الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: أسباب ظهور الآثار السلبية
لقد جَعَلَ اللهُ لكلِّ شيءٍ سببًا، وقد كانَ لظهورِ الآثارِ السلبيةِ للتمذهبِ أسبابٌ سائقةٌ لها، ولعل مِن المهمِّ بيانَ أنَّ بعضَ الآثار - التي تقدّمَ بيانُها - ناشئةٌ عن أثرٍ سلبي، فيمكن القول: إنَّ التعصبَ المذهبي - وهو مِنْ أسوأِ الآثارِ، إنْ لم يكنْ أسوأها - نَشَأَ عنه عددٌ من الآثارِ السلبيةِ.
وسأحاولُ في هذا المقامِ بيان أهمِّ أسبابِ ظهورِ الآثارِ السلبيةِ السابقةِ.
وقبل ذكر الأسباب أنبه إلى أمرين:
الأمر الأول: قد تكون بعضُ الأسباب التي أذكرها سببًا لأثرٍ واحدٍ أو أثرين، فلا أتقيَّد بكونِ السببِ سببًا لجميعِ الآثارِ السلبيةِ السابقةِ.
الأمر الثاني: ألفتُ النظرَ إلى أن وقوعَ بعضِ المتمذهبين في شيءٍ مِن الآثارِ السلبيةِ ناشئٌ عن الخطأِ في تطبيقِ التمذهب ونابع منه، إذ لا يعني التمذهبُ الجمودَ ولا تركَ الأدلةِ، ولا التعصب
(1)
.
وبتأمّلِ الآثارِ السلبيةِ السابقةِ، وما جاءَ مِنْ كلامِ أهلِ العلمِ والباحثين في هذا المقامِ، فقد ظَهَرَ لي أنَّ لها أسبابًا متعددة، وإليك بيانُها:
السبب الأول: الغُلوّ في تعظيمِ أئمةِ المذاهب
(2)
.
لقد كانَ وقوعُ بعضِ أفرادِ الأمةِ الإسلاميةِ في الغلوِّ داءً متعددَ الألوانِ
(1)
قارن بمعالم تجديد المنهج الفقهي لحليمة بوكروشة (ص/ 128).
(2)
انظر: تاريخ التشريع للدكتور عبد الله الطريقي (ص/ 306)، وبدعة التعصب المذهبي لمحمد =
والأشكالِ، والذي يهمني هنا: هو الغلوُّ في أئمةِ المذاهب، والمبالغةُ في تعظيمِهم واتِّباعِهم.
لقد جَعَلَ بعضُ المتمذهبين إمامَهم المجتهدَ في مكانةٍ فوقَ التي يستحقها، فأنزلوه منزلةَ النبي صلى الله عليه وسلم مع أمتِه! فحرَّموا مخالفتَه، والخروجَ عن رأيه، ولم يقبلوا عن أحدٍ سواه
(1)
، وزعموا - بالمقالِ أو بلسانِ الحالِ - أنَّ ما قاله إمامُهم فحسب هو الشريعة الإسلامية
(2)
.
وما مِنْ شكَّ في مكانةِ أئمةِ المذاهبِ في الإسلامِ، وما لهم مِن المنزلةِ الرفيعةِ في الأمةِ، وما لأقوالهم مِن الاعتبارِ، لكنَّ هذا لا يعطي العالمَ مهما بلغتْ درجتُه في العلمِ، ومهما بلغتْ خدمتُه للدِّينِ، درجةَ النبي صلى الله عليه وسلم مع أمتِه؛ إذ الذي تحرمُ مخالفتُه، ويحرمُ الخروجُ عن قولِه هو النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي أوجبَ اللهُ تعالى طاعتَه، فلا يجوزُ إنزالُ أئمةِ المذاهبِ منزلةً لم يبلغوها
(3)
.
وأجزمُ أنَّ الأئمةَ المجتهدين لا يرضون أنْ يُعْطَوا فوقَ ما يستحقون، بلْ كان كلُّ واحدٍ منهم معظمًا للأدلةِ، راجعًا إليها إذا تبيّنَتْ له، حاثّا تلاميذَه على النظرِ فيها، ولم يَرِدْ عن أحدٍ منهم على الإطلاقِ الحث على أخذِ أقوالِه.
يقولُ أبو الوفاءِ بنُ عقيلٍ: "الغلوُّ في تعظيمِ الأوائل بحطِّ المتأخرين عن مناصبِهم غيرُ محمودٍ في الشرعِ والعقلِ"
(4)
.
= عباسي (ص/ 53)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور عمر الأشقر (ص/ 146)، والمدخل إلى الشريعة والفقه له (ص/ 303)، وتاريخ التشريع للدكتور أحمد العليان (ص/ 247)، والعصبية في ضوء الإسلام لهاشم المشهداني (ص/ 162)، وتحريف النصوص لبكر أبو زيد (ص/ 149) ضمن مجموع الردود، وآثار اختلاف الفقهاء لأحمد الأنصاري (ص/ 295).
(1)
انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (1/ 86 - 87).
(2)
انظر: الاعتصام للشاطبي (3/ 320)، وأدب الطلب للشوكاني (ص / 91)، والمذاهب الفقهية الإسلامية لمحمد تاجا (ص/ 256).
(3)
انظر: الواضح في أصول الفقه (5/ 425).
(4)
المصدر السابق.
وللشيخِ عبدِ الرحمن المعلمي كلمةٌ جميلةٌ في التحذيرِ مِن الغلوِّ في أئمةِ المذاهبِ، يقول:"مِن أوسعِ أوديةِ الباطلِ الغلوُّ في الأفاضلِ"
(1)
.
وبدلّ على هذا السبب: ما نقله القاضي عياضٌ عن بعضِ المشايخِ أنَّهم قالوا: "إنَّ الإمامَ لمَن التزمَ تقليدَ مذهبِه كالنبي صلى الله عليه وسلم مع أمتِه، لا يحلُّ لَه مخالفتُه"
(2)
.
وقد أيَّدَ القاضي عياضٌ هذه الجملةَ قائلًا: "وهذا صحيحٌ في الاعتبارِ، وبما بسطناه وشرطناه، يظهرُ صوابُه لأولي البصائرِ والأبصارِ"
(3)
.
وقد علَّق شمسُ الذينِ الذهبي على ما نقله القاضي عياض، قائلًا:"قوله: "لا تحلُّ مخالفته"، مجرّدُ دعوى، واجتهادٌ بلا معرفةٍ"
(4)
.
ويقولُ ابنُ أبي العز الحنفي عن حالِ بعضِ الحنفيةِ مع الإمامِ أبي حنيفةَ: "غَلَتْ في تقليدِه، فلم تتركْ له قولًا، وأنزلوه منزلةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم
…
"
(5)
.
ويقولُ عن بعضِ مقلِّدةِ المذاهبِ: "يأخذُ أحدُهم بما يجدُ في كتبِ أصحاب ذلك الإمامِ الذي قلَّده، ولا يلَتفتُ إلى قولٍ خالفه، كائنًا مَنْ كان، ونصَّ ذَلك الإمام والكتبُ عنده بمنزلةِ نصِّ الشارعِ! "
(6)
.
وقد أوضحَ الشيخُ صالحٌ المقبلي (ت: 1108 هـ) أنَّ حالَ متمذهبي قُطْره مِن الزيديةِ يكادون يُلحقون إمامَ المذهبِ بالنبي صلى الله عليه وسلم
(7)
.
وقد جعلَ بعضُ المتمذهبين نصوصَ إمامِهم كنصوصِ الكتابِ والسنةِ
(8)
.
(1)
التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (1/ 6).
(2)
ترتيب المدارك (1/ 62 - 63). وانظر: تأريخ التشريع للدكتور عبد الله الطريقي (ص / 306).
(3)
ترتيب المدارك (1/ 63).
(4)
سير أعلام النبلاء (8/ 90).
(5)
الاتباع (ص/ 30).
(6)
المصدر السابق (ص/ 31).
(7)
انظر: العَلَم الشامخ (ص/ 389).
