الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الانتصار للمذهب بالأحاديث الواهية
لقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن الكذب عليه، فقال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعدَه مِن النارِ)
(1)
، وَقد اهتمَّ علماءُ الحديثِ بتَنْقِيَةِ أحاديثِ النبي صلى الله عليه وسلم ممَّا وضعه الوضاعون، فرسموا المنهجَ الصحيحَ للحُكْمِ على الحديثِ: قبولًا أو ردًّا، فأصَّلوا وقعَّدوا ما يتصلُ بعلومِ الإسنادِ والمتنِ.
وممَّا تميزتْ به الأمةُ الإسلاميةُ: وجودُ الإسنادِ الذي ضمنَ لها معرفةَ درجةِ ما أُسنِدَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ حيثُ الصحةُ والضعفُ.
ومع كلِّ أسفٍ، فإنَّ بعضَ الناسِ سوَّلتْ لهم أنفسُهم الكذبَ على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تعدّدتْ أغراضُهم في هذا الأمرِ.
والذي يهمني في هذا المطلب بيان أمرين:
الأمر الأول: بيانُ أنَّ بعضَ المتمذهبين وَضَعَ أحاديثَ تؤيّد ما قاله إمامُ مذهبِه.
الأمر الثاني: بيان أنَّ بعضَ المتمذهبين ينصرون مذهبَهم بأحاديث واهيةٍ.
وقبلَ الحديثِ عن هذين الأمرين، تحسنُ الإشارةُ إلى أنَّني لا أتكلم في هذا المطلبِ عن الحديثِ الضعيفِ الذي يَرِدُ عند بعضِ فقهاءِ المذاهب
(1)
جاء الحديث عن عددِ من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: أبو هريرة رضي الله عنه، وأخرج حديثه: البخاري في: صحيحه، كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (ص/ 46)، برقم (110)؛ ومسلم في: صحيحه، في: المقدمة، باب: في التحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 5)، برقم (3).
يقول تاج الدين التبريزي في: المعيار في الأحاديث الضعيفة والموضوعة عن الحديث (1/ 29 - 28): "يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العشرةُ المشهود لهم بالجنة، وغيرهم إلى أحد وستين نفسًا من الصحابة".
وأصوليهم؛ إذ رأْيُ عددٍ من العلماء جوازُ الاستدلالِ بالحديثِ الضعيفِ بشروطٍ معينةٍ
(1)
، وليس المقامُ متَّسعًا للحديثِ عنها.
الأمر الأول: بيانُ أنَّ بعضَ المتمذهبين وَضَعَ أحاديثَ تؤيّد ما قاله إمامُ مذهبِه.
لا يختلفُ أحدٌ في مدى قوةِ القولِ إذا أيّده دليلٌ مِنْ سنةِ النبي صلى الله عليه وسلم، إذ حديثُه صلى الله عليه وسلم أصلٌ تُبْنَى عليه أقوالُ المذاهبِ
(2)
.
ويظهرُ أنَّ الرغبةَ في إظهارِ صحةِ قولِ إمامِ المذهب وقوتِه، أورثتْ عند بعضِ ضعفاءِ أتباعِ الإمامِ وجهلتهم رغبةً في تقويةِ قولَ إمامِهم وتأييدِه بمختلفِ الطُّرُقِ، وشتَّى الوسائلِ
(3)
، فكان مِنْ الوسائلِ اختلاقُ الأحاديثِ المؤيّدةِ والشاهدةِ لمذهبِه في مسألةٍ معيّنةٍ، أو اختلاقُ الأحاديثِ التي تَحُثُّ على الأخذِ بمذهبِ الإمامِ جُملةً، أو تحريف النصوص النبوية لموافقة المذهب
(4)
.
وقد نصَّ ابنُ الجوزي
(5)
، وشهابُ الدين القرافي
(6)
على أنَّ مِنْ
(1)
للتوسع في مسألة: (الاحتجاج بالحديث الضعيف في الأحكام)، انظر: الحديث الضعيف للدكتور عبد الكريم الخضير (ص/ 249 - 300).
(2)
انظر: معالم السنن للخطابي (1/ 5).
(3)
انظر: المدخل للفقه الإسلامي للدكتور عبد الله الدرعان (ص/ 100).
