ومآخذِه بارعًا فيه
(1)
.
يقولُ بدرُ الدين الزركشي تحت مسألةِ: (هل للبارع في المذهب أن يفتي بالوجوه المرجوحة إِذا قوي مدركها؟ ): "هذا كلُّه بعدَ تبحّرِ المفتي أو الحاكم في المذهبِ، وإِلَّا فيمتنع قطعًا"
(2)
.
فإِنْ لم يكن المتمذهبُ بهذه الصفةِ لم يجزْ إِفتاؤه بالقولِ الضعيفِ حينئذٍ.
الضابط الثاني: أنْ لا يكون القولُ في نفسِه قولًا شاذًّا لم يقلْ به أحدٌ مِن العلماءِ المعتبرين، ولا ضعيفًا ضعفًا شديدًا في المذهبِ
(3)
.
فيتعين أنْ يكونَ القولُ مِن الأقوالِ المقبولةِ الَّتي قوي دليلُها
(4)
، وأن لا يكون مخالفًا لنصٍّ في الكتابِ أو السنةِ
(5)
.
الضابط الثالث: أنْ تكونَ هناك ضرورةٌ أو حاجةٌ داعيةٌ إِلى الإِفتاءِ بالقولِ الضعيفِ
(6)
،
= تبع العلويَّ في ذكرها: محمد الأمين الجكني في: مراقي السعود (ص/ 410)، ومحمد الأمين الشنقيطي في: نثر الورود (2/ 592 - 593).
(1)
انظر: أصول الإِفتاء للعثماني (ص/328) مع شرحه المصباح في رسم المفتي.
(2)
البحر المحيط (6/ 296).
(3)
انظر: نشر البنود (2/ 267)، ونثر الورود للشنقيطي (2/ 592)، وأصول الفتوى والقضاء للدكتور محمد رياض (ص/ 547).
(4)
انظر: البحر المحيط (6/ 296).
(5)
انظر: الفتوى في الشريعة الإِسلامية لعبد الله آل خنين (1/ 335).
(6)
انظر: مطالب أولي النهى للرحيباني (6/ 447)، ورد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (1/ 243)، وشرح عقود رسم المفتي له (ص/ 159 - 160)، ومختصر الفوائد المكية للسقاف (ص/ 44)، والنوازل الصغرى للوزاني (1/ 371)، ونشر البنود (2/ 267)، والعقود الياقوتية لابن بدران (ص/ 167)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (2/ 406، 421)، ونثر الورود للشنقيطي (2/ 592)، وأصول الإفتاء للعثماني (ص/328) مع شرحه المصباح في رسم المفتي، وبحوث فقهية لمجاهد القاسمي (ص/68).
أو مصلحةٌ راجحةٌ تترتبُ على الإِفتاءِ به
(1)
.
الضابط الرابع: أنْ لا ينسبَ المتمذهبُ القولَ الضعيفَ الَّذي أفتى به إِلى إِمامِه، ولا سيما إِنْ كان له نصٌّ بخلافِه، ولا يطلق نسبتَه إِلى المذهبِ
(2)
، بلْ الأَولى أنْ يبيِّنَ للمستفتي ضعفَ القولِ في المذهبِ
(3)
.
ومحلُّ الضوابطِ السابقةِ إِنْ لم يكن سؤالُ المستفتي عن الحكمِ في المذهبِ بإطلاق، أو عن المعتمدِ أو الراجحِ فيه، فإِنْ سألَ عنه لم يسغ الإِفتاءُ بالضعيفِ في المذهبِ
(4)
، إِلَّا إِذا ترجّحَ عند المتمذهب مِنْ جهةِ الدليلِ، فله الإِفتاءُ به حينئذٍ، مع بيانِ ذلك.
* * *
(1)
انظر: الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي (4/ 317)، ونشر البنود (2/ 333)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (2/ 421)، ومراقي السعود إِلى مراقي السعود (ص/ 447)، ومقاصد الشريعة الإِسلامية لابن عاشور (3/ 490 - 491).
(2)
انظر: البحر المحيط (6/ 296).
(3)
انظر: الفوائد المكية للسقاف (ص/ 63).
(4)
انظر: الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي (4/ 317).