(8)
انظر: المصقول في علم الأصول لمحمد زاده (ص/ 159). =
واستمعْ إلى ما يقوله الشيخُ ظفر أحمد التهانوي الحنفي عن الإمام أبي حنيفةَ: "فوالله لم يُولدْ في الإسلامِ بعدَ النبي صلى الله عليه وسلم أيمنُ وأسعدُ مِن النعمان أبي حنيفة"
(1)
.
وهذا غلوُّ كبيرٌ، وتنزيلٌ للإمامِ فوقَ الدرجةِ التي يستحقها، وحطٌّ مِنْ قدرِ صحابةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
ويقولُ الفخرُ الرازي: "القولُ بأنَّ قولَ الشافعي خطأٌ في مسألةِ كذا، إهانةٌ للشافعي القرشي، وإهانةُ قريشٍ غيرُ جائزةٍ، فوجَبَ أنْ لا يجوزَ القولُ بتخطئتِه في شيءٍ من المسائلِ
…
! "
(2)
.
وقد تقدمتْ حكايةُ أبي شامةَ المقدسي لحال بعض علماءِ الشافعيةِ مع كتبِ أبي إسحاقَ الشيرازي وأبي حامد الغزالي؛ إذ يرون أن نصوصَهما كنصوصِ الكتابِ والسنةِ، لا يُخْرَجُ عنها
(3)
.
ويقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية عن أتباعِ الأئمةِ الأربعةِ: "تجدُ أحدَهم دائمًا يَجِدُ في كلامِهم - أي: أئمة الفقهاء - ما يراه هو باطلًا، ويتوقّفُ في ردِّ ذلك؛ لاعتقادِه أنَّ إمامَه أكملُ منهم عقلًا وعلمًا ودينًا، هذا مع علمِ كلٍّ مِنْ هؤلاءِ أنَّ متبوعَه ليس بمعصومٍ، وأنَّ الخطأَ عليه جائزٌ
(4)
.
ويبيِّنُ أبو إسحاقَ الشاطبي سببَ تعصبِ بعضِ المالكيةِ على الإمامِ بقي بنِ مخلد، فيقول:"هو تحكيمُ الرجالِ على الحقِّ، والغلوُّ في محبةِ المذهبِ"
(5)
.
(1)
نقل الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة العبارة السابقة في تعليقه على كتاب: الرفع والتكميل للكنوي (ص/ 394). وانظر: العَلَم الشامخ للمقبلي (ص / 402).
(2)
إرشاد الطالبين إلى المنهج القويم (ص/ 392).
(3)
انظر: خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول لأبي شامة (ص/ 140).
(4)
درء تعارض العقل والنقل (1/ 155). وانظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 1137).
(5)
الاعتصام (3/ 320).
والغلوُّ في إمامِ المذهب يورثُ المتمذهبَ اعتقادًا بأنَّ كلَّ ما عدا مذهبه وأقوال إمامِه ليس مِنْ الدَّينِ، وأن الحقَّ مقصورٌ على مذهبِه، محصورٌ فيه
(1)
، وأنَّ ما عند أربابِ المذاهب الأخرى باطلٌ قطعًا
(2)
.
يقولُ الشيخُ عبدُ الحي اللكنوي عن حالِ كثيرٍ من المتمذهبين المتأخرين: "أقاموا الطامّةَ الكبرى، ونصبوا راياتِ المنازعةَ العظمى، وأخذوا في حصرِ الصحةِ على مذهب إمامِهم، وإنْ خالفَ الأحاديثَ الصحيحةَ الصريحةَ! مِنْ غيرِ أنْ يقومَ دليلٌ على عدمِ الاحتجاجِ به، وحكموا بخطأِ مذهبِ مَنْ خالفهم، وإنْ وافق الدلائلَ القويةَ مع الاحتجاجِ بها"
(3)
.
السبب الثاني: اعتقادُ عدم خفاء شيءٍ من الأدلة على إمام المذهب.
يظنُّ بعضُ المتمذهبين، ويجزمُ آخرون منهم بأنَّ إمامَهم لم يخفَ عليه شيءٌ مِن الأدلةِ، ولا سيما دليل السنةِ.
وما منْ ريبٍ في أن بعضَ الأئمةِ المجتهدين قد بلغوا شأوًا كبيرًا في معرفةِ سنةِ النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، ولكنَّ هذا الأمر لا يعني إحاطةَ الواحدِ منهم بالسنةِ النبويةِ
(4)
.
يقولُ تقيُّ الدّينِ بنُ تيميةَ: "أمَّا إحاطةُ واحدٍ - أي: من العلماء - بجميعِ حديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يمكنُ ادّعاؤه قط"
(5)
.
ويقول ابن البرِّ: "والإحاطةُ بها - أي: بأخبار الآحاد - ممتنعةٌ، وما أعلمُ أحدًا مِنْ أئمةِ الأمصارِ مع بحثهم وجمعِهم إلا وقد فاته شيءٌ من السننِ المرويةِ من طريق الآحاد"
(6)
.
(1)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (22/ 248)، ونقاط الالتقاء بين المذاهب الإسلامية للدكتور وهبة الزحيلي (4/ 170) ضمن موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر.
(2)
انظر: أدب الطلب للشوكاني (ص/ 92)، وعمدة التحقيق لمحمد الباني (ص/ 80).
(3)
إمام الكلام (ص/ 36).
(4)
انظر: تاريخ الفقه الإسلامي للدكتور عمر الأشقر (ص/ 180).
(5)
رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص/ 7).
(6)
التمهيد (2/ 62) مع موسوعة شروح الموطأ.
فالعالمُ مهما بلغتْ درجتُه في العلمِ والاجتهادِ قد يخفى عليه كثيرٌ مِن الأحاديثِ، وقد سبقت الإشارةُ إلى هذا الأمرِ.
لكن ما بَيّنتُه آنفًا لم يكنْ متقررًا في أذهانِ عددٍ ليس بالقليلِ مِن المتمذهبين، ورأوا أنَّ إمامَهم وأئمةَ مذهبِهم لم يخفَ عليهم شيءٌ مِن الأدلةِ - ودليل السنة منها على وجه الخصوص - فإذا وقفوا على دليلٍ نقلي، قالَ إمامُهم بخلافِ ما دلَّ عليه، وقالَ بمقتضاه مجتهدٌ آخر، جعلوا حجتَهم في تركِ الدليلِ وعدمِ الأخذِ به، والحرصِ على تأويلِه، علمَهم أنَّ إمامَ مذهبِهم لم يترك الدليلَ إلا لضعفِه، أو لمعارضٍ أرجح، فيأخذون في تأويلِه - ويتكلفون في ذلك - أو يقولون بنسخِه؛ ليتركوا العملَ به
(1)
.
ومن الأمثلة لهذا السبب: ما علَّقه أبو عيسى الوزاني على كلامِ العزِّ بنِ عبد السلام حين وَصَفَ بعضَ المتمذهبين بأنَّ أحدَهم يقفُ على ضعفِ مأخذِ إمامِه، ويقلِّده فيه - وقد سَبَقَ نقلُ كلامِ العزِّ في المطلب الثاني:(رد دلالة الآيات والأحاديث الثابتة، والتكلف في ذلك) - فقد قالَ: "أمَّا كونُ المقلِّد لم يجدْ لضعفِ إمامِه مدفعًا - كما قاله عزُّ الدين - فلا يُوْجِب انتفاءَه؛ إذ قد يكون له مدفعٌ، ولا يعلمُه هذا الفقيه المقلِّد، تأمَّله"
(2)
.
وقد نقلَ الشيخُ صالحٌ المقبلي (ت: 1108 هـ) عن بعضِ متمذهبي قُطْرِه مِن الزيديةِ أنَّهم صرَّحوا بأنَّ الاعتمادَ على نصوصِ إمامِهم أولى؛ لأنَّه قد بَلَغَ في معرفةِ الكتابِ والسنةِ مبلغًا لا يدركونه، ولا يقاربونه، فما حَكَمَ به، فكأنَّه حُكْمُ صاحبِ الشريعةِ!
(3)
.
لقد أورثَ إعجابُ المتمذهبين بعلماءِ مذهبهم، وتمجيدُهم لهم أنْ يُنَزّهوهم عن الوقوعِ في الخطأِ، فحصروا أنفسَهم في مذهبِهم
(4)
.