(4)
انظر: المعيار في الأحاديث الضعيفة والموضوعة لتاج الدين التبريزي (1/ 26)، وتاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة (ص/ 267)، والمدخل للفقه الإسلامي للدكتور عبد الله الدرعان (ص/ 100)، وآثار اختلاف الفقهاء لأحمد الأنصاري (ص/ 276)، والمدخل لدراسة الفقه لمحمد حنفي (ص/87)، وتاريخ الفقه الإسلامي لمحمد السايس (ص / 110 - 111)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور أحمد الحصري (ص/ 128)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور أحمد حسين (ص/ 118)، والجديد في تاريخ الفقه للدكتور محمد إمبابي (ص/ 55)، وتاريخ التشريع للدكتور محمود عثمان (ص/ 161)، ومدخل لدراسة الفقه لمحمد محجوبي (ص/87 - 88)، وكتب حذر منها العلماء لمشهور آل سلمان (1/ 167).
(5)
انظر: الموضوعات (1/ 20).
(6)
انظر: نفائس الأصول (2/ 546).
دوافعِ الكذبِ ودواعيه على النبي صلى الله عليه وسلم عندَ بعضِ الناسِ، الرغبةَ في نُصْرَةِ المذهبِ.
يقولُ الشيخُ عبدُ الرحمنِ المعلميّ عنْ وضعِ الحديثِ لنصرةِ المذهبِ: "ومِنْ شأنِ الدجالين أنْ يركبَ أحدُهم للحديثِ الواحدِ عدةَ أسانيد؛ تغريرًا للجهال، وأنْ يضعَ أحدُهم فيسرق الآخرُ ويركب سندًا مِنْ عنده، ومنْ شأنِ الجهالِ المتعصبينَ أنْ يتقربوا بالوضعِ والسرقةِ وتركيب الأسانيد
…
"
(1)
.
وإنْ كان هذا الأمرُ في متعصبي الفِرَقِ العَقَدِية أظهرَ منه في متعصبي المذاهبِ الفقهيةِ
(2)
.
ومن الشواهدِ المؤلمةِ على هذا الأمرِ: ما جاءَ في ترجمةِ: أصبغَ بنِ خليلِ المالكي
(3)
في كتاب: (تاريخ علماء الأندلس)
(4)
، إذ وَرَدَ فيها أنَّه: "كان حافظًا للرأي على مذهب مالكٍ وأصحابِه، فقيهًا
…
دارتْ الفتيا عليه في الأندلسِ خمسين عامًا
…
ولم يكنْ له علمٌ بالحديثِ، ولا معرفة بطُرُقِه، بلْ كان يباعدُه، ويطعنُ على أصحابِه، وكان متعصبًا لرأي أصحابِ
(1)
التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (1/ 449).
(2)
انظر: المدخل لدراسة الفقه لمحمد حنفي (ص/ 87)، وتاريخ الفقه الإسلامي لمحمد السايس (ص/ 110 - 111)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور أحمد الحصري (ص/ 128)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور أحمد حسين (ص/ 118)، والجديد في تاريخ الفقه للدكتور محمد إمبابي (ص/ 55)، وتاريخ التشريع للدكتور محمود عثمان (ص/ 161)، ومدخل لدراسة الفقه لمحمد محجوبي (ص/ 87 - 88).
(3)
هو: أصبغ بن خليل، أبو القاسم القرطبي، كان من أعيان المذهب المالكي، حافظًا لمذهبه، فقيهًا في الشروط، بصيرًا في العقود، عارفًا بالوثائق، ولي قضاء بطليوس، وكان معاديًا للآثار، وليس له معرفة بالحديث، شديد التعصب لرأي مالك وأصحابه، حسن القياس والتمييز، توفي سنة 273 هـ عن ثمانيةٍ وثمانين عامًا. انظر ترجمته في: جذوة المقتيس للحميدي (ص/ 247)، وترتيب المدارك للقاضي عياض (4/ 205)، وبغية الملتمس للضبي (ص/ 219)، وسير أعلام النبلاء (13/ 202)، وتاريخ الإسلام للذهبي (6/ 519)، والديباج المذهب لابن فرحون (1/ 301)، وشجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 75).
(4)
(1/ 129 - 130).
مالكٍ، ولابنِ القاسم مِنْ بينهم، وبَلَغَ به التعصبُ لأصحابِه أنَّ افتعلَ حديثًا في تركِ رفعِ اليدينِ في الصلاةِ بعد الإحرامِ، ووَقَفَ الناسُ على كذبِه
…
".