(1)
انظر: أدب الطلب للشوكاني (ص/ 91)، وإمام الكلام لعبد الحي اللكنوي (ص/ 36).
(2)
النوازل الجديدة الكبرى (1/ 317).
(3)
انظر: العَلَم الشامخ (ص/ 107 - 108).
(4)
انظر: أليس الصبح بقريب لابن عاشور (ص/ 179 - 180)، ومدخل لدراسة الفقه لمحمد المحجوبي (ص/ 242)، ومدخل لدراسة الفقه للدكتور حسين حسان (ص/ 114).
ومِن العجيبِ أنْ يقعَ في هذا المزلق بعضُ المحققين مِنْ أهلِ العلمِ
(1)
.
ويحكي أبو شامةَ المقدسي حالةَ بعضِ متعصبي الشافعية - وقد نَفَدَ صبرُه ممّا بَدَرَ منهم - إذا وقفوا على حديثٍ صحيحٍ على خلافِ مذهبِهم، قائلًا:"فيقول المتحذلقُ منهم المتصدّرُ في منصبٍ لا يستحقه: أَمَا كانَ هؤلاءِ الأئمة يعرفون هذا الحديثَ الصحيحَ الواردَ على خلافِ نصِّهم؟ ! "
(2)
.
ويقولُ عنهم في موضعٍ آخر: "إذا نُسِبَ إلى بعضِ المتأخرين أنَّه خَفَي عليه شيءٌ مِن السنةِ: أَنِفَ ذلك المقلِّدُ المتعصبُ المتصعّبُ مِنْ هذا، وأَنَكَرَ، وخوّفَ وحذَّرَ، وهو غارقٌ في غيّه المنكرِ"
(3)
.
والغريبُ أنَّ بعضَ المتمذهبين يجوّزُ على أئمة الاجتهادِ خفاءَ شيءٍ مِن السننِ عليهم، إلا إمامَه، فلا يُسلّم بخفاءِ شيءٍ من السنةِ النبويةِ عليه
(4)
.
وهذا السبب (اعتقاد عدم خفاء شيءٍ من الأدلة على إمام المذهب) ناشئٌ عن السببِ الأول: (الغُلوّ في تعظيم الأئمة المجتهدين)؛ لأنَّ ثمرةَ الغلوِّ اعتقادُ عدمِ خفاءِ الأدلةِ على الإمامِ.
السبب الثالث: اتباع الهوى
(5)
.
إنَّ اتّباعَ الهوى مِنْ أهمِّ الأسبابِ التي تصدُّ المسلمين، وكثيرًا مِنْ أربابِ المذاهبِ عن اتباعِ الراجحِ والأخذِ بالدليلِ.
(1)
فمثلًا: ذكر أبو الخطاب في: التمهيد في أصول الفقه (1/ 291) قولَ القاضي أبي يعلى في مسألة: (هل يدخل المؤنث في جمع المذكر؟ )، فقال:"وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين: لا يدخل المؤنث في ذلك، وهو الأقوى عندي، ولكن ننصر قول شيخنا"!
(2)
خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول (ص/ 140).
(3)
المصدر السابق (ص/ 142).
(4)
انظر: المصدر السابق (ص/ 142 - 143)، وإمام الكلام لعبد الحي اللكنوي (ص/ 36).
(5)
انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (2/ 887)، والفوائد له (ص/ 163)، والفروع لابن مفلح =
فإذا كان المتمذهبُ متبعًا لهواه، فسيردُّ القولَ الراجحَ إذا بانَ له واتضحَ
(1)
؛ لأنَّه عاقدٌ قلبَه على الأخذِ بقولٍ معيّن
(2)
، فيستدل له بأيّ دليلٍ، ولو كان خبرًا موضوعًا، ويؤولُ ما خالفه بأيّ طريقٍ، دونَ التفاتٍ أكان مذهبُه هو القول الراجح، أم لا؟
يقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية: "صاحبُ الهوى يُعْمِيه الهوى ويصمُّه، فلا يستحضرُ ما لله ورسولِه في ذلك، ولا يَطْلُبُه، ولا يرضى لرضا الله ورسولِه، ولا يغضبُ لغضبِ الله ورسولِه، بلْ يرضى إذا حَصَلَ ما يرضاه بهواه، ويغضبُ إذا حصَلَ ما يغضبُ له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهةُ دِيْن: أنَّ الذي يرضى له ويغضبُ له أنَّه مَن السنةِ، وهو الحقُّ، وهو الدِّينُ
…
"
(3)
.
ويقولُ شمسُ الدينِ بنُ القيّمِ: "إنَّ اتباعَ الهوى يعمي عن الحق معرفةً وقصدًا"
(4)
.
ومسالكُ الهوى أكثرُ مِنْ أنْ تُحْصَرَ، وإذا أرادَ المتمذهبُ أنْ يعرفَ أوقعَ في شيءٍ منها، أم لا؟ فليفرضْ أنَّه قرأَ آية مِن القرآن الكريم، فلاحَ له منها موافقةُ قولٍ لإمامِه، وقَرَأَ آيةً أخرى، فلاحَ له منها مخالفةُ قولٍ آخر لإمامِه، أيكون نظرُه إلى الآيتين سواءً؟ لا يبالي أنْ يتبيّنَ منهما بعدَ التدبرِ صحةُ ما لاح له، أو عدمُ صحتِه.
= (3/ 22)، والإمام الشوكاني رائد عصره للدكتور حسين العمري (ص/ 67)، والمذاهب الفقهية الإسلامية لمحمد تاجا (ص/ 180)، ومقدمة في أسباب اختلاف المسلمين لمحمد العبده وزميله (ص/ 50 وما بعدها)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور شوقي الساهي (ص/ 120)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور إبراهيم إبراهيم (ص/ 126).
(1)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (22/ 254)، وآثار اختلاف الفقهاء في الشريعة لأحمد الأنصاري (ص/ 365).
(2)
انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (2/ 888).
(3)
منهاج السنة النبوية (5/ 256).
(4)
الفوائد (ص/ 144 - 145). وقد نقل ابن القيم في كتابه: الداء والدواء (ص/ 94) عن علي صلى الله عليه وسلم قوله: "وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق". ولم أقف عليه مسندًا، فيما بين يدي من مصادر.
وليفرضْ أنَّه وَقَفَ على حديثين لا يعرفُ صحتَهما ولا ضعفَهما، أحدهما: يوافقُ قولًا لإمامِه، والآخر يخالفُه، أيكون نظرُه في الحديثين سواءً، لا يبالي أنْ يصحَّ سندُ كلٍّ منهما، أو يضعف؟
(1)
.
إنَّ إجابةَ المتمذهبِ عن هذينِ السؤالينِ السابقينِ مِنْ شأنِها أنْ تُبَيّن مدى اتباعِه لهواه.
يقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية عن العالمِ القادرِ على الاجتهادِ في بعضِ المسائلِ: "إذا قَدِرَ على الاجتهادِ التامِّ الذي يعتقدُ معه أن القولَ الآخر ليس معه ما يَدْفَعُ به النصّ، فهذا يجبُ عليه اتباعُ النصوصِ، وإنْ لم يفعلْ كان متبعًا للظنِّ، وما تهوى الأنفسُ"
(2)
.
ويقولُ في موضع آخر: "أمَّا ترجيحُ بعضِ الأئمةِ والمشايخِ على بعضٍ، مثل: مَنْ يرجّح إمامَه الذي تفقه به
…
فهذا البابُ أكثرُ الناسِ يتكلمون فيه بالظنِّ وما تهوى الأنفسُ
…
"
(3)
.
بلْ إنَّ تقيَّ الدين عدَّ المنتسبَ إلى الأئمةِ الخارجَ عن موجبِ الكتابِ والسنةِ مِنْ أهل الأهواء؛ لأنَّ مَنْ لم يتبع العِلمَ، فقد اتبع هواه
(4)
.
ولأبي إسحاقَ الشاطبي حديثٌ عن وجهِ عدِّ المبتدعِ متّبعًا لهواه صادقٌ إلى حدِّ ليس بالبعيدِ على متعصبي المذاهبِ، يقول فيه:"إنَّهم اتبعوا أهواءَهم، فلم يأخذوا بالأدلةِ الشرعيةِ مأخذَ الافتقارِ إليها، والتعويل عليها، حتى يصدروا عنها، بلْ قدّموا أهواءَهم، واعتمدوا على آرائِهم، ثم جعلوا الأدلةَ الشرعيةَ منظورًا فيها مِنْ وراء ذلك"
(5)
.
(1)
انظر: التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل لعبد الرحمن المعلمي (2/ 196 - 197).
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 213).
(3)
المصدر السابق (20/ 291).
(4)
انظر: الاستقامة (2/ 224 - 225).
(5)
الاعتصام (3/ 102)، وانظر منه:(3/ 117).
السبب الرابع: التعصب للمذهب
(1)
.
لقد كان التعصبُ المذهبي هو الداءَ العضالَ الذي فَتَكَ بأربابِ المذاهبِ، وأَوْقَعَ كثيرًا منهم في التفرقِ والاختلافِ.
وقد بيّنَ أبو شامةَ المقدسي أنَّ مِنْ أكبرِ أسبابِ تركِ طلب درجةِ الاجتهادِ، والبقاءِ على التقليدِ المذهبي، وعدمِ التزحزح عنه هو: الوَقوع في التعصبِ المذهبي
(2)
.
ويقولُ الشيخُ صالحٌ المقبلي: "إنما يُعَظِّمُ الخلافَ التعضبُ"
(3)
.
ولئن كنتُ أتحدثُ هنا عن أسباب الآثارِ السلبية، وعلى رأسِها: التعصبُ المذهبي، فإنَّني أقولُ: إن التعصَبَ المذهبي بعدَ ظهورِه أضحى سببًا في ظهورِ كثيرٍ مِن الآثارِ السلبيةِ السابقةِ؛ ولذا أفردته بالذّكرِ.
السبب الخامس: المناظرات والجدل
(4)
.
لئنْ كانت المناظراتُ مِن الآثارِ الإيجابيةِ للتمذهبِ، إلا أنَّ بعضَ
(1)
انظر: أدب الطلب للشوكاني (ص/ 111)، وأليس الصبح بقريب لابن عاشور (ص/ 198)، وفقه السنة لسيد سابق (1/ 13)، وتاريخ التشريع الإسلامي للدكتور عبد الفتاح الشيخ (ص/ 229)، وتاريخ الفقه للدكتور أحمد الحصري (ص/ 227، 229)، ومناهج الاجتهاد في الإسلام للدكتور محمد مدكور (ص/ 99)، ومقدمة في أسباب اختلاف المسلمين لمحمد العبده وزميله (ص/ 85)، والفتوى - نشأتها وتطورها للدكتور حسين الملاح (ص/ 340)، وبلوغ الأماني للدكتور الحسن العلمي (ص/ 164)، ومدخل لدراسة الفقه لمحمد المحجوبي (ص/ 242)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور شوقي الساهي (ص/ 121)، والمدخل الفقهي للدكتور خليفة بابكر وزميليه (ص/ 332)، والمدخل للفقه الإسلامي للدكتور عبد الله الدرعان (ص/ 192)، والمدخل لدراسة الشريعة الإسلامية لعبد اللطيف خالقي (ص/ 412)، والمذاهب الفقهية الإسلامية لمحمد تاجا (ص/167).
(2)
انظر: خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول (ص/ 127).
(3)
انظر: العَلَم الشامخ (ص/ 389).
(4)
انظر: تاريخ الجدل لمحمد أبو زهرة (ص/ 298)، والاجتهاد والتقليد للدكتور محمد الدسوقي (ص/ 222)، وآثار اختلاف الفقهاء لأحمد الأنصاري (ص/ 375)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور عمر الأشقر (ص/ 170)، وبلوغ الأماني للدكتور الحسن العلمي (ص/ 165)، وفقه الائتلاف لمحمود الخرندار (ص/ 57 - 58).
المتمذهبين لم يجعل المناظرةَ لطلبِ الصواب، ومعرفةِ الأدلةِ ودرجاتِها
(1)
، بلْ جالوا في ميدانِها؛ لنصرةِ مذهبِهم أيًّا كَان الطريقُ إلى ذلك، ولدعوةِ الناسِ إلى التمذهبِ بمذهبِهم
(2)
.
بلْ وَصَلَ الأمرُ في بعضِ المناظراتِ التي جرتْ بين متأخري المذاهبِ إلى التشاحنِ والتشاجر، فأضحت المناظراتُ مقامَ تطاولٍ وتناحرٍ، لا يُرَاعَى فيها جانبُ الحقِّ
(3)
، وقد سَبَقَت الإشارةُ إلى هذا عند حديثي عن المناظرات في الفصلِ السابقِ.
وهذا الخُلُق الذميمُ مِنْ شأنِه أنْ يجعلَ النفوسَ غيرَ قابلةٍ للحقِّ والصوابِ إذا بانَ لها واتضح، فيتمسك كلٌّ بقولِه، ويتعصب له، ويتكلّف ردَّ أدلةِ مَناظرِه، وينصر قولَه ومذهبَه بأيّ دليلٍ
(4)
.
يقول الشيخُ محمدٌ الشوكاني: "إنَّ الرجلَ قد يكون له بصيرةٌ وحسنُ إدراكٍ، ومعرفةٌ بالحقِّ ورغوبٌ إليه، فيخطئ في المناظرةِ، ويحمله الهوى، ومحبةُ الغَلَب، وطلبُ الظهورِ على التصميمِ على مقالِه، وتصحيحِ خطئِه، وتقويمِ معوجِّه بالجدالِ والمراءِ"
(5)
.
(1)
انظر: آثار اختلاف الفقهاء لأحمد الأنصاري (ص/ 375)، وتاريخ التشريع الإسلامي للدكتور عبد الفتاح الشيخ (ص/ 231)، ومدخل لدراسة الفقه لمحمد المحجوبي (ص/ 245)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور شوقي الساهي (ص/ 124).
(2)
انظر: تاريخ الجدل لمحمد أبو زهرة (ص/ 298)، وتاريخ الفقه الإسلامي لمحمد السايس (ص/ 180)، والمذاهب الفقهية الإسلامية لمحمد تاجا (ص/ 181)، وتاريخ التشريع الإسلامي للدكتور عبد الفتاح الشيخ (ص/ 231)، وتاريخ التشريع للدكتور عبد الله الطريقي (ص/ 305)، والمدخل إلى الشريعة والفقه للدكتور عمر الأشقر (ص/ 314)، وتاريخ التشريع للدكتور أحمد العليان (ص/ 277)، ومدخل لدراسة الفقه لمحمد المحجوبي (ص/ 245 - 246)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور شوقي الساهي (ص/ 124 - 125).
(3)
انظر: المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (1/ 209)، وتاريخ الفقه الإسلامي لمحمد السايس (ص/ 180).
(4)
انظر: تاريخ الجدل لمحمد أبو زهرة (ص/ 298)، والوسيط في تاريخ التشريع للدكتور أحمد الشرقاوي (ص/ 254).
(5)
أدب الطلب (ص/ 110).
ويشهدُ لهذا السببِ: ما قاله أبو حامدٍ الإسفرايني لبعضِ جلسائِه: "لا تُعلِّقْ كثيرًا ممَّا تسمعُ مني في مجالسِ الجدلِ؛ فإن الكلامَ يجري فيها على خَتْل
(1)
الخصمِ، ومُغَالطتِه، ودفعِه ومُغالبتِه، فلسنا نتكلّم لوجهِ الله خالصًا! ولو أردنا ذلك، لكان خَطْونا إلى الصمتِ أسرعَ مِنْ تطاولنا في الكلامِ"
(2)
.
ويقولُ الشيخُ محمدٌ أبو زهرة عن المناظراتِ الفقهيةِ: "وقد أدتْ تلك المُلاحاةُ، وهذه المناقشاتُ التي كانت تُتخذُ أحيانًا للمغالطاتِ إلى أمرين:
…
ثانيهما: اشتدادُ التعصبِ المذهبي الذي انتقل إلى مخاصماتٍ، فعداواتٍ، وسَرَى ذلك إلى العامةِ، حتى كادَ يؤدّي إلى التناحرِ
…
"
(3)
.