وقد نَقَلَ القاضي عياضٌ عن بعضِ المالكية
(1)
تفسيرًا لما صنعه أصبغُ، فقال:"إنَّ أصبغَ لم يقصد الكذبَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما ظَهَرَ له أنَّه يريدُ تأييدَ مذهبِه"
(2)
.
مثال لحديثٍ وُضِعَ في تفضيلِ بعض الأئمة، والتنقصِ مِنْ بعضِهم:
حديثُ أنس بن مالك رضي الله عنه: (يكون في أمتي رجلٌ، يقال له: محمد بنُ إدريس، أضرّ على أمتي مِنْ إبليس، ويكون في أمتي رجلٌ يقال له: أبو حنيفة، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي)
(3)
.
والذي يظهرُ لي أنَّ الواقعين في شَرَك الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بُغْيةَ نصرةِ المذهبِ، قلةٌ قليلةٌ مِن المتمذهبين، ولعلَّ غالبهَم مِن الذين لم يفهموا ولم يتعلموا مِنْ علومِ الشريعةِ قدرًا كبيرًا
(4)
.
(1)
هو: أحمد بن خالد بن يزيد القرطبي.
(2)
ترتيب المدارك (4/ 252).
(3)
أخرج الحديث: الجوزجاني في: الأباطيل والمناكير (1/ 283)، برقم (266)، وقال:"هذا حديثٌ موضوعٌ باطلٌ، لا أصل له من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أنس بن مالك حدّث به". وابن الجوزي في: الموضوعات (2/ 304)، برقم (870)، وقال:"هذا حديثٌ موضوعٌ، لعن الله واضعه، وعليه اللعنة".
وانظر: كشف الخفاء للعجلوني (1/ 33)، والفوائد المجموعة للشوكاني (ص/ 240).
وللاطلاع على وضع بعض المتمذهبين للحديث بغية الثناء على إمامهم، انظر: التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل لعبد الرحمن المعلمي (1/ 446).
وللاطلاع على تحريف بعض المتمذهبين للحديث بغية موافقة المذهب، انظر: تحريف النصوص من مآخذ أهل الأهواء لبكر أبو زيد (ص/ 252 وما بعدها) ضمن مجموع: الردود، وزوابع في وجه السنة لصلاح الدين مقبول (ص/ 325 وما بعدها)، وكتب حذر منها العلماء لمشهور آل سلمان (1/ 165 وما بعدها).
(4)
ذكر أبو عبد الله القرطبي في: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي (1/ 115) أنَّ من أرباب أهل الرأي مَنْ أجازَ نسبةَ الحُكمِ الذي دلَّ عليه القياسُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، =
الأمر الثاني: بيانُ أنَّ بعضَ المتمذهبين ينصرون مذهبَهم بأحاديث واهيةٍ.
بعدَ استقرارِ المذاهبِ والبدءِ في التأليفِ المذهبي، وَقَعَ بعضُ المتمذهبين في التساهلِ في إيرادِ بعضِ الأحاديثِ الواهيةِ والأحاديثِ شديدةِ الضعفِ المؤيّدةِ لمذهبِهم
(1)
.
وما مِنْ شكٍّ في أنَّ وجودَ هذا الأمر ممَّا يشوّه المذهبَ ومؤلفاتِه التي تضمّنت هذه الأحاديث.
ويدلُّ على تفشّي تساهل بعضِ الفقهاءِ في الاستدلالِ بالأحاديثِ شديدةِ الضعفِ: ما ذكره أبو عبد الله المقّري في كتابِه: (القواعد)
(2)
؛ إذ ذَكَرَ مِن القواعد ما نصّه: "قاعدةٌ: حذَّر الناصحون مِنْ أحاديثِ الفقهاءِ".
ولقد كان انقسامُ العلماءِ إلى طائفتين رئيستين: أهل الحديث والأثر، وأهل الفقه والنظر
(3)
، داعيًا إلى بُعْدِ بعضِ الفقهاءِ عن معرفةِ الحديثِ، وما يتصل بدرجتِه والحكمِ عليه.
يقولُ أبو سليمان الخطابي حاكيًا حالَ الفقهاءِ في عصرِه: "أهلُ الفقهِ
= فيقول: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كذا، وقد علَّق على هذا قائلًا:"ولذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث مرفوعة تشهد متونها بأنها موضوعة؛ لأنها تشبه فتاوى الفقهاء، ولا تليق بجزالة سيد المرسلين".