السبب السادس: الإلفُ والاعتيادُ على مذهبٍ فقهي واحدٍ.
لم يكن التواصلُ بين المذاهبِ الفقهيةِ قائمًا في جميعِ الأقطارِ، فقد عُمرتْ بعضُها بمذهبٍ فقهي واحدٍ، لم يخالطه غيرُه من المذاهب، إلا على وجهٍ لا يكادُ يُذكر.
ومِنْ شأنِ إلفِ المتمذهب للمذهبِه، واعتيادِه عليه، ورُؤيته مَنْ يُعَظِمُه ويُجِلُّه مقيمًا عليه، وتمذهب العلماء والكبراء به، وعدم الاطلاع على غيرِه مِن المذاهبِ
(4)
: أنْ يجعلَ نفسَ المتمذهبِ غيرَ مُتَقَبِّلةٍ لغيرِ ما تعرفُه مِنْ مذهبِها، دونَ نظرٍ في القولِ ودليلِه، بلْ يتجاوزُ الأمرُ عند بعضِهم إلى الطعنِ ومحاربةِ مَنْ يأتي بغيرِ مذهبِهم
(5)
.
(1)
الخَتْل: الخداع. انظر: الصحاح، مادة:(ختل)، (4/ 1682)، والقاموس المحيط، مادة:(ختل)، (ص/ 1281).
(2)
نقل كلامَ أبي حامد تاجُ الدين بن السبكي في: طبقات الشافعية الكبرى (4/ 62). وانظر: تاريخ الجدل لمحمد أبو زهرة (ص/ 298)، والاجتهاد والتقليد للدكتور محمد الدسوقي (ص/222).
(3)
تاريخ الجدل (ص/ 299). وانظر: تاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة (ص/ 465).
(4)
انظر: هداية الحيارى لابن القيم (ص/ 39)، والاعتصام للشاطبي (3/ 108).
(5)
انظر: التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل لعبد الرحمن المعلمي (2/ 188 - 189).
وقد قيلَ: إنَّ مَنْ مارس مذهبًا بُرْهَةً مِن الزمانِ، ونَشَأَ عليه، فإنَّه يجزمُ بصحته، وببطلانِ غيرِه مِن المذاهبِ
(1)
.
وقد يُوْرِثُ هذا الأمر رهبةً في نفسِ مَنْ ترجّح عنده خلافُ مذهبِه مِنْ أنْ يُظْهِرَ قولَه ورأيه
(2)
.
يقولُ ابنُ القيّمِ: "إنَّ العادةَ قد تقوى حتى تغلبَ حكمَ الطبيعةِ
…
فيُربَّى الرجلُ على المقالةِ، ويَنْشَأُ عليها صغيرًا، فيتربى قلبُه ونفسُه عليها، كما يتربى لحمُه وعظمُه على الغذاءِ المعتادِ، ولا يَعْقل نفسَه إلا عليها، ثمَّ يأتيه العلمُ وهلةً واحدةً يريدُ إزالتَها وإخراجَها مِنْ قلبِه، وأنْ يَسْكُنَ موضعَها، فيعسرُ عليه الانتقالُ، ويصعبُ عليه الزوالُ"
(3)
.
ويقولُ أبو إسحاقَ الشاطبي عن حالِ بعضِ المتمذهبين المتعصبين لمذهبِهم: "إذا جاءَهم أحدٌ ممّنْ بَلَغَ درجةَ الاجتهادِ، وتكلّم في المسائلِ باجتهادِه، ولم يرتبطْ إلى إمامِهم: رموه بالنكيرِ وفَوَقُوا
(4)
إليه سهامَ النقدِ، وعدّوه مِن الخارجين عن الجادّة، والمفارقين للجماعةِ! مِنْ غيرِ استدلالٍ منهم بدليلٍ؛ بلْ بمجرّدِ الاعتيادِ العامي"
(5)
.
وقد عدَّ الشيخُ محمدٌ الشوكاني نشأةَ المسلمِ في بلدٍ تمذهب أهلُه بمذهبٍ واحدٍ الداءَ الذي طبَّق بلادَ الإسلامِ
(6)
.
وقد يعتادُ بعضُ المتمذهبين النظرَ في كتبِ مذهبِه؛ لطلب أدلةِ المذاهبِ الأخرى، وقد يطَّلعُ على كتابٍ غيرِ مُنْصِفٍ في هذا المَقامِ،
(1)
انظر: المصدر السابق (2/ 216، 352).
(2)
انظر: فتح القدير للشوكاني (2/ 198 - 199)، وأدب الطلب له (ص/ 92)، والإمام الشوكاني - حياته وفكره للدكتور عبد الغني الشرجي (ص 283 - 284).
(3)
مفتاح دار السعادة (1/ 285). وانظر: جامع المسائل لابن تيمة (المجموعة الثامنة/ 440).
(4)
الفُوق: الرمي والرشق. انظر: مجمل اللغة لابن فارس، مادة:(فوق)، (4/ 708)، والقاموس المحيط، مادة:(فوق)، (ص/ 1187).
(5)
الاعتصام (3/ 319 - 320). وانظر: سير أعلام النبلاء (13/ 290).
(6)
انظر: أدب الطلب (ص/ 91).
يُعْرِضُ عن أدلةِ المخالفِ القويةِ، ويسميها شُبَهًا، فإذا اقتصرَ المتمذهبُ على مثلِ هذه الكتب، ظنَّ مذهبَه صوابًا في جميعِ المسائلِ، وكلَ مَنْ خالفه فهو مخطئ
(1)
.
السبب السابع: الخشيةُ مِنْ وقوعِ الناسِ في تتبعِ الرخصِ، والتلفيقِ بين المذاهبِ.
لقد كان الحادي والدافعُ لبعضِ المتمذهبين في الدعوةِ إلى البقاءِ على المذهبِ، وعدمِ خروجِ الناسِ عنه، هو المحافظة على الدِّينِ والصيانة له
(2)
؛ لئلا يتساهلَ المفتون في إفتاءِ الناسِ بالرخصِ، ولئلا يقعَ الناسُ في تلفيقٍ يُبْطِلُ عبادتهم، وقد سَبَقَت الإشارةُ إلى هذه المسألةِ مِنْ قبلُ.
ويتصل بهذا السببِ: الحرصُ على سلامةِ أقضيةِ الناسِ، وحكوماتِهم مِنْ جَوْرِ بعضِ القضاةِ، فيُلْزَمُ القاضي بالقضاءِ بالمذهب فقط؛ لئلا يُعْطَى فرصةً للتلاعبِ في الاحكامِ.
وها هو ذا الشيخُ محمد الحجوي مع ما عُرِف عنه من دعوةٍ إلى الاجتهادِ، والتحذيرِ مِن التقليدِ المذهبي، يُقررُ ضرورةَ القضاءِ والإفتاءِ بالمذهب فحسب، فلا يخرج عنه البتة، يقول: "أمَّا الأحكامُ القضائيةُ مِنْ بيعٍ وطَلاقٍ ومِلكٍ واستحقاقٍ، أو أيّ عقدٍ كان، والإفتاءُ للغيرِ، فالصواب: أنْ لا نشغل أنْفُسَنَا بالأماني والخيالِ، بلْ علينا النظرُ إلى الحقائقِ الراهنةِ
…
أمَّا المعوّلُ عليه الآن، فهو ما عليه الناسُ مَن التزامِ مذهبٍ معيّنٍ: كمالكٍ أو الشافعي أو غيرِهما ممّنْ ظَهَرَتْ أمانتُه ومتانةُ أقوالِه، وحسنُ نظرِه، فلا معدل عن الراجح أو المشهورِ، أو ما به العملُ؛ لقلةِ الأمانةِ في الوقتِ الحاضرِ؛ إذ لو فُتِحَ بابُ الاجتهادِ لأطلقنا طُغْمَة
(3)
القضاة
(1)
المصدر السابق (ص/ 168 - 169).
(2)
انظر: عمدة التحقيق لمحمد الباني (ص/ 80).
(3)
للطَّغم: عدة معانٍ، أنسبها للسياق: الوغد والدناءة. انظر: القاموس المحيط، مادة:(طغم)، (ص/ 1463).
عن كلِّ تقييدٍ
…
وبابُ الحيلِ قد فُتِحَ مِنْ قبلُ مع رقّةِ الديانةِ وذهابِ الأمانةِ
…
"
(1)
.
السبب الثامن: الأوقاف على المذاهب الفقهية
(2)
.
لقد كانَ الوقفُ بابًا مهمًّا لئلا ينقطعَ عملُ المسلمِ بعد موتِه، وجهاتُ الوقفِ كثيرةٌ لا تكاد تُحْصَر، ومِنْ أهمِّها: الوقفُ على معلمي المذاهبِ الفقهيةِ الذين ينذرون أوقاتهم للتعليمِ ونشرِه، وذلك بإنشاءِ مدارسَ تعنى بالمذهبِ، وقد انتفعَ الطلابُ بهذه المدارسِ، وتعلموا فيها، وتخرج فيها عددٌ مِن العلماءِ المحققين
(3)
.
لكنَّ المشكلةَ التي حلَّتْ في بعضِ الأزمانِ والأقطارِ أنَّ بعضَ الواقفين يشترطُ في معلمي المدرسةِ أن يكونوا مِنْ مذهبٍ فقهي معيَّنٍ، أو أنْ يُدَرِّسوا مذهبًا معينًا، والغالبُ أنَّ هذا الشرطَ صادرٌ مِن الواقفِ عن حُسْنِ نيةٍ وقصدٍ
(4)
.
وهذا الشرطُ وأمثالُه أورثَ عند بعضِ المدرسين جمودًا وعدمَ تزحزحٍ عن المذهب، فلا يخرجُ عنه، ولا يُقرر غيرَه مِن المذاهبِ، فضلًا عن تدريسِها، وَلا يتجاوزُ المذهبَ وأدلتَه؛ كلُّ هذا؛ لئلا يخرجَ عن شرطِ
(1)
الفكر السامي (4/ 461 - 462).
(2)
انظر: فقه السنة لسيد سابق (1/ 13). وما من ريب أن للمال على بعض المنسببن إلى العلم سطوةً تجعل بعضهم يحيد عن الصواب؛ مخافة زواله، وفي هذا المعنى يقول الشوكاني في: البدر الطالع (ص/ 785): "رُبّ عالم لا يقدر على الكلمة الواحدة في الحق لمن له عليه أدنى نعمة؛ مخافة من زوالها، بل رُبّ عالم يمنعه رجاء العطية ونيل الرتبة السنية عن التكلم بالحق، ولم يكن بيده إلا مجرد الأماني الأشعبية".
(3)
انظر: ابن تيمية - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 128 - 129)، والاجتهاد ومقتضيات العصر لمحمد الأيوبي (ص/ 152).
(4)
يقول ابنُ القيم في: إعلام الموقعين (87/ 6) في سياق حديثه عن شروط الوقف الباطلة: "ومِن هذا: أن يشترط أنْ لا يستحق الوقف إلا من ترك الواجب عليه من طلب النصوص، ومعرفتها، والتفقه في متونها، والتمسك بها، إلى الأخذ بقول فقيهٍ معيّنٍ، يَتْرُكُ لقوله قولَ مَنْ سواه، بلْ يَتْرُكُ النصوصَ لقوله، فهذا شرطٌ مِنْ أبطل الشروط".
الواقفِ، إذ لو خَرَجَ عن شرطِه؛ لما استحقَّ شيئًا مِنْ ريعِ الوقفِ
(1)
.
وقد أنكرَ بعضُ المتمذهبين على تقي الدينِ بنِ تيمية تدريسَه بمدرسةِ ابنِ الحنبلي؛ إذ هي وقفٌ على الحنابلةِ، وتقيُّ الدين لا يلتزمُ مذهبَهم
(2)
.
ويقولُ أبو شامةَ المقدسي مبيّنًا سببَ تركِ بعضِ العلماء لطَلَبِ رُتْبَةِ الاجتهادِ، والبقاءِ على المذهبِ:"ومِنْ أكبر أسبابِه: تعصبهم وتقيّدهم برِفْقِ الوقوفِ"
(3)
.
ويقولُ - أيضًا -: "وعُدِمَ منهم - أي: من متعصبة المذاهب - الإنصافُ في مسائلِ الخلافِ؛ ولا سيما لما وُقِفَتْ عليهم الأوقافُ"
(4)
.
ويقولُ الشيخُ محمدٌ الحجوي: "هناك بالمشرقِ أوقافٌ خاصةٌ بالشافعيةِ، وأخرى بالحنفيةِ مثلًا، ومدارسُ لا يُنَال التدريسُ بها إلا مَنْ كان مقلِّدًا لأحدِ المذاهبِ الأربعةِ، ووظائفُ كذلك مِنْ قضاءٍ وفتوى، فكان هذا العملُ ممَّا أوجبَ بقاءَ العلماءِ مقلِّدين، ولو بلغوا درجةَ الاجتهادِ"
(5)
.
ويقولُ الشيخُ محمدٌ أبو زهرة: "إنَّ إنشاءَ المدارسِ - مع أنّه أذَّى إلى نشرِ العلمِ، وكثرةِ تحصيله - قد أدَّى إلى التعصبِ الفكري، وكثرةِ الأتباعِ،
(1)
بيَّن تقيُّ الدين بن تيمية في: اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 85) أن من أسباب كتم العلم عند بعض المنتسبين إليه حبَّ المال. وانظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 282)، والاعتصام للشاطبي (3/ 102)، وأدب الطلب للشوكاني (ص/ 106).
(2)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 542)، وقد أجاب تقيُّ الدين عن قولهم بأنه إنما يتناول ما يتناول من المدرسة على معرفته بمذهب الإمام أحمد، لا على تقليده له.
(3)
خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول (ص/ 127). وعلَّق الشيخ محمد الباني في: عمدة التحقيق (ص/ 79) على كلام أبي شامة قائلًا: "يريد برفق الوقوف: ارتفاق الأوقاف مما شَرَطه الواقفون من الخيرات على الأحناف أو الشافعية أو غيرهما مثلًا، فَتَقَيّدهم بالارتفاق بها، وحصر وجهة الارتزاق منها أورث تعصبَهم للمذهب، وجمودَهم على التقليد".
(4)
خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول (ص/ 101).
(5)
الفكر السامي (4/ 448).
وقلةِ التفكيرِ الحرِّ المستقلِّ الذي ينظرُ إلى الدليلِ، وما يوصل إليه البرهانُ مِنْ غير تقليدٍ أو اتباعٍ
…
"
(1)
.
ومن الشواهد على هذا السبب: ما ذكره وليُّ الدين العراقي بقوله: "قلتُ مرةً لشيخنِا الإمامِ البُلقيني - رحمه الله تعالى -: ما يقصرُ بالشيخِ تقيِّ الدّينِ السبكي عن الاجتهادِ، وقد استكمل آلته؟ وكيف يُقلِّدُ؟ ! - ولم أذكرْه هو؛ استحياءً منه؛ لما أريدُ أن أُرَتب على ذلك - فَسَكَتَ. فقلتُ: ما عندي أنَّ الامتناعَ مِنْ ذلك إلا للوظائفِ التي قُررت للفقهاءِ على المذاهب الأربعةِ، وأنَّ مَنْ خَرَجَ عن ذلك واجتهدَ، لم ينلْه شيءٌ مِنْ ذلك، وحُرِمَ وَلايةَ القضاءِ، وامتنع الناسُ مِن استفتائِه، ونُسِب إلى البدعةِ. فتبسَّم، ووافقني على ذلك"
(2)
.
السبب التاسع: الوقوعُ في ردّة الفعل.