وقد نقل كلام أبي عبد الله القرطبي جماعة من أهل العلم، منهم: الزركشي في: النكت على مقدمة ابن الصلاح (2/ 285)، وابن حجر في: النكت على كتاب ابن الصلاح (2/ 852)، والسخاوي في: فتح المغيث (2/ 120)، وعبد الرحمن المعلمي في: التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (1/ 449).
(1)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (22/ 255)، وأدب الطلب للشوكاني (ص/ 131)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور عمر الأشقر (ص / 154 - 155)، وبين متبع ومقلد أعمى للدكتور عامر الزيباري (ص/ 52، 76)، وتاريخ التشريع الإسلامي لعلي معوض وزميله (2/ 270).
(2)
(1/ 349)، وانظر منه:(1/ 350 - 351).
(3)
انظر: معالم السنن للخطابي (1/ 5).
والنظرِ: أكثرُهم لا يُعَرِّجون مِن الحديثِ إلا على أقلِّه، ولا يكاد يميزون صحيحَه مِنْ سقيمِه، ولا يعرفون جيّدَه مِنْ رديئِه"
(1)
.
ويقولُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ: "وجمهورُ المتعصبينَ لا يعرفونَ مِن الكتابِ والسنةِ إلا ما شاء اللهُ، بلْ يتمسكونَ بأحاديث ضعيفة أو اراء فاسد"
…
"
(2)
.
وإذا كان أربابُ المذهب يُعَنَوْنَ بتحققِ أقوالِ إمامِهم، فلا يقبلون نقلَ أيّ ناقلٍ عنه، فأَوْلى بهم أن يُوْلُوا حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم العنايةَ اللائقة؛ لئلا يقعوا في الاستدلالِ بما لا يصحُّ عنه صلى الله عليه وسلم
(3)
.
يقولُ الدكتورُ الصادقُ الغرياني عن بعضِ مؤلفاتِ علماءِ المالكيةِ: "إنَّك لتعجبُ حين ترى في الحواشي والشروحِ المتأخرةِ الاستشهادَ - على قِلَّتِه - بالواهي أو الموضوعِ، وبالألفاظِ التي لا تجدُ لها أصلًا في كتبِ الحديثِ"
(4)
.
ويصدقُ كلامُ الدكتور الصادق الغرياني على بقيةِ المذاهبِ، مع تفاوتٍ بينها في هذا الأمرِ قلةً وكثرةً.
وقد بيَّن أبو الوفاءِ بنُ عقيلٍ الحنبلي أنَّ مِنْ أرباب مذهبِه مَنْ يتبعُ المذهبَ بالعصبيةِ، ثمَّ يطلبون أدلةً عليه، وكما هو معلوم، فإنَّ صاحبَ العصبيةِ يأخذ بأيّ شيءٍ يتخيّله دليلًا لمذهبِه
(5)
.
ويقولُ ابنُ حزمٍ: "فإنَّهم - أيْ: أتباع الإمامِ أبي حنيفة والإمامِ مالكٍ -
(1)
المصدر السابق (1/ 7).
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (22/ 254 - 255). وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي (1/ 115).
(3)
انظر: المصدر السابق (1/ 7 - 9).
(4)
المتأخرون بين التجريد والتدليل، بحوث الملتقى الأول: القاضي عبد الوهاب المالكي (6/ 528).
(5)
انظر: أصول الفقه لابن مفلح (13/ 143)، والتحبير (7/ 3706).
يأخذون مِن الحجاجِ ما وافق مذهبَهم، وإنْ كان خبرًا موضوعًا"
(1)
.
ويؤكّدُ ما تقدم آنفًا أمورٌ، منها:
- ما حكاه أبو بكرٍ البيهقي (ت: 458 هـ) عن حالِ بعضِ الشافعيةِ في عصرِه، قائلًا: "رأيتُ المُحْدَثِين مِنْ أصحابِنا يُرْسِلُونَها - أي: الأخبار - في المسائلِ على ما يحضرُهم مِنْ ألفاظِها، مِنْ غيرِ تمييزٍ منهم بين صحيحِها، وسقيمِها
…
"
(2)
، إلى أنْ قالَ عنهم:"ولو عَرَفُوه - أي: علم الحديث - معرفتَهم - أيْ: معرفة متقدمي الشافعية بعلمِ الحديثِ - لميّزوا صحيحَ ما يوافقُ أقوالَهم مِنْ سقيمِه، ولأمسكوا عن كثيرٍ ممَّا يحتجّون به، وإنْ كان يطابقُ أقوالَهم، ولاقتدوا في تركِ الاحتجاجِ بروايةِ الضعفاءِ والمجهولين بإمامِهم"
(3)
.