عندما يدعو بعضُ المنتسبين إلى العلم غيرَهم مِن المتمذهبين إلى النظرِ في الأدلةِ، وترجيحِ ما يرجّحه الدليلُ، ويصاحب هذه الدعوةَ في بعضِ الأحايين ما يُنفّر منها، ويدعو إلى محاربةِ مَنْ ينتسبُ إليها، كأنْ يصدرَ مِن الداعي هجومٌ على إمامِ المذهبِ وعلماءِ مذهبِه، أو هجومٌ على المذاهبِ، والدعوة إلى تركِها بالكليةِ، ونحو هذا: يقف المدعوون موقفًا سلبيًا ومعاديًا لهؤلاءِ؛ بسببِ سوءِ التصرفِ الصادرِ عنهم.
ولو سَلَكَ أولئك القوم طريقةً أحسن مِن هذه الطريقِةِ لكانت النتيجةُ أفضلَ، فكيفَ نريدُ مِنْ علماءِ الحنفيةِ مثلًا أنْ يقبلوا دعوةَ مَن يدعوهم إلى الأخذِ بالدليلِ في بعضِ المسائلِ، والداعي يتهجم على الإمامِ أبي حنيفةَ نفسِه؟ !
(3)
.
(1)
ابن تيمية - حياته وعصره (ص/ 128). وانظر: أدب الطلب للشوكاني (ص/ 93)، والإمام الشوكاني رائد عصره للدكتور حسين العمري (ص/ 67).
(2)
الغيث الهامع (3/ 902 - 903). وقارن: بمنهج البحث والفتوى لمصطفى الطرابلسي (ص/ 227).
(3)
انظر: أدب الاختلاف لمحمد عوامة (ص/ 41 - 42)، وأثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة له (ص/ 121).
يقولُ شمسُ الدين الذهبي عن ابنِ حزمٍ: "لم يتأدبْ مع الأئمةِ في الخطاب، بلْ فجَّجَ العبارة، وسبَّ وجدّعَ، فكان جزاؤه مِنْ جنسِ فعلِه، بحيثُ أَعرضَ عن تصانيفِه جماعةٌ مِنْ الأئمةِ، وهجروها، ونفروا منها، وأُحْرِقَتْ في وقتٍ
…
"
(1)
.
ويقولُ أحمدُ بن المقّري
(2)
عنه أيضًا: "هو نسيجُ وَحْدِه
(3)
، لولا ما وُصِفَ به مِنْ سوءِ الاعتقادِ، والوقوعِ في السلفِ الذي أثارَ عليه الانتقادَ، سامحه الله"
(4)
.
ولقد أرشدَ الشوكانيُّ مَنْ يريدُ إقامةَ الحجةِ بالصدعِ بالحقِّ، وضرب البدعةِ في وجهِ صاحبِها، وأنْ يُلْقَمَ المتعصبُ حجرًا، ويوضّح ما شرعه اللهُ لعبادِه، وأنَّ يُبيّنَ للمتمسكِ بالرأي مع وجودِ الأدلةِ الثابتةِ عن الشارعِ أنَّه
(1)
سير أعلام النبلاء (18/ 186 - 187). وانظر: مقدمة ابن خَلدون (3/ 1048)، وتاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري (ص/ 345).
(2)
هو: أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن عبد الرحمن المقَّري، شهاب الدين أبو العباس، ولد بتلمسان، كان حافظًا إمامًا علامةً ماهرًا في عدد من علوم الشريعة، مع الزهد والورع، معروفًا ببيانه وفصاحته، أخذ عن سعيد المقبري الفقه والحديث، وروى عنه الكتب الستة، وقد رحل إلى المشرق في طلب العلم، من مؤلفاته: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وأزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، وشرح مقدمة ابن خلدون، توفي بمصر سنة 1041 هـ. انظر ترجمته في: خلاصة الأثر للمحبي (1/ 339)، وفهرس الفهارس والأثبات للكتاني (2/ 547)، وشجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 300)، والأعلام للزركلي (1/ 237)، ومقدمة تحقيق نفح الطيب للمقري (1/ 17).
(3)
نسيج وحده: أي: لا نظير له في العلم. انظر: القاموس المحيط، مادة (نسج)، (ص/ 265).
(4)
نفح الطيب (2/ 78). وقد يكون مراد أحمد المقري بسوء الاعتقاد الذي وقع فيه ابن حزم أنه وافق الجهمية في نفي الصفات عن الله تعالى، ويدل على لهذا:
- ما قاله تقيُّ الدين بن تيمية في: درء تعارض العقل والنقل (5/ 250) عن ابن حزم: "قد بالغ في نفي الصفات وردها إلى العلم، مع أنه لا يثبتُ علمًا هو صفة، ويزعم أنَّ أسماء الله: كالعليم والقدير ونحوهما، لا تدلُّ على العلم والقدرة".
- وما قاله ابن عبد الهادي في: طبقات علماء الحديث (3/ 350) عن ابن حزم: "وقد طالعتُ أكثر كتاب: (الملل والنحل)، لابن حزم، فرأيته قد ذكر فيه عجائب كثيرة
…
لكنْ تبيَّن لي أنه جهمي جَلْد، لا يثبتُ مِن معاني أسماء الله الحسنى إلا القليل ..... ".
كخابطِ عشواء، وراكبِ عمياء
(1)
.
ومثل هذا المسلكِ لا يصلحُ لكثيرٍ مِن الناسِ، وهو مُؤذنٌ بعدمِ قبولِ المنصوحِ للنصيحةِ.
ويتحدّثُ أبو حامدٍ الغزاليُّ عن بعضِ العلماءِ الذين يزدون مخالفيهم فيقع مخالفوهم في مخالفةِ الصواب؛ نتيجةً لسوءِ أولئك العلماء، فيقول: "إذ التعصّبُ سببٌ يرسخُ العقائدَ فيَ النفوسِ، وهو مِنْ آفاتِ العلماءِ السوء، فإنَّهم يبالغون في التعصّبِ للحقِّ، وينظرون إلى المخالفين بعينِ الازدراءِ والاستحقارِ، فينبعثُ منهم الدعوى بالمكافأةِ والمقابلةِ والمعاملةِ، وتتوافر بواعثُهم على طلبِ نصرةِ الباطلِ، ويقوى غرضُهم في التمسّكِ بما نسبوا إليه، ولو جاءوا مِنْ جانب اللطفِ والرحمةِ والنصحِ في الخلوةِ، لا في معرضِ التعصّبِ والتحقيرِ: لأنجحوا فيه
…
"
(2)
.
وقد يقعُ بعضُ الناسِ في التعصبِ نتيجةً لفعل صارٍ مِنْ بعض المتمذهبين.
ومن الأمثلة على هذا: أنَّ أحدَ علماءِ المالكيةِ البارزين
(3)
لمَّا مالَ إلى مذهب الإمامِ الشافعي، أَخَذَ يُسمي:(المدونة) بالمدودة! فهجره علماءُ المالكية
(4)
، والظاهر أنَّهم هجروه؛ لإساءته اللفظيةِ لكتابٍ مؤلَّفٍ في أجوبة إمامِهم.
السبب العاشر: الضعف العلمي
(5)
.
لم يكن العلماءُ والمتعلمون يومًا ما على درجةٍ واحدةٍ في العلمِ، بلْ
(1)
انظر: أدب الطلب (ص/ 93).
(2)
إحياء علوم الدين (1/ 68). وانظر: إتحاف السادة المتقين للزبيدي (1/ 275).
(3)
هو: سعيد بن محمد بن صبيح، أبو عثمان الإفريقي (ت: 302).
(4)
انظر: العبر في خبر من غبر للذهبي (1/ 443)، وجامع مسائل الأحكام للبُرزلي (6/ 374).
(5)
انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (2/ 887)، ومفتاح دار السعادة له (1/ 281)، وأليس الصبح بقريب لابن عاشور (ص/ 178)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور عمر الأشقر (ص/ 183)، وتاريخ التشريع للدكتور أحمد العليان (ص/ 279).
هم متفاوتون فيه تفاوتً واضحً، والمتمذهبُ الذي حصَّل شيئًا مِن العلمِ، وجهلَ أشياءَ كثيرة، ولم يجعل جهلَه عذرًا له في تركِ الإنكارِ على غيرِه، فأضحى ينكرُ على كلِّ مَنْ خالف مذهبه، دونَ معرفةِ حجةِ قولِه: واقعٌ في أثرِ سلبي؛ نتيجةَ لضعفِه العلمي
(1)
.