- وما حكاه ابنُ الجوزي (ت: 597 هـ) في فاتحةِ كتابِه: (التحقيق في أحاديث التعليق)
(4)
عن بعضِ المتمذهبين في عصرِه، فقالَ:"لمَّا نظرتُ في التعاليقِ رأيتُ بضاعةَ أكثرِ الفقهاءِ في الحديثِ مزجاةً، يعوّل أكثرُهم على أحاديث لا تصحُّ".
- وما حكاه محيي الدين النووي (ت: 676 هـ) في ديباجةِ كتابِه: (خلاصة الأحكام)
(5)
: "ولا تغترنَّ بكثرةِ المتساهلين في العملِ والاحتجاجِ في الأحكامِ بالأحاديثِ الضعيفةِ، وإنْ كانوا مصنّفِين وأئمة في الفقهِ، وقد أكثروا مِنْ ذلك في كتبِهم".
ويحكي أبو شامةَ المقدسي خللًا وقع فيه بعضُ الشافعيةِ، فيقول: "ما
(1)
الإحكام في أصول الأحكام (6/ 117).
(2)
رسالة الإمام أبي بكر البيهقي إلى الإمام أبي محمد الجويني (ص/ 46).
(3)
المصدر السابق.
(4)
(1/ 2). وانظر: دلائل الأحكام لابن شداد (1/ 67)، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص / 541)، وتعليل الأحكام للدكتور محمد شلبي (ص / 360).
(5)
(1/ 59 - 60).
يفعلونه في الأحاديثِ النبويةِ والآثارِ المرويةِ، مِنْ كثرةِ استدلالِهم بالأحاديثِ الضجيفةِ على ما يذهبون إليه؛ نصرةً لقولِهم"
(1)
.
ويقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية بعدما ذَكَرَ طائفةً مِن الأحاديث الواهيةِ التي يستدلُّ بها بعضُ الفقهاءِ: "إلى أمثالِ ذلك مِن الأحاديثِ التي يصدّقُ بعضَها طائفةٌ مِن الفقهاءِ، وَيبْنُون عليها الحلالَ والحرامَ"
(2)
.
وقد بيَّن ابنُ القيّمِ أنَّ متعصبي المذاهبِ إذا جاءَهم حديثٌ ضعيفُ الإسنادِ موافقٌ لمذهبِهم، وقد ردّوا ما هو أمثلُ منه أو نظيره؛ لكونِه غيرَ موافقٍ لقولِ إمامِهم: قَبِلُوه، ولم يستجيزوا ردَّه، واعترضوا به على منازعِهم
(3)
.
وقد بَلَغَ مِنْ تعصّب بعضِ المتمذهبين المشتغلين بالحديثِ أنَّهم إذا رأوا حديثًا ضعيفًا يخالفُ مذهبَهم بيّنوا ضعفَه، وإنْ كان الحديثُ يوافقُ مذهبَهم سكتوا عن الطعنِ فيه!
ويعلِّقُ ابنُ الجوزي على هذا الفعلِ، فيقول:"وهذا ينبئُ عن قلّةِ دينٍ، وغلبةِ هوى"
(4)
.
ويلتحق بالأثر السلبي: (الانتصار للمذهب بالأحاديث الواهية): ما يفعله بعضُ المتمذهبين مِن التّصرفِ في ألفاظِ بعضِ الأحاديثِ النبويةِ - عن قصدٍ أو غير قصدٍ - بتغييرِ ألفاظِها، أو بالزيادةِ فيها؛ نُصْرَةً للمذهبِ.
يقولُ أبو شامةَ المقدسي مستنكرًا تصرّفاتِ بعضِ الشافعيةِ في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يفعلونه في الأحاديثِ النبويةِ
…
مِن تغييرِ لفظِ ما صحَّ منها،
(1)
خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول (ص/ 119).
(2)
منهاج السنة النبوية (7/ 430).
(3)
انظر: إعلام الموقعين (2/ 143).
(4)
التحقيق في أحاديث التعليق (1/ 3). وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (24/ 154)، وتنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (1/ 5)، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص/452).