يقولُ تقيُّ الدينِ بنُ تيميةَ: "مِن الناسِ مَنْ لا يعرفُ مذاهبَ أهلِ العلمِ، وقد نَشَأَ على قولٍ لا يعرف غيرَه، فيظنَّه إجماعًا"
(2)
.
ولابنِ القيمِ كلماتٌ صالحةٌ لهذا السبب، يقولُ بعدما قرر مسألةَ:(اشتراط المحلِّل في السباق) بأقوالِها وأدلتِهَا
(3)
: "فتأمّلْ أيّها المنصفُ المذاهبَ، وهذه المآخذَ؛ لتعلمَ ضعفَ بضاعةِ مَنْ قمّشَ شيئًا مِنْ العلمِ مِنْ غيرِ طائلٍ، وارتوى مِنْ غيرِ مَوْردٍ، وأنكرَ غيرَ القولِ الذي قلَّده بلا علمٍ"
(4)
.
ولا يخفى أنَّ الجهلَ داءٌ قد يصدُّ عن الحقِّ؛ إذ الجهلُ أصلُ كلِّ فسادٍ
(5)
، يقولُ ابنُ القيمِ:"الأسبابُ المانعةُ مِنْ قبولِ الحقِّ كثيرةٌ جدًّا: فمنها: الجهلُ به، وهذا السببُ هو الغالبُ على أكثرِ النفوسِ، فإنَّ مَنْ جهلَ شيئًا عاداه، وعادى أهلَه"
(6)
.
(1)
انظر: المذاهب الفقهية الإسلامية لمحمد تاجا (ص/ 247).
(2)
الإيمان (ص/ 32).
(3)
المقصود بالمسالة: أنْ يتسابق اثنان، وللفائز منهما جعلٌ يبذله كلا المتسابقين، أفيجوز ذلك، أم لا بد من وجود شخص ثالث - يسمى المحلل - يدخل مع المتسابقين في السباق؟
(4)
الفروسية المحمدية (ص/ 284). وانظر: المنار المنيف لابن القيم (ص/ 34).
(5)
انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 264).
(6)
هداية الحيارى (ص/ 39). انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/ 523)، والاعتصام للشاطبي (3/ 111 وما بعدها)، والمذاهب الفقهية الإسلامية لمحمد تاجا (ص/ 170 وما بعدها)، ومقدمة في أسباب اختلاف المسلمين لمحمد العبده وزميله (ص/ 101 وما بعدها)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور عمر الأشقر (ص/ 183)، وتاريخ التشريع للدكتور أحمد العليان (ص/ 279).
ويقولُ الشيخُ محمدٌ الباني مبيّنًا سببَ التعصبِ عند بعضِ فقهاءِ عصرِه: "وهذا ناشئٌ عن جفافِ علمِهم، وضعفِ عقولِهم"
(1)
.
وقد بيّنَ الشيخُ محمدٌ الشوكاني أنَّه يغلبُ على مَنْ له اشتغالٌ بطلب العلمِ في مذهبِه، والاقتصار عليه، وعدم الالتفاتِ إلى ما سواه، وتركَ التحقيقِ في العلمِ، التعصب على العلماءِ الذين ينظرون في المسائلِ نَظَرَ المجتهدين
(2)
.
وإذا علمنا أنَّ مِنْ فقهاءِ أهلِ الرأي مَنْ أجازَ نسبةَ الحُكم الذي دلَّ عليه القياسُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيقول قالَ رسولُ لله صلى الله عليه وسلم كذا
(3)
- فليسَ مِنْ ريبٍ في أنَّ الجهلَ أحدُ الأسبابِ الي أوقعتهم في مثلِ هذا الصنيعِ.
السبب الحادي عشر: الكسلُ والرغبة في الراحة
(4)
.
لا يستريبُ أحدٌ في أنَّ العلمَ الشرعي صعبُ المنالِ، ويحتاج إلى صبرٍ ومصابرةٍ، وليس بإمكانِ الإنسانِ أنْ يتعلمَ العلمَ إلا إذا جدَّ واجتهدَ، وكان في مزيدِ تعلّمِ في يومه وليلته، فيكونَ دائمًا في طلبِ الازديادِ منه
(5)
.
لكنَّ بعضَ المتمذهبين أرادَ أنْ يخلدَ إلى الراحةِ، وأنْ لا يكدَّ ذهنَه في العلمِ، ومعرفةِ الأقوالِ وأدلتِها، فاقتصرَ على مذهبِه تعلمًا وحفظًا، دونَ عنايةٍ بالأدلةِ والاستنباطِ منها، ومعرفةِ درجتها وصحتها.
(1)
عمدة التحقيق (ص/ 80).
(2)
انظر: القول المفيد في حكم التقليد (ص/ 129)، وأدب الطلب (ص/ 119).
(3)
انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي (1/ 115)، والنكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي (2/ 285)، والنكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/ 852)، وفتح المغيث للسخاوي (2/ 120)، والتنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل للمعلمي (1/ 449).
(4)
انظر: تاريخ التشريع للدكتور عبد الله الطريقي (ص/ 385)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور رمضان الشرنباصي (ص/ 98)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور إبراهيم إبراهيم (ص/ 126).
(5)
انظر: خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول لأبي شامة (ص/ 141).
ويدلُّ على هذا السبب: ما ذكره أبو الفرجِ بنُ الجوزي في مقدمة كتابِه: (التحقيق في أحاديث التعليق)
(1)
عن سبب إعراضِ بعضِ فقهاءِ عصرِه عن طلبِ الأدلةِ الصحيحةِ، ووجودِ الأدلةِ الضعيفة في مدوّناتهم، فقالَ:"قومٌ غَلَبَ عليهم الكسلُ، ورأوا في البحثِ تَعَبًا وكلفةً، فتعجلوا الراحةَ، واقتنعوا بما سطّره غيرُهم".
وقد يُعبَّرُ عن هذا السبب بـ: ضعفِ الهمةِ وقصورِها
(2)
؛ إذ ضعفُ الهمةِ مؤذنٌ بالكسلِ العلمي في طلبِ تحقيقِ المسائلِ، وصحةِ الأقوالِ، والاكتفاء بالمذهبِ فحسب
(3)
.
وقد ساعدَ على ضعفِ الهمةِ عند بعضِ المتمذهبين تدوينُ المذاهبِ الفقهيةِ، فإذا عرضتْ حادثةٌ طلبوا حكمَها في مدوّناتِ المذهبِ، التي يغلبُ على عددٍ منها عدمُ الاعتناءِ بذكرِ أدلةِ المسائلِ
(4)
.
(1)
(1/ 2).
(2)
انظر: خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول لأبي شامة (ص/ 99 - 100)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (4/ 163)، والمدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (1/ 203)، والاجتهاد ومقتضيات العصر لمحمد الأيوبي (ص/ 152)، وبلوغ الأماني للدكتور الحسن العلمي (ص/ 163).
(3)
انظر: خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول لأبي شامة (ص/ 93، 127)، وصفة الفتوى لابن حمدان (ص/ 17)، والمدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (1/ 203).
(4)
انظر: الفكر السامي لمحمد الحجوي (4/ 163)، وتاريخ الجدل لمحمد أبو زهرة (ص/ 297)، والمدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (1/ 205)، والمدخل في الفقه الإسلامي للدكتور محمد شلبي (ص/ 136)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور بدران أبو العينين (ص/ 96)، والاجتهاد والتقليد للدكتور محمد الدسوقي (ص/ 182)، وتاريخ الفقه الإسلامي لمحمد السايس (ص/ 188)، وتاريخ الفقه للدكتور أحمد الحصري (ص/ 229 - 230)، وتأريخ التشريع للدكتور عبد الله الطريقي (ص/ 385)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور عبد الودود السريتي (ص/ 120)، وبلوغ الأماني للدكتور الحسن العلمي (ص/ 167)، ومدخل لدراسة الفقه للدكتور حسين حسان (ص/ 114)، والمدخل لدراسة الشريعة الإسلامية لعبد اللطيف خالقي (ص/ 